الباحث القرآني
* بابٌ في النَّهْيِ عَنْ كِتْمانِ العِلْمِ
قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أنْزَلْنا مِنَ البَيِّناتِ والهُدى﴾ الآيَةَ. وقالَ في مَوْضِعٍ آخَرَ: ﴿إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الكِتابِ ويَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا﴾ [البقرة: ١٧٤] الآيَةَ وقالَ: ﴿وإذْ أخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنّاسِ ولا تَكْتُمُونَهُ﴾ [آل عمران: ١٨٧] هَذِهِ الآيُ كُلُّها مُوجِبَةٌ لِإظْهارِ عُلُومِ الدِّينِ وتَبْيِينِهِ لِلنّاسِ زاجِرَةٌ عَنْ كِتْمانِها، ومِن حَيْثُ دَلَّتْ عَلى لُزُومِ بَيانِ المَنصُوصِ عَلَيْهِ فَهي مُوجِبَةٌ أيْضًا لِبَيانِ المَدْلُولِ عَلَيْهِ مِنهُ، وتَرْكِ كِتْمانِهِ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿يَكْتُمُونَ ما أنْزَلْنا مِنَ البَيِّناتِ والهُدى﴾ وذَلِكَ يَشْتَمِلُ عَلى سائِرِ أحْكامِ اللَّهِ في المَنصُوصِ عَلَيْهِ والمُسْتَنْبَطِ لِشُمُولِ اسْمِ الهُدى لِلْجَمِيعِ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَكْتُمُونَ ما أنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الكِتابِ﴾ [البقرة: ١٧٤] يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لا فَرْقَ في ذَلِكَ بَيْنَ ما عُلِمَ مِن جِهَةِ النَّصِّ أوِ الدَّلِيلِ؛ لِأنَّ في الكِتابِ الدَّلالَةَ عَلى أحْكامِ اللَّهِ تَعالى كَما فِيهِ النَّصُّ عَلَيْها. وكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنّاسِ ولا تَكْتُمُونَهُ﴾ [آل عمران: ١٨٧] (p-١٢٤)عامٌّ في الجَمِيعِ. وكَذَلِكَ ما عُلِمَ مِن طُرُقِ إخْبارِ الرَّسُولِ ﷺ قَدِ انْطَوَتْ تَحْتَ الآيَةِ؛ لِأنَّ في الكِتابِ الدَّلالَةَ عَلى قَبُولِ أخْبارِ الآحادِ عَنْهُ ﷺ فَكُلُّ ما اقْتَضى الكِتابُ إيجابَ حُكْمِهِ مِن جِهَةِ النَّصِّ أوِ الدَّلالَةِ فَقَدْ تَناوَلَتْهُ الآيَةُ.
ولِذَلِكَ قالَ أبُو هُرَيْرَةَ: " لَوْلا آيَةٌ في كِتابِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ ما حَدَّثْتُكم " ثُمَّ تَلا: ﴿إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أنْزَلْنا مِنَ البَيِّناتِ والهُدى﴾ فَأخْبَرَ أنَّ الحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنَ البَيِّناتِ والهُدى الَّذِي أنْزَلَهُ اللَّهُ تَعالى وقالَ شُعْبَةُ عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإذْ أخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ﴾ [آل عمران: ١٨٧] الآيَةَ: " فَهَذا مِيثاقٌ أخَذَهُ اللَّهُ عَلى أهْلِ العِلْمِ، فَمَن عَلِمَ عِلْمًا فَلْيُعَلِّمْهُ، وإيّاكم وكِتْمانَ العِلْمِ فَإنَّ كِتْمانَهُ هَلَكَةٌ " .
ونَظِيرُهُ في بَيانِ العِلْمِ وإنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ ذِكْرُ الوَعِيدِ لِكاتِمِهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِنهم طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا في الدِّينِ ولِيُنْذِرُوا قَوْمَهم إذا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهم يَحْذَرُونَ﴾ [التوبة: ١٢٢] وقَدْ رَوى حَجّاجٌ، عَنْ عَطاءٍ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «مَن كَتَمَ عِلْمًا يَعْلَمُهُ جاءَ يَوْمَ القِيامَةِ مُلْجَمًا بِلِجامٍ مِن نارٍ»
فَإنْ قِيلَ: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ في شَأْنِ اليَهُودِ حِينَ كَتَمُوا ما في كُتُبِهِمْ مِن صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قِيلَ لَهُ: نُزُولُ الآيَةِ عَلى سَبَبٍ غَيْرِ مانِعٍ مِنَ اعْتِبارِ عُمُومِها في سائِرِ ما انْتَظَمَتْهُ؛ لِأنَّ الحُكْمَ عِنْدَنا لِلَّفْظِ لا لِلسَّبَبِ، إلّا أنْ تَقُومَ الدَّلالَةُ عِنْدَنا عَلى وُجُوبِ الِاقْتِصارِ بِهِ عَلى سَبَبِهِ.
ويُحْتَجُّ بِهَذِهِ الآياتِ في قَبُولِ الأخْبارِ المُقَصِّرَةِ عَنْ مَرْتَبَةِ إيجابِ العِلْمِ العامِّ لِمَخْبَرِها في أُمُورِ الدِّينِ؛ وذَلِكَ لِأنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الكِتابِ﴾ [البقرة: ١٧٤] وقَوْلَهُ تَعالى: ﴿وإذْ أخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ﴾ [آل عمران: ١٨٧] قَدِ اقْتَضى النَّهْيَ عَنِ الكِتْمانِ ووَقَعَ البَيانُ بِالإظْهارِ، فَلَوْ لَمْ يَلْزَمِ السّامِعِينَ قَبُولُهُ لَما كانَ المُخْبَرُ عَنْهُ مُبَيِّنًا لِحُكْمِ اللَّهِ تَعالى؛ إذْ ما لا يُوجِبُ حُكْمًا فَغَيْرُ مَحْكُومٍ لَهُ بِالبَيانِ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أنَّ المَنهِيِّينَ عَنِ الكِتْمانِ مَتى أظْهَرُوا ما كَتَمُوا وأخْبَرُوا بِهِ لَزِمَ العَمَلُ بِمُقْتَضى خَبَرِهِمْ ومُوجَبِهِ.
ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ في سِياقِ الخِطابِ: ﴿إلا الَّذِينَ تابُوا وأصْلَحُوا وبَيَّنُوا﴾ [البقرة: ١٦٠] فَحَكَمَ بِوُقُوعِ العِلْمِ بِخَبَرِهِمْ فَإنْ قالَ قائِلٌ: لا دَلالَةَ فِيهِ عَلى لُزُومِ العَمَلِ بِهِ، وجائِزٌ أنْ يَكُونَ كُلُّ واحِدٍ مِنهم كانَ مَنهِيًّا عَنِ الكِتْمانِ ومَأْمُورًا بِالبَيانِ لِيَكْثُرَ المُخْبِرُونَ ويَتَواتَرَ الخَبَرُ قِيلَ لَهُ: هَذا غَلَطٌ؛ لِأنَّهم ما نُهُوا عَنِ الكِتْمانِ إلّا وهم مِمَّنْ يَجُوزُ عَلَيْهِمُ التَّواطُؤُ عَلَيْهِ، ومَن جازَ مِنهُمُ التَّواطُؤُ عَلى الكِتْمانِ جازَ مِنهُمُ التَّواطُؤُ عَلى التَّقَوُّلِ فَلا يَكُونُ خَبَرُهم مُوجِبًا لِلْعِلْمِ فَقَدْ دَلَّتِ الآثارُ عَلى قَبُولِ الخَبَرِ المُقَصِّرِ عَنِ المَنزِلَةِ المُوجِبَةِ لِلْعِلْمِ بِمُخْبَرِهِ، وعَلى أنَّ (p-١٢٥)ما ادَّعَيْتَهُ لا بُرْهانَ عَلَيْهِ، فَظَواهِرُ الآيِ مُقْتَضِيَةٌ لِقَبُولِ ما أُمِرُوا بِهِ لِوُقُوعِ بَيانِ حُكْمِ اللَّهِ تَعالى بِهِ.
وفِي الآيَةِ حُكْمٌ آخَرُ، وهو أنَّها مِن حَيْثُ دَلَّتْ عَلى لُزُومِ إظْهارِ العِلْمِ وتَرْكِ كِتْمانِهِ فَهي دالَّةٌ عَلى امْتِناعِ جَوازِ أخْذِ الأُجْرَةِ عَلَيْهِ؛ إذْ غَيْرُ جائِزٍ اسْتِحْقاقُ الأجْرِ عَلى ما عَلَيْهِ فِعْلُهُ، ألا تَرى أنَّهُ لا يَصِحُّ اسْتِحْقاقُ الأجْرِ عَلى الإسْلامِ ؟ وقَدْ رُوِيَ «أنَّ رَجُلًا قالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: إنِّي أعْطَيْتُ قَوْمِي مِائَةَ شاةٍ عَلى أنْ يُسْلِمُوا، فَقالَ ﷺ: المِائَةُ شاةٍ رَدٌّ عَلَيْكَ، وإنْ تَرَكُوا الإسْلامَ قاتَلْناهم» .
ويَدُلُّ عَلى ذَلِكَ مِن جِهَةٍ أُخْرى قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الكِتابِ ويَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا﴾ [البقرة: ١٧٤] وظاهِرُ ذَلِكَ يَمْنَعُ أخْذَ الأجْرِ عَلى الإظْهارِ والكِتْمانِ جَمِيعًا؛ لِأنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿ويَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا﴾ [البقرة: ١٧٤] مانِعٌ أخْذَ البَدَلِ عَلَيْهِ مِن سائِرِ الوُجُوهِ؛ إذْ كانَ الثَّمَنُ في اللُّغَةِ هو البَدَلُ، قالَ عُمَرُ بْنُ أبِي رَبِيعَةَ:
؎إنْ كُنْتَ حاوَلْتَ دُنْيا أوْ رَضِيتَ بِها فَما أصَبْتَ بِتَرْكِ الحَجِّ مِن ثَمَنِ
فَثَبَتَ بِذَلِكَ بُطْلانُ الإجارَةِ عَلى تَعْلِيمِ القُرْآنِ وسائِرِ عُلُومِ الدِّينِ
{"ayah":"إِنَّ ٱلَّذِینَ یَكۡتُمُونَ مَاۤ أَنزَلۡنَا مِنَ ٱلۡبَیِّنَـٰتِ وَٱلۡهُدَىٰ مِنۢ بَعۡدِ مَا بَیَّنَّـٰهُ لِلنَّاسِ فِی ٱلۡكِتَـٰبِ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ یَلۡعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَیَلۡعَنُهُمُ ٱللَّـٰعِنُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق