الباحث القرآني

ولَمّا تَقَدَّمَ أنَّ بَعْضَ أهْلِ الكِتابِ يَكْتُمُونَ ما يَعْلَمُونَ مِن هَذا لَحِقَ وخَتَمَ ما أتْبَعَهُ لَهُ بِصِفَتَيِ الشُّكْرِ والعِلْمِ تَرْغِيبًا وتَرْهِيبًا بِأنَّهُ يَشْكُرُ مَن فَعَلَ ما شَرَعَهُ لَهُ ويَعْلَمُ مَن أخْفاهُ وإنْ دَقَّ (p-٢٧٣)فِعْلُهُ وبالَغَ في كِتْمانِهِ انْعَطَفَ الكَلامُ إلى تَبْكِيتِ المُنافِقِينَ مِنهم والمُصارِحِينَ في لَعْنِهِمْ عَلى كِتْمانِهِمْ ما يَعْلَمُونَ مِنَ الحَقِّ إذْ كانَتْ هَذِهِ كُلُّها في الحَقِيقَةِ قِصَصَهم والخُرُوجُ إلى غَيْرِها إنَّما هو اسْتِطْرادٌ عَلى الأُسْلُوبِ الحَكِيمِ المُبِينِ لِأنَّ هَذا الكِتابَ هُدًى وكانَ السِّياقُ مُرْشِدًا إلى أنَّ التَّقْدِيرَ بَعْدَ ﴿شاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ١٥٨] ومَن أحْدَثَ شَرًّا فَإنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ، فَوَصَلَ بِهِ اسْتِئْنافًا قَوْلَهُ عَلى وجْهٍ يَعُمُّهم وغَيْرَهم: ﴿إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ﴾ بَيانًا لِجَزائِهِمْ ﴿ما أنْـزَلْنا﴾ أيْ: بِعَظَمَتِنا. قالَ الحَرالِّيُّ: فانْتَظَمَتْ هَذِهِ الآيَةُ أيْ: في خَتْمِها لِهَذا الخِطابِ بِما مَضى في أوَّلِهِ مِن قَوْلِهِ: ﴿ولا تَلْبِسُوا الحَقَّ بِالباطِلِ وتَكْتُمُوا الحَقَّ وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٤٢] فَكانَتِ البِدايَةُ خاصَّةً وكانَ الخَتْمُ عامًّا، لِيَكُونَ ما في كِتابِ اللَّهِ أمْرًا عَلى نَحْوِ ما كانَ أمْرُ مُحَمَّدٍ ﷺ ومِن تَقَدُّمِهِ مِنَ الرُّسُلِ خَلْقًا لِيَنْطَبِقَ الأمْرُ عَلى الخَلْقِ بَدْءًا وخَتْمًا انْطِباقًا واحِدًا، فَعَمَّ كَلَّ كاتِمٍ مِنَ الأوَّلِينَ والآخِرِينَ - انْتَهى ﴿مِنَ البَيِّناتِ﴾ أيِ: الَّتِي لا يَحْتاجُ (p-٢٧٤)سامِعُها المُجَرَّدُ عَنِ الهَوى في فَهْمِها إلى شَيْءٍ مَعَها. قالَ الحَرالِّيُّ: فَفي إفْهامِهِ إذَنْ في كَتْمِ ما يَخْفى مِنَ العِلْمِ عَنْ عُقُولٍ لَمْ تَصِلْ إلَيْهِ. انْتَهى. ﴿والهُدى﴾ أيِ: الَّذِي مِن شَأْنِهِ أنْ يَقُودَ مَن أحَبَّهُ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. ولَمّا كانَ المُرادُ التَّرْهِيبَ مِنَ الكِتْمانِ في وقْتٍ ما ولَوْ قَلَّ أثْبَتَ الجارَّ فَقالَ ﴿مِن بَعْدِ ما بَيَّنّاهُ﴾ أيْ: بِما لَنا مِنَ العَظَمَةِ ﴿لِلنّاسِ﴾ أيِ: الَّذِينَ هم في أدْنى طَبَقاتِ المُخاطَبِينَ، وفِيهِ تَبْكِيتٌ عَظِيمٌ لِبَنِي إسْرائِيلَ فَإنَّهم مِن أعْظَمِ المَقْصُودِينَ بِذَلِكَ لِكِتْمانِهِمْ ما عِنْدَهم. قالَ الحَرالِّيُّ: لِأنَّ المُسَمَّيْنَ بِالنّاسِ مِن أصاغِرِ سِنِّ القُلُوبِ لِما ذَكَرَ مِن نَوْسِهِمْ وأكْثَرُ ما يُخَصُّ بِهِ كَما تَقَدَّمَ المُلُوكُ ورُؤَساءُ القَبائِلِ وأتْباعُهُمُ الَّذِينَ زُيِّنَ لَهم حُبُّ الشَّهَواتِ. انْتَهى. ﴿فِي الكِتابِ﴾ أيِ: الجامِعِ لِكُلِّ خَيْرٍ (p-٢٧٥)قالَ الحَرالِّيُّ: فَما بَيَّنَهُ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى في الكِتابِ لا يَحِلُّ كَتْمُهُ، لِما ذَكَرَ مِن أنَّ الكِتابَ هو ما احْتَوى عَلى الأحْكامِ والحُدُودِ بِخِلافِ ما يَخْتَصُّ بِالفُرْقانِ أوْ يَعْلُو إلى رُتْبَةِ القُرْآنِ انْتَهى. ولَمّا كانَ المُضارِعُ دالًّا عَلى التَّجْدِيدِ المُسْتَمِرِّ وكانَ الإصْرارُ المُتَّصِلُ بِالمَوْتِ دالًّا عَلى سُوءِ الجِبِلَّةِ أسْقَطَ فاءَ السَّبَبِ إشارَةً إلى اسْتِحْقاقِهِمْ لِلْخِزْيِ في نَفْسِ الأمْرِ مِن غَيْرِ نَظَرٍ إلى سَبَبٍ فَقالَ: ﴿أُولَئِكَ﴾ أيِ: البُعَداءُ البُغَضاءُ ﴿يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ﴾ أيْ: يَطْرُدُهُمُ المَلِكُ الأعْظَمُ طَرْدَ خِزْيٍ وذُلٍّ ﴿ويَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ﴾ أيْ: كُلُّ مَن يَصِحُّ مِنهُ لَعْنٌ؛ أيْ: هم مُتَهَيِّئُونَ لِذَلِكَ ثُمَّ يَقَعُ لَهم ذَلِكَ بِالفِعْلِ عِنْدَ كَشْفِ الغِطاءِ، واللَّعْنُ إسْقاطُ الشَّيْءِ إلى أرْدى مَحالِّهِ حَتّى يَكُونَ في الرُّتْبَةِ بِمَنزِلَةِ الفِعْلِ مِنَ العامَّةِ، قالَهُ الحَرالِّيُّ. وأخَصُّ مِن ذَلِكَ وأسْهَلُ تَناوُلًا أنْ يُقالَ: لَمّا كانَ أشَقُّ الصَّبْرِ ما عَلى فَقْدِ المَحْبُوبِ مِنَ الإلْفِ والأمْنِ والسِّعَةِ وكانَ العِلْمُ واقِعًا بِأنَّ عَداوَةَ الكَفّارِ لَهم سَتَؤُولُ إلى ابْتِلائِهِمْ بِذَلِكَ أتْبَعَ آيَةَ الصَّبْرِ بِقَوْلِهِ: ﴿ولا تَقُولُوا﴾ [البقرة: ١٥٤] الآيَتَيْنِ فَكَأنَّهُ قِيلَ: ولا تَقُولُوا كَذا فَلَيَكْتُبَنَّ عَلَيْكُمُ الجِهادَ عُمُومًا ﴿ولَنَبْلُوَنَّكُمْ﴾ [البقرة: ١٥٥] فِيهِ ﴿بِشَيْءٍ مِنَ الخَوْفِ﴾ [البقرة: ١٥٥] الآيَةَ لِأنَّ الصَّفا والمَرْوَةَ مِن شَعائِرِ اللَّهِ (p-٢٧٦)ووُصُولُكم إلَيْهِما مَمْنُوعٌ بِالكُفّارِ فَلا بُدَّ في الفَتْحِ مِن قِتالِهِمْ وقَدْ جَرَتِ العادَةُ في القِتالِ بِمِثْلِ ذَلِكَ البَلاءِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب