﴿۞ وَلَقَدۡ ءَاتَیۡنَا دَاوُۥدَ مِنَّا فَضۡلࣰاۖ یَـٰجِبَالُ أَوِّبِی مَعَهُۥ وَٱلطَّیۡرَۖ وَأَلَنَّا لَهُ ٱلۡحَدِیدَ ١٠ أَنِ ٱعۡمَلۡ سَـٰبِغَـٰتࣲ وَقَدِّرۡ فِی ٱلسَّرۡدِۖ وَٱعۡمَلُوا۟ صَـٰلِحًاۖ إِنِّی بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِیرࣱ ١١ وَلِسُلَیۡمَـٰنَ ٱلرِّیحَ غُدُوُّهَا شَهۡرࣱ وَرَوَاحُهَا شَهۡرࣱۖ وَأَسَلۡنَا لَهُۥ عَیۡنَ ٱلۡقِطۡرِۖ وَمِنَ ٱلۡجِنِّ مَن یَعۡمَلُ بَیۡنَ یَدَیۡهِ بِإِذۡنِ رَبِّهِۦۖ وَمَن یَزِغۡ مِنۡهُمۡ عَنۡ أَمۡرِنَا نُذِقۡهُ مِنۡ عَذَابِ ٱلسَّعِیرِ ١٢ یَعۡمَلُونَ لَهُۥ مَا یَشَاۤءُ مِن مَّحَـٰرِیبَ وَتَمَـٰثِیلَ وَجِفَانࣲ كَٱلۡجَوَابِ وَقُدُورࣲ رَّاسِیَـٰتٍۚ ٱعۡمَلُوۤا۟ ءَالَ دَاوُۥدَ شُكۡرࣰاۚ وَقَلِیلࣱ مِّنۡ عِبَادِیَ ٱلشَّكُورُ ١٣﴾ [سبأ ١٠-١٣]
﴿ولَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنّا فَضْلًا يا جِبالُ أوِّبِي مَعَهُ والطَّيْرَ وألَنّا لَهُ الحَدِيدَ﴾ ﴿أنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وقَدِّرْ في السَّرْدِ واعْمَلُوا صالِحًا إنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ ﴿ولِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ ورَواحُها شَهْرٌ وأسَلْنا لَهُ عَيْنَ القِطْرِ ومِنَ الجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإذْنِ رَبِّهِ ومَن يَزِغْ مِنهم عَنْ أمْرِنا نُذِقْهُ مِن عَذابِ السَّعِيرِ﴾ ﴿يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِن مَحارِيبَ وتَماثِيلَ وجِفانٍ كالجَوابِ وقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْرًا وقَلِيلٌ مِن عِبادِيَ الشَّكُورُ﴾ ﴿فَلَمّا قَضَيْنا عَلَيْهِ المَوْتَ ما دَلَّهم عَلى مَوْتِهِ إلّا دابَّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأتَهُ فَلَمّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجِنُّ أنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ ما لَبِثُوا في العَذابِ المُهِينِ﴾ [سبإ: ١٤] .
مُناسَبَةُ قِصَّةِ داوُدَ وسُلَيْمانَ - عَلَيْهِما السَّلامُ - لِما قَبْلَها، هي أنَّ أُولَئِكَ الكُفّارَ أنْكَرُوا البَعْثَ لِاسْتِحالَتِهِ عِنْدَهم، فَأُخْبِرُوا بِوُقُوعِ ما هو مُسْتَحِيلٌ في العادَةِ مِمّا لا يُمْكِنُهم إنْكارُهُ، إذْ طَفَحَتْ بِبَعْضِهِ أخْبارُهم وشُعَراؤُهم عَلى ما يَأْتِي ذِكْرُهُ، إنْ شاءَ اللَّهُ، مِن تَأْوِيبِ الجِبالِ والطَّيْرِ مَعَ داوُدَ، وإلانَةِ الحَدِيدِ، وهو الجُرْمُ المُسْتَعْصِي، وتَسْخِيرِ الرِّيحِ لِسُلَيْمانَ، وإسالَةِ النُّحاسِ لَهُ، كَما ألانَ الحَدِيدَ لِأبِيهِ، وتَسْخِيرِ الجِنِّ فِيما شاءَ مِنَ الأعْمالِ الشّاقَّةِ. وقِيلَ: لَمّا ذَكَرَ مَن يُنِيبُ مِن عِبادِهِ، ذَكَرَ مِن جُمْلَتِهِمْ داوُدَ، كَما قالَ
﴿فاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وخَرَّ راكِعًا وأنابَ﴾ [ص: ٢٤] وبَيَّنَ ما آتاهُ اللَّهُ عَلى إنابَتِهِ فَقالَ
﴿ولَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنّا فَضْلًا﴾ وقِيلَ: ذَكَرَ نِعْمَتَهُ عَلى داوُدَ وسُلَيْمانَ، عَلَيْهِما السَّلامُ، احْتِجاجًا عَلى ما مَنَحَ مُحَمَّدًا ﷺ: أيْ لا تَسْتَبْعِدُوا هَذا، فَقَدْ تَفَضَّلْنا عَلى عَبِيدِنا قَدِيمًا بِكَذا وكَذا. فَلَمّا فَرَغَ التَّمْثِيلُ لِمُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - رَجَعَ التَّمْثِيلُ لَهم بِسَبَأٍ، وما كانَ مِن هَلاكِهِمْ بِالكُفْرِ والعُتُوِّ. انْتَهى. والفَضْلُ الَّذِي أُوتِيَ داوُدُ: الزَّبُورُ، والعَدْلُ في القَضاءِ، والثِّقَةُ بِاللَّهِ، وتَسْخِيرُ الجِبالِ، والطَّيْرِ، وتَلْيِينُ الحَدِيدِ، أقْوالٌ.
﴿ياجِبالُ﴾ هو إضْمارٌ لِلْقَوْلِ، إمّا مَصْدَرٌ، أيْ قُلْنا
﴿ياجِبالُ﴾، فَيَكُونُ بَدَلًا مِن (فَضْلًا)، وإمّا فِعْلًا، أيْ قُلْنا، فَيَكُونُ بَدَلًا مِن (آتَيْنا)، وإمّا عَلى الِاسْتِئْنافِ، أيْ قُلْنا
﴿ياجِبالُ﴾، وجَعَلَ الجِبالَ بِمَنزِلَةِ العُقَلاءِ الَّذِينَ إذا أمَرَهم أطاعُوا وأذْعَنُوا، وإذا دَعاهم سَمِعُوا وأجابُوا، إشْعارًا بِأنَّهُ ما مِن حَيَوانٍ وجَمادٍ وناطِقٍ وصامِتٍ إلّا وهو مُنْقادٌ لِمَشِيئَتِهِ، غَيْرُ مُمْتَنِعٍ عَلى إرادَتِهِ، ودَلالَةً عَلى عِزَّةِ الرُّبُوبِيَّةِ وكِبْرِياءِ الأُلُوهِيَّةِ، حَيْثُ نادى الجِبالَ وأمَرَها. وقَرَأ الجُمْهُورُ
﴿أوِّبِي﴾ مُضاعَفُ آبَ يَؤُوبُ، ومَعْناهُ: سَبِّحِي مَعَهُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ وقَتادَةُ وابْنُ زَيْدٍ. وقالَ مُؤَرِّجٌ، وأبُو مَيْسَرَةَ: أوِّبِي: سَبِّحِي، بِلُغَةِ الحَبَشَةِ، أيْ يُسَبِّحُ هو وتُرَجِّعُ هي مَعَهُ التَّسْبِيحَ، أيْ تُرَدِّدُ بِالذِّكْرِ، وضُعِّفَ الفِعْلُ لِلْمُبالَغَةِ، قالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. ويَظْهَرُ أنَّ التَّضْعِيفَ لِلتَّعْدِيَةِ، فَلَيْسَ لِلْمُبالَغَةِ، إذْ أصْلُهُ آبَ، وهو لازِمٌ بِمَعْنى: رَجَعَ اللّازِمِ فَعُدِّيَ بِالتَّضْعِيفِ، إذْ شَرَحُوهُ بِقَوْلِهِمْ: رَجِّعِي مَعَهُ التَّسْبِيحَ.
قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ومَعْنى تَسْبِيحِ الجِبالِ: أنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ فِيها تَسْبِيحًا، كَما خَلَقَ الكَلامَ في الشَّجَرَةِ، فَيُسْمَعُ مِنها ما يُسْمَعُ مِنَ المُسَبِّحِ، مُعْجِزَةً لِداوُدَ. قِيلَ: كانَ يَنُوحُ عَلى ذَنْبِهِ بِتَرْجِيعٍ وتَحْزِينٍ، وكانَتِ الجِبالُ تُساعِدُهُ عَلى نَوْحِهِ بِأصْدائِها والطَّيْرُ بِأصْواتِها. انْتَهى. وقَوْلُهُ: كَما خَلَقَ الكَلامَ في الشَّجَرَةِ، يَعْنِي أنَّ الَّذِي يَسْمَعُ مُوسى هو مِمّا خَلَقَهُ اللَّهُ في الشَّجَرَةِ مِنَ الكَلامِ، لا أنَّهُ كَلامُ اللَّهِ حَقِيقَةً، وهو مَذْهَبُ المُعْتَزِلَةِ. وأمّا قَوْلُهُ: تُساعِدُهُ الجِبالُ عَلى نَوْحِهِ بِأصْدائِها فَلَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأنَّ الصَّدى لَيْسَ بِصَوْتِ الجِبالِ حَقِيقَةً، واللَّهُ تَعالى نادى الجِبالَ وأمَرَها بِأنْ تُؤَوِّبَ مَعَهُ، والصَّدى لا تُؤْمَرُ الجِبالُ بِأنْ تَفْعَلَهُ، إذْ لَيْسَ فِعْلًا لَها، وإنَّما هو مِن آثارِ صَوْتِ المُتَكَلِّمِ عَلى ما يَقُومُ عَلَيْهِ البُرْهانُ. وقالَ الحَسَنُ: مَعْنى
﴿أوِّبِي مَعَهُ﴾ سِيرِي مَعَهُ أيْنَ سارَ، والتَّأْوِيبُ: سَيْرُ النَّهارِ. كانَ الإنْسانُ يَسِيرُ اللَّيْلَ ثُمَّ يَرْجِعُ لِلسَّيْرِ بِالنَّهارِ، أيْ يُرَدِّدُهُ، وقالَ تَمِيمُ بْنُ مُقْبِلٍ:
لَحِقْنا بِحَيٍّ أوَّبُوا السَّيْرَ بَعْدَما رَفَعْنا شُعاعَ الشَّمْسِ والطَّرْفُ تَجْنَحُ
وقالَ آخَرُ:
يَوْمانِ يَوْمُ مَقاماتٍ وأنْدِيَةٍ ∗∗∗ ويَوْمُ سَيْرٍ إلى الأعْداءِ تَأْوِيبِ
وقِيلَ: أوِّبِي: تَصَرَّفِي مَعَهُ عَلى ما يَتَصَرَّفُ فِيهِ. فَكانَ إذا قَرَأ الزَّبُورَ، صَوَّتَتِ الجِبالُ مَعَهُ وأصْغَتْ إلَيْهِ الطَّيْرُ، فَكَأنَّها فَعَلَتْ ما فَعَلَ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ، والحَسَنُ، وقَتادَةُ، وابْنُ أبِي إسْحاقَ: أُوبِي أمْرٌ مِن أوَبَ: أيْ رَجِّعِي مَعَهُ في التَّسْبِيحِ، أوْ في السَّيْرِ عَلى القَوْلَيْنِ. فَأمْرُ الجِبالِ كَأمْرِ الواحِدَةِ المُؤَنَّثَةِ؛ لِأنَّ جَمْعَ ما لا يَعْقِلُ يَجُوزُ فِيهِ ذَلِكَ، ومِنهُ: يا خَيْلَ اللَّهِ ارْكَبِي، ومِنهُ: يا رَبِّ أُخْرى، وقَدْ جاءَ ذَلِكَ في جَمِيعِ ما يَعْقِلُ مِنَ المُؤَنَّثِ قالَ الشّاعِرُ:
تَرَكْنا الخَيْلَ والنَّعْمَ المُفَدّى ∗∗∗ وقُلْنا لِلنِّساءِ بِها أقِيمِي
لَكِنْ هَذا قَلِيلٌ. وقَرَأ الجُمْهُورُ
﴿والطَّيْرَ﴾ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلى مَوْضِعِ
﴿ياجِبالُ﴾ قالَ سِيبَوَيْهِ: وقالَ أبُو عَمْرٍو: بِإضْمارِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ: وسَخَّرْنا لَهُ الطَّيْرَ. وقالَ الكِسائِيُّ: عَطْفًا عَلى (فَضْلًا) أيْ وتَسْبِيحَ الطَّيْرِ. وقالَ الزَّجّاجُ: نَصْبُهُ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ مَعَهُ. انْتَهى، وهَذا لا يَجُوزُ؛ لِأنَّ قَبْلَهُ مَعَهُ، ولا يَقْتَضِي الفِعْلُ اثْنَيْنِ مِنَ المَفْعُولِ مَعَهُ إلّا عَلى البَدَلِ أوِ العَطْفِ، فَكَما لا يَجُوزُ: جاءَ زَيْدٌ مَعَ عَمْرٍو مَعَ زَيْنَبَ إلّا بِالعَطْفِ كَذَلِكَ هَذا. وقَرَأ السُّلَمِيُّ، وابْنُ هُرْمُزَ، وأبُو يَحْيى، وأبُو نَوْفَلٍ، ويَعْقُوبُ، وابْنُ أبِي عَبْلَةَ، وجَماعَةٌ مِن أهْلِ المَدِينَةِ، وعاصِمٌ في رِوايَةٍ: والطَّيْرُ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلى لَفْظِ
﴿ياجِبالُ﴾ وقِيلَ: عَطْفًا عَلى الضَّمِيرِ في
﴿أوِّبِي﴾ وسَوَّغَ ذَلِكَ الفَصْلُ بِالظَّرْفِ؛ وقِيلَ: رَفْعًا بِالِابْتِداءِ، والخَبَرُ مَحْذُوفٌ، أيْ والطَّيْرُ تُؤَوِّبُ. وإلانَةُ الحَدِيدِ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ وقَتادَةُ: صارَ كالشَّمْعِ. وقالَ الحَسَنُ: كالعَجِينِ، وكانَ يَعْمَلُهُ مِن غَيْرِ نارٍ. وقالَ السُّدِّيُّ: كالطِّينِ المَبْلُولِ والعَجِينِ والشَّمْعِ، يُصَرِّفُهُ كَيْفَ شاءَ مِن غَيْرِ نارٍ ولا ضَرْبِ مِطْرَقَةٍ. وقِيلَ: أُعْطِيَ قُوَّةً يَلِينُ بِها الحَدِيدُ. وقالَ مُقاتِلٌ: وكانَ يَفْرَغُ مِنَ الدِّرْعِ في بَعْضِ يَوْمٍ أوْ في بَعْضِ لَيْلَةٍ ثَمَنُها ألْفُ دِرْهَمٍ، وكانَ داوُدُ يَتَنَكَّرُ فَيَسْألُ النّاسَ عَنْ حالِهِ، فَعَرَضَ لَهُ مَلَكٌ في صُورَةِ إنْسانٍ فَسَألَهُ، فَقالَ: نِعْمَ العَبْدُ لَوْلا خَلَّةٌ فِيهِ، فَقالَ: وما هي ؟ فَقالَ: يَرْتَزِقُ مِن بَيْتِ المالِ، ولَوْ أكَلَ مِن عَمَلِ يَدِهِ تَمَّتْ فَضائِلُهُ، فَدَعا اللَّهَ أنْ يُعَلِّمَهُ صَنْعَةً ويُسَهِّلَها عَلَيْهِ، فَعَلَّمَهُ صَنْعَةَ الدُّرُوعِ وألانَ لَهُ الحَدِيدَ فَأثْرى، وكانَ يُنْفِقُ ثُلُثَ المالِ في مَصالِحِ المُسْلِمِينَ. وأنْ في
﴿أنِ اعْمَلْ﴾ مَصْدَرِيَّةٌ، وهي عَلى إسْقاطِ حَرْفِ الجَرِّ، أيْ ألَنّاهُ لِعَمَلِ
﴿سابِغاتٍ﴾ . وأجازَ الحَوْفِيُّ وغَيْرُهُ أنْ تَكُونَ مُفَسِّرَةً، ولا يَصِحُّ؛ لِأنَّ مِن شَرْطِها أنْ يَتَقَدَّمَها مَعْنى القَوْلِ، وأنْ لَيْسَ فِيهِ مَعْنى القَوْلِ. وقَدَّرَ بَعْضُهم قَبْلَها فِعْلًا مَحْذُوفًا حَتّى يَصِحَّ أنْ تَكُونَ مُفَسِّرَةً، وتَقْدِيرُهُ: وأمَرْناهُ أنِ اعْمَلْ، أيِ اعْمَلْ، ولا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلى هَذا المَحْذُوفِ. وقُرِئَ: صابِغاتٍ، بِالصّادِّ بَدَلًا مِنَ السِّينِ، وتَقَدَّمَ أنَّها لُغَةٌ في قَوْلِهِ (وأسْبَغَ عَلَيْكم نِعَمَهُ) .
﴿وقَدِّرْ في السَّرْدِ﴾ قالَ ابْنُ زَيْدٍ: هو في قَدْرِ الحَلْقَةِ، أيْ لا تَعْمَلْها صَغِيرَةً فَتَضْعُفَ، فَلا يَقْوى الدِّرْعُ عَلى الدِّفاعِ، ولا كَبِيرَةً فَيُنالَ لابِسُها مِن خِلالِها. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هو في المِسْمارِ، لا يَرِقُّ فَيَنْكَسِرُ، ولا يَغْلُظُ فَيَفْصِمُ، بِالفاءِ وبِالقافِ. وقالَ قَتادَةُ: إنَّ الدُّرُوعَ كانَتْ قَبْلُ صَفائِحَ كانَتْ ثِقالًا، وهو أوَّلُ مَن صَنَعَ الدِّرْعَ حِلَقًا. والظّاهِرُ أنَّ الأمْرَ في قَوْلِهِ
﴿اعْمَلُوا آلَ داوُدَ﴾ لِآلِ داوُدَ، وإنْ لَمْ يَجْرِ لَهم ذِكْرٌ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ أمْرًا لِداوُدَ شَرَّفَهُ اللَّهُ بِأنْ خاطَبَهُ خِطابَ الجَمْعِ.
﴿ولِسُلَيْمانَ الرِّيحَ﴾ قالَ الحَسَنُ: عَقَرَ سُلَيْمانُ الخَيْلَ عَلى ما فَوَّتَتْهُ مِن صَلاةِ العَصْرِ، فَأبْدَلَهُ اللَّهُ خَيْرًا مِنها، وأسْرَعَ الرِّيحَ تَجْرِي بِأمْرِهِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: الرِّيحَ بِالنَّصْبِ، أيْ ولِسُلَيْمانَ سَخَّرْنا الرِّيحَ؛ وأبُو بَكْرٍ: بِالرَّفْعِ عَلى الِابْتِداءِ، والخَبَرُ في المَجْرُورِ، ويَكُونُ الرِّيحُ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ تَسْخِيرُ الرِّيحِ، أوْ عَلى إضْمارِ الخَبَرِ، أيِ الرِّيحُ مُسَخَّرَةٌ. وقَرَأ الحَسَنُ، وأبُو حَيْوَةَ، وخالِدُ بْنُ إلْياسَ: الرِّياحُ بِالرَّفْعِ جَمْعًا. وقالَ قَتادَةُ: كانَتْ تَقْطَعُ في الغُدُوِّ إلى قُرْبِ الزَّوالِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وفي الرَّواحِ مِن بَعْدِ الزَّوالِ إلى الغُرُوبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ. وقالَ الحَسَنُ: فَخَرَجَ مِن مُسْتَقَرِّهِ بِالشّامِ يُرِيدُ تَدْمُرَ الَّتِي بَنَتْها الجِنُّ بِالصِّفاحِ والعُمُدِ، فَيُقِيلُ في إصْطَخْرَ ويَرُوحُ مِنها فَيَبِيتُ في كابِلَ مِن أرْضِ خُراسانَ. والغُدُوُّ لَيْسَ الشَّهْرُ هو عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ جَرى غُدُوُّها، أيْ جَرْيُها في الغُدُوِّ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وجَرى رَواحُها، أيْ جَرْيُها في الرَّواحِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ. وأخْبَرَ هُنا في الغُدُوِّ عَنِ الرَّواحِ بِالزَّمانِ وهو شَهْرٌ، ويَعْنِي شَهْرًا واحِدًا كامِلًا، ونَصْبُ شَهْرٍ جائِزٌ، ولَكِنَّهُ لَمْ يُقْرَأْ بِهِ فِيما أعْلَمُ. وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ: غَدْوَتُها ورَوْحَتُها عَلى وزْنِ فَعْلَةٍ، وهي المَرَّةُ الواحِدَةُ مِن غَدا وراحَ. وقالَ وهْبٌ: كانَ مُسْتَقَرُّ سُلَيْمانَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - بِتَدْمُرَ وكانَتِ الجِنُّ قَدْ بَنَتْها لَهُ بِالصِّفاحِ والعُمُدِ والرُّخامِ الأبْيَضِ والأشْقَرِ، وفِيهِ يَقُولُ النّابِغَةُ:
إلا سُلَيْمانَ قَدْ قالَ الإلَهُ لَهُ قُمْ في البَرِّيَّةِ فاحْدُدْها عَنِ الفَنَدِ وجَيْشُ الجِنِّ أنِّي قَدْ أذِنْتُ لَهم يَبْنُونَ تَدْمُرَ بِالصِّفاحِ والعُمُدِ
ووَجَدْتُ أبْياتًا مَنقُورَةً في صَخْرَةٍ بِأرْضِ يَشْكُرَ شاهِدَةً لِبَعْضِ أصْحابِ سُلَيْمانَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - وهي:
ونَحْنُ ولا حَوْلَ سِوى حَوْلِ رَبِّنا ∗∗∗ نَرُوحُ مِنَ الأوْطانِ مِن أرْضِ تَدْمُرِ
إذا نَحْنُ رُحْنا كانَ رَيْثُ رَواحِنا ∗∗∗ مَسِيرَةَ شَهْرٍ والغَدِ ولِآخَرِ
أُناسٌ أعَزَّ اللَّهُ طَوْعًا نُفُوسَهم ∗∗∗ بِنَصْرِ ابْنِ داوُدَ النَّبِيِّ المُطَهَّرِ
لَهم في مَعانِي الدِّينِ فَضْلٌ ورِفْعَةٌ ∗∗∗ وإنْ نُسِبُوا يَوْمًا فَمِن خَيْرِ مَعْشَرِ
وإنْ رَكِبُوا الرِّيحَ المُطِيعَةَ أسْرَعَتْ ∗∗∗ مُبادِرَةً عَنْ يُسْرِها لَمْ تُقَصِّرِ
تُظِلُّهم طَيْرٌ صُفُوفٌ عَلَيْهِمْ مَتّى ∗∗∗ رَفْرَفَتْ مِن فَوْقِهِمْ لَمْ تُنْشَرِ
انْتَهى ما حَكى وهْبٌ.
﴿وأسَلْنا لَهُ عَيْنَ القِطْرِ﴾ الظّاهِرُ أنَّهُ جَعَلَهُ لَهُ في مَعْدِنِهِ عَيْنًا تَسِيلُ كَعُيُونِ الماءِ، دَلالَةً عَلى نُبُوَّتِهِ. قالَ قَتادَةُ: يَسْتَعْمِلُها فِيما يُرِيدُ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ومُجاهِدٍ والسُّدِّيِّ: أُجْرِيَتْ لَهُ ثَلاثَةَ أيّامٍ بِلَيالِيهِنَّ، وكانَتْ بِأرْضِ اليَمَنِ. قالَ مُجاهِدٌ: سالَتْ مِن صَنْعاءَ، ولَمْ يَذُبِ النُّحاسُ فِيما رُوِيَ لِأحَدٍ قَبْلَهُ، وكانَ لا يَذُوبُ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: المَعْنى أذَبْنا لَهُ النُّحاسَ عَلى نَحْوِ ما كانَ الحَدِيدُ يَلِينُ لِداوُدَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - .
قالُوا: وكانَتِ الأعْمالُ تَتَأتّى مِنهُ، وهو بارِدٌ دُونَ نارٍ، و(عَيْنَ) بِمَعْنى الذّاتِ. وقالُوا: لَمْ يَكُنْ أوَّلًا ذابَ لِأحَدٍ قَبْلَهُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أرادَ بِها مَعْدِنَ النُّحاسِ نَبْعًا لَهُ، كَما ألانَ الحَدِيدَ لِداوُدَ، فَنَبَعَ كَما يَنْبُعُ الماءُ مِنَ العَيْنِ، فَلِذَلِكَ سَمّاهُ عَيْنَ القِطْرِ بِاسْمِ ما آلَ إلَيْهِ، كَما قالَ
﴿إنِّي أرانِي أعْصِرُ خَمْرًا﴾ [يوسف: ٣٦] . انْتَهى. ويَحْتَمِلُ
﴿مَن يَعْمَلُ﴾ أنْ يَكُونَ في مَوْضِعِ نَصْبٍ، أيْ وسَخَّرْنا مِنَ الجِنِّ مَن يَعْمَلُ، وأنْ يَكُونَ في مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلى الِابْتِداءِ، وخَبَرُهُ في الجارِّ والمَجْرُورِ قَبْلَهُ
﴿بِإذْنِ رَبِّهِ﴾ لِقَوْلِهِ
﴿ومَن يَزِغْ مِنهم عَنْ أمْرِنا﴾ . وقَرَأ الجُمْهُورُ: يَزِغْ مُضارِعُ زاغَ، أيْ ومَن يَعْدِلْ عَنْ أمْرِنا الَّذِي أمَرْناهُ بِهِ مِن طاعَةِ سُلَيْمانَ. وقُرِئَ: يُزِغْ بِضَمِّ الياءِ مِن أزاغَ: أيْ ومَن يَمِلْ ويَصْرِفْ نَفْسَهُ عَنْ أمْرِنا. (وعَذابُ السَّعِيرِ) عَذابُ الآخِرَةِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. وقالَ السُّدِّيُّ: كانَ مَعَهُ مَلَكٌ بِيَدِهِ سَوْطٌ مِن نارٍ، كُلَّما اسْتَعْصى عَلَيْهِ ضَرَبَهُ مِن حَيْثُ لا يَراهُ الجِنِّيُّ. ولِبَعْضِ الباطِنِيَّةِ، أوْ مَن يُشْبِهُهم، تَحْرِيفٌ في هَذِهِ الجُمَلِ. إنَّ تَسْبِيحَ الجِبالِ هو مِن نَوْعِ قَوْلِهِ
﴿وإنْ مِن شَيْءٍ إلّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ [الإسراء: ٤٤]، وإنَّ تَسْخِيرَ الرِّيحِ هو أنَّهُ راضَ الخَيْلَ وهي كالرِّيحِ، وإنَّ
﴿غُدُوُّها شَهْرٌ﴾ يَكُونُ فَرْسَخًا؛ لِأنَّ مَن يَخْرُجُ لِلتَّفَرُّجِ لا يَسِيرُ في غالِبِ الأمْرِ أشَدَّ مِن فَرْسَخٍ. وإلانَةُ الحَدِيدِ وإسالَةُ القِطْرِ هو اسْتِخْراجُ ذَوْبِهِما بِالنّارِ واسْتِعْمالُ الآلاتِ مِنهُما.
﴿ومِنَ الجِنِّ﴾ هم ناسٌ مِن بَنِي آدَمَ أقْوِياءُ شُبِّهُوا بِهِمْ في قُواهم، وهَذا تَأْوِيلٌ فاسِدٌ وخُرُوجٌ بِالجُمْلَةِ عَمّا يَقُولُهُ أهْلُ التَّفْسِيرِ في الآيَةِ، وتَعْجِيزٌ لِلْقُدْرَةِ الإلَهِيَّةِ، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِن ذَلِكَ. والمَحارِيبُ، قالَ مُجاهِدٌ: المَشاهِدُ، سُمِّيَتْ بِاسْمِ بَعْضِها تَجَوُّزًا. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: القُصُورُ. وقالَ قَتادَةُ: كِلَيْهِما. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَساكِنُ. وقِيلَ: ما يُصْعَدُ إلَيْهِ بِالدَّرَجِ، كالغُرَفِ. والتَّماثِيلُ: الصُّوَرُ، وكانَتْ لِغَيْرِ الحَيَوانِ. وقالَ الضَّحّاكُ: كانَتْ تَماثِيلُ حَيَوانٍ، وكانَ عَمَلُها جائِزًا في ذَلِكَ الشَّرْعِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هي صُوَرُ المَلائِكَةِ والنَّبِيِّينَ والصّالِحِينَ، كانَتْ تُعْمَلُ في المَساجِدِ مِن نُحاسٍ وصُفْرٍ وزُجاجٍ ورُخامٍ، لِيَراها النّاسُ، فَيَعْبُدُوا نَحْوَ عِبادَتِهِمْ، وهَذا مِمّا يَجُوزُ أنْ يَخْتَلِفَ فِيهِ الشَّرائِعُ؛ لِأنَّهُ لَيْسَ مِن مُقَبَّحاتِ الفِعْلِ، كالظُّلْمِ والكَذِبِ. وعَنْ أبِي العالِيَةِ: لَمْ يَكُنِ اتِّخاذُ الصُّوَرِ إذْ ذاكَ مُحَرَّمًا، أوْ صُوَرًا مَحْذُوفَةَ الرُّءُوسِ، انْتَهى. وفِيهِ بَعْضُ حَذْفٍ. وقِيلَ: التَّماثِيلُ طَلْسَماتٌ، فَيَعْمَلُ تِمْثالًا لِلتِّمْساحِ، أوْ لِلذُّبابِ، أوْ لِلْبَعُوضِ، ويَأْمُرُ أنْ لا يَتَجاوَزَ ذَلِكَ المُمَثَّلَ بِهِ ما دامَ ذَلِكَ التِّمْثالُ والتَّصْوِيرُ حَرامًا في شَرِيعَتِنا. وقَدْ ورَدَ تَشْدِيدُ الوَعِيدِ عَلى المُصَوِّرِينَ، ولِبَعْضِ العُلَماءِ اسْتِثْناءٌ في شَيْءٍ مِنها. وفي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ:
«لَعَنَ اللَّهُ المُصَوِّرِينَ» ولَمْ يَسْتَثْنِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ.
وحَكى مَكِّيٌّ في الهِدايَةِ أنَّ قَوْمًا أجازُوا التَّصْوِيرَ، وحَكاهُ النَّحّاسُ عَنْ قَوْمٍ واحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ
﴿وتَماثِيلَ﴾ قالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وما أحْفَظُ مِن أئِمَّةِ العِلْمِ مَن يُجَوِّزُهُ. وقُرِئَ
﴿كالجَوابِ﴾ بِلا ياءٍ، وهو الأصْلُ اجْتِزاءٌ بِالكَسْرَةِ وإجْراءٌ لِلْألِفِ واللّامِ مُجْرى ما عاقَبَها، وهو التَّنْوِينُ، وكَما يُحْذَفُ مَعَ التَّنْوِينِ يُحْذَفُ مَعَ ما عاقَبَهُ، وهو ألْ. و(الرّاسِياتُ) الثّابِتاتُ عَلى الأثافِيِّ، فَلا تُنْقَلُ ولا تُحْمَلُ لِعِظَمِها. وقُدِّمَتِ المَحارِيبُ عَلى التَّماثِيلِ؛ لِأنَّ النُّقُوشَ تَكُونُ في الأبْنِيَةِ. وقُدِّمَ الجِفانُ عَلى القُدُورِ؛ لِأنَّ القُدُورَ آلَةُ الطَّبْخِ، والجِفانُ آلَةُ الأكْلِ، والطَّبْخُ قَبْلَ الأكْلِ لِما بَيْنَ الأبْنِيَةِ المَلَكِيَّةِ. وأرادَ بَيانَ عَظَمَةِ السِّماطِ الَّذِي يُمَدُّ في تِلْكَ الدُّورِ، وأشارَ إلى الجِفانِ لِأنَّها تَكُونُ فِيها، والقُدُورُ لا تَكُونُ فِيها ولا تُحَضَّرُ هُناكَ، ولِهَذا قالَ
﴿راسِياتٍ﴾ . ولَمّا بَيَّنَ حالَ الجِفانِ، سَرى الذِّهْنُ إلى عَظَمَةِ ما يُطْبَخُ فِيهِ، فَذَكَرَ القُدُورَ لِلْمُناسَبَةِ، وذَكَرَ في حَقِّ داوُدَ اشْتِغالَهُ بِآلَةِ الحَرْبِ لِاحْتِياجِهِ إلى قِتالِ الأعْداءِ، وفي حَقِّ سُلَيْمانَ المَحارِيبَ والتَّماثِيلَ؛ لِأنَّهُ كانَ مَلِكًا ابْنَ مَلِكٍ، قَدْ وطَّدَ لَهُ أبُوهُ المُلْكَ، فَكانَتْ حالُهُ حالَةَ سِلْمٍ، إذْ لَمْ يَكُنْ أحَدٌ يَقْدِرُ عَلى مُحارَبَتِهِ.
وقالَ عَقِبَ
﴿أنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ﴾، و
﴿اعْمَلُوا آلَ﴾، وعَقِبَ ما يَعْمَلُهُ الجِنُّ
﴿اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْرًا﴾، إشارَةً إلى أنَّ الإنْسانَ لا يَسْتَغْرِقُ في الدُّنْيا ولا يَلْتَفِتُ إلى زَخارِفِها، وأنَّهُ يَجِبُ أنْ يَعْمَلَ صالِحًا،
﴿اعْمَلُوا آلَ داوُدَ﴾ . وقِيلَ: مَفْعُولُ اعْمَلُوا مَحْذُوفٌ، أيِ اعْمَلُوا الطّاعاتِ وواظِبُوا عَلَيْها شُكْرًا لِرَبِّكم عَلى ما أنْعَمَ بِهِ عَلَيْكم، فَقِيلَ: انْتَصَبَ (شُكْرًا) عَلى الحالِ، وقِيلَ: مَفْعُولٌ مِن أجْلِهِ، وقِيلَ: مَفْعُولٌ لَهُ بِاعْمَلُوا، أيِ اعْمَلُوا عَمَلًا هو الشُّكْرُ، كالصَّلاةِ والصِّيامِ والعِباداتِ كُلِّها في أنْفُسِها هي الشُّكْرُ إذا سَدَّتْ مَسَدَّةً، وقِيلَ: عَلى المَصْدَرِ لِتَضْمِينِهِ اعْمَلُوا اشْكُرُوا بِالعَمَلِ لِلَّهِ شُكْرًا. رُوِيَ أنَّ مُصَلّى آلِ داوُدَ لَمْ يَخْلُ قَطُّ مِن قائِمٍ يُصَلِّي لَيْلًا ونَهارًا، وكانُوا يَتَناوَبُونَهُ. وكانَ سُلَيْمانُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - يَأْكُلُ الشَّعِيرَ ويُطْعِمُ أهْلَهُ الخُشْكارَ، والمَساكِينَ الدَّرْمَكَ، وما شَبِعَ قَطُّ، فَقِيلَ لَهُ في ذَلِكَ، فَقالَ: أخافُ إنْ شَبِعْتُ أنْ أنْسى الجِياعَ. و(الشَّكُورُ) صِيغَةُ مُبالَغَةٍ، وأُرِيدَ بِهِ الجِنْسُ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: الشَّكُورُ: مَن يَشْكُرُ عَلى أحْوالِهِ كُلِّها. وقالَ السُّدِّيُّ: مَن يَشْكُرُ عَلى الشُّكْرِ. وقِيلَ: مَن يَرى عَجْزَهُ عَنِ الشُّكْرِ، وهَذِهِ الجُمْلَةُ تَحْتَمِلُ أنْ تَكُونَ خِطابًا لِآلِ داوُدَ، وهو الظّاهِرُ، وأنْ تَكُونَ خِطابًا لِلرَّسُولِ ﷺ وفِيها تَنْبِيهٌ وتَحْرِيضٌ عَلى الشُّكْرِ.