الباحث القرآني

﴿وإذْ قالَ إبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذا بَلَدًا آمِنًا﴾: ذَكَرُوا أنَّ العامِلَ في إذْ مَحْذُوفٌ، ورَبُّ: مُنادًى مُضافٌ إلى الياءِ، وحَذْفُ مِنهُ حَرْفُ النِّداءِ، والمُضافُ إلى الياءِ فِيهِ لُغاتٌ، أحْسَنُها: أنْ تُحْذَفَ مِنهُ ياءُ الإضافَةِ، ويَدُلُّ عَلَيْها بِالكَسْرَةِ، فَيُجْتَزَأُ بِها لِأنَّ النِّداءَ مَوْضِعُ تَخْفِيفٍ. ألا تَرى إلى جَوازِ التَّرْخِيمِ فِيهِ ؟ وتِلْكَ اللُّغاتُ مَذْكُورَةٌ في النَّحْوِ، وسَيَأْتِي (p-٣٨٣)مِنها في القُرْآنِ شَيْءٌ، ونَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ في مَكانِهِ - إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى - . وناداهُ بِلَفْظِ الرَّبِّ مُضافًا إلَيْهِ، لِما في ذَلِكَ مِن تَلَطُّفِ السُّؤالِ والنِّداءِ بِالوَصْفِ الدّالِّ عَلى قَبُولِ السّائِلِ وإجابَةِ ضَراعَتِهِ. واجْعَلْ هُنا بِمَعْنى: صَيِّرْ، وصُورَتُهُ أمْرٌ، وهو طَلَبٌ ورَغْبَةٌ. وهَذا إشارَةٌ إلى الوادِي الَّذِي دَعا لِأهْلِهِ حِينَ أسْكَنَهم فِيهِ، وهو قَوْلُهُ: ﴿بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ﴾ [إبراهيم: ٣٧]، أوْ إلى المَكانِ الَّذِي صارَ بَلَدًا، ولِذَلِكَ نَكَّرَهُ فَقالَ: ﴿بَلَدًا آمِنًا﴾ . وحِينَ صارَ بَلَدًا قالَ: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذا البَلَدَ آمِنًا واجْنُبْنِي﴾ [إبراهيم: ٣٥]، وقالَ: ﴿لا أُقْسِمُ بِهَذا البَلَدِ﴾ [البلد: ١]، هَذا إنْ كانَ الدُّعاءُ مَرَّتَيْنِ في وقْتَيْنِ. وقِيلَ: الآيَتانِ سَواءٌ، فَتَحْتَمِلُ آيَةَ التَّنْكِيرِ أنْ يَكُونَ قَبْلَها مَعْرِفَةٌ مَحْذُوفَةٌ، أيِ اجْعَلْ هَذا البَلَدَ بَلَدًا آمِنًا، ويَكُونُ ”بَلَدًا“ النَّكِرَةُ تَوْطِئَةً لِما يَجِيءُ بَعْدَهُ، كَما تَقُولُ: كانَ هَذا اليَوْمُ يَوْمًا حارًّا، فَتَكُونُ الإشارَةُ إلَيْهِ في الآيَتَيْنِ بَعْدَ كَوْنِهِ بَلَدًا. ويَحْتَمِلُ وجْهًا آخَرَ وهو: أنَّهُ لا يَكُونُ مَحْذُوفًا ولا يَكُونُ إذْ ذاكَ ”بَلَدًا“ بَلْ دَعى لَهُ بِذَلِكَ، وتَكُونُ المَعْرِفَةُ الَّذِي جاءَ في قَوْلِهِ: ﴿هَذا البَلَدَ﴾ [إبراهيم: ٣٥]، بِاعْتِبارِ ما يَئُولُ إلَيْهِ سَمّاهُ بَلَدًا. ووَصْفُ بَلَدٍ بِآمِنٍ، إمّا عَلى مَعْنى النَّسَبِ، أيْ ذا أمْنٍ، كَقَوْلِهِمْ: ﴿عِيشَةٍ راضِيَةٍ﴾ [الحاقة: ٢١]، أيْ ذاتِ رِضًا، أوْ عَلى الِاتِّساعِ لَمّا كانَ يَقَعُ فِيهِ الأمْنُ جَعَلَهُ آمِنًا كَقَوْلِهِمْ: نَهارُكَ صائِمٌ ولَيْلُكَ قائِمٌ. وهَلِ الدُّعاءُ بِأنْ يَجْعَلَهُ آمِنًا مِنَ الجَبابِرَةِ والمُسَلَّطِينَ، أوْ مِن أنْ يَعُودَ حَرَمُهُ حَلالًا، أوْ مِن أنْ يَخْلُوَ مِن أهْلِهِ، أوْ آمِنًا مِنَ القَتْلِ، أوْ مِنَ الخَسْفِ والقَذْفِ، أوْ مِنَ القَحْطِ والجَدْبِ، أوْ مِن دُخُولِ الدَّجّالِ، أوْ مِن أصْحابِ الفِيلِ ؟ أقْوالٌ. ومَن فَسَّرَ آمِنًا بِكَوْنِهِ آمِنًا مِنَ الجَبابِرَةِ، فالواقِعُ يَرُدُّهُ، إذْ قَدْ دَخَلَ فِيهِ الجَبابِرَةُ وقَتَلُوا، كَعَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ الجُرْهُمِيِّ، والحَجّاجِ بْنِ يُوسُفَ، والقَرامِطَةِ، وغَيْرِهِمْ. وكَذَلِكَ مَن قالَ آمِنًا مِنَ القَحْطِ والجَدْبِ، فَهي أكْثَرُ بِلادِ اللَّهِ قَحْطًا وجَدْبًا. وقالَ القَفّالُ: مَعْناهُ مَأْمُونًا فِيهِ، وكانُوا قَبْلَ أنْ تَغْزُوَهُمُ العَرَبُ في غايَةِ الأمْنِ، حَتّى أنَّ أحَدَهم إذا وجَدَ بِمَفازَةٍ أوْ بَرِيَّةٍ لا يَتَعَرَّضُ إلَيْهِ عِنْدَما يَعْلَمُ أنَّهُ مِن سُكّانِ الحَرَمِ. * * * ﴿وارْزُقْ أهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَن آمَنَ مِنهم بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ﴾: لَمّا بَنى إبْراهِيمُ البَيْتَ في أرْضٍ مُقْفِرَةٍ، وكانَ حالُ مَن يَتَمَدَّنُ مِنَ الأماكِنِ يَحْتاجُ فِيهِ إلى ماءٍ يَجْرِي ومَزْرَعَةٍ يُمْكِنُ بِهِما القِطانُ بِالمَدِينَةِ، دَعا اللَّهَ لِلْبَلَدِ بِالأمْنِ، وبِأنْ يُجْبى لَهُ الأرْزاقُ. فَإنَّهُ إذا كانَ البَلَدُ ذا أمْنٍ، أمْكَنَ وُفُودُ التُّجّارِ إلَيْهِ لِطَلَبِ الرِّبْحِ. ولَمّا سَمِعَ في الإمامَةِ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ﴾ [البقرة: ١٢٤] . قَيَّدَ هُنا مَن سَألَ لَهُ الرِّزْقَ فَقالَ: ﴿مَن آمَنَ مِنهم بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ﴾، والضَّمِيرُ في مِنهم عائِدٌ عَلى أهْلِهِ. دَعا لِمُؤْمِنِهِمْ بِالأمْنِ والخِصْبِ؛ لِأنَّ الكافِرَ لا يُدْعى لَهُ بِذَلِكَ؛ ألا تَرى «أنَّ قُرَيْشًا لَمّا طَغَتْ، دَعا عَلَيْها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ”اللَّهُمَّ اشْدُدْ وطْأتَكَ عَلى مُضَرَ، واجْعَلْها عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ“»، وكانَتْ مَكَّةُ إذْ ذاكَ قَفْرًا لا ماءَ بِها ولا نَباتَ، كَما قالَ: ﴿بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ﴾ [إبراهيم: ٣٧] فَبارَكَ اللَّهُ فِيما حَوْلُها كالطّائِفِ وغَيْرِهِ، وأنْبَتَ اللَّهُ فِيهِ أنْواعًا مِنَ الثَّمَرِ. ورُوِيَ أنَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا دَعاهُ إبْراهِيمُ أمَرَ جِبْرِيلَ فاقْتَلَعَ فِلَسْطِينَ، وقِيلَ: بُقْعَةً مِنَ الأُرْدُنِّ، فَطافَ بِها حَوْلَ البَيْتِ سَبْعًا، فَأنْزَلَها بِوَجٍّ فَسُمِّيَتِ الطّائِفَ بِسَبَبِ ذَلِكَ الطَّوافِ، وقالَ بَعْضُهم: ؎كُلُّ الأماكِنِ إعْظامًا لِحُرْمَتِها تَسْعى لَها ولَها في سَعْيِها شَرَفُ وذَكَرَ مُتَعَلِّقَ الإيمانِ، وهو اللَّهُ تَعالى واليَوْمُ الآخِرُ؛ لِأنَّ في الإيمانِ بِاللَّهِ إيمانًا بِالصّانِعِ الواجِبِ الوُجُودِ، وبِما يَلِيقُ بِهِ تَعالى مِنَ الصِّفاتِ، وفي الإيمانِ بِاليَوْمِ الآخِرِ إيمانٌ بِالثَّوابِ والعِقابِ المُرَتَّبَيْنِ عَلى الطّاعَةِ والمَعْصِيَةِ اللَّذَيْنِ هُما مَناطُ التَّكْلِيفِ المُسْتَدْعِي مُخْبِرًا صادِقًا بِهِ، وهُمُ الأنْبِياءُ. فَتَضَمَّنَ الإيمانُ بِاليَوْمِ الآخِرِ الإيمانَ بِالأنْبِياءِ، وبِما جاءُوا بِهِ. فَلَمّا كانَ الإيمانُ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ يَتَضَمَّنُ الإيمانَ بِجَمِيعِ ما يَجِبُ أنْ يُؤْمَنَ بِهِ اقْتَصَرَ عَلى ذَلِكَ؛ لِأنَّ غَيْرَهُ في ضِمْنِهِ. ودُعاءُ إبْراهِيمَ لِأهْلِ البَيْتِ يَعُمُّ مَن يُطْلِقُ عَلَيْهِ هَذا الِاسْمَ، ولا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِذُرِّيَّتِهِ، وإنْ كانَ ظاهِرُ قَوْلِهِ: ﴿وارْزُقْهم مِنَ الثَّمَراتِ﴾ [إبراهيم: ٣٧] مُخْتَصًّا بِذُرِّيَّتِهِ لِقَوْلِهِ: ﴿إنِّي أسْكَنْتُ مِن ذُرِّيَّتِي﴾ [إبراهيم: ٣٧] (p-٣٨٤)لِعَوْدِ الضَّمِيرِ في وارْزُقْهم عَلَيْهِ، فَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونا سُؤالَيْنِ. ومِن: في قَوْلِهِ: مِنَ الثَّمَراتِ لِلتَّبْعِيضِ، لِأنَّهم لَمْ يُرْزَقُوا إلّا بَعْضَ الثَّمَراتِ. وقِيلَ: هي لِبَيانِ الجِنْسِ، ومَن بَدَلٌ مِن أهْلِهِ، بَدْلُ بَعْضٍ مِن كُلٍّ، أوْ بَدَلُ اشْتِمالٍ مُخَصِّصٌ لِما دَلَّ عَلَيْهِ المُبْدَلُ مِنهُ، وفائِدَتُهُ أنَّهُ يَصِيرُ مَذْكُورًا مَرَّتَيْنِ: إحْداهُما بِالعُمُومِ السّابِقِ في لَفْظِ المُبْدَلِ مِنهُ، والثّانِيَةُ بِالتَّنْصِيصِ عَلَيْهِ، وتَبَيَّنَ أنَّ المُبْدَلَ مِنهُ إنَّما عُنِيَ بِهِ وأُرِيدَ البَدَلُ فَصارَ مَجازًا، إذْ أُرِيدَ بِالعامِّ الخاصُّ. هَذِهِ فائِدَةُ هَذَيْنِ البَدَلَيْنِ، فَصارَ في ذَلِكَ تَأْكِيدٌ وتَثْبِيتٌ لِلْمُتَعَلِّقِ بِهِ الحُكْمُ وهو البَدَلُ، إذْ ذُكِرَ مَرَّتَيْنِ. ﴿قالَ ومَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أضْطَرُّهُ إلى عَذابِ النّارِ وبِئْسَ المَصِيرُ﴾: قَرَأ الجُمْهُورُ مِنَ السَّبْعَةِ: فَأُمَتِّعُهُ، مُشَدَّدًا عَلى الخَبَرِ. وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ: فَأُمْتِعُهُ، مُخَفِّفًا عَلى الخَبَرِ. وقَرَأ هَؤُلاءِ: ثُمَّ أضْطَرُّهُ، خَبَرًا. وقَرَأ يَحْيى بْنُ وثّابٍ: فَأُمْتِعُهُ مُخَفَّفًا، ثُمَّ إضْطَرُّهُ بِكَسْرِ الهَمْزَةِ، وهُما خِبْرانِ. وقَرَأ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: ثُمَّ أضطَّرُّهُ، بِإدْغامِ الضّادِ في الطّاءِ، خَبَرًا. وقَرَأ يَزِيدُ بْنُ أبِي حَبِيبٍ: ثُمَّ أضْطُرُّهُ، بِضَمِّ الطّاءِ، خَبَرًا. وقَرَأ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: فَنُمَتِّعُهُ ثُمَّ نَضْطَرُّهُ، بِالنُّونِ فِيهِما. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ وغَيْرُهُما: ﴿فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أضْطَرُّهُ﴾ عَلى صِيغَةِ الأمْرِ فِيهِما، فَأمّا عَلى هَذِهِ القِراءَةِ فَيَتَعَيَّنُ أنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ في ”قالَ“ عائِدًا عَلى إبْراهِيمَ، لَمّا دَعا لِلْمُؤْمِنِينَ بِالرِّزْقِ، دَعا عَلى الكافِرِينَ بِالإمْتاعِ القَلِيلِ والإلْزازِ إلى العَذابِ. ومَن: عَلى هَذِهِ القِراءَةِ يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ في مَوْضِعِ رَفْعٍ، عَلى أنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً أوْ شَرْطِيَّةً، وفي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى الِاشْتِغالِ عَلى الوَصْلِ أيْضًا. وأمّا عَلى قِراءَةِ الباقِينَ فَيَتَعَيَّنُ أنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ في قالَ عائِدًا عَلى اللَّهِ تَعالى، ومَن: يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى إضْمارِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ: قالَ اللَّهُ وأرْزُقُ مَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ، ويَكُونُ ”فَأُمَتِّعُهُ“ مَعْطُوفًا عَلى ذَلِكَ الفِعْلِ المَحْذُوفِ النّاصِبِ لِمَن. ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ مَن في مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلى الِابْتِداءِ، إمّا مَوْصُولًا وإمّا شَرْطًا، والفاءُ جَوابُ الشَّرْطِ أوِ الدّاخِلَةُ في خَبَرِ المَوْصُولِ لِشُبْهَةٍ بِاسْمِ الشَّرْطِ. ولا يَجُوزُ أنْ تَكُونَ مَن في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى الِاشْتِغالِ إذا كانَتْ شَرْطًا؛ لِأنَّهُ لا يُفَسِّرُ العامِلَ في مَن إلّا فِعْلُ الشَّرْطِ، لا الفِعْلُ الواقِعُ جَزاءً ولا إذا كانَتْ مَوْصُولَةً؛ لِأنَّ الخَبَرَ مُضارِعٌ قَدْ دَخَلَتْهُ الفاءُ تَشْبِيهًا لِلْمَوْصُولِ بِاسْمِ الشَّرْطِ. فَكَما لا يُفَسِّرُ الجَزاءُ كَذَلِكَ لا يُفَسِّرُ الخَبَرُ المُشَبَّهُ بِالجَزاءِ. وأمّا إذا كانَ أمْرًا، أعْنِي الخَبَرَ نَحْوَ: زَيْدًا فاضْرِبْهُ، فَيَجُوزُ أنْ يُفَسِّرَ، ولا يَجُوزَ أنْ تَقُولَ: زَيْدًا فَتَضْرِبُهُ عَلى الِاشْتِغالِ، ولِجَوازِ: زَيْدًا فاضْرِبْهُ عَلى الأمْرِ، عِلَّةٌ مَذْكُورَةٌ في كُتُبِ النَّحْوِ. قالَ أبُو البَقاءِ: لا يَجُوزُ أنْ تَكُونَ ”مَن“ ”مُبْتَدَأً“ و”فَأُمَتِّعُهُ“ الخَبَرَ؛ لِأنَّ ”الَّذِي“ لا يَدْخُلُ الفاءُ في خَبَرِها إلّا إذا كانَ الخَبَرُ مُسْتَحِقًّا لِصِلَتِها، كَقَوْلِكَ: الَّذِي يَأْتِينِي فَلَهُ دِرْهَمٌ. والكُفْرُ لا يَسْتَحِقُّ بِهِ التَّمَتُّعُ، فَإنْ جُعِلَتِ الفاءُ زائِدَةً عَلى قَوْلِ الأخْفَشِ جازَ، أوِ الخَبَرُ مَحْذُوفًا وفَأُمَتِّعُهُ دَلِيلٌ عَلَيْهِ جازَ، تَقْدِيرُهُ: ومَن كَفَرَ أرْزُقُهُ فَأُمَتِّعُهُ. ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ مَن شَرْطِيَّةً والفاءُ جَوابَها. وقِيلَ: الجَوابُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: ومَن يَكْفُرُ أرْزُقُ. ومَن عَلى هَذا رُفِعَ بِالِابْتِداءِ، ولا يَجُوزُ أنْ تَكُونَ مَنصُوبَةً؛ لِأنَّ أداةَ الشَّرْطِ لا يَعْمَلُ فِيها (p-٣٨٥)جَوابُها، بَلِ الشَّرْطُ. انْتَهى كَلامُهُ. وقَوْلُهُ أوَّلًا لا يَجُوزُ كَذا وتَعْلِيلُهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأنَّ الخَبَرَ مُسْتَحَقٌّ بِالصِّلَةِ؛ لِأنَّ التَّمَتُّعَ القَلِيلَ والصَّيْرُورَةَ إلى النّارِ مُسْتَحِقّانِ بِالكُفْرِ. ثُمَّ إنَّهُ قَدْ ناقَضَ أبُو البَقاءِ في تَجْوِيزِهِ أنْ تَكُونَ مَن شُرْطِيَّةً والفاءُ جَوابَها. وهَلِ الجَزاءُ إلّا مُسْتَحَقٌّ بِالشَّرْطِ ومُتَرَتَّبٌ عَلَيْهِ ؟ فَكَذَلِكَ الخَبَرُ المُشَبَّهُ بِهِ أيْضًا. فَلَوْ كانَ التَّمَتُّعُ قَلِيلًا لَيْسَ مُسْتَحَقًّا بِالصِّلَةِ، وقَدْ عَطَفَ عَلَيْهِ ما يَسْتَحِقُّ بِالصِّلَةِ، ناسَبَ أنْ يَقَعَ خَبَرًا مِن حَيْثُ وقَعَ جَزاءً، وقَدْ جَوَّزَ هو ذَلِكَ. وأمّا تَقْدِيرُ زِيادَةِ الفاءِ، وإضْمارِ الخَبَرِ، وإضْمارِ جَوابِ الشَّرْطِ، إذا جَعَلْنا مَن شَرْطِيَّةً، فَلا حاجَةَ إلى ذَلِكَ؛ لِأنَّ الكَلامَ مُنْتَظِمٌ في غايَةِ الفَصاحَةِ دُونَ هَذا الإضْمارِ. وإنَّما جَرى أبُو البَقاءِ في إعْرابِهِ في القُرْآنِ عَلى حَدِّ ما يَجْرِي في شَعْرٍ الشَّنْفَرِيِّ والشَّمّاخِ، مِن تَجْوِيزِ الأشْياءِ البَعِيدَةِ والتَّقادِيرِ المُسْتَغْنى عَنْها، ونَحْنُ نُنَزِّهُ القُرْآنَ عَنْ ذَلِكَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ومَن كَفَرَ: عَطْفٌ عَلى مَن آمَنَ، كَما عُطِفَ ومِن ذُرِّيَّتِي عَلى الكافِ في جاعِلُكَ. انْتَهى كَلامُهُ. وتَقَدَّمَ لَنا الرَّدُّ عَلَيْهِ في زَعْمِهِ أنَّ ”ومِن ذُرِّيَّتِي“ عَطْفٌ عَلى الكافِ في جاعِلُكَ. وأمّا عَطْفُ مَن كَفَرَ عَلى مَن آمَنَ فَلا يَصِحُّ؛ لِأنَّهُ يَتَنافى في تَرْكِيبِ الكَلامِ؛ لِأنَّهُ يُصَيِّرُ المَعْنى: قالَ إبْراهِيمُ: وارْزُقْ مَن كَفَرَ؛ لِأنَّهُ لا يَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ حَتّى يُشْرِكَهُ في العامِلِ، ومَن آمَنَ: العامِلُ فِيهِ فِعْلُ الأمْرِ، وهو العامِلُ في ومَن كَفَرَ. وإذا قَدَّرْتَهُ أمْرًا تَنافى مَعَ قَوْلِهِ: فَأُمَتِّعُهُ؛ لِأنَّ ظاهِرَ هَذا إخْبارٌ مِنَ اللَّهِ بِنَسْبِهِ التَّمَتُّعَ وإلْجائَهم إلَيْهِ تَعالى، وأنَّ كُلًّا مِنَ الفِعْلَيْنِ يَضْمَنُ ضَمِيرَ اللَّهِ تَعالى، وذَلِكَ لا يَجُوزُ إلّا عَلى بُعْدٍ بِأنْ يَكُونَ بَعْدَ الفاءِ قَوْلٌ مَحْذُوفٌ فِيهِ ضَمِيرٌ لِلَّهِ تَعالى، أيْ قالَ إبْراهِيمُ: وارْزُقْ مَن كَفَرَ، فَقالَ اللَّهُ: أُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أضْطَرُّهُ إلى عَذابِ النّارِ. ثُمَّ ناقَضَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلَهُ هَذا أنَّهُ عَطَفَ عَلى مَن، كَما عَطَفَ ومِن ذُرِّيَّتِي عَلى الكافِ في جاعِلُكَ فَقالَ: (فَإنْ قُلْتَ): لَمْ خَصَّ إبْراهِيمُ المُؤْمِنِينَ حَتّى رُدَّ عَلَيْهِ ؟ (قُلْتُ): قاسَ الرِّزْقَ عَلى الإمامَةِ فَعَرَفَ الفَرْقَ بَيْنَهُما؛ لِأنَّ الِاسْتِخْلافَ اسْتِرْعاءٌ مُخْتَصٌّ بِمَن يَنْصَحُ لِلْمَرْعِيِّ. وأبْعَدُ النّاسِ عَنِ النَّصِيحَةِ الظّالِمُ، بِخِلافِ الرِّزْقِ فَإنَّهُ قَدْ يَكُونُ اسْتِدْراجًا لِلْمَرْزُوقِ وإلْزامًا لِلْحُجَّةِ لَهُ. والمَعْنى: وأرْزَقُ مَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ. انْتَهى كَلامُهُ. فَظاهِرُ قَوْلِهِ والمَعْنى: وأرْزُقُ مَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ: يَدُلُّ عَلى أنَّ الضَّمِيرَ في قالَ، ومَن كَفَرَ، عائِدٌ عَلى اللَّهِ، وأنَّ مَن كَفَرَ مَنصُوبٌ بِـ”أرْزُقُ“ الَّذِي هو فِعْلٌ مُضارِعٌ مُسْنَدٌ إلى اللَّهِ تَعالى، وهو يُناقِصُ ما قُدِّمَ أوَّلًا مِن أنَّ مَن كَفَرَ مَعْطُوفٌ عَلى مَن آمَنَ. وفي قَوْلِهِ خَصَّ إبْراهِيمُ المُؤْمِنِينَ حَتّى رُدَّ عَلَيْهِ سُوءُ أدَبٍ عَلى الأنْبِياءِ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ؛ لِأنَّهُ لا يَدَّعِي ويَرْغَبُ في أنْ يَرْزُقَ الكافِرَ، بَلْ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالَ ومَن كَفَرَ﴾، إخْبارٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى بِما يَكُونُ مَآلُ الكافِرِ إلَيْهِ مِنَ التَّمْتِيعِ القَلِيلِ والصَّيْرُورَةِ إلى النّارِ، ولَيْسَ هُنا قِياسُ الرِّزْقِ عَلى الإمامَةِ ولا تَعْرِيفُ الفِرَقِ بَيْنَهُما كَما زَعَمَ. وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ المَتاعِ وأنَّهُ كُلُّ ما انْتُفِعَ بِهِ، وفَسَّرَ هُنا التَّمْتِيعَ والإمْتاعَ بِالإبْقاءِ أوْ بِتَيْسِيرِ المَنافِعِ، ومِنهُ مَتاعُ الحَياةِ الدُّنْيا، أيْ مَنفَعَتُها الَّتِي لا تَدُومُ، أوْ بِالتَّزْوِيدِ، ومِنهُ: فَمَتِّعُوهُنَّ؛ أيْ زَوِّدُوهُنَّ نَفَقَةً. والمُتْعَةُ: ما يُتَبَلَّغُ بِهِ مِنَ الزّادِ، والجَمْعُ مُتَعٌ، ومِنهُ: ”مَتاعًا لَكم ولِلسَّيّارَةِ“، والهَمْزَةُ في أمْتَعَ يَجْعَلُ الشَّيْءَ صاحِبَ ما صِيغَ مِنهُ: أمْتَعْتُ زَيْدًا، جَعَلْتُهُ صاحِبَ مَتاعٍ، كَقَوْلِهِمْ: أقْبَرْتُهُ وأنْعَلْتُهُ، وكَذَلِكَ التَّضْعِيفُ في ”مَتَّعَ“ هو: يَجْعَلُ الشَّيْءَ بِمَعْنى ما صِيغَ مِنهُ نَحْوَ قَوْلِهِمْ: عَدَّلْتُهُ. ولَيْسَ التَّضْعِيفُ في ”مَتَّعَ“ يَقْتَضِي التَّكْثِيرَ، فَيُنافِي ظاهِرَ ذَلِكَ القِلَّةُ، فَيَحْتاجُ إلى تَأْوِيلٍ، كَما ظَنَّهُ بَعْضُهم وتَأوَّلَهُ عَلى أنَّ الكَثْرَةَ بِإضافَةِ بَعْضِها إلى بَعْضٍ، والقِلَّةَ بِالإضافَةِ إلى نَعِيمِ الآخِرَةِ. فَقَدِ اخْتَلَفَتْ جِهَتا الكَثْرَةِ والقِلَّةِ فَلَمَّ يَتَنافَيا. وانْتِصابُ قَلِيلًا عَلى أنَّهُ صِفَةٌ لِظَرْفٍ مَحْذُوفٍ، أيْ زَمانًا قَلِيلًا، أوْ عَلى أنَّهُ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أيْ تَمْتِيعًا قَلِيلًا، عَلى تَقْدِيرِ الجُمْهُورِ، أوْ عَلى الحالِ مِن ضَمِيرِ المَصْدَرِ المَحْذُوفِ الدّالِّ عَلَيْهِ الفِعْلُ، وذَلِكَ عَلى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ. والوَصْفُ بِالقِلَّةِ لِسُرْعَةِ انْقِضائِهِ، إمّا لِحُلُولِ الأجَلِ وإمّا بِظُهُورِ مُحَمَّدٍ (p-٣٨٦)ﷺ فَيَقْتُلُهُ أوْ يُخْرِجُهُ عَنْ هَذا البَلَدِ، إنْ أقامَ عَلى الكُفْرِ والإمْتاعِ بِالنَّعِيمِ والزِّينَةِ، أوْ بِالإمْهالِ عَنْ تَعْجِيلِ الِانْتِقامِ فِيها، أوْ بِالرِّزْقِ، أوْ بِالبَقاءِ في الدُّنْيا، أقْوالٌ لِلْمُفَسِّرِينَ. وقِراءَةُ يَحْيى بْنِ وثّابٍ: ثُمَّ إضْطَرُّهُ بِكَسْرِ الهَمْزَةِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَلى لُغَةِ قُرَيْشٍ، في قَوْلِهِمْ: لا إخالُ، يَعْنِي بِكَسْرِ الهَمْزَةِ. وظاهِرُ هَذا النَّقْلِ في أنَّ ذَلِكَ، أعْنِي كَسْرَ الهَمْزَةِ الَّتِي لِلْمُتَكَلِّمِ في نَحْوِ إضْطَرُّ، وهو ما أوَّلَهُ هَمْزَةُ وصْلٍ. وفي نَحْوِ ”إخالُ“، وهو إفْعَلُ المَفْتُوحُ العَيْنِ مِن فِعَلَ المَكْسُورِ العَيْنِ، مُخالِفٌ لِما نَقَلَهُ النَّحْوِيُّونَ. فَإنَّهم نَقَلُوا عَنِ الحِجازِيِّينَ فَتْحَ حَرْفِ المُضارَعَةِ مِمّا أوَّلُهُ هَمْزَةُ وصْلٍ، ومِمّا كانَ عَلى وزْنِ ”فَعِلَ“ بِكَسْرِ العَيْنِ ”يَفْعَلُ“ بِفَتْحِها، أوْ ذا ياءٍ مَزِيدَةٍ في أوَّلِهِ، وذَلِكَ نَحْوُ ”عَلِمَ يَعْلَمُ“، وانْطَلَقَ يَنْطَلِقُ، وتَعَلَّمُ يَتَعَلَّمُ، إلّا إنْ كانَ حَرْفُ المُضارَعَةِ ياءً، فَجُمْهُورُ العَرَبِ مِن غَيْرِ الحِجازِيِّينَ لا يَكْسِرُ الياءَ بَلْ يَفْتَحُها. وفي مِثْلِ يَوْجِلُ بِالياءِ مُضارِعِ وجِلَ - مَذاهِبُ تُذْكَرُ في عِلْمِ النَّحْوِ، وإنَّما المَقْصُودُ هُنا: أنَّ كَلامَ ابْنِ عَطِيَّةِ مُخالِفٌ لِما حَكاهُ النُّحاةُ، إلّا إنْ كانَ نَقَلَ أنَّ ”إخالُ“ بِخُصُوصِيَّتِهِ في لُغَةِ قُرَيْشٍ مَكْسُورُ الهَمْزَةِ دُونَ نَظائِرِهِ، فَيَكُونُونَ قَدْ تَبِعُوا في ذَلِكَ لُغَةَ غَيْرِهِمْ مِنَ العَرَبِ، فَيُمْكِنُ أنْ يَكُونَ قَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ صَحِيحًا. وقَدْ تَقَدَّمَ لَنا في سُورَةِ الحَمْدِ في قَوْلِهِ: (نَسْتَعِينُ) أنَّ الكَسْرَةَ لُغَةُ قَيْسٍ وتَمِيمٍ وأسَدٍ ورَبِيعَةَ. وقَدْ أمْعَنّا الكَلامَ عَلى ذَلِكَ في (كِتابِ التَّكْمِيلِ لِشَرْحِ كِتابِ التَّسْهِيلِ) مِن تَأْلِيفِنا. وقِراءَةُ ابْنِ مُحَيْصِنٍ: ثُمَّ أطَّرُّهُ، بِإدْغامِ الضّادِ في الطّاءِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هي لُغَةٌ مَرْذُولَةٌ؛ لِأنَّ الضّادَ مِنَ الحُرُوفِ الخَمْسَةِ الَّتِي يُدْغَمُ فِيها ما يُجاوِرُها، ولا تُدْغَمُ هي فِيما يُجاوِرُها، وهي حُرُوفُ ”ضُمَّ شُفْرٌ“ . انْتَهى كَلامُهُ. إذا لَقِيَتِ الضّادُ الطّاءَ في كَلِمَةٍ نَحْوِ مُضْطَرِبٍ، فالأوْجَهُ البَيانُ، وإنْ أُدْغِمَ قُلِبَ الثّانِي لِلْأوَّلِ فَقِيلَ: مُضَّرِبٌ، كَما قِيلَ: مُصَّبِرٌ في مُصْطَبِرٍ. قالَ سِيبَوَيْهِ: وقَدْ قالَ بَعْضُهم: مُطَّجِعٌ، في مُضْطَجِعٍ، ومَضَّجِعٌ أكْثَرَ، وجازَ مُطَّجِعٌ، وإنْ لَمْ يَجُزْ في مُصْطَبِرٍ مُطَّبِرٍ؛ لِأنَّ الضّادَ لَيْسَتْ في السَّمْعِ كالصّادِّ، يَعْنِي أنَّ الصَّفِيرَ الَّذِي في الصّادِ أكْثَرُ في السَّمْعِ مِنَ اسْتِطالَةِ الضّادِ. فَظاهِرُ كَلامِ سِيبَوَيْهِ أنَّها لَيْسَتْ لُغَةً مَرْذُولَةً، ألا تَرى إلى نَقْلِهِ عَنْ بَعْضِ العَرَبِ مُطَّجِعٌ، وإلى قَوْلِهِ: ومَضَّجِعٌ أكْثَرُ، فَيَدُلُّ عَلى أنْ مُطَّجِعًا كَثِيرٌ ؟ وألا تَرى إلى تَعْلِيلِهِ، وكَوْنُ الضّادِ قُلِبَتْ إلى الطّاءِ وأُدْغِمَتْ ولَمْ يُفْعَلْ ذَلِكَ بِالصّادِ، وإبْداءِ الفِرَقِ بَيْنَهُما ؟ وهَذا كُلُّهُ مِن كَلامِ سِيبَوَيْهِ يَدُلُّ عَلى الجِوازِ. وقَدْ (p-٣٨٧)أُدْغِمَتِ الضّادُ في الذّالِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿الأرْضَ ذَلُولًا﴾ [الملك: ١٥]، رَواهُ اليَزِيدِيُّ، عَنْ أبِي عَمْرٍو، وهو ضَعِيفٌ. وفي الشِّينِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ﴾ [النور: ٦٢]، ﴿والأرْضِ شَيْئًا﴾ [النحل: ٧٣]، وهو ضَعِيفٌ أيْضًا. وأمّا الشِّينُ فَأُدْغِمَتْ في السِّينِ. رُوِيَ عَنْ أبِي عَمْرٍو ذَلِكَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إلى ذِي العَرْشِ سَبِيلًا﴾ [الإسراء: ٤٢]، والبَصْرِيُّونَ لا يُجِيزُونَ ذَلِكَ عَنْ أبِي عَمْرٍو، وهو رَأْسٌ مِن رُءُوسِ البَصْرِيِّينَ. وأمّا الفاءُ فَقَدْ أُدْغِمَتْ في الباءِ في قِراءَةِ الكِسائِيِّ: ﴿إنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ﴾ [سبإ: ٩]، وهو إمامُ الكُوفِيِّينَ. وأمّا الرّاءُ، فَذَهَبَ الخَلِيلُ وسِيبَوَيْهِ وأصْحابُهُ إلى أنَّهُ لا يَجُوزُ إدْغامُ الرّاءِ في اللّامِ مِن أجْلِ تَكْرِيرِها ولا في النُّونِ. وأجازَ ذَلِكَ في اللّامِ: يَعْقُوبُ، وأبُو عَمْرٍو، والكِسائِيُّ، والفَرّاءُ، وأبُو جَعْفَرٍ الرُّؤاسِيُّ، وهَؤُلاءِ الثَّلاثَةُ رُءُوسُ الكُوفِيِّينَ حَكَوْهُ سَماعًا عَنِ العَرَبِ. وإنَّما تَعَرَّضْتُ لِإدْغامِ هَذِهِ الحُرُوفِ فِيما يُجاوِرُها وذِكْرِ الخِلافِ فِيها، لِئَلّا يُتَوَهَّمَ مِن قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ: لا تُدْغَمُ فِيما يُجاوِرُها، أنَّهُ لا يَجُوزُ ذَلِكَ بِإجْماعٍ مِنَ النَّحْوِيِّينَ. فَأوْرَدْتُ هَذا الخِلافَ فِيها تَنْبِيهًا عَلى أنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِإجْماعٍ، إذْ إطْلاقُهُ يَدُلُّ عَلى المَنعِ ألْبَتَّةَ. وقِراءَةُ ابْنِ أبِي حَبِيبٍ: بِضَمِّ الطّاءِ، تَوْجِيهُها أنَّهُ أتْبَعَ حَرَكَةَ الطّاءِ لِحَرَكَةِ الرّاءِ، وهو شاذٌّ. وأمّا قِراءَةُ أُبَيٍّ بِالنُّونِ فِيهِما، فَهي مُخالِفَةٌ لِرَسْمِ المُصْحَفِ، فَهي شاذَّةٌ. وقِراءَةُ ابْنُ عَبّاسٍ بِصِيغَةِ الأمْرِ يَكُونُ تَكْرِيرُ ”قالَ“ عَلى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ أوْ لِيَكُونَ ذَلِكَ جُمْلَتَيْنِ، جُمْلَةٌ بِالدُّعاءِ لِمَن آمَنَ، وجُمْلَةٌ بِالدُّعاءِ عَلى مَن كَفَرَ، فَلا يَنْدَرِجانِ تَحْتَ مَعْمُولٍ واحِدٍ بَلْ أفْرَدَ كُلًّا بِقَوْلٍ. وأضْطَرُّهُ عَلى هَذِهِ القِراءَةِ هو بِفَتْحِ الرّاءِ المُشَدَّدَةِ، كَما تَقُولُ: عَضَّهُ بِالفَتْحِ، وهَذا الإدْغامُ هو عَلى لُغَةِ غَيْرِ الحِجازِيِّينَ؛ لِأنَّ لُغَةَ الحِجازِيِّينَ في مِثْلِ هَذا الفَكُّ. ولَوْ قَرَأ عَلى لُغَةِ قَوْمِهِ، لَكانَ ”أضْطَرُّهُ إلى عَذابٍ“ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ أضْطَرُّهُ. ومَعْنى الِاضْطِرارِ هُنا هو أنَّهُ يُلْجَأُ ويُلَزُّ إلى العَذابِ، بِحَيْثُ لا يَجِدُ مَحِيصًا عَنْهُ إذْ أحَدَ لا يُؤْثِرُ دُخُولَ النّارِ ولا يَخْتارُهُ. ومَفْهُومُ الشَّرْطِ هُنا مُلْغًى؛ إذْ قَدْ يَدْخُلُ النّارَ بَعْضُ العُصاةِ مِنَ المُؤْمِنِينَ. ﴿وبِئْسَ المَصِيرُ﴾ المَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ لِفَهْمِ المَعْنى، أيْ وبِئْسَ المَصِيرُ النّارُ، إنْ كانَ المَصِيرُ اسْمَ مَكانٍ، وإنْ كانَ مَصْدَرًا عَلى رَأْيِ مَن أجازَ ذَلِكَ فالتَّقْدِيرُ: وبِئْسَتِ الصَّيْرُورَةُ صَيْرُورَتُهُ إلى العَذابِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب