الباحث القرآني

(وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا) أي مكة وقيل الحرم (بلداً آمنا) والمراد الدعاء لأهله من ذريته وغيرهم كقوله عيشة راضية أي راض صاحبها أو الإسناد إلى المكان مجاز كما في ليل نائم أي نائم فيه، قاله السعد التفتازاني، وعلى هذا المراد أمن الملتجىء إليه فأسند إليه مبالغة، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إن إبراهيم حرم مكة وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها فلا يصاد صيدها ولا يقطع عضاهها [[مسلم 1362.]] " كما أخرجه أحمد ومسلم والنسائي وغيرهم من حديث جابر وقد روي هذا المعنى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من طريق جماعة من الصحابة، وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض وهي حرام إلى يوم القيامة [[صحيح الجامع الصغير 1747.]] " أخرجه البخاري وأهل السنن من حديث أبي هريرة تعليقاً، وابن ماجة من حديث صفية بنت شيبة، وفي الباب أحاديث غير ما ذكرنا. ولا تعارض بين هذه الأحاديث فإن إبراهيم عليه السلام لما بلغ الناس أن الله حرمها وأنها لم تزل حرماً آمناً نسب إليه أنه حرمها أي أظهر للناس حكم الله فيها، وإلى هذا الجمع ذهب ابن عطية وابن كثير، وقال ابن جرير: أنها كانت حراماً ولم يتعبد الله الخلق بذلك حتى سأله إبراهيم فحرمها وتعبدهم بذلك انتهى وكلا الجمعين حسن. (وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر) إنما سأل إبراهيم ذلك لأن مكة لم يكن بها زرع ولا ثمرة فاستجاب الله له وجعل مكة حرماً آمناً تجبى إليه ثمرات كل شيء، عن محمد بن مسلم الطائفي قال: بلغني أنه لما دعا إبراهيم للحرم نقل الله الطائف من فلسطين (ومن) للتبعيض أي بعض الثمرات، ولم يقل من الحبوب لما في تحصيله من الذل الحاصل بالحرث وغيره، فاقتصاره على الثمرات لتشريفهم، وقيل " من " للبيان وليس بشيء إذ لم يتقدم مبهم يبين بها، والمراد بالأمن المذكور في قوله (مثابة للناس وآمنا) هو الأمن من الأعداء والخسف والمسخ والمراد هنا من الأمن هو الأمن من القحط، ولهذا قال (وارزق أهله من الثمرات) ذكره الكرخي. والمعنى وارزق من آمن من أهله دون من كفر، وسبب هذا التخصيص أن إبراهيم لما سأل ربه أن يجعل النبوة والإمامة في ذريته: فأجابه الله بقوله: (لا ينال عهدي الظالمين) وصار ذلك تأديباً له في المسئلة فلا جرم خص هنا بدعائه المؤمنين دون الكافرين، ثم أعلمه أن الرزق في الدنيا يستوي فيه المؤمن والكافر بقوله: (قال ومن كفر فأمتعه) أي سأرزق الكافر أيضاً (قليلاً) أي في الدنيا مدة حياته، وعن محمد بن كعب القرظي قال: دعا إبراهيم للمؤمنين وترك الكفار، ولم يدع لهم بشيء فقال تعالى (ومن كفر فأمتعه) الآية. وعن ابن عباس قال: كان إبراهيم احتجزها على المؤمنين دون الناس، فأنزل الله ومن كفر فأنا أرزقهم أيضاً كما أرزق المؤمنين، أخلق خلقاً لا أرزقهم، ثم قرأ ابن عباس (كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء) الآية، فالظاهر أن هذا من كلام الله سبحانه رداً على إبراهيم حيث طلب الرزق للمؤمنين دون غيرهم، ويحتمل أن يكون كلاماً مستقلاً بياناً لحال من كفر ويكون في حكم الإخبار عن حال الكافرين بهذه الجملة الشرطية، أي من كفر فإني أمتعه في هذه الدنيا بما يحتاجه من الرزق إلى منتهى أجله وذلك قليل لأنه ينقطع. (ثم أضطره) أي ألزه لز المضطر لكفره بعد هذا التمتع (إلى عذاب النار)، أخبر سبحانه أنه لا ينال الكفرة من الخير إلا تمتعهم في هذه الدنيا، وليس لهم بعد ذلك إلا ما هو شر محض، وأما على قراءة من قرأ فأمتعه وأضطره بصيغة الأمر فهي مبنية على أن ذلك من جملة كلام إبراهيم، وأنه لما فرغ من الدعاء للمؤمنين دعا للكافرين بالإمتاع قليلاً، ثم دعا عليهم بأن يضطرهم الله إلى عذاب النار، وحاصل معنى أضطره ألزمه حتى أصيره مضطراً لذلك لا يجد عنه مخلصاً ولا منه متحولاً (وبئس المصير) أي المرجع هي، والواو فيه ليست للعطف والإلزم عطف الإنشاء على الإخبار بل للإستئناف كما قال في المغنى في قوله (واتقوا الله ويعلمكم الله).
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب