الباحث القرآني

القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ﴾ قال أبو جعفر: يعني بقوله: [[في المطبوعة: يقول: "إن الذين يكتمون. . . "، وهو خطأ ناسخ، صوابه ما أثبت.]] "إنّ الذين يَكتمون مَا أنزلنا منَ البينات"، علماءَ اليهود وأحبارَها، وعلماءَ النصارى، لكتمانهم الناسَ أمرَ محمد ﷺ، وتركهم اتباعه وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل. * * * و"البينات" التي أنزلها الله: [[في المطبوعة: "من البينات"، كأنه متصل بالكلام قبله، وهو لا يستقيم، وكأن الصواب ما أثبت.]] ما بيّن من أمر نبوة محمد ﷺ ومبعثه وصفته، في الكتابين اللذين أخبر الله تعالى ذكره أنّ أهلهما يجدون صفته فيهما. * * * ويعني تعالى ذكره ب"الهدى" ما أوضح لَهم من أمره في الكتب التي أنزلها على أنبيائهم، فقال تعالى ذكره: إنّ الذين يكتمون الناسَ الذي أنزلنا في كتبهم من البيان من أمر محمد ﷺ ونبوته، وصحة الملة التي أرسلته بها وحقِّيَّتها، فلا يخبرونهم به، ولا يعلنون من تبييني ذلك للناس وإيضاحِيه لهم، [[كان في المطبوعة"ولا يعلمون من تبييني ذلك للناس وإيضاحي لهم"، وهي عبارة لا تستقيم وسياق معنى الآية يقتضي ما أثبت، من جعل"يعلمون""يعلنونه"، وزيادة"بعد"، وجعل"إيضاحي""إيضاحيه".]] في الكتاب الذي أنزلته إلى أنبيائهم،"أولئك يَلعنهم الله ويَلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا" الآية. كما:- ٢٣٧٠- حدثنا أبو كريب قال، وحدثنا يونس بن بكير -وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة- قالا جميعًا، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس قال: سألَ مُعاذ بن جبل أخو بنى سَلِمة، وسعد بن مُعاذ أخو بني عبد الأشهل، وخارجة بن زيد أخو بني الحارث بن الخزرج، نفرًا من أحبار يَهود - قال أبو كريب: عما في التوراة، وقال ابن حميد: عن بَعض مَا في التوراة - فكتموهم إياه، وأبوْا أن يُخبروهم عنه، فأنزل الله تعالى ذكره فيهم:"إنّ الذين يَكتمون مَا أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيَّناه للناس في الكتاب أولئك يَلعنهم الله وَيَلعنهم اللاعنون". [[الأثر رقم: ٢٣٧٠- في سيرة ابن هشام ٢: ٢٠٠ كما في رواية ابن حميد.]] ٢٣٧١- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"إنّ الذين يَكتمونَ مَا أنزلنا من البينات والهدى" قال، هم أهل الكتاب. ٢٣٧٢- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. ٢٣٧٣- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه عن الربيع في قوله:"إنّ الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى" قال، كتموا محمدًا ﷺ، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم، فكتموه حسدًا وبغيًا. ٢٣٧٤- حدثنا بشر بن معاذ: قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"إنّ الذين يَكتمون مَا أنزلنا من البينات والهدى من بَعد مَا بيَّناه للناس في الكتاب"، أولئكَ أهلُ الكتاب، كتموا الإسلام وهو دين الله، وكتموا محمدًا ﷺ، وهم يَجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل. ٢٣٧٤م- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إنّ الذين يَكتمونَ ما أنزلنا من البينات والهدى من بَعد مَا بيَّناه للناس في الكتاب"، زعموا أن رجلا من اليهود كان له صديقٌ من الأنصار يُقال له ثَعلبة بن غَنَمة، [[في سيرة ابن هشام، وغيرها بالغين المعجمة غير مضبوط باللفظ، ولكن ابن حجر ضبطه في الإصابة، وقال: "بفتح المهملة والنون"، ولم يذكر شكًا ولا اختلافًا في ضبطه بالغين المعجمة.]] قال له: هل تجدون محمدًا عندكم؟ قال: لا! = قال: مُحمد:"البينات". [[قوله: "قال: محمد البينات" من تفسير السدي، ليس من الخطاب بين ثعلبة بن غنمة واليهودي. ويعني أن البينات التي يكتمونها هي محمد ﷺ، أي صفته ونعته في كتابهم.]] * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ﴾ [قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"من بعد ما بيناه للناس"] ، [[الزيادة بين القوسين لا بد منها، وقد استظهرتها من نهج أبي جعفر في جميع تفسيره. وهذا سقط من الناسخ بلا ريب.]] بعضَ الناس، لأن العلم بنبوة محمد ﷺ وصفته ومَبعثه لم يكن إلا عند أهل الكتاب دون غيرهم، وإياهم عَنى تعالى ذكره بقوله:"للناس في الكتاب"، ويعني بذلك: التوراة والإنجيل. * * * وهذه الآية وإن كانت نزلت في خاصٍّ من الناس، فإنها معنيٌّ بها كل كاتمٍ علمًا فرضَ الله تعالى بيانه للناس. وذلك نظير الخبر الذي رُوي عن رسول الله ﷺ أنه قال ٢٣٧٥- من سُئل عَن علم يَعلمهُ فكتمه، ألجِمَ يوم القيامة بلجام من نار." [[الحديث: ٢٣٧٥- هذا حديث صحيح. ذكره الطبري هنا معلقًا دون إسناد. وقد رواه أحمد في المسند: ٧٥٦١، من حديث أبي هريرة. وخرجناه في شرح المسند، وفي صحيح ابن حبان بتحقيقنا، رقم: ٩٥.]] * * * وكان أبو هريرة يقول ما:- ٢٣٧٦- حدثنا به نصر بن علي الجهضمي قال، حدثنا حاتم بن وردان قال، حدثنا أيوب السختياني، عن أبي هريرة قال، لولا آيةٌ من كتاب الله ما حدَّثتكم! وتلا"إنّ الذين يكتمونَ مَا أنزلنا من البينات والهدى من بَعد ما بيَّناه للناس في الكتاب أولئك يَلعنهم اللهُ ويَلعنهم اللاعنون"، [[الحديث: ٢٣٧٦- نصر بن علي بن نصر بن علي الجهضمي: ثقة، من شيوخ أصحاب الكتب الستة. مترجم في التهذيب، والكبير ٤/٢/١٠٦، وابن أبي حاتم ٤/١/٤٧١. حاتم بن وردان السعدي: ثقة، روى له الشيخان. مترجم في التهذيب، والكبير ٢/١/٧٢، وابن أبي حاتم ١/٢/٢٦٠. أيوب السختياني: مضى في: ٢٠٣٩. ولكن روايته هنا عن أبي هريرة منقطعة، فإنه ولد سنة ٦٦، وأبو هريرة مات سنة ٥٩ أو نحوها. ومعنى الحديث صحيح ثابت عن أبي هريرة، بروايات أخر متصلة، كما سنذكر في الحديث بعده.]] ٢٣٧٧- حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا أبو زرعة وَهْب الله بن راشد، عن يونس قال، قال ابن شهاب، قال ابن المسيب: قال أبو هريرة: لولا آيتان أنزلهما الله في كتابه ما حدَّثت شيئًا: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ﴾ إلى آخر الآية، والآية الأخرى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ﴾ إلى آخر الآية [سورة آل عمران: ١٧٨] . [[الحديث: ٢٣٧٧- محمد بن عبد الله بن عبد الحكم: الإمام الحافظ المصري، فقيه عصره، قال ابن خزيمة: "ما رأيت في فقهاء الإسلام أعرف بأقاويل الصحابة والتابعين - منه". مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٣/٢/٣٠٠-٣٠١، وتذكرة الحفاظ ٢: ١١٥-١١٦. أبو زرعة وهب الله بن راشد المصري، مؤذن الفسطاط: ثقة، قال أبو حاتم: "محله الصدق". ترجمه ابن أبي حاتم ٤/٢/٢٧، وقال: "روى عنه عبد الرحمن، ومحمد، وسعد، بنو عبد الله بن عبد الحكم". وترجم أيضًا في لسان الميزان ٦: ٢٣٥، ونقل عن ابن يونس، أنه مات في ربيع الأول سنة ٢١١"وكانت القضاة تقبله"، وروى عنه عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم. في فتوح مصر مرارًا، منها في ص: ١٨٢ س ٣-٤: "حدثنا وهب الله بن راشد، أخبرنا يونس بن يزيد، عن ابن شهاب. . . ". وهذا الإسناد ثابت في تاريخ ولاة مصر للكندي، ص ٣٣، عن علي بن قديد، عن عبد الرحمن: "حدثنا أبو زرعة وهب الله بن راشد". وذكره الدولابي في الكنى والأسماء ١: ١٨٢، وروى: "حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، والربيع بن سليمان الجيزى، قالا: حدثنا أبو زرعة وهب الله بن راشد، إلخ". ورواية الربيع الجيزى عنه، ثابتة في كتاب الولاة، ص ٣١٣، أيضًا. وهذا الاسم"وهب الله": من نادر الأسماء، لم أره -فيما رأيت- إلا لهذا الشيخ، ولم يذكره أصحاب المشتبه، بل لم يذكره الزبيدي في شرح القاموس، على سعة اطلاعه. واشتبه أمره على ناسخي الطبري أو طابعيه، فثبت في المطبوعة هكذا: "ثنا أبو زرعة وعبد الله بن راشد"؛ فحرفوا"وهب الله" إلى"وعبد الله" - فجعلوه راويين! يونس: هو ابن يزيد الأيلي، وهو ثقة، عرف بالراوية عن الزهري وملازمته. قال أحمد بن صالح: "نحن لا نقدم في الزهري أحدًا على يونس"، وقال: "كان الزهري إذا قدم أيلة نزل على يونس، وإذا سار إلى المدينة زامله يونس". مترجم في التهذيب، والكبير ٤/٢/٤٠٦، وابن أبي حاتم ٤/٢/٢٤٧-٢٤٩، وابن سعد ٧/٢/٢٠٦. وهذا الحديث جزء من حديث مطول، رواه مسلم ٢: ٢٦١-٢٦٢، من طريق ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب -فذكر حديثًا عن عائشة- ثم: "قال ابن شهاب: وقال ابن المسيب: إن أبا هريرة قال. . . ". ورواه عبد الرزاق في تفسيره، ص ١٤-١٥، عن معمر، عن الزهري، عن الأعرج، عن أبي هريرة، بنحوه مطولا. ورواه أحمد في المسند: ٧٦٩١، عن عبد الرزاق. ورواه البخاري ٥: ٢١ (فتح) ، بنحوه، من رواية إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن الأعرج. ورواه البخاري أيضًا ١: ١٩٠-١٩١ (فتح) من رواية مالك، عن الزهري، عن الأعرج وكذلك رواه ابن سعد ٢/٢/١١٨، وأحمد في المسند: ٧٢٧٤- كلاهما من طريق مالك. وروى الحاكم في المستدرك ٢: ٢٧١، نحوه مختصرًا، من طريق أبي أسامة، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء بن أبي رباح، عن أبي هريرة، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.]] * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ (١٥٩) ﴾ قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"أولئك يَلعنهم الله"، هؤلاء الذين يكتمون ما أنزلهُ الله من أمر محمد ﷺ وصفَته وأمر دينه، أنه الحق -من بعد ما بيَّنه الله لهم في كتبهم- يلعنهم بكتمانهم ذلك، وتركهم تَبيينه للناس. * * * و"اللعنة""الفَعْلة"، من"لعنه الله" بمعنى أقصاه وأبعده وأسْحَقه. وأصل"اللعن": الطرْد، [[انظر ما سلف ٢: ٣٢٨.]] كما قال الشماخ بن ضرار، وذكر ماءً ورَد عليه: ذَعَرْتُ بِهِ القَطَا وَنَفَيْتُ عَنْهُ ... مَقَامَ الذِّئْبِ كَالرَّجُلِ الَّلعِينِ [[سلف تخريجه وشرحه في ٢: ٣٢٨. وفي التعليق هناك خطأ صوابه"مجاز القرآن: ٤٦".]] يعني: مقامَ الذئب الطريد. و"اللعين" من نعت"الذئب"، وإنما أراد: مقام الذئب الطريد واللعين كالرَّجل. [[كان في المطبوعة: "الطريد واللعين"، والصواب طرح الواو.]] * * * فمعنى الآية إذًا: أولئك يُبعدهم الله منه ومن رحمته، ويسألُ ربَّهم اللاعنون أنْ يلعنهم، لأن لعنةَ بني آدم وسائر خَلق الله مَا لَعنوا أن يقولوا:"اللهم العنه" إذْ كان معنى"اللعن" هو ما وصفنا من الإقصاء والإبعاد. وإنما قلنا إن لعنة اللاعنين هي ما وصفنا: من مسألتهم رَبَّهم أن يَلعَنهم، وقولهم:"لعنه الله" أو"عليه لعنة الله"، لأن:- ٢٣٧٨- محمد بن خالد بن خِداش ويعقوب بن إبراهيم حدثاني قالا حدثنا إسماعيل بن علية، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"أولئك يَلعنهم الله ويَلعنهم اللاعنون"، البهائم، قال: إذا أسنَتَتِ السَّنة، [[أسنتت الأرض والسنة: أجدبت، وعام مسنت مجدب. والسنة: القحط والجدب. وكان في المطبوعة: "أسنت"، والصواب ما أثبت. وفي الدر المنثور ١: ١٦٢: "إذا اشتدت السنة".]] قالت البهائم: هذا من أجل عُصَاة بني آدم، لعنَ الله عُصَاة بني آدم! * * * ثم اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله تعالى ذكره ب"اللاعنين". فقال بعضهم: عنى بذلك دوابَّ الأرض وهَوامَّها. * ذكر من قال ذلك: ٢٣٧٩- حدثنا محمد بن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد قال: تلعنهم دوابُّ الأرض، وما شاءَ الله من الخنافس والعقارب تقول: نُمْنَعَ القطرَ بذنوبهم. ٢٣٨٠- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد:"أولئك يَلعنهم الله ويَلعنهم اللاعنون" قال، دواب الأرض، العقاربُ والخنافس، يقولون: مُنِعنا القطرَ بخطايا بني آدم. ٢٣٨١- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن مجاهد:"ويلعنهم اللاعنون" قال، تلعنهم الهوامّ ودواب الأرض، تقول: أمسك القطرُ عنا بخطايا بني آدم. ٢٣٨٢- حدثنا مُشرف بن أبان الحطاب البغدادي قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن خصيف، عن عكرمة في قوله:"أولئك يَلعنهم اللهُ ويَلعنهم اللاعنون" قال، يلعنهم كل شيء حتى الخنافس والعقاربُ، يقولون: مُنعنا القطرَ بذنوب بني آدم. [[الخبر: ٢٣٨٢- مشرف بن أبان الحطاب البغدادي: ثبت هنا على الصواب، كما ظهر في: ١٩٥١. وقد مضى ذلك مغلوطًا"بشر بن أبان": ١٣٨٣.]] ٢٣٨٣- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ويلعنهم اللاعنون" قال، اللاعنون: البهائم. ٢٣٨٣م- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ويلعنهم اللاعنون"، البهائمُ، تلعن عُصاةَ بَني آدم حين أمسك الله عنهم بذنوب بني آدم المطر، فتخرج البهائم فتلعنهم. ٢٣٨٤- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني مسلم بن خالد، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"أولئك يَلعنهم الله ويَلعنهم اللاعنون"، البهائم: الإبل والبقرُ والغنم، فتلعن عُصاةَ بني آدم إذا أجدبت الأرض. * * * فإن قال لنا قائل: ومَا وَجْهُ الذين وجَّهوا تأويلَ قوله:"ويلعنهم اللاعنون"، إلى أن اللاعنين هم الخنافسُ والعقارب ونحو ذلك من هَوامِّ الأرض، وقد علمتَ أنّها إذا جَمعتْ مَا كان من نَوع البهائم وغير بني آدم، [[الضمير في قوله: "أنها إذا جمعت"، للعرب، وإن لم يجر لها ذكر في الكلام.]] فإنما تجمعه بغير"الياء والنون" وغير"الواو والنون"، وإنما تجمعه ب"التاء"، وما خالفَ ما ذكرنا، فتقول:"اللاعنات" ونحو ذلك؟ قيل: الأمر وإن كان كذلك، فإنّ من شأن العرَب إذا وصفت شيئًا من البهائم أو غيرها - مما حُكم جَمعه أن يكون ب"التاء" وبغير صورة جمع ذُكْرَانِ بني آدم - بما هُو منْ صفة الآدميين، أن يجمعوه جمع ذكورهم، كما قال تعالى ذكره: ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا﴾ [سورة فصلت: ٢١] ، فأخرج خطابهم على مثال خطاب بني آدم، إذ كلَّمتهم وكلَّموها، وكما قال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ﴾ [سورة النمل: ١٨] ، وكما قال: ﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾ [سورة يوسف: ٤] . * * * وقال آخرون: عنى الله تعالى ذكره بقوله:"ويَلعنهم اللاعنون"، الملائكة والمؤمنين. * ذكر من قال ذلك: ٢٣٨٥- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ويَلعنهم اللاعنون"، قال، يَقول: اللاعنون من ملائكة الله ومن المؤمنين. [[في المطبوعة: "يزيد بن زريع عن قتادة" بإسقاط"قال حدثنا سعيد"، والصواب ما أثبته، وهو إسناد دائر في التفسير أقربه رقم: ٢٣٧٤.]] ٢٣٨٦- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ويلعنهم اللاعنون"، الملائكة. ٢٣٨٧- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس قال:"اللاعنون"، من ملائكة الله والمؤمنين. * * * وقال آخرون: يعني ب"اللاعنين"، كل ما عدا بني آدم والجنّ. * ذكر من قال ذلك: ٢٣٨٨- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ويلعنهم اللاعنون" قال، قال البراء بن عازب: إنّ الكافر إذا وُضع في قبره أتته دَابة كأن عينيها قِدْران من نُحاس، معها عمود من حديد، فتضربه ضربة بين كتفيه، فيصيح، فلا يسمع أحد صوته إلا لعنه، ولا يبقى شَيء إلا سمع صوته، إلا الثقلين الجن والإنس. ٢٣٨٩- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون" قال، الكافر إذا وضع في حفرته، ضُرب ضربة بمطرق [[المطرق والمطرقة: وهي أداة الحداد التي يضرب بها الحديد.]] فيصيح صيحةً، يسمع صَوْته كل شيء إلا الثقلين الجن والإنس، فلا يسمع صيحته شَيء إلا لعنه. * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصحة عندنا قول من قال:"اللاعنون"، الملائكةُ والمؤمنون. لأن الله تعالى ذكره قد وصف الكفار بأن اللعنة التي تحلّ بهم إنما هي من الله والملائكة والناس أجمعين، فقال تعالى ذكره: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ ، [[هي الآية رقم: ١٦١، تأتي بعد قليل.]] فكذلك اللعنة التي أخبر الله تعالى ذكره أنها حَالَّة بالفريق الآخر: الذين يكتمونَ ما أنزل الله من البينات والهدى من بعد ما بينه للناس، [[في المطبوعة: "من بعد ما بيناه للناس"، وهو سهو ناسخ.]] هي لعنة الله، ولعنة الذين أخبر أن لعنتهم حالّة بالذين كفروا وماتوا وهم كفار، [[في المطبوعة: "هي لعنة الله التي أخبر أن لعنتهم حالة. . . "، والصواب ما أثبت.]] وهم"اللاعنون"، لأن الفريقين جميعًا أهلُ كفر. * * * وأما قول من قال إن"اللاعنين" هم الخنافس والعقارب وما أشبه ذلك من دبيب الأرض وهَوامِّها، [[كل ماش على وجه الأرض يقال له: دابة ودبيب.]] فإنه قول لا تدرك حَقيقته إلا بخبر عن الله أن ذلك من فعلها تَقوم به الحجة، ولا خبرَ بذلك عن نبي الله ﷺ، فيجوز أن يقال إنّ ذلك كذلك. وإذْ كان ذلك كذلك، فالصواب من القول فيما قالوه أن يقال: إن الدليل من ظاهر كتاب الله موجودٌ بخلاف [قول] أهل التأويل، [[ما بين القوسين زيادة، أخشى أن تكون سقطت من ناسخ.]] وهو ما وصفنا. فإنْ كان جائزًا أن تكون البهائم وسائرُ خلق الله، تَلعن الذين يَكتمون ما أنزل الله في كتابه من صفة محمد ﷺ ونعته ونبوّته، بعد علمهم به، وتلعن معهم جميع الظَّلمة - فغير جائز قطعُ الشهادة في أن الله عنى ب"اللاعنين" البهائمَ والهوامَّ ودَبيب الأرض، إلا بخبر للعذر قاطع. ولا خبرَ بذلك، وظاهر كتابا لله الذي ذكرناه دالٌّ على خلافه. [[في المطبوعة: "وكتاب الله الذي ذكرناه"، وهو كلام لا يقال. والصواب ما أثبت. والذي ذكره آنفًا: "إن الدليل من ظاهر كتاب الله. . . ". هذا، ورد قول هؤلاء القائلين بما قالوه، مبين لك عن نهج الطبري وتفسيره، وكاشف لك عن طريقته في رد الأخبار التي رواها عن التابعين، في كل ما يحتاج إلى خبر عن رسول الله ﷺ قاطع بالبيان عما ذكروه. والطبري قد يذكر مثل هذه الأخبار، ثم لا يذكر حجته في ردها، لأنه كره إعادة القول وتريده فيما جعله أصلا في التفسير، كما بين ذلك في"رسالة التفسير"، ثم في تفسيره بعد، ورد أشباهه في مواضع متفرقة منه. أما إذا كان في شيء من ذلك خبر قاطع عن رسول الله ﷺ، فإنه لا يدع ذكره، فإذا لم يذكر -فيما أشبه ذلك- خبرًا عن رسول الله، فاعلم أنه يدع لقارئ كتابه علم الوجه الذي يرد به هذا القول.]]
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب