الباحث القرآني

القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [١٢٦ ] ﴿وإذْ قالَ إبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذا بَلَدًا آمِنًا وارْزُقْ أهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَن آمَنَ مِنهم بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ قالَ ومَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا ثُمَّ أضْطَرُّهُ إلى عَذابِ النّارِ وبِئْسَ المَصِيرُ﴾ "وإذْ قالَ إبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذا" أيِ المَوْضِعَ الَّذِي جَعَلْتَ فِيهِ بَيْتَكَ وأمَرْتَنِي (p-٢٥٣)بِأنْ أسْكَنْتُهُ مِن ذُرِّيَّتِي "بَلَدًا" أيْ يَأْنَسُ مَن يَحِلُّ بِهِ "آمِنًا" أيْ مِنَ الخَوْفِ. أيْ لا يُرْعَبُ أهْلُهُ. وقَدْ أجابَ اللَّهُ دُعاءَهُ. كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿ومَن دَخَلَهُ كانَ آمِنًا﴾ [آل عمران: ٩٧] وقَوْلُهُ: ﴿أوَلَمْ يَرَوْا أنّا جَعَلْنا حَرَمًا آمِنًا ويُتَخَطَّفُ النّاسُ مِن حَوْلِهِمْ أفَبِالباطِلِ يُؤْمِنُونَ وبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ﴾ [العنكبوت: ٦٧] إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ. وصَحَّتْ أحادِيثُ مُتَعَدِّدَةٌ بِتَحْرِيمِ القِتالِ فِيهِ، وفي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جابِرٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: ««لا يَحِلُّ لِأحَدٍ أنْ يَحْمِلَ بِمَكَّةَ السِّلاحَ»» فَهو آمِنٌ مِنَ الآفاتِ، لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ جَبّارٌ إلّا قَصَمَهُ اللَّهُ. كَما فَعَلَ بِأصْحابِ الفِيلِ. وقَوْلُهُ تَعالى في سُورَةِ إبْراهِيمَ: ﴿هَذا البَلَدَ آمِنًا﴾ [إبراهيم: ٣٥] بِتَعْرِيفِ البَلَدِ مَعَ جَعْلِهِ صِفَةً لِهَذا، خِلافَ ما هُنا، إمّا أنْ يُحْمَلَ عَلى تَعَدُّدِ السُّؤالِ بِأنْ تَكُونَ الدَّعْوَةُ الأُولى المَذْكُورَةُ هُنا، وقَعَتْ ولَمْ يَكُنِ المَكانُ قَدْ جُعِلَ بَلَدًا. كَأنَّهُ قالَ: اجْعَلْ هَذا الوادِيَ بَلَدًا آمِنًا. لِأنَّهُ تَعالى حَكى عَنْهُ أنَّهُ قالَ: ﴿رَبَّنا إنِّي أسْكَنْتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ﴾ [إبراهيم: ٣٧] فَقالَ، هَهُنا، اجْعَلْ هَذا الوادِيَ بَلَدًا آمِنًا. والدَّعْوَةُ الثّانِيَةُ وقَعَتْ وقَدْ جُعِلَ بَلَدًا. فَكَأنَّهُ قالَ: اجْعَلْ هَذا (p-٢٥٤)المَكانَ الَّذِي صَيَّرْتَهُ بَلَدًا ذا أمْنٍ وسَلامَةٍ. وإمّا أنْ يُحْمَلَ عَلى وحْدَةِ السُّؤالِ وتَكَرُّرِ الحِكايَةِ كَما هو المُتَبادِرُ. فالظّاهِرُ أنَّ المَسْؤُولَ كِلا الأمْرَيْنِ. وقَدْ حَكى ذَلِكَ هُنا. واقْتَصَرَ هُناكَ عَلى حِكايَةِ سُؤالِ الأمْنِ، اكْتِفاءً عَنْ حِكايَةِ سُؤالِ البَلَدِيَّةِ بِحِكايَةِ سُؤالِ اجْعَلْ أفْئِدَةَ النّاسِ تَهْوِي إلَيْهِ، هَذا خُلاصَةُ ما حَقَّقُوهُ. وعِنْدِي أنَّ السُّؤالَ والمَسْؤُولَ واحِدٌ. إلّا أنَّهُ تَفَنَّنَ في المَوْضِعَيْنِ. فَحَذَفَ مِن كُلٍّ ما أثْبَتَهُ في الآخَرِ احْتِباكًا. والأصْلُ: رَبِّ اجْعَلْ هَذا البَلَدَ بَلَدًا آمِنًا. وبِهِ تَتَطابَقُ الدَّعْوَتانِ عَلى أبْدَعِ وجْهٍ وأخْلَصِهِ مِنَ التَّكَلُّفِ. عَلى ما فِيهِ مِن إفادَةِ المُبالَغَةِ. أيْ بَلَدًا كامِلًا في الأمْنِ: كَأنَّهُ قِيلَ: اجْعَلْهُ بَلَدًا مَعْلُومَ الِاتِّصافِ بِالأمْنِ مَشْهُورًا بِهِ كَقَوْلِكَ: كانَ هَذا اليَوْمُ يَوْمًا حارًّا. وفي القامُوسِ وشَرَحَهُ التّاجُ: البَلَدُ والبَلْدَةُ عَلَمٌ عَلى مَكَّةَ، شَرَّفَها اللَّهُ تَعالى، تَفْخِيمًا لَها. كالنَّجْمِ لِلثُّرَيّا. وكُلُّ قِطْعَةٍ مِنَ الأرْضِ مُسْتَحِيزَةٌ عامِرَةٌ أوْ غامِرَةٌ خالِيَةٌ أوْ مَسْكُونَةٌ. وفي النِّهايَةِ: البَلَدُ مِنَ الأرْضِ ما كانَ مَأْوى الحَيَوانِ وإنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ بِناءٌ. ﴿وارْزُقْ أهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ﴾ إنَّما سَألَ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ذَلِكَ، لِأنَّ مَكَّةَ لَمْ يَكُنْ بِها زَرْعٌ ولا ثَمَرٌ، فاسْتَجابَ اللَّهُ تَعالى لَهُ، فَصارَتْ يُجْبى إلَيْها ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ "مَن آمَنَ مِنهم بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ" بَدَلٌ مِن "أهْلَهُ"، بَدَلُ البَعْضِ، يَعْنِي: ارْزُقِ المُؤْمِنِينَ مِن أهْلِهِ خاصَّةً. وإنَّما خَصَّهم بِالدُّعاءِ إظْهارًا لِشَرَفِ الإيمانِ، واهْتِمامًا بِشَأْنِ أهْلِهِ، ومُراعاةً لِحُسْنِ الأدَبِ في المَسْألَةِ. حَيْثُ مَيَّزَ اللَّهُ تَعالى المُؤْمِنِينَ عَنِ الكافِرِينَ، في بابِ الإمامَةِ، في قَوْلِهِ "لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ" بَعْدَ أنْ سَألَ، عَلَيْهِ السَّلامُ، جَعْلَها في ذُرِّيَّتِهِ، فَلا جَرَمَ خَصَّصَ المُؤْمِنِينَ بِهَذا الدُّعاءِ، وفِيهِ تَرْغِيبٌ لِقَوْمِهِ في الإيمانِ، وزَجْرٌ عَنِ الكُفْرِ "قالَ" اللَّهُ تَعالى مُعْلِمًا أنَّ شُمُولَ الرَّحْمانِيَّةِ بِأمْنِ الدُّنْيا ورِزْقِها لِجَمِيعِ عَمَرَةِ الأرْضِ "ومَن كَفَرَ" أيْ أُنِيلُهُ أيْضًا ما ألْهَمْتُكَ مِنَ الدُّعاءِ بِالأمْنِ والرِّزْقِ، فَهو عَطْفٌ عَلى مَفْعُولِ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ، دَلَّ الكَلامُ عَلَيْهِ. ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ "مَن" مُبْتَدَأً مَوْصُولَةً أوْ شَرْطِيَّةً. وقَوْلُهُ "فَأُمَتِّعُهُ" خَبَرُهُ أوْ جَوابُهُ. وعَبَّرَ عَنْ رِزْقِهِ (p-٢٥٥)بِالمُتْعَةِ الَّتِي هي الزّادُ القَلِيلُ والبُلْغَةُ، تَخْسِيسًا لَهُ، وأكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ "قَلِيلًا" تَمْتِيعًا قَلِيلًا، أوْ زَمانًا قَلِيلًا "ثُمَّ أضْطَرُّهُ إلى عَذابِ النّارِ" أيْ أُلْجِئُهُ إلَيْهِ كَما قالَ تَعالى: ﴿يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا﴾ [الطور: ١٣] و: ﴿يَوْمَ يُسْحَبُونَ في النّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ﴾ [القمر: ٤٨] وقُرِئَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أضْطَرُّهُ، بِلَفْظِ الأمْرِ فِيهِما عَلى أنَّهُما مِن دُعاءِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وفي "قالَ" ضَمِيرُهُ "وبِئْسَ المَصِيرُ" النّارُ أوْ عَذابُها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب