الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا﴾. (البلد) يجوز في اللغة أن يكون جمع بلدة، ويجوز أن يكون واحدًا، وجمعه بلدان وبلاد [[ينظر: "تهذيب اللغة" 1/ 383.]]. قال الليث: كل موضع من الأرض [[عبارة في "التهذيب" البلد: كل موضع مُسْتَحِييزٍ من الأرض.]] عامرٍ أو غامر [[في (م): (أو غير عامر) وهو كذلك في "تهذيب اللغة" والغامر: ضد عامر.]] مسكونٍ أو خالٍ: بلدٌ، والطائفة منه: بلدة [[نقله عنه في "تهذيب اللغة" 1/ 383.]]. والبلد: المفازة، يقال: أذلّ من بيضةِ البلدِ، أي: بيضة النعامة التي تتركُها بالبلد، وهو المفازة. والعربُ تُسَمِّي كلَّ موضع خال: بلدة، فيقولون لموضع خالٍ من الكواكب بين النعائم وسعد الذابح: بلدة [[نقل في "تهذيب اللغة" 1/ 383 عن الليث: والبلدة في السماء موضع لا نجوم فيه بين النعائم وسعد الذباح، وليست كواكب عظامًا تكون علمًا، وهي من منازل القمر وهي آخر البروج سميت بلدةً، وهي من برج القوس، خالية إلا من كواكب صغار.]]. ويقال للذي ليس بمقرون الحاجبين: الأبلدُ؛ لخُلُوّ ما بين حاجبيه من الشعر. وقال أهل اللغة: أصلُ البلد: هو الأثر. من ذلك قولهم لكِرْكِرَةِ [[الكِركِرة: بالكسر: رحى زور البعير، أو صدر كل ذي خف. "القاموس" 469.]] البعير: بلدة. لأنه إذا برك أثرت. قال ذو الرمة: أُنِيخَتْ فألقَتْ بلدةً فوقَ بلدةٍ ... قليلٍ بها الأصواتُ إلا بُغَامُها [[البيت لذي الرمة، في "ديوانه" ص 1004، "تهذيب اللغة" 1/ 383، "لسان العرب" 1/ 341، "المعجم المفصل" 7/ 135.]] ويقال للأثر: بلد، وجمعه أبلادٌ. قال القُطامي [[هو عمير بن شييم التغلبي القطامي، شاعر إسلامي، تقدمت ترجمته [البقرة: 61].]]: وبالنُحورِ كُلومٌ ذاتُ أبلادٍ [[هذا عجز بيت، وصدره: ليست تجرح فُرّارًا ظهورهم. وهو للقطامي في "ديوانه" ص 12، ينظر: "اللسان" مادة: بلد. ويروى: وفي النجوم، كما في "عمدة الحفاظ"1/ 258، وكذا في "المشوف المعلم" 1/ 117، و"البصائر" 2/ 273، وينظر: "مفردات ألفاظ القرآن" للراغب ص 143.]] وقال ابنُ الرِّقاع [[هو عدي بن الرقاع بن عاملة حي من قضاعة، تقدمت ترجمته [البقرة: 60].]]: عرَف الديارَ توهُّمًا فاعتادَها ... مِنْ بعدِ ما شَمِلَ البِلَى أبلادَها [[البيت في "ديوانه" ص 33، "لسان العرب" 1/ 341 مادة: بلد.]] وإنما سُمِّيت البلادُ لأنها مواضعُ مواطن الناس وتأثيرهم. والبلد: المقبرة، ويقال: هو نفس القبر، قال خُفَاف [[هو خفاف بن عمير بن الحارث بن الشريد السلمي، من مضر، أبو خراشة، شاعر فارس، كان أسود اللون، وعاش زمنًا في الجاهلية، وأدرك الإسلام فأسلم، وشهد فتح مكة وحنينًا والطائف، وثبت في الردة على إسلامه، توفي سنة 20 هـ. ينظر: "أسد الغابة" 2/ 138، "الأعلام" 2/ 309.]]: كلُّ امرئ تاركٌ أحبَّتَه ... ومُسْلِمٌ وجهَه إلى البلَد [[البيت بلا نسبة في "المخصص" 6/ 133، وانظر: "المعجم المفصل" 2/ 429.]] ومن هذا يقال: رجلٌ بليدٌ، إذا أثَّرَ فيه الجهلُ، ثم يقالُ منه: تبلَّدَ الرجلُ، وهو نقيضُ التجلُّد، قال: ألا لا تَلُمْهُ اليومَ أن يتبلَّدا ... فقد غُلِبَ المحزونُ أن يتجلَّدا [[البيت للأحوص الأنصاري في "ديوانه" ص 98، وانظر: "المعجم المفصل" 2/ 201.]] وبلد أيضا: إذا ضَعُفَ في العملِ وغيره، حتى قيل في الجرِي قال: جَرَى طَلَقًا حتى إذا قيلَ سابقٌ ... تداركَه أعراقُ [[في (ش): (أعواق).]] سوءٍ فَبَلَّدَا [[البيت بلا نسبة في "تهذيب اللغة" 1/ 383، "لسان العرب" 1/ 342 و 5/ 2904، "المعجم المفصل" 2/ 201.]] وقوله تعالى: ﴿آمِنًا﴾ قال الزجاج: ذا أَمْنٍ [["معاني القرآن" 1/ 207.]]، فيكون كقولهم: لاِبنٌ وتَامِرٌ، ويجوزُ أن يكون آمنًا يأمَنُ أهله فيه، فيكون كقولهم: ليلٌ نائمٌ، أيْ: ينامُ أهله [[زيادة من (م).]] فيه، قال الشاعر: ونمتُ وما ليلُ المطيِّ بنائمٍ [[البيت لجرير بن عطية، ومطلعه: لقد لُمتِنا يا أمَّ غيلان في السُّرى ينظر: "ديوانه" ص 454.]] ويقولون: همٌّ ناصب، أي: ينصبُ فيه الإنسان، وينصبُ لأجلِه [[وليس هذا بقياس عند سيبويه، وعن المبرد أن فاعلاً بمعنى صاحب، كذا قياس، وفي شرح المفصل: وكثر فعال حتى لا يبعد دعوى القياس فيه، وقل فاعل، فلا يمكن دعوى القياس فيه لندوره. ينظر: "حاشية ابن جماعة الكناني على شرح الجاربردي للشافية لابن الحاجب" 1/ 125، "همع الهوامع" للسيوطي 2/ 198.]] قال النابغة: كِلِيني لَهمٍّ يا أميمةُ ناصبِ [[البيت للنابغة الذبياني، وعجزه: وليلٍ أقاسيه بطيءِ الكواكبِ ينظر: "ديوانه" ص 45، و"المعجم المفصل" 1/ 450.]] فأما التفسير فقال ابن عباس: يريد حرامًا محرمًا، لا يصاد طيره، ولا يقطع شجره، ولا يختلى خلاه، ولا يدخلها أحد إلا بإحرام، ولا تحلُّ لأحدٍ من الخلق إلا الساعة التي حلّت للنبي ﷺ، هذا كلامه [[ينظر مرفوعًا عن ابن عباس بنحوه عند البخاري (1349) كتاب الحج باب: الأذخر والحشيش في القبر، ومسلم (1353) كتاب الحج؛ باب: تحريم مكة وصيدها وخلاها.]]. فأما الحكم في هذا، فإنَّ صيدَ مكة لا ينفر، ولا ينتف شعره، ولا يتعرض له بنوع أذًى، ومن قتل صيد مكة فعليه جزاؤه، ولا يجوز قطع أشجار [[في (م): (شجر).]] الحرم على جهة الإضرار بها، ويجوز تشذيبها على جهة المصلحة لها، ولا يجوز خبطها؛ ولكنها تهشُّ هشًا رفيقًا، ويجوزُ إرسالُ المواشي لترتَعَ في حشيش الحرم [[ينظر في المسألة: "مشكل الآثار" للطحاوي 4/ 176 ط دار الكتب العلمية، "المجموع شرح المهذب" 7/ 425 و 7/ 444 ط المنيرية، "تفسير ابن كثير" 1/ 180.]]. وقال النبي ﷺ: "إن الله حبس الفيل عن مكة، وسلَّطَ عليها رسولَه والمؤمنين، وإنهَّا لم تَحِلُّ لأحدٍ كان قبلي، ولا تحلُّ لأحدٍ كان بعدي، وإنما أُحِلَّت لي ساعة من النهار" [[تقدم تخريجه آنفًا.]]. والعرب تقول: آمَنُ من حمام مكة، يضربون المثلَ بها في الأمن [[لأنها لا تثار ولا تهاج. ينظر: "مجمع الأمثال" للميداني 1/ 87، "جمهرة الأمثال" للعسكري 1/ 199، "المستقصى" للزمخشري 1/ 7.]]. وقوله تعالى: ﴿وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾ الثمرات: جمع ثمرة، وهو حمل الشجرة من أي نوع كان، ويأتي الكلام فيها عند اختلاف القراء في (ثمره) [الكهف: 42]. قال المفسرون: استجاب الله دعاء إبراهيم، فقال في موضع آخر: ﴿أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [القصص: 57] [[ينظر: "الوسيط" 1/ 210.]]. قال عطاء عن ابن عباس: ذكروا أن الله عز وجل بعث جبريل إلى الشام، حتى اقتلع الطائف من موضع الأردن، ثم طاف بها حول الكعبة أسبوعًا، لذلك سميت الطائف، ثم أنزلها تهامة، ومنها تجْبَى إلى مكة الثمرات [[ذكره الواحدي في "الوسيط" 1/ 210 ذكره البغوي في "تفسيره" 1/ 149 دون نسبة، وبعضه يذكر عن الزهري ومحمد بن مسلم الطائفي. ينظر: "تفسير الطبري" 1/ 544، "تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 229 - 230، "البحر المحيط" 1/ 383.]]. وقوله تعالى: ﴿مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ (من) بَدَلٌ من أهله [["معاني القرآن" للزجاج 1/ 207.]] وهو بدل البعض من الكُلِّ، كقوله: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران: 97]. والأخفش يسمي هذا بدل التبيان؛ لأنَّ الأول دلَّ على العموم، ثم بان بالبدل أن المراد به البعض، كما تقول: أخذت المال ثلثيه، ورأيت القوم ناسًا منهم [["معاني القرآن" للأخفش 1/ 147.]]. وإنما خصَّ إبراهيم عليه السلام بطلب الرزق المؤمنين؛ لأن الله تعالى أدبه بقوله: ﴿قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ فتوهَّم أنه كما لا يعطيهم النبوة إلا إذا كانوا مؤمنين، كذلك لا يرزق أهل مكة إلا أن يكونوا مؤمنين [[ينظر: "الوسيط" 1/ 210.]]. قال ابن عباس: وكانت دعوةُ إبراهيم يومئذ وأهلها مؤمنون [[لعله من رواية عطاء، وقد تقدم الحديث عنها في القسم الدراسي.]]، فما زالوا على إيمانٍ ومعرفة بالله حتى غيَّرَ ذلك عمرو بن لُحَيّ الخُزاعي [[هو عمرو بن لحي بن حارثة بن عمرو بن عامر الأزدي وقيل: عمرو بن لحي بن قَمَعَة، وقيل غير ذلك، من قحطان، أول من غير دين إسماعيل، ودعا العربَ إلى عبادة الأوثان حيث دعا إلى تعظيمها. ينظر: "البداية والنهاية" 2/ 187، "الأعلام" 5/ 84.]]، وهو الذي قال رسول الله ﷺ: "رأيته في جهنم يجُرّ قُصْبَه [[قصبه أي: أمعاءه، ينظر: "صحيح مسلم" (2856) كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: النار يدخلها الجبارون.]] في النار" [[رواه البخاري (4623) كتاب تفسير القرآن، باب: ما جعل الله من بحيرة، ومسلم (2856) كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: النار يدخلها الجبارون.]]، وكان أول من غيّر دين إبراهيم، وعبد الأصنام، وسيّب السائبة، وبَحَر البحيرة، وحمى الحامي [[السائبة: قيل: من الإبل، وقيل من جميع الأنعام وتكوم من النذر للأصنام، فتسيب فلا تحبس عن مرعى ولا ماء ولا يركبها أحد، كان الرجل ينذر إن برىء أو قدم من سفره ليُسيبن بعيرًا. والبحيرة: هي التي بحرت أذنها أي خرمت، قيل من الإبل وقيل من الشاة، إذا ولدت خمسة أبطن بحروا أذنها وتركت فلا يمسها أحد. والحامي: هو فحل الإبل، إذا انتجوا منه عشرة أبطن، قالوا قد حمى ظهره، فلم يركب وقيل: غير ذلك ينظر: "فتح الباري" 8/ 284.]]، وغلب على مكة، وقهر أهلها، وهم ولد إسماعيل. ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً﴾ فسأرزقه إلى منتهى أجله [[ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1177، "تفسير البغوي" 1/ 149.]]. وفي (أمتعه) قراءتان: التشديد من التفعيل، وهو قراءة عامة القراء، وقرأ ابن عامر بالتخفيف [[ينظر: "السبعة" ص 170، "معاني القراءات" للأزهري ص 63.]]. والتشديدُ أولى، لأن التنزيل عليه: كقوله: ﴿يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا﴾ [هود: 3] وقال: ﴿كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [القصص: 61] وقال: ﴿وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾ [يونس: 98]. وأمّا التخفيف فإن أَفْعَل قد يكون بمعنى فَعَّل في كثير من المواضع، نحو: فَرَّحْتُه وأفرحْتُه، وأنزلته ونَزَّلته، قال الراعي [[هو: أبو جندل عبيد بن حصين النميري، والراعي لقبه؛ لكثرة وصفه للإبل، وهو شاعر من المحدثين الفحول، عاصر جريرًا والفرزدق، توفي سنة 90 هـ. ينظر: "الشعر والشعراء" 265، "الأعلام" 4/ 188.]]: خَلِيطَين من شعبين شتّى تجاورا ... قديمًا وكانا بالتفرُّقِ أمتعا [[ينظر: "ديوانه" ص 166، "لسان العرب" 7/ 4129، "المعجم المفصل" 4/ 199.]] وأما قوله: (قليلا) قال أبو علي الفارسي [[في "الحجة للقراء السبعة" 2/ 222.]]: يجوز أن يكون صفةً للمصدر، ويجوز أن يكون صفة للزمان. فالدلالةُ على جواز كونه صفة للمصدر قوله: ﴿يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا﴾ [هود: 3] فوصف به المصدر. قال سيبويه [["الكتاب" 1/ 124.]]: مثال هذا: أنك ترى الرجل يعالج شيئًا فتقول: رُويدًا، أي: علاجًا رويدًا. فإن قيل: كيف يحسنُ أن يكون صفة للمصدر، وفعّل يدل على التكثير، فكيفَ يستقيمُ وصفُ الكثير بالقليل في قوله: ﴿فَأُمَتِعُهُ قَلِيلًا﴾، وهلا كان قولُ ابن عامر أرجحَ؛ لأنَّ هذا السؤال لا يعترض فيه. والجواب: أن هذا لا يدل على ترجيح قراءته، وإنما وصفه الله سبحانه بالقليلِ من حيثُ كان إلى نَفادٍ ونقصٍ وتناهٍ، ألا ترى أن [[زيادة من (م).]] قوله: ﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ﴾ [النساء: 77] فعلى هذا وُصِفَ المتاع بالقلة في قوله: ﴿فَأُمَتِعُهُ قَلِيلاً﴾. وأما جواز أن يكون (قليل) صفة للزمان فيدل عليه قوله: ﴿قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ﴾ [المؤمنون: 40] بعد زمان قليل، كما تقول: أطعمه عن جوعٍ وكساه عن عُري [[انتهى كلام أبي علي الفارسي من "الحجة" 2/ 222.]]. وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ﴾ أي: ألجئه في الآخرة إلى عذاب النار ﴿وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ مُختصر، أي: بئس المصير النار أو عذاب النار [[ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1177، "تفسير ابن كثير" 1/ 186 - 187.]].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب