الباحث القرآني

(p-٧٠)سُورَةُ النُّورِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿سُورَةٌ أنْزَلْناها﴾ أيْ هَذِهِ سُورَةٌ أنْزَلْناها ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ قَدْ خَصَّها بِهَذا الِافْتِتاحِ لِأمْرَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّ المَقْصُودَ الزَّجْرُ والوَعِيدُ فافْتُتِحَتْ بِالرَّهْبَةِ كَسُورَةِ التَّوْبَةِ. الثّانِي: أنَّ فِيها تَشْرِيفًا لِلنَّبِيِّ ﷺ بِطَهارَةِ نِسائِهِ فافْتُتِحَتْ بِذَكَرٍ، والسُّورَةُ اسْمٌ لِلْمَنزِلَةِ الشَّرِيفَةِ ولِذَلِكَ سُمِّيَتِ السُّورَةُ مِنَ القُرْآنِ سُورَةً قالَ الشّاعِرُ: ؎ ألَمْ تَرَ أنَّ اللَّهَ أعْطاكَ سُورَةً تُرى كُلَّ مَلْكٍ دُونَها يَتَذَبْذَبُ ﴿وَفَرَضْناها﴾ فِيهِ قِراءَتانِ بِالتَّخْفِيفِ وبِالتَّشْدِيدِ: فَمَن قَرَأ بِالتَّخْفِيفِ فَفي تَأْوِيلِهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: فَرَضْنا فِيها إباحَةَ الحَلالِ وحَظْرَ الحَرامِ، قالَهُ مُجاهِدٌ. (p-٧١)الثّانِي: قَدَّرْنا فِيها الحُدُودَ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ﴾ [البَقَرَةِ: ٢٣٧] أيْ قَدَّرْتُمْ، قالَهُ عِكْرِمَةُ. وَمَن قَرَأ بِالتَّشْدِيدِ فَفي تَأْوِيلِهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: مَعْناهُ تَكْثِيرُ ما فُرِضَ فِيها مِنَ الحَلالِ والحَرامِ، قالَهُ ابْنُ عِيسى. الثّانِي: مَعْناهُ بَيَّنّاها، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. ﴿وَأنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ﴾ فِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: أنَّها الحُجَجُ الدّالَّةُ عَلى تَوْحِيدِهِ ووُجُوبِ طاعَتِهِ. الثّانِي: أنَّها الحُدُودُ والأحْكامُ الَّتِي شَرَعَها. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿الزّانِيَةُ والزّانِي فاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾ وإنَّما قُدِّمَ ذَكْرُ الزّانِيَةِ عَلى الزّانِي لِأمْرَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّ الزِّنى مِنها أعَرُّ، وهو لِأجْلِ الحَبَلِ أضَرُّ. الثّانِي: أنَّ الشَّهْوَةَ فِيها أكْثَرُ وعَلَيْها أغْلَبُ، وقُدِّرَ الحَدُّ فِيهِ بِمِائَةِ جَلْدَةٍ مِنَ الحُرِّيَّةِ والبَكارَةِ، وهو أكْثَرُ حُدُودِ الجَلْدِ، لِأنَّ فِعْلَ الزِّنى أغْلَظُ مِنَ القَذْفِ بِالزِّنى، وزادَتِ السُّنَّةُ عَلى الجَلْدِ بِتَغْرِيبِ عامٍ بَعْدَهُ، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: «خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، البِكْرُ بِالبِكْرِ جَلْدُ مائَةٍ وتَغْرِيبُ عامٍ» ومَنَعَ العِراقِيُّونَ مِنَ التَّغْرِيبِ اقْتِصارًا عَلى الجَلْدِ وحْدَهُ، وفِيهِ دَفْعُ السُّنَّةِ والأثَرِ. والجَلْدُ مَأْخُوذٌ مِن وُصُولِ الضَّرْبِ إلى الجَلْدِ، فَأمّا المُحْصَنانِ فَحَدَّهُما الرَّجْمُ بِالسُّنَّةِ إمّا بَيانًا لِقَوْلِهِ تَعالى في سُورَةِ النِّساءِ: ﴿فَأمْسِكُوهُنَّ في البُيُوتِ حَتّى يَتَوَفّاهُنَّ المَوْتُ أوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا﴾ [النِّساءِ: ١٥] عَلى قَوْلِ فَرِيقٍ: وإمّا ابْتِداءً فُرِضَ عَلى قَوْلِ آخَرِينَ. وَرَوى زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ عَنْ أُبَيٍّ أنَّ في مُصْحَفِهِ مِن سُورَةِ الأحْزابِ ذُكِرَ الرَّجْمُ: " إذا زَنى الشَّيْخُ والشَّيْخَةُ فارْجُمُوهُما البَتَّةَ نَكالًا مِنَ اللَّهِ واللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ " . (p-٧٢)﴿وَلا تَأْخُذْكم بِهِما رَأْفَةٌ في دِينِ اللَّهِ﴾ أيْ في طاعَةِ اللَّهِ، وقَدْ يُعَبَّرُ بِالدِّينِ عَنِ الطّاعَةِ. ﴿إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ﴾ أيْ إنْ كُنْتُمْ تُقِيمُونَ طاعَةَ اللَّهِ قِيامَ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ، والرَّأْفَةُ الرَّحْمَةُ ولَمْ يَنْهَ عَنْها لِأنَّ اللَّهَ هو الَّذِي يُوقِعُها في القُلُوبِ وإنَّما نَهى عَمّا تَدْعُو الرَّحْمَةُ إلَيْهِ، وفِيهِ قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنْ تَدْعُوَهُ الرَّحْمَةُ إلى إسْقاطِ الحَدِّ حَتّى لا يُقامَ، قالَهُ عِكْرِمَةُ. الثّانِي: أنْ تَدْعُوَهُ الرَّحْمَةُ إلى تَخْفِيفِ الضَّرْبِ حَتّى لا يُؤْلِمَ، قالَهُ قَتادَةُ. واسْتَنْبَطَ هَذا المَعْنى الجُنَيْدُ فَقالَ: الشَّفَقَةُ عَلى المُخالِفِينَ كالإعْراضِ عَنِ المُواقِعِينَ ﴿وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما﴾ يَعْنِي بِالعَذابِ الحَدَّ يَشْهَدُهُ عِنْدَ الإقامَةِ طائِفَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ، لِيَكُونُوا زِيادَةً في نَكالِهِ وبَيِّنَةً عَلى إقامَةِ حَدِّهِ، واخْتُلِفَ في عَدَدِهِمْ عَلى أرْبَعَةِ أقاوِيلَ: أحَدُها: أرْبَعَةٌ فَصاعِدًا، قالَهُ مالِكٌ والشّافِعِيُّ. الثّانِي: ثَلاثَةٌ فَصاعِدًا، قالَهُ الزُّهْرِيُّ. الثّالِثُ: اثْنانِ فَصاعِدًا، قالَ عِكْرِمَةُ. الرّابِعُ: واحِدٌ فَصاعِدًا، قالَهُ الحَسَنُ، وإبْراهِيمُ. وَلَمّا شَرَطَ اللَّهُ إيمانَ مَن يَشْهَدُ عَذابَهُما، قالَ بَعْضُ أصْحابِ الخَواطِرِ: لا يَشْهَدُ مَواضِعَ التَّأْدِيبِ إلّا مَن لا يَسْتَحِقُّ التَّأْدِيبَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب