الباحث القرآني
القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى:
[١٨٨] ﴿ولا تَأْكُلُوا أمْوالَكم بَيْنَكم بِالباطِلِ وتُدْلُوا بِها إلى الحُكّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِن أمْوالِ النّاسِ بِالإثْمِ وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾
﴿ولا تَأْكُلُوا أمْوالَكم بَيْنَكم بِالباطِلِ﴾ قالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَعْنِي تَعالى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ: ولا يَأْكُلْ بَعْضُكم مالَ بَعْضٍ بِالباطِلِ، فَجُعِلَ بِذَلِكَ آكِلُ مالِ أخِيهِ بِالباطِلِ (p-٤٦٦)كالآكِلِ مالَ نَفْسِهِ بِالباطِلِ، ونَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا تَلْمِزُوا أنْفُسَكُمْ﴾ [الحجرات: ١١] وقَوْلُهُ: ﴿ولا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ﴾ [النساء: ٢٩] بِمَعْنى: لا يَلْمِزْ بَعْضُكم بَعْضًا ولا يَقْتُلْ بَعْضُكم بَعْضًا؛ لِأنَّهُ تَعالى جَعْلَ المُؤْمِنِينَ إخْوَةً. وكَذَلِكَ تَفْعَلُ العَرَبُ. تُكَنِّي عَنْ أنْفُسِها بِأخَواتِها، وعَنْ أخَواتِها بِأنْفُسِها؛ لِأنَّ أخا الرَّجُلِ عِنْدَها كَنَفْسِهِ. فَتَأْوِيلُ الكَلامِ: ولا يَأْكُلْ بَعْضُكم أمْوالَ بَعْضٍ فِيما بَيْنَكم بِالباطِلِ. وأكْلُهُ بِالباطِلِ أكْلُهُ مِن غَيْرِ الوَجْهِ الَّذِي أباحَهُ اللَّهُ لِآكِلِيهِ.اهـ.
وبَيْنَكُمْ: إمّا ظَرْفٌ لِـ " تَأْكُلُوا " بِمَعْنى: لا تَتَناوَلُوها فِيما بَيْنَكم بِالأكْلِ، أوْ حالٌ مِنَ الأمْوالِ أيْ: لا تَأْكُلُوها كائِنَةً بَيْنَكم ودائِرَةً بَيْنَكم. وبِالباطِلِ في مَوْضِعِ نَصْبٍ بِـ " تَأْكُلُوا " أيْ: لا تَأْخُذُوها بِالسَّبَبِ الباطِلِ - أيِ: الوَجْهُ الَّذِي لَمْ يُبِحْهُ اللَّهُ تَعالى - ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ حالًا مِنَ الأمْوالِ أيْ: لا تَأْكُلُوها مُتَلَبِّسَةً بِالباطِلِ. أوْ مِنَ الفاعِلِ في تَأْكُلُوا أيْ: لا تَأْكُلُوها مُبْطِلِينَ، أيْ: مُتَلَبِّسِينَ بِالباطِلِ: ﴿وتُدْلُوا بِها إلى الحُكّامِ﴾ أيْ: تُخاصِمُوا بِها - أيْ: بِأمْوالِهِمْ - إلى الحُكّامِ، مَجْزُومٌ عَطْفًا عَلى النَّهْيِ. ويُؤَيِّدُهُ قِراءَةُ أُبَيٍّ: {ولا وتُدْلُوا } بِإعادَةِ لا النّاهِيَةِ والإدْلاءُ: مَأْخُوذٌ مِن إدْلاءِ الدَّلْوِ، وهُوَ: إرْسالُها في البِئْرِ لِلِاسْتِقاءِ، ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِكُلِّ إلْقاءِ قَوْلٍ أوْ فِعْلٍ تَوَصُّلًا إلى شَيْءٍ. ومِنهُ يُقالُ لِلْمُحْتَجِّ: (p-٤٦٧)أدْلى بِحُجَّتِهِ. كَأنَّهُ يُرْسِلُها لِيَصِيرَ إلى مُرادِهِ. كَإدْلاءِ المُسْتَقِي لِلدَّلْوِ لِيَصِلَ إلى مَطْلُوبِهِ مِنَ الماءِ. وفُلانٌ يُدْلِي إلى المَيِّتِ بِقَرابَةٍ أوْ رَحِمٍ: إذا كانَ مُنْتَسِبًا إلَيْهِ، فَيَطْلُبُ المِيراثَ بِتِلْكَ النِّسْبَةِ. فالباءُ صِفَةُ الإدْلاءِ تَجُوُّزًا بِهِ عَنِ الإلْقاءِ كَما ذَكَرْنا. والمَعْنى: لا تُلْقُوا أمْرَها - والحُكُومَةُ فِيها - إلى الحُكّامِ. أوْ لا تُلْقُوا بَعْضَها إلى حُكّامِ السُّوءِ عَلى وجْهِ الرِّشْوَةِ لِيُعِينُوكم عَلى اقْتِطاعِ أمْوالِ النّاسِ. وقَدْ «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الرّاشِيَ والمُرْتَشِيَ والرّائِشَ» - وهو الواسِطَةُ الَّذِي يَمْشِي بَيْنَهُما - رَواهُ أهْلُ السُّنَنِ. وذَلِكَ لِأنَّ ولِيِّ الأمْرِ إذا أكَلَ هَذا السُّحْتَ - أعْنِي الرِّشْوَةَ المُسَمّاةَ: بِالبِرْطِيلِ وتُسَمّى أحْيانًا: بِالهَدِيَّةِ وغَيْرِها - احْتاجَ أنْ يَسْمَعَ الكَذِبَ مِنَ الشَّهادَةِ الزُّورِ وغَيْرِها مِمّا فِيهِ إعانَةٌ عَلى الإثْمِ والعُدْوانِ. ووَلِيُّ الأمْرِ إنَّما نُصِّبَ لِيَأْمُرَ بِالمَعْرُوفِ ويَنْهى عَنِ المُنْكَرِ، هَذا مَقْصُودُ الوِلايَةِ. وإذا كانَ الوالِي يُمَكِّنُ مِنَ المُنْكَرِ بِمالٍ يَأْخُذُهُ كانَ قَدْ أتى بِضِدِّ المَقْصُودِ، مِثْلَ مَن نَصَّبْتَهُ لِيُعِينَكَ عَلى عَدُوِّكَ فَأعانَ عَدُوَّكَ عَلَيْكَ. وبِمَنزِلَةِ مِن أخَذَ مالًا لِيُجاهِدَ بِهِ في سَبِيلِ اللَّهِ فَقاتَلَ المُسْلِمِينَ. والحُكّامُ: جَمْعُ حاكِمٍ، وهُوَ: مُنَفِّذُ الحُكْمِ بَيْنَ النّاسِ كالحَكَمِ، مُحَرَّكَةً ﴿لِتَأْكُلُوا﴾ أيْ: بِواسِطَةِ حُكْمِهِمُ الفاسِدِ وبِالتَّحاكُمِ إلَيْهِمْ: ﴿فَرِيقًا﴾ - أيْ: طائِفَةً وقِطْعَةً -: ﴿مِن أمْوالِ النّاسِ بِالإثْمِ﴾ بِما يُوجِبُ إثْمًا - كَشَهادَةِ الزُّورِ واليَمِينِ الفاجِرَةِ، وحُكْمِهِمُ الفاسِدِ - فَإنَّهُ لا يُفِيدُ الحَلَّ والظُّلْمَ. فالباءُ لِلسَّبَبِيَّةِ. مُتَعَلِّقُها لِتَأْكُلُوا. وجُوِّزَ كَوْنُها لِلْمُصاحَبَةِ. فالمَجْرُورُ حالٌ مِن فاعِلِ لِتَأْكُلُوا أيْ: مُتَلَبِّسِينَ بِالإثْمِ: ﴿وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أيْ: أنَّكم عَلى الباطِلِ. وارْتِكابُ المَعْصِيَةِ - مَعَ العِلْمِ بِقُبْحِها - أقْبَحُ، وصاحِبُهُ أحَقُّ بِالتَّوْبِيخِ، فالتَّقْيِيدُ لِكَمالِ تَقْبِيحِ حالِهِمْ.
قالَ الرّاغِبُ: أيْ: إنْ خَفِيَ ظُلْمُكم عَلى النّاسِ فَإنَّهُ لا يَخْفى عَلَيْكُمْ، تَنْبِيهًا عَلى أنَّ الِاعْتِبارَ بِما عَلَيْهِ الأمْرُ في نَفْسِهِ، وما عَلِمْتُمْ مِنهُ لا بِما يَظْهَرُ.
(p-٤٦٨)وقالَ ابْنُ كَثِيرٍ في " تَفْسِيرِهِ ": قالَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: هَذِهِ الآيَةُ في الرَّجُلِ يَكُونُ عَلَيْهِ مالٌ ولَيْسَ عَلَيْهِ فِيهِ بَيِّنَةٌ، فَيَجْحَدُ المالَ، ويُخاصِمُ إلى الحُكّامِ. وهو يَعْرِفُ أنَّ الحَقَّ عَلَيْهِ. وهو يَعْلَمُ أنَّهُ آثِمٌ آكِلٌ الحَرامَ. وكَذا رُوِيَ عَنْ مُجاهِدٍ، وسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وعِكْرِمَةَ، ومُجاهِدٍ، والحَسَنِ، وقَتادَةَ، والسُّدِّيِّ، ومُقاتِلِ بْنِ حَيّانَ، وعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ أنَّهم قالُوا: لا تُخاصِمْ وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّكَ ظالِمٌ. وقَدْ ورَدَ في الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: ««ألّا إنَّما أنا بَشَرٌ، وإنَّما يَأْتِينِي الخَصْمُ، فَلَعَلَّ بَعْضَكم أنْ يَكُونَ ألْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِن بَعْضٍ فَأقْضِيَ لَهُ. فَمَن قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ فَإنَّما هي قِطْعَةٌ مِن نارٍ. فَلْيَحْمِلْها أوْ لِيَذَرْها»» . فَدَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ وهَذا الحَدِيثُ عَلى أنَّ حُكْمَ الحاكِمِ لا يُغَيِّرُ الشَّيْءَ في نَفْسِ الأمْرِ. فَلا يَحِلُّ في نَفْسِ الأمْرِ حَرامًا هو حَلالٌ، ولا يُحَرِّمُ باطِلًا هو حَلالٌ. وإنَّما هو مُلْزَمٌ في الظّاهِرِ. فَإنَّ طابَقَ في نَفْسِ الأمْرِ فَذاكَ، وإلّا فَلِلْحاكِمِ أجْرُهُ، وعَلى المُحْتالِ وِزْرُهُ. ولِهَذا قالَ تَعالى في آخِرِ الآيَةِ: ﴿وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أيْ: تَعْلَمُونَ بُطْلانَ ما تَدْعُونَهُ وتَرْجُونَهُ في كَلامِكم. قالَ قَتادَةُ: اعْلَمْ يا بُنَيَّ آدَمَ...! أنَّ قَضاءَ القاضِي لا يَحِلُّ حَرامًا، ولا يَحِقُّ لَكَ باطِلًا، وإنَّما يَقْضِي القاضِي بِنَحْوِ ما يَرى وتَشْهَدُ بِهِ الشُّهُودُ، والقاضِي بَشَرٌ يُخْطِئُ ويُصِيبُ. واعْلَمُوا أنَّ مَن قُضِيَ لَهُ بِباطِلٍ أنَّ خُصُومَتَهُ لَمْ تَنْقَضِ حَتّى يَجْمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُما يَوْمَ القِيامَةِ. فَيَقْضِيَ عَلى المُبْطِلِ لِلْمُحِقِّ بِأجْوَدِ مِمّا قَضى بِهِ لِلْمُبْطِلِ عَلى المُحِقِّ في الدُّنْيا.
{"ayah":"وَلَا تَأۡكُلُوۤا۟ أَمۡوَ ٰلَكُم بَیۡنَكُم بِٱلۡبَـٰطِلِ وَتُدۡلُوا۟ بِهَاۤ إِلَى ٱلۡحُكَّامِ لِتَأۡكُلُوا۟ فَرِیقࣰا مِّنۡ أَمۡوَ ٰلِ ٱلنَّاسِ بِٱلۡإِثۡمِ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق