الباحث القرآني
قال تعالى: ﴿يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِن مَحارِيبَ وتَماثِيلَ وجِفانٍ كالجَوابِ وقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُودَ شُكْرًا وقَلِيلٌ مِن عِبادِيَ الشَّكُورُ ﴾ [سبأ: ١٣].
سخَّرَ اللهُ الجِنَّ لسليمانَ يَعْمَلُونَ له ويَصْنَعونَ معه ما يشاءُ مِن المحاريبِ، وهي الأبنيةُ مِن مساكنَ وغيرِها.
حُكْمُ التماثيلِ وصُوَرِ ذواتِ الأرواحِ:
وأمّا قولُه تعالى: ﴿وتَماثِيلَ﴾، فقيل: هي الصُّوَرُ، كما قالهُ السُّدِّيُّ والضحّاكُ[[«تفسير الطبري» (١٩ /٢٣١)، و«تفسير ابن كثير» (٦ /٥٠٠).]].
ولم يثبُتْ في شيءٍ مِن السُّنَّةِ ولا مِن أقوالِ أحدٍ مِن الصحابةِ: أنّ التماثيلَ التي كانتْ تُعمَلُ لسليمانَ أنّها صورُ ذاتِ أرواحٍ، والتماثيلُ لا يَلزَمُ مِن إطلاقِها أن تكونَ صورًا لذي روحٍ، فقد تكونُ لشجرٍ وكوكبٍ وآنيةٍ، فالتمثالُ هو المجسَّمُ الذي يكونُ مثالًا لشيءٍ محسوسٍ، سواءٌ كان ذا رُوحٍ أو ليس بذي رُوحٍ، وعلى هذا فلا ذريعةَ لِمَن قال بجوازِها مِن هذا الوجهِ، ولو كانتْ لسليمانَ جائزةً وهي ذاتُ أرواحٍ، لم يصحَّ الاستدلالُ بها، لأنّ اللهَ حرَّمَ التماثيلَ وتصاويرَ الأرواحِ، كما أجاز اللهُ لسليمانَ مِلْكَ الجِنِّ والتصرُّفَ فيهم، ولم يُجِزْه لغيرِه، كما في «الصحيحَيْنِ»، أنّ النبيَّ ﷺ قال: (إنَّ عِفْرِيتًا مِنَ الجِنِّ جَعَلَ يَفْتِكُ عَلَيَّ البارِحَةَ، لِيَقْطَعَ عَلَيَّ الصَّلاةَ، وإنَّ اللهَ أمْكَنَنِي مِنهُ فَذَعَتُّهُ، فَلَقَدْ هَمَمْتُ أنْ أرْبِطَهُ إلى جَنْبِ سارِيَةٍ مِن سَوارِي المَسْجِدِ، حَتّى تُصْبِحُوا تَنْظُرُونَ إلَيْهِ أجْمَعُونَ ـ أوْ كُلُّكُمْ ـ ثُمَّ ذَكَرْتُ قَوْلَ أخِي سُلَيْمانَ: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِن بَعْدِي﴾ [ص: ٣٥]، فَرَدَّهُ اللهُ خاسِئًا) [[أخرجه البخاري (٤٦١)، ومسلم (٥٤١)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.]].
وتصاويرُ ذواتِ الأرواحِ محرَّمةٌ كذلك على الأمَّةِ، والأحاديثُ فيها متواترةٌ، كما في «الصحيحَيْنِ»، مِن حديثِ عائشةَ، أنّ رسولَ اللهِ ﷺ قال: (أشَدُّ النّاسِ عَذابًا يَوْمَ القِيامَةِ الَّذِينَ يُضاهُونَ بِخَلْقِ اللهِ) [[أخرجه البخاري (٥٩٥٤)، ومسلم (٢١٠٧/٩٦).]].
وفيهما أيضًا، قال ﷺ: (إنَّ أصْحابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ القِيامَةِ، يُقالُ لَهُمْ: أحْيُوا ما خَلَقْتُمْ!) [[أخرجه البخاري (٥٩٥٧)، ومسلم (٢١٠٧/٩٦)، من حديث عائشة رضي الله عنها.]].
وفيهما عن أبي زُرْعةَ، قال: دَخَلْتُ مَعَ أبِي هُرَيْرَةَ فِي دارِ مَرْوانَ، فَرَأى فِيها تَصاوِيرَ، فَقالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: (قالَ اللهُ عزّ وجل: ومَن أظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ خَلْقًا كَخَلْقِي؟ فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً، أوْ لِيَخْلُقُوا حَبَّةً، أوْ لِيَخْلُقُوا شَعِيرَةً) [[أخرجه البخاري (٥٩٥٣)، ومسلم (٢١١١).]].
وفيهما عن ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنهما، أنّ رجلًا قال له: إنِّي رَجُلٌ أُصَوِّرُ هَذِهِ الصُّوَرَ، فَأَفْتِنِي فِيها، فَقالَ لَهُ: ادْنُ مِنِّي، فَدَنا مِنهُ، ثُمَّ قالَ: ادْنُ مِنِّي، فَدَنا حَتّى وضَعَ يَدَهُ عَلى رَأْسِهِ، قالَ: أُنَبِّئُكَ بِما سَمِعْتُ مِن رَسُولِ اللهِ ﷺ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: (كُلُّ مُصَوِّرٍ فِي النّارِ، يَجْعَلُ لَهُ بِكُلِّ صُورَةٍ صَوَّرَها: نَفْسًا، فَتُعَذِّبُهُ فِي جَهَنَّمَ) [[أخرجه البخاري (٢٢٢٥)، ومسلم (٢١١٠).]].
وأمّا التصاويرُ التي لا يَتصرَّفُ فيها الإنسانُ، وإنّما هو تثبيتٌ لِما هو مِن خَلْقِ اللهِ، كما يَظهَرُ في المِرْآةِ والماءِ والشاشاتِ العاكسةِ، مباشرةً أو مسجَّلةً، وما ثبَتَ فيها مِن صُوَرٍ، فهذا ليس مِن صنعِ الإنسانِ ولا تدبيرِه، وإنّما هو انعكاسٌ لخَلْقِ اللهِ كانعكاسِ المِرْآةِ والماءِ، إلاَّ أنّ هذا وقتيٌّ ويزولُ، وذاك يُقدَرُ على تثبيتِه، على اختلافٍ في مُدَّةِ تثبيتِه، فيجوزُ فعلُ ذلك بشرطَيْنِ:
الـشـرطُ الأولُ: ألاَّ يُتصرَّفَ في تلك التصاويرِ بشيءٍ يُخرِجُها عمّا هي عليه بطبيعتِها التي خَلَقَها اللهُ عليها، لا بتضخيمٍ ولا بتحقيرٍ، ولا بتغييرِ لَوْنٍ أو عَيْنٍ أو أنْفٍ أو أُذُنٍ للإنسانِ، فإنّ تغييرَ ذلك يجعلُها مرسومةً بخطِّ الإنسانِ ويدِه.
الشرطُ الثاني: ألاَّ تُعظَّمَ، وممّا يُشعِرُ بتعظيمِها تعليقُها في المَجالِسِ والميادينِ، وكلَّما كانتْ هيئةُ التعظيمِ أظهَرَ، كان التحريمُ أشَدَّ، وتعليقُ المعظَّمِ محرَّمٌ، وقد لا يكونُ ذا رُوحٍ، والغالبُ أنّ الناسَ تُعلِّقُ صورَ ذواتِ الأرواحِ للتعظيمِ، وتُعلِّقُ صورَ الطبيعةِ للتَّزْيِينِ، وتعليقُ غيرِ المعظَّمِ مباحٌ، كما لا يُعرَفُ عادةً أنّ الناسَ تُعظِّمُه، كصُوَرِ وتماثيلِ الأشجارِ والأواني والجبالِ والأفلاكِ والبحارِ والأنهارِ والسحابِ.
وقد رُخِّصَ بالصُّوَرِ المُمتهَنةِ، والتي لم يَنسُجْها أو يَصْنَعْها الإنسانُ بنفسِه، ومِثلُ ذلك: الصُّوَرُ التي تكونُ على النَّعْلِ والخُفِّ والسراويلِ والفُرُشِ الأرضيَّةِ، بخلافِ ما يُعلَّقُ على الحِيطانِ معتدلًا مَبْرُوزًا، وما يُوضَعُ على صدورِ الملابسِ وعلى ما يُلبَسُ على الرأسِ، كالعِصابةِ.
وهذان الشرطانِ يَظهَرانِ في علةِ تحريمِ التماثيلِ والتصويرِ، لأنّ اللهَ حرَّم التماثيلَ لعلَّتَيْنِ: الأُولى: مضاهاةُ خَلْقِ اللهِ، والثانيةُ: حتى لا تُعظَّمَ مِن دونِ اللهِ ولو مع طُولِ الأمَدِ، فكلُّ ما يُحقِّقُ العلتَيْنِ، فهو محرَّمٌ، فخرَجَتْ بالشرطِ الأولِ العلةُ الأُولى، وخرَجَتْ بالشرطِ الثاني العلةُ الثانيةُ، واللهُ أعلَمُ.
وقد تقدَّم شيءٌ مِن التفصيلِ حولَ الصُّوَرِ والتماثيلِ عندَ قولِهِ تعالى: ﴿أخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإذْنِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ٤٩].
وقولُه: ﴿وجِفانٍ كالجَوابِ وقُدُورٍ راسِياتٍ﴾: الجِفانُ: جمعُ جَفْنَةٍ، وهي وعاءٌ كحَوْضِ الإبلِ ونحوِه، وقال ابنُ عبّاسٍ: «كالجَوْبَةِ مِن الأرضِ»[[«تفسير الطبري» (١٩ /٢٣٢)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (١٠ /٣١٦٣).]].
والقُدُورُ الراسيةُ: الكبيرةُ الثابتةُ لِعِظَمِها.
{"ayah":"یَعۡمَلُونَ لَهُۥ مَا یَشَاۤءُ مِن مَّحَـٰرِیبَ وَتَمَـٰثِیلَ وَجِفَانࣲ كَٱلۡجَوَابِ وَقُدُورࣲ رَّاسِیَـٰتٍۚ ٱعۡمَلُوۤا۟ ءَالَ دَاوُۥدَ شُكۡرࣰاۚ وَقَلِیلࣱ مِّنۡ عِبَادِیَ ٱلشَّكُورُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق