الباحث القرآني

سُورَةُ النُّورِ أرْبَعٌ وسِتُّونَ آيَةً مَدَنِيَّةٌ ﷽ ﴿سُورَةٌ أنْزَلْناها وفَرَضْناها وأنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكم تَذَكَّرُونَ﴾ ﴿الزّانِيَةُ والزّانِي فاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ ولا تَأْخُذْكم بِهِما رَأْفَةٌ في دِينِ اللَّهِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ ولْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ﴾ ﴿الزّانِي لا يَنْكِحُ إلّا زانِيَةً أوْ مُشْرِكَةً والزّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إلّا زانٍ أوْ مُشْرِكٌ وحُرِّمَ ذَلِكَ عَلى المُؤْمِنِينَ﴾ [النور: ٣] ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ فاجْلِدُوهم ثَمانِينَ جَلْدَةً ولا تَقْبَلُوا لَهم شَهادَةً أبَدًا وأُولَئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ﴾ [النور: ٤] ﴿إلّا الَّذِينَ تابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وأصْلَحُوا فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النور: ٥] ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ أزْواجَهم ولَمْ يَكُنْ لَهم شُهَداءُ إلّا أنْفُسُهم فَشَهادَةُ أحَدِهِمْ أرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إنَّهُ لَمِنَ الصّادِقِينَ﴾ [النور: ٦] ﴿والخامِسَةُ أنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ كانَ مِنَ الكاذِبِينَ﴾ [النور: ٧] ﴿ويَدْرَأُ عَنْها العَذابَ أنْ تَشْهَدَ أرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إنَّهُ لَمِنَ الكاذِبِينَ﴾ [النور: ٨] ﴿والخامِسَةَ أنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إنْ كانَ مِنَ الصّادِقِينَ﴾ [النور: ٩] ﴿ولَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكم ورَحْمَتُهُ وأنَّ اللَّهَ تَوّابٌ حَكِيمٌ﴾ [النور: ١٠] . (p-٤٢٦)هَذِهِ السُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ بِلا خِلافٍ، ولَمّا ذَكَرَ تَعالى مُشْرِكِي قُرَيْشٍ ولَهم أعْمالٌ مِن دُونِ ذَلِكَ أيْ أعْمالٌ سَيِّئَةٌ هم لَها عامِلُونَ، واسْتَطْرَدَ بَعْدَ (p-٤٢٧)ذَلِكَ إلى أحْوالِهِمْ، واتِّخاذِهِمُ الوَلَدَ والشَّرِيكَ، وإلى مَآلِهِمْ في النّارِ كانَ مِن أعْمالِهِمُ السَّيِّئَةِ أنَّهُ كانَ لَهم جَوارٍ بَغايا يَسْتَحْسِنُونَ عَلَيْهِنَّ ويَأْكُلُونَ مِن كَسْبِهِمْ مِنَ الزِّنا، فَأنْزَلَ اللَّهُ أوَّلَ هَذِهِ السُّورَةِ تَغْلِيظًا في أمْرِ الزِّنا وكانَ فِيما ذَكَرَ، وكَأنَّهُ لا يَصِحُّ ناسٌ مِنَ المُسْلِمِينَ هَمُّوا بِنِكاحِهِنَّ. وقَرَأ الجُمْهُورُ (سُورَةٌ) بِالرَّفْعِ فَجَوَّزُوا أنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أيْ هَذِهِ (سُورَةٌ) أوْ مُبْتَدَأً مَحْذُوفَ الخَبَرِ، أيْ فِيما أوْحَيْنا إلَيْكَ أوْ فِيما يُتْلى عَلَيْكم. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً والخَبَرُ ﴿الزّانِيَةُ والزّانِي﴾ وما بَعْدَ ذَلِكَ، والمَعْنى السُّورَةُ المُنَزَّلَةُ والمَفْرُوضَةُ كَذا وكَذا إذِ السُّورَةُ عِبارَةٌ عَنْ آياتٍ مَسْرُودَةٍ لَها بَدْءٌ وخَتْمٌ إلّا أنْ يَكُونَ المُبْتَدَأُ لَيْسَ بِالبَيِّنِ أنَّهُ الخَبَرُ إلّا أنْ يُقَدَّرَ الخَبَرُ في السُّورَةِ كُلِّها وهَذا بَعِيدٌ في القِياسِ و﴿أنْزَلْناها﴾ في هَذِهِ الأعارِيبِ في مَوْضِعِ الصِّفَةِ، انْتَهى. وقَرَأ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ، ومُجاهِدٌ، وعِيسى بْنُ عُمَرَ الثَّقَفِيُّ البَصْرِيُّ، وعِيسى بْنُ عُمَرَ الهَمْدانِيُّ الكُوفِيُّ، وابْنُ أبِي عَبْلَةَ، وأبُو حَيْوَةَ، ومَحْبُوبٌ، عَنْ أبِي عَمْرٍو وأُمِّ الدَّرْداءِ: (سُورَةً) بِالنَّصْبِ، فَخُرِّجَ عَلى إضْمارِ فِعْلٍ أيْ أتْلُو سُورَةً، و﴿أنْزَلْناها﴾ صِفَةٌ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أوْ عَلى دُونَكَ (سُورَةً) فَنُصِبَ عَلى الإغْراءِ، ولا يَجُوزُ حَذْفُ أداةِ الإغْراءِ، وأجازُوا أنْ يَكُونَ مِن بابِ الِاشْتِغالِ، أيْ أنْزَلْنا سُورَةً أنْزَلْناها، فَأنْزَلْناها مُفَسِّرٌ لَأنْزَلْنا المُضْمَرَةِ فَلا مَوْضِعَ لَهُ مِنَ الإعْرابِ إلّا أنَّهُ فِيهِ الِابْتِداءُ بِالنَّكِرَةِ مِن غَيْرِ مُسَوِّغٍ، إلّا إنِ اعْتُقِدَ حَذْفُ وصْفٍ أيْ: (سُورَةٌ) مُعَظَّمَةٌ أوْ مُوَضَّحَةٌ ﴿أنْزَلْناها﴾ فَيَجُوزُ ذَلِكَ. وقالَ الفَرّاءُ: (سُورَةً) حالٌ مِنَ الهاءِ والألِفِ، والحالُ مِنَ المُكَنّى يَجُوزُ أنْ يَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ، انْتَهى. فَيَكُونُ الضَّمِيرُ المَنصُوبُ في ﴿أنْزَلْناها﴾ لَيْسَ عائِدًا عَلى (سُورَةً)، وكَأنَّ المَعْنى أنْزَلْنا الأحْكامَ ﴿وفَرَضْناها﴾ سُورَةً أيْ في حالِ كَوْنِها سُورَةً مِن سُوَرِ القُرْآنِ، فَلَيْسَتْ هَذِهِ الأحْكامُ ثابِتَةً بِالسُّنَّةِ فَقَطْ بَلْ بِالقُرْآنِ والسُّنَّةِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿وفَرَضْناها﴾ بِتَخْفِيفِ الرّاءِ أيْ فَرَضْنا أحْكامَها وجَعَلْناها واجِبَةً مُتَطَوَّعًا بِها. وقِيلَ: وفَرَضْنا العَمَلَ بِما فِيها. وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ، وعُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ، ومُجاهِدٌ، وقَتادَةُ، وأبُو عَمْرٍو، وابْنُ كَثِيرٍ، بِتَشْدِيدِ الرّاءِ إمّا لِلْمُبالَغَةِ في الإيجابِ، وإمّا لِأنَّ فِيها فَرائِضَ شَتّى أوْ لِكَثْرَةِ المَفْرُوضِ عَلَيْهِمْ. قِيلَ: وكُلُّ أمْرٍ ونَهْيٍ في هَذِهِ السُّورَةِ فَهو فَرْضٌ. ﴿وأنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ﴾ أمْثالًا ومَواعِظَ وأحْكامًا لَيْسَ فِيها مُشْكِلٌ يَحْتاجُ إلى تَأْوِيلٍ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿الزّانِيَةُ والزّانِي﴾ بِالرَّفْعِ، وعَبْدُ اللَّهِ (والزّانِ) بِغَيْرِ ياءٍ، ومَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أنَّهُ مُبْتَدَأٌ والخَبَرُ مَحْذُوفٌ أيْ فِيما يُتْلى عَلَيْكم حُكْمٌ ﴿الزّانِيَةُ والزّانِي﴾، وقَوْلُهُ: ﴿فاجْلِدُوا﴾ بَيانٌ لِذَلِكَ الحُكْمِ، وذَهَبَ الفَرّاءُ والمُبَرِّدُ والزَّجّاجُ إلى أنَّ الخَبَرَ ﴿فاجْلِدُوا﴾، وجَوَّزَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وسَبَبُ الخِلافِ هو أنَّهُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ لا بُدَّ أنْ يَكُونَ المُبْتَدَأُ الدّاخِلُ الفاءُ في خَبَرِهِ مَوْصُولًا بِما يَقْبَلُ أداةَ الشَّرْطِ لَفْظًا أوْ تَقْدِيرًا، واسْمُ الفاعِلِ واسْمُ المَفْعُولِ لا يَجُوزُ أنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ أداةُ الشَّرْطِ، وغَيْرُ سِيبَوَيْهِ مِمَّنْ ذَكَرْنا لَمْ يَشْرِطْ ذَلِكَ، وتَقْرِيرُ المَذْهَبَيْنِ والتَّرْجِيحُ مَذْكُورٌ في النَّحْوِ. وقَرَأ عِيسى الثَّقَفِيُّ، ويَحْيى بْنُ يَعْمَرَ، وعَمْرُو بْنُ فائِدٍ، وأبُو جَعْفَرٍ، وشَيْبَةُ، وأبُو السَّمّالِ، ورُوَيْسٌ: ﴿الزّانِيَةَ والزّانِيَ﴾ بِنَصْبِهِما عَلى الِاشْتِغالِ، أيْ واجْلِدُوا ﴿الزّانِيَةَ والزّانِيَ﴾ كَقَوْلِكَ زَيْدًا فاضْرِبْهُ، ولِدُخُولِ الفاءِ تَقْرِيرٌ ذُكِرَ في عِلْمِ النَّحْوِ. والنَّصْبُ هُنا أحْسَنُ مِنهُ في ﴿سُورَةٌ أنْزَلْناها﴾ لِأجْلِ الأمْرِ، وتَضَمَّنَتِ السُّورَةُ أحْكامًا كَثِيرَةً فِيما يَتَعَلَّقُ بِالزِّنا ونِكاحِ الزَّوانِي وقَذْفِ المُحْصَناتِ والتَّلاعُنِ والحِجابِ وغَيْرِ ذَلِكَ. فَبُدِئَ بِالزِّناءِ لِقُبْحِهِ وما يَحْدُثُ عَنْهُ مِنَ المَفاسِدِ والعارِ. وكانَ قَدْ نَشَأ في العَرَبِ وصارَ مِن إمائِهِمْ أصْحابُ راياتٍ، وقُدِّمَتِ الزّانِيَةُ عَلى الزّانِي؛ لِأنَّ داعِيَتَها أقْوى لِقُوَّةِ شَهْوَتِها ونُقْصانِ عَقْلِها، ولِأنَّ زِناها أفْحَشُ وأكْثَرُ عارًا ولِلْعُلُوقِ بِوَلَدِ الزِّنا، وحالُ النِّساءِ الحَجَبَةُ والصِّيانَةُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإنْ قُلْتَ): قُدِّمَتِ الزّانِيَةُ عَلى الزّانِي أوَّلًا ثُمَّ قُدِّمَ عَلَيْها ثانِيًا (قُلْتُ): سَبَقَتْ تِلْكَ الآيَةُ لِعُقُوبَتِهِما عَلى ما جَنَيا (p-٤٢٨)والمَرْأةُ عَلى المادَّةِ الَّتِي مِنها نَشَأتِ الجِنايَةُ، فَإنَّها لَوْ لَمْ تُطْمِعِ الرَّجُلَ ولَمْ تَرْبِضْ لَهُ ولَمْ تُمَكِّنْهُ لَمْ يَطْمَعْ ولَمْ يَتَمَكَّنْ، فَلَمّا كانَتْ أصْلًا وأوَّلًا في ذَلِكَ بُدِئَ بِذِكْرِها، وأمّا الثّانِيَةُ فَمَسُوقَةٌ لِذِكْرِ النِّكاحِ والرَّجُلُ أصْلٌ فِيهِ؛ لِأنَّهُ هُوالرّاغِبُ والخاطِبُ ومِنهُ يَبْدَأُ الطَّلَبُ، انْتَهى. ولا يَتِمُّ هَذا الجَوابُ في الثّانِيَةِ إلّا إذا حُمِلَ النِّكاحُ عَلى العَقْدِ لا عَلى الوَطْءِ. و(ألْ) في ﴿الزّانِيَةُ والزّانِي﴾ لِلْعُمُومِ في جَمِيعِ الزُّناةِ. وقالَ ابْنُ سَلامٍ وغَيْرُهُ: هو مُخْتَصٌّ بِالبِكْرَيْنِ والجَلْدُ إصابَةُ الجِلْدِ بِالضَّرْبِ، كَما تَقُولُ: رَأسَهُ وبَطَنَهُ وظَهَرَهُ أيْ ضَرَبَ رَأْسَهُ وبَطْنَهُ وظَهْرَهُ، وهَذا مُطَّرِدٌ في أسْماءِ الأعْيانِ الثُّلاثِيَّةِ العُضْوِيَّةِ، والظّاهِرُ انْدِراجُ الكافِرِ والعَبْدِ والمُحْصَنِ في هَذا العُمُومِ، وهو لا يَنْدَرِجُ في المَجْنُونِ ولا الصَّبِيِّ بِإجْماعٍ. وقالَ ابْنُ سَلامٍ وغَيْرُهُ: واتَّفَقَ فُقَهاءُ الأمْصارِ عَلى أنَّ المُحْصَنَ يُرْجَمُ ولا يُجْلَدُ. وقالَ الحَسَنُ وإسْحاقُ وأحْمَدُ: يُجْلَدُ ثُمَّ يُرْجَمُ: «وجَلَدَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شُراحَةَ الهَمْدانِيَّةَ ثُمَّ رَجَمَها، وقالَ: جَلَدْتُها بِكِتابِ اللَّهِ ورَجَمْتُها بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ» - ولا حُجَّةَ في كَوْنِ مَرْجُومَةِ أُنَيْسٍ والغامِدَيَّةِ لَمْ يُنْقَلْ جَلْدُهُما؛ لِأنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ مِن أحْكامِ القُرْآنِ، فَلا يُنْقَلُ إلّا ما كانَ زائِدًا عَلى القُرْآنِ وهُوالرَّجْمُ، فَلِذَلِكَ ذُكِرَ الرَّجْمُ ولَمْ يُذْكَرِ الجَلْدُ. ومَذْهَبُ أبِي حَنِيفَةَ أنَّ مِن شَرْطِ الإحْصانِ الإسْلامَ، ومَذْهَبُ الشّافِعِيِّ أنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ، واتَّفَقُوا عَلى أنَّ الأمَةَ تُجْلَدُ خَمْسِينَ وكَذا العَبْدُ، عَلى مَذْهَبِ الجُمْهُورِ. وقالَ أهْلُ الظّاهِرِ: يُجْلَدُ العَبْدُ مِائَةً، ومِنهم مَن قالَ: تُجْلَدُ الأمَةُ مِائَةً إلّا إذا تَزَوَّجَتْ فَخَمْسِينَ، والظّاهِرُ انْدِراجُ الذِّمِّيَّيْنِ في الزّانِيَةِ والزّانِي فَيُجْلَدانِ عِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ والشّافِعِيِّ، وإذا كانا مُحْصَنَيْنِ يُرْجَمانِ عِنْدَ الشّافِعِيِّ. وقالَ مالِكٌ: لا حَدَّ عَلَيْهِما، والظّاهِرُ أنَّهُ لَيْسَ عَلى الزّانِيَةِ والزّانِي حَدٌّ غَيْرُ الجَلْدِ فَقَطْ، وهو مَذْهَبُ الخَوارِجِ، وقَدْ ثَبَتَ الرَّجْمُ بِالسُّنَّةِ المُسْتَفِيضَةِ وعَمِلَ بِهِ بَعْدَ الرَّسُولِ خُلَفاءُ الإسْلامِ: أبُو بَكْرٍ، وعُمَرُ، وعَلِيٌّ، ومِنَ الصَّحابَةِ: جابِرٌ، وأبُو هُرَيْرَةَ، وبُرَيْدَةُ الأسْلَمِيُّ، وزَيْدُ بْنُ خالِدٍ، واخْتَلَفُوا في التَّغْرِيبِ بِنَفْيِ البِكْرِ بَعْدَ الجَلْدِ. وقالَ الثَّوْرِيُّ والأوْزاعِيُّ والحَسَنُ بْنُ صالِحٍ والشّافِعِيُّ: يُنْفى الزّانِي. وقالَ الأوْزاعِيُّ ومالِكٌ: يُنْفى الرَّجُلُ ولا تُنْفى المَرْأةُ، قالَ مالِكٌ: ولا يُنْفى العَبْدُ نِصْفَ سَنَةٍ، والظّاهِرُ أنَّ هَذا الجَلْدَ إنَّما هو عَلى مَن ثَبَتَ عَلَيْهِ الزِّنا، فَلَوْ وُجِدا في ثَوْبٍ واحِدٍ، فَقالَ إسْحاقُ: يُضْرَبُ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ، ورُوِيَ عَنْ عُمَرَ وعَلِيٍّ. وقالَ عَطاءٌ والثَّوْرِيُّ ومالِكٌ وأحْمَدُ: يُؤَدَّبانِ عَلى مَذاهِبِهِمْ في الأدَبِ، وأمّا الإكْراهُ فالمُكْرَهَةُ لا حَدَّ عَلَيْها، وفي حَدِّ الرَّجُلِ المُكْرَهِ خِلافٌ وتَفْصِيلٌ بَيْنَ أنْ يُكْرِهَهُ سُلْطانٌ فَلا يُحَدُّ، أوْ غَيْرُهُ فَيُحَدُّ، وهو قَوْلُ أبِي حَنِيفَةَ، وقَوْلُ أبِي يُوسُفَ ومُحَمَّدٍ والحَسَنِ بْنِ صالِحٍ والشّافِعِيِّ: لا يُحَدُّ في الوَجْهَيْنِ، وقَوْلُ زُفَرَ: يُحَدُّ فِيهِما جَمِيعًا. والظّاهِرُ أنَّهُ لا يَنْدَرِجُ في الزِّنا مَن أتى امْرَأةً مِن دُبُرِها ولا ذَكَرًا ولا بَهِيمَةً. وقِيلَ: يَنْدَرِجُ، والمَأْمُورُ بِالجَلْدِ أئِمَّةُ المُسْلِمِينَ ونُوّابُهم. واخْتَلَفُوا في إقامَةِ الخارِجِيِّ المُتَغَلِّبِ الحُدُودَ. فَقِيلَ لَهُ ذَلِكَ. وقِيلَ: لا، وفي إقامَةِ السَّيِّدِ عَلى رَقِيقِهِ. فَقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وابْنُ عُمَرَ وعائِشَةُ وفاطِمَةُ والشّافِعِيُّ: لَهُ ذَلِكَ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ ومُحَمَّدٌ وزُفَرُ: لا، وقالَ مالِكٌ واللَّيْثُ: لَهُ ذَلِكَ إلّا في القَطْعِ في السَّرِقَةِ؛ فَإنَّما يَقْطَعُهُ الإمامُ، والجَلْدُ كَما قُلْنا ضَرْبُ الجِلْدِ، ولَمْ تَتَعَرَّضِ الآيَةُ لِهَيْئَةِ الجالِدِ، ولا هَيْئَةِ المَجْلُودِ، ولا لِمَحَلِّ الجَلْدِ، ولا لِصِفَةِ الآلَةِ المَجْلُودِ بِها، وذَلِكَ مَذْكُورٌ في كُتُبِ الفِقْهِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإنْ قُلْتَ): هَذا حُكْمُ جَمِيعِ الزُّناةِ والزَّوانِي أمْ حُكْمُ بَعْضِهِمْ ؟ (قُلْتُ): بَلْ هو حُكْمُ مَن لَيْسَ بِمُحْصَنٍ مِنهم، فَإنَّ المُحْصَنَ حُكْمُهُ الرَّجْمُ، (فَإنْ قُلْتَ): اللَّفْظُ يَقْتَضِي تَعْلِيقَ الحُكْمِ بِجَمِيعِ الزُّناةِ والزَّوانِي؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿الزّانِيَةُ والزّانِي﴾ عامٌّ في الجَمِيعِ يَتَناوَلُهُ المُحْصَنُ وغَيْرُ المُحْصَنِ، (قُلْتُ): ﴿الزّانِيَةُ والزّانِي﴾ يَدُلّانِ عَلى الجِنْسَيْنِ المُنافِيَيْنِ لِجِنْسَيِ العَفِيفِ والعَفِيفَةِ دَلالَةً مُطْلَقَةً، والجِنْسِيَّةُ قائِمَةٌ في الكُلِّ والبَعْضِ جَمِيعًا، فَأيُّهُما قَصَدَ المُتَكَلِّمُ فَلا عَلَيْهِ كَما يُفْعَلُ بِالِاسْمِ (p-٤٢٩)المُشْتَرَكِ، انْتَهى. ولَيْسَتْ دَلالَةُ اللَّفْظِ عَلى الجِنْسَيْنِ كَما ذَكَرَ دَلالَةً مُطْلَقَةً؛ لِأنَّ دَلالَةَ عُمُومِ الِاسْتِغْراقِ مُبايِنَةٌ لِدَلالَةِ عُمُومِ البَدَلِ وهُوالإطْلاقُ، ولَيْسَتْ كَدَلالَةِ المُشْتَرَكِ؛ لِأنَّ دَلالَةَ العُمُومِ هي كُلُّ فَرْدٍ فَرْدٍ عَلى سَبِيلِ الِاسْتِغْراقِ، ودَلالَةَ المُشْتَرَكِ تَدُلُّ عَلى فَرْدٍ فَرْدٍ عَلى الِاسْتِغْراقِ، أعْنِي في الِاسْتِعْمالِ، وإنْ كانَ في ذَلِكَ خِلافٌ في أُصُولِ الفِقْهِ، لَكِنْ ما ذَكَرْتُهُ هُوالَّذِي يَصِحُّ في النَّظَرِ واسْتِعْمالِ كَلامِ العَرَبِ. وقَرَأ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ والسُّلَمِيُّ وابْنُ مِقْسَمٍ وداوُدُ بْنُ أبِي هِنْدٍ، عَنْ مُجاهِدٍ: ”ولا يَأْخُذْكم“ بِالياءِ؛ لِأنَّ تَأْنِيثَ الرَّأْفَةِ مَجازٌ وحَسَّنَ ذَلِكَ الفَصْلُ. وقَرَأ الجُمْهُورُ بِالتّاءِ لِتَأْنِيثِ الرَّأْفَةِ لَفْظًا. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿رَأْفَةٌ﴾ بِسُكُونِ الهَمْزَةِ، وابْنُ كَثِيرٍ بِفَتْحِها، وابْنُ جُرَيْجٍ بِألِفٍ بَعْدَ الهَمْزَةِ. ورُوِيَ هَذا عَنْ عاصِمٍ وابْنِ كَثِيرٍ، وكُلُّها مَصادِرُ أشْهَرُها الأوَّلُ، والرَّأْفَةُ المَنهِيُّ أنْ تَأْخُذَ المُتَوَلِّينَ إقامَةَ الحَدِّ. قالَ أبُو مِجْلَزٍ ومُجاهِدٌ وعِكْرِمَةُ وعَطاءٌ: هي في إسْقاطِ الحَدِّ، أيْ أقِيمُوهُ، ولا يَدْرَأُ هَذا تَأْوِيلَ ابْنِ عُمَرَ وابْنِ جُبَيْرٍ وغَيْرِهِما. ومِن مَذْهَبِهِمْ أنَّ الحَدَّ في الزِّنا والفِرْيَةِ والخَمْرِ عَلى نَحْوٍ واحِدٍ. وقالَ قَتادَةُ وابْنُ المُسَيَّبِ وغَيْرُهُما: الرَّأْفَةُ المَنهِيُّ عَنْها هي في تَخْفِيفِ الضَّرْبِ عَلى الزُّناةِ، ومِن رَأْيِهِمْ أنْ يُخَفَّفَ ضَرْبُ الفِرْيَةِ والخَمْرِ، ويُشَدَّدَ ضَرْبُ الزِّنا. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: والمَعْنى أنَّ الواجِبَ عَلى المُؤْمِنِينَ أنْ يَتَصَلَّبُوا في دِينِ اللَّهِ ويَسْتَعْمِلُوا الجِدَّ والمَتانَةَ فِيهِ، ولا يَأْخُذَهُمُ اللِّينُ والهَوادَةُ في اسْتِبْقاءِ حُدُودِهِ، انْتَهى. فَهَذا تَحْسِينُ قَوْلِ أبِي مِجْلَزٍ ومَن وافَقَهُ. وقالَ الزُّهْرِيُّ: يُشَدَّدُ في الزِّنا والفِرْيَةِ ويُخَفَّفُ في حَدِّ الشُّرْبِ. وقالَ مُجاهِدٌ والشَّعْبِيُّ وابْنُ زَيْدٍ: في الكَلامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: ﴿ولا تَأْخُذْكم بِهِما رَأْفَةٌ﴾ فَتُعَطِّلُوا الحُدُودَ ولا تُقِيمُوها. والنَّهْيُ في الظّاهِرِ لِلرَّأْفَةِ، والمُرادُ ما تَدْعُو إلَيْهِ الرَّأْفَةُ وهو تَعْطِيلُ الحُدُودِ أوْ نَقْصُها، ومَعْنى ﴿فِي دِينِ اللَّهِ﴾ في الإخْلالِ بِدِينِ اللَّهِ أيْ بِشَرْعِهِ. قِيلَ: ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الدِّينُ بِمَعْنى الحُكْمِ. ﴿إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ﴾ تَثْبِيتٌ وحَضٌّ وتَهْيِيجٌ لِلْغَضَبِ لِلَّهِ ولِدِينِهِ، كَما تَقُولُ: إنْ كُنْتَ رَجُلًا فافْعَلْ، وأمَرَ تَعالى بِحُضُورِ جَلْدِهِما طائِفَةً إغْلاظًا عَلى الزُّناةِ وتَوْبِيخًا لَهم بِحَضْرَةِ النّاسِ، وسَمّى الجَلْدَ عَذابًا إذْ فِيهِ إيلامٌ وافْتِضاحٌ، وهو عُقُوبَةٌ عَلى ذَلِكَ الفِعْلِ، والطّائِفَةُ المَأْمُورُ بِشُهُودِها ذَلِكَ يَدُلُّ الِاشْتِقاقُ عَلى ما يَكُونُ يَطُوفُ بِالشَّيْءِ، وأقَلُّ ما يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِيهِ ثَلاثَةٌ، وهي صِفَةٌ غالِبَةٌ؛ لِأنَّها الجَماعَةُ الحافَّةُ بِالشَّيْءِ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وابْنِ زَيْدٍ في تَفْسِيرِها أرْبَعَةٌ إلى أرْبَعِينَ. وعَنِ الحَسَنِ: عَشَرَةٌ. وعَنْ قَتادَةَ والزُّهْرِيِّ: ثَلاثَةٌ فَصاعِدًا. وعَنْ عِكْرِمَةَ وعَطاءٍ: رَجُلانِ فَصاعِدًا، وهو مَشْهُورُ قَوْلِ مالِكٍ. وعَنْ مُجاهِدٍ: الواحِدُ فَما فَوْقَهُ، واسْتِعْمالُ الضَّمِيرِ الَّذِي لِلْجَمْعِ عائِدًا عَلى الطّائِفَةِ في كَلامِ العَرَبِ دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ يُرادُ بِها الجَمْعُ، وذَلِكَ كَثِيرٌ في القُرْآنِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب