الباحث القرآني

﴿إنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأمّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أنَّهُ الحَقُّ مِن رَبِّهِمْ وأمّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أرادَ اللَّهُ بِهَذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا ويَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وما يُضِلُّ بِهِ إلّا الفاسِقِينَ﴾ ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثاقِهِ ويَقْطَعُونَ ما أمَرَ اللَّهُ بِهِ أنْ يُوصَلَ ويُفْسِدُونَ في الأرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الخاسِرُونَ﴾ [البقرة: ٢٧] ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وكُنْتُمْ أمْواتًا فَأحْياكم ثُمَّ يُمِيتُكم ثُمَّ يُحْيِيكم ثُمَّ إلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [البقرة: ٢٨] ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكم ما في الأرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوى إلى السَّماءِ فَسَوّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وهو بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٩]، الحَياءُ: تَغَيُّرٌ وانْكِسارٌ يَعْتَرِي الإنْسانَ مِن خَوْفِ ما يُعابُ بِهِ ويَذُمُّ، ومَحَلُّهُ الوَجْهُ، ومَنبَعُهُ مِنَ القَلْبِ، واشْتِقاقُهُ مِنَ الحَياةِ، وضِدُّهُ: القَحَةُ، والحَياءُ والِاسْتِحْياءُ والِانْخِزالُ والِانْقِماعُ والِانْقِلاعُ مُتَقارِبَةُ المَعْنى، فَتَنُوبُ كُلُّ واحِدَةٍ مِنها مَنابَ الأُخْرى. أنْ: حَرْفٌ ثُنائِيُّ الوَضْعِ يَنْسَبِكُ مِنهُ مَعَ الفِعْلِ الَّذِي يَلِيهِ مَصْدَرٌ، وعَمَلُهُ في المُضارِعِ النَّصْبَ إنْ كانَ مُعْرَبًا، والجَزْمُ بِها لُغَةٌ لِبَنِي صَباحٍ، وتُوصَلُ أيْضًا بِالماضِي المُتَصَرِّفِ، وذَكَرُوا أنَّها تُوصَلُ بِالأمْرِ، وإذا نَصَبَتِ المُضارِعَ فَلا يَجُوزُ الفَصْلُ بَيْنَهُما بِشَيْءٍ. وأجازَ بَعْضُهُمُ الفَصْلَ بِالظَّرْفِ، وأجازَ الكُوفِيُّونَ الفَصْلَ بَيْنَها وبَيْنَ مَعْمُولِها بِالشَّرْطِ. وأجازُوا أيْضًا إلْغاءَها وتَسْلِيطُ الشَّرْطِ عَلى ما كانَ يَكُونُ مَعْمُولًا لَها لَوْلاهُ، وأجازَ الفَرّاءُ تَقْدِيمَ مَعْمُولِ مَعْمُولِها عَلَيْها، ومَنَعَهُ الجُمْهُورُ. وأحْكامُ ”أنْ“ المَوْصُولَةِ كَثِيرَةٌ، ويَكُونُ أيْضًا حَرْفَ تَفْسِيرٍ خِلافًا لِلْكُوفِيِّينَ، إذْ زَعَمُوا أنَّها لا تَأْتِي تَفْسِيرًا، وسَيَأْتِي الكَلامُ عَلى التَّفْسِيرِيَّةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وعَهِدْنا إلى إبْراهِيمَ وإسْماعِيلَ أنْ طَهِّرا بَيْتِيَ﴾ [البقرة: ١٢٥]، إنْ شاءَ اللَّهُ - تَعالى - . وتَكُونُ ”أنْ“ أيْضًا زائِدَةً وتُطَّرَدُ زِيادَتُها بَعْدَ لَمّا، ولا تُفِيدُ إذْ ذاكَ غَيْرَ التَّوْكِيدِ، خِلافًا لِمَن زادَ عَلى ذَلِكَ أنَّها تُفِيدُ اتِّصالَ الفِعْلِ الواقِعِ جَوابًا بِالفِعْلِ الَّذِي زِيدَتْ قَبْلَهُ، وبَعْدَ القَسَمِ قَبْلَ لَوْ والجَوابِ خِلافًا لِمَن زَعَمَ أنَّها إذْ ذاكَ رابِطَةٌ لِجُمْلَةِ القَسَمِ بِالمُقْسَمِ عَلَيْهِ إذا كانَ لَوْ والجَوابُ، ولا تَكُونُ ”أنْ“ لِلْمُجازاةِ خِلافًا لِلْكُوفِيِّينَ، ولا بِمَعْنى إنِ المَكْسُورَةِ المُخَفَّفَةِ مِنَ الثَّقِيلَةِ خِلافًا لِلْفارِسِيِّ، ولا لِلنَّفْيِ، ولا بِمَعْنى إذْ، ولا (p-١١٩)بِمَعْنى لِئَلّا خِلافًا لِزاعِمِي ذَلِكَ. وأمّا أنِ المُخَفَّفَةِ مِنَ الثَّقِيلَةِ فَحَرْفٌ ثُلاثِيُّ الوَضْعِ، وسَيَأْتِي الكَلامُ عَلَيْهِ عِنْدَ أوَّلِ ما يُذْكَرُ، إنْ شاءَ اللَّهُ - تَعالى - . والضَّرْبُ: إمْساسُ جِسْمٍ بِجِسْمٍ بِعُنْفٍ ويُكَنّى بِهِ عَنِ السَّفَرِ في الأرْضِ ويَكُونُ بِمَعْنى الصُّنْعِ والِاعْتِمالِ. ورُوِيَ «ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ خاتَمًا مِن ذَهَبٍ» . والبَعُوضَةُ: واحِدُ البَعُوضِ، وهي طائِرٌ صَغِيرٌ جِدًّا مَعْرُوفٌ، وهو في الأصْلِ صِفَةٌ عَلى فُعُولٍ كالقُطُوعِ فَغُلِّبَتْ، واشْتِقاقُهُ مِنَ البَعْضِ بِمَعْنى القَطْعِ. أمّا: حَرْفٌ، وفِيهِ مَعْنى الشَّرْطِ، وبَعْضُهم يُعَبِّرُ عَنْها بِحَرْفِ تَفْصِيلٍ، وبَعْضُهم بِحَرْفِ إخْبارٍ، وأبْدَلَ بَنُو تَمِيمٍ المِيمَ الأُولى ياءً فَقالُوا: أيَّما. وقالَ سِيبَوَيْهِ في تَفْسِيرِ أمّا: أنَّ المَعْنى مَهْما يَكُنْ مِن شَيْءٍ، فَزَيْدٌ ذاهِبٌ، والَّذِي يَلِيها مُبْتَدَأٌ وخَبَرٌ وتَلْزَمُ الفاءُ فِيما ولِيَ الجَزاءُ الَّذِي ولِيَها، إلّا إنْ كانَتِ الجُمْلَةُ دُعاءً فالفاءُ فِيما يَلِيها ولا يُفْصَلُ بِغَيْرِها مِنَ الجُمَلِ بَيْنَها وبَيْنَ الفاءِ، وإذا فُصِلَ بِها فَلا بُدَّ مِنَ الفَصْلِ بَيْنَها وبَيْنَ الجُمْلَةِ بِمَعْمُولٍ يَلِي أمّا، ولا يَجُوزُ أنْ يُفْصَلَ بَيْنَ أمّا وبَيْنَ الفاءِ بِمَعْمُولِ خَبَرِ أنَّ وِفاقًا لِسِيبَوَيْهِ وأبِي عُثْمانَ، وخِلافًا لِلْمُبَرِّدِ وابْنِ دَرَسْتَوَيْهِ، ولا بِمَعْمُولِ خَبَرِ لَيْتَ ولَعَلَّ خِلافًا لِلْفَرّاءِ. ومَسْألَةُ أمّا عِلْمًا فَعالِمٌ يَلْزَمُ أهْلُ الحِجازِ فِيهِ النَّصْبَ وتَخْتارُهُ تَمِيمٌ، وتَوْجِيهُ هاتَيْنِ المَسْألَتَيْنِ مَذْكُورٌ في النَّحْوِ. الحَقُّ: الثّابِتُ الَّذِي لا يَسُوغُ إنْكارُهُ. حَقَّ الأمْرُ: ثَبَتَ ووَجَبَ، ومِنهُ: ﴿حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ﴾ [يونس: ٣٣]، والباطِلُ مُقابِلُهُ، وهو المُضْمَحِلُّ الزّائِلُ، ماذا: الأصْلُ في ذا أنَّها اسْمُ إشارَةٍ، فَمَتى أُرِيدَ مَوْضُوعُها الأصْلِيُّ كانَتْ ماذا جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، وتَكُونُ ما اسْتِفْهامِيَّةً في مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِداءِ وذا خَبَرُهُ. وقَدِ اسْتَعْمَلَتِ العَرَبُ ماذا ثَلاثَةَ اسْتِعْمالاتٍ غَيْرَ الَّذِي ذَكَرْناهُ أوَّلًا، أحَدُها: أنْ تَكُونَ ”ما“ اسْتِفْهامًا وذا مَوْصُولًا بِدَلِيلِ وُقُوعِ الِاسْمِ جَوابًا لَها مَرْفُوعًا في الفَصِيحِ، وبِدَلِيلِ رَفْعِ البَدَلِ، قالَ الشّاعِرُ: ؎ألا تَسْألانِ المَرْءَ ماذا يُحاوِلُ أنُحِبُّ فَيُقْضى أمْ ضَلالٌ وباطِلُ الثّانِي: أنْ تَكُونَ ماذا كُلُّها اسْتِفْهامًا، وهَذا الوَجْهُ هو الَّذِي يَقُولُ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ فِيهِ: إنَّ ذا لَغْوٌ ولا يُرِيدُ بِذَلِكَ الزِّيادَةَ بَلِ المَعْنى أنَّها رُكِّبَتْ مَعَ ما وصارَتْ كُلُّها اسْتِفْهامًا، ويَدُلُّ عَلى هَذا الوَصْفِ وُقُوعُ الِاسْمِ جَوابًا لَها مَنصُوبًا في الفَصِيحِ، وقَوْلُ العَرَبِ: عَمّاذا تَسْألُ بِإثْباتِ ألِفِ ما، وقَوْلُ الشّاعِرِ: ؎يا خُزْرَ تَغْلِبَ ماذا بالُ نِسْوَتِكم ∗∗∗ لا يَسْتَفِقْنَ إلى الدَّيْرَيْنِ تِحْنانا ولا يَصِحُّ مَوْصُولِيَّةُ ذا هُنا، الثّالِثُ: أنْ تَكُونَ ما مَعَ ذا اسْمًا مَوْصُولًا، وهو قَلِيلٌ، قالَ الشّاعِرُ: ؎دَعِي ماذا عَلِمْتِ سَأتَّقِيهِ ∗∗∗ ولَكِنْ بِالمَغِيبِ نَبِّئِينِي فَعَلى هَذا الوَجْهِ والأوَّلُ يَكُونُ الفِعْلُ بَعْدَها صِلَةٌ لا مَوْضِعَ لَهُ مِنَ الإعْرابِ ولا يَتَسَلَّطُ عَلى ماذا، وعَلى الوَجْهِ الثّانِي يَتَسَلَّطُ عَلى ماذا إنْ كانَ مِمّا يُمْكِنُ أنْ يَتَسَلَّطَ. وأجازَ الفارِسِيُّ أنْ تَكُونَ ماذا نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ وجَعَلَ مِنهُ: دَعِي ماذا عَلِمْتِ. الإرادَةُ: طَلَبُ نَفْسِكَ الشَّيْءَ ومَيْلُ قَلْبِكَ إلَيْهِ، وهي نَقِيضُ الكَراهَةِ، ويَأْتِي الكَلامُ عَلَيْها مُضافَةً إلى اللَّهِ - تَعالى - إنْ شاءَ اللَّهُ. الفُسُوقُ: الخُرُوجُ، فَسَقَتِ الرَّطْبَةُ: خَرَجَتْ، والفاسِقُ شَرْعًا: الخارِجُ عَنِ الحَقِّ، ومُضارِعُهُ جاءَ عَلى يَفْعَلُ ويَفْعُلُ. النَّقْضُ: فَكُّ تَرْكِيبِ الشَّيْءِ ورَدُّهُ إلى ما كانَ عَلَيْهِ أوَّلًا، فَنَقْضُ البِناءِ هَدْمُهُ، ونَقْضُ المُبْرَمِ حَلُّهُ. والعَهْدُ: المَوْثِقُ، وعَهَدَ إلَيْهِ في كَذا: أوْصاهُ بِهِ ووَثَّقَهُ عَلَيْهِ. والعَهْدُ في لِسانِ العَرَبِ عَلى سِتَّةِ مَحامِلٍ: الوَصِيَّةُ، والضَّمانُ، والأمْرُ، والِالتِقاءُ، والرُّؤْيَةُ، والمَنزِلُ. والمِيثاقُ: العَهْدُ المُؤَكَّدُ بِاليَمِينِ. والمِيثاقُ والتَّوْثِقَةُ كالمِيعادِ بِمَعْنى الوَعْدِ، والمِيلادِ بِمَعْنى الوِلادَةِ. الخَسارُ: النُّقْصانُ أوِ الهَلاكُ، كَيْفَ: اسْمٌ، ودُخُولُ حَرْفِ الجَرِّ عَلَيْها شاذٌّ، وأكْثَرُ ما تُسْتَعْمَلُ اسْتِفْهامًا، والشَّرْطُ بِها قَلِيلٌ، والجَزْمُ بِها غَيْرُ مَسْمُوعٍ مِنَ العَرَبِ، فَلا نُجِيزُهُ قِياسًا، خِلافًا لِلْكُوفِيِّينَ وقُطْرُبٍ، وقَدْ ذُكِرَ خِلافٌ فِيها: أهِيَ ظَرْفٌ أمِ اسْمٌ غَيْرُ ظَرْفٍ ؟ والأوَّلُ عَزَوْهُ إلى سِيبَوَيْهِ، (p-١٢٠)والثّانِي إلى الأخْفَشِ والصَّيْرافِيِّ، والبَدَلُ مِنها والجَوابُ إذا كانَتْ مَعَ فِعْلٍ مُسْتَغْنٍ مَنصُوبانِ، ومَعَ ما لا يُسْتَغْنى مَرْفُوعٌ إنْ كانَ مُبْتَدَأً، ومَنصُوبٌ إنْ كانَ ناسِخًا. أمْواتًا: جَمْعُ مَيِّتٍ، وهو أيْضًا جُمَعُ مَيْتَةٍ، وجَمْعُهُما عَلى أفْعالٍ شُذُوذٍ، والقِياسُ في فَيْعَلٍ إذا كُسِرَ فَعائِلٍ. الِاسْتِواءُ: الِاعْتِدالُ والِاسْتِقامَةُ، اسْتَوى العُودُ وغَيْرُهُ: إذا اسْتَقامَ واعْتَدَلَ، ثُمَّ قِيلَ: اسْتَوى إلَيْهِ كالسَّهْمِ المُرْسَلِ، إذا قَصَدَهُ قَصْدًا مُسْتَوِيًا مِن غَيْرِ أنْ يَلْوِيَ عَلى شَيْءٍ، والتَّسْوِيَةُ: التَّقْوِيمُ والتَّعْدِيلُ. * * * ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأمّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أنَّهُ الحَقُّ مِن رَبِّهِمْ وأمّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أرادَ اللَّهُ بِهَذا مَثَلًا﴾ الآياتِ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ والحَسَنُ وقَتادَةُ ومُقاتِلٌ والفَرّاءُ: نَزَلَتْ في اليَهُودِ لَمّا ضَرَبَ اللَّهُ - تَعالى - الأمْثالَ في كِتابِهِ بِالعَنْكَبُوتِ، والذُّبابِ، والتُّرابِ، والحِجارَةِ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِمّا يُسْتَحْقَرُ ويُطْرَحُ. قالُوا: إنَّ اللَّهَ أعَزُّ وأعْظَمُ مِن أنْ يَضْرِبَ الأمْثالَ بِمِثْلِ هَذِهِ المُحَقَّراتِ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ الآيَةِ. وقالَ الحَسَنُ ومُجاهِدٌ والسُّدِّيُّ وغَيْرُهم: نَزَلَتْ في المُنافِقِينَ، قالُوا: لَمّا ضَرَبَ اللَّهُ - تَعالى - المَثَلَ بِالمُسْتَوْقِدِ والصَّيِّبِ قالُوا: اللَّهُ أعْلى وأعْظَمُ أنْ يَضْرِبَ الأمْثالَ بِمِثْلِ هَذِهِ الأشْياءِ الَّتِي لا بالَ بِها، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ الآيَةِ، وقِيلَ: نَزَلَتْ في المُشْرِكِينَ، والكُلُّ مُحْتَمَلٌ، إذِ اشْتَمَلَتْ عَلى نَقْضِ العَهْدِ، وهو مِن صِفَةِ اليَهُودِ؛ لِأنَّ الخِطابَ بِوَفاءِ العَهْدِ إنَّما هو لِبَنِي إسْرائِيلَ، وعَلى الكافِرِينَ ﴿والَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ [الأنفال: ٤٩]، وهُمُ المُشْرِكُونَ والمُنافِقُونَ، وكُلُّهم كانُوا في إيذائِهِ مُتَوافِقِينَ. وقَدْ نَصَّ مِن أوَّلِ السُّورَةِ إلى هُنا ذِكْرَ ثَلاثِ طَوائِفَ، وكُلُّهم مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، قالَهُ القَفّالُ، قالَ: ويَجُوزُ أنْ يَنْزِلَ ذَلِكَ ابْتِداءً مِن غَيْرِ سَبَبٍ. وقالَ الرَّبِيعُ بْنُ أنَسٍ: هَذا مَثَلٌ ضَرْبَهُ اللَّهُ - تَعالى - لِلدُّنْيا وأهْلِها، وأنَّ البَعُوضَةَ تَحْيا ما جاعَتْ، فَإذا شَبِعَتْ وامْتَلَأتْ ماتَتْ. كَذَلِكَ مَثَلُ أهْلِ الدُّنْيا إذا امْتَلَئُوا مِنها كانَ سَبَبًا لِهَلاكِهِمْ، وقِيلَ: ضَرَبَ ذَلِكَ تَعالى مَثَلًا لِأعْمالِ العِبادِ أنَّهُ لا يَمْتَنِعُ أنْ يَذْكُرَ ما قَلَّ مِنها أوْ كَثُرَ لِيُجازِيَ عَلَيْها ثَوابًا أوْ عِقابًا، والأظْهَرُ في سَبَبِ النُّزُولِ القَوْلانِ الأوَّلانِ. ومُناسَبَةُ هَذِهِ الآيَةِ ظاهِرَةٌ، إذْ قَدْ جَرى قَبْلَ ذِكْرِ المَثَلِ بِالمُسْتَوْقِدِ والصَّيِّبِ، ونَزَلَ التَّمْثِيلُ بِالعَنْكَبُوتِ والذُّبابِ، فَأنْكَرَ ذَلِكَ الجَهَلَةُ وأهْلُ العِنادِ، واسْتَغْرَبُوا ما لَيْسَ بِمُسْتَغْرَبٍ ولا مُنْكَرٍ، إذِ التَّمْثِيلُ يَكْشِفُ المَعْنى ويُوَضِّحُ المَطْلُوبَ. وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ في فائِدَتِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿مَثَلُهم كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نارًا﴾ [البقرة: ١٧]، والعاقِلُ إذا سَمِعَ التَّمْثِيلَ اسْتَبانَ لَهُ بِهِ الحَقُّ، وما زالَ النّاسُ يَضْرِبُونَ الأمْثالَ بِالبَهائِمِ والطُّيُورِ والأجْناسِ والحَشَراتِ والهَوامِّ، ولِسانُ العَرَبِ مَلْآنُ مِن ذَلِكَ، ألا تَرى إلى قَوْلِ الشّاعِرِ: ؎وإنِّي لَألْقى مِن ذَوِي الضِّغْنِ مِنهُمُ وما أصْبَحَتْ تَشْكُو مِنَ الوَجْدِ ساهِرَهُ ؎كَما لَقِيَتْ ذاتُ الصَّفا مِن حَلِيفِها ∗∗∗ وما انْفَكَّتِ الأمْثالُ في النّاسِ سائِرَهُ فَذَكَرَ قِصَّةَ ذاتِ الصَّفا، وهي حَيَّةٌ كانَتْ قَدْ قُتِلَتْ قُرابَةَ حَلِيفِها، فَتَواثَقا بِاللَّهِ عَلى أنَّها فِدى ذَلِكَ القَتِيلِ ولا تُؤْذِيها، إلى آخِرِ القِصَّةِ المَذْكُورَةِ في ذَلِكَ الشِّعْرِ. والأمْثالُ مَضْرُوبَةٌ في الإنْجِيلِ بِالأشْياءِ الحَقِيرَةِ كالنُّخالَةِ والدُّودِ والزَّنابِيرِ. وكَذَلِكَ أيْضًا قَرَأْتُ أمْثالًا في الزَّبُورِ. فَإنْكارُ ضَرْبِ الأمْثالِ جَهالَةٌ مُفْرِطَةٌ أوْ مُكابَرَةٌ واضِحَةٌ، ومَساقُ هَذِهِ الجُمْلَةِ مُصَدَّرَةٌ بِأنْ يَدُلَّ عَلى التَّوْكِيدِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: يَسْتَحْيِي بِياءَيْنِ، والماضِي: اسْتَحْيا، وهي لُغَةُ أهْلِ الحِجازِ، واسْتَفْعَلَ هُنا جاءَ لِلْإغْناءِ عَنِ الثُّلاثِيِّ المُجَرَّدِ: كاسْتَنْكَفَ، واسْتَأْثَرَ، واسْتَبَدَّ، واسْتَعْبَرَ، وهو مِنَ المَعانِي الَّتِي جاءَ لَها اسْتَفْعَلَ. وقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُها عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: ٥]، وهَذا هُنا مِنَ الحَياءِ. وفي كَلامِ الزَّمَخْشَرِيِّ ما يَدُلُّ عَلى أنِ اسْتَحْيا لَيْسَ مُغْنِيًا عَنِ المُجَرَّدِ بَلْ هو مُوافِقٌ لِلْمُجَرَّدِ، وهو أحَدُ المَعانِي أيْضًا الَّذِي جاءَ لَها اسْتَفْعَلَ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُقالُ حَيِيَ (p-١٢١)الرَّجُلُ كَما يُقالُ: نَسِيَ وخَشِيَ وشَظِيَ الفَرَسُ، إذا اعْتَلَتْ هَذِهِ الأعْضاءُ، جُعِلَ الحَيِيُّ لِما يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الِانْكِسارِ والتَّغَيُّرِ مُنْكَسِرُ القُوَّةِ مُنْتَقِضُ الحَياةِ، كَما قالُوا: فُلانٌ هَلَكَ حَياءً مِن كَذا، وماتَ حَياءً، ورَأيْتُ الهِلالَ في وجْهِهِ مِن شِدَّةِ الحَياءِ، وذابَ حَياءً، وجَمُدَ في مَكانِهِ خَجَلًا، انْتَهى كَلامُهُ. فَظاهِرُهُ أنَّهُ يُقالُ: مِنَ الحَياءِ حَيِيَ الرَّجُلُ، فَيَكُونُ اسْتَحْيا عَلى ذَلِكَ مُوافِقًا لِلْمُجَرَّدِ، وعَلى ما نَقَلْناهُ قَبْلُ يَكُونُ مُغْنِيًا عَنِ المُجَرَّدِ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ في رِوايَةِ شِبْلٍ، وابْنُ مُحَيْصِنٍ، ويَعْقُوبُ: يَسْتَحِي بِياءٍ واحِدَةٍ، وهي لُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ، يُجْرُونَها مَجْرى يَسْتَبِي، قالَ الشّاعِرُ: ؎ألا تَسْتَحِي مِنّا مُلُوكٌ وتَتَّقِي ∗∗∗ مَحارِمُنا لا يَبُوءُ الدَّمُ بِالدَّمِ والماضِي: اسْتَحى، قالَ الشّاعِرُ: ؎إذا ما اسْتَجَبْنَ الماءَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ ∗∗∗ كَرِعْنَ بِسَبْتٍ في إناءٍ مِنَ الوَرْدِ واخْتَلَفَ النُّحاةُ في المَحْذُوفَةِ، فَقِيلَ: لامُ الكَلِمَةِ، فالوَزْنُ يَسْتَفِعُ، فَنُقِلَتْ حَرَكَةُ العَيْنِ إلى الفاءِ وسَكَنَتِ العَيْنُ فَصارَتْ يَسْتَفِعُ. وقِيلَ: المَحْذُوفُ العَيْنُ، فالوَزْنُ يَسْتَيْفِلُ ثُمَّ نُقِلَتْ حَرَكَةُ اللّامِ إلى الفاءِ وسَكَنَتِ اللّامُ فَصارَتْ يَسْتَفِلُ. وأكْثَرُ نُصُوصِ الأئِمَّةِ عَلى أنَّ المَحْذُوفَ هو العَيْنُ. وقَدْ تَكَلَّمْنا عَلى هَذِهِ المَسْألَةِ في كِتابِ (التَّكْمِيلِ لِشَرْحِ التَّسْهِيلِ) مِن تَأْلِيفِنا، ولَيْسَ هَذا الحَذْفُ مُخْتَصًّا بِالماضِي والمُضارِعِ، بَلْ يَكُونُ أيْضًا في سائِرِ التَّصَرُّفاتِ، كاسْمِ الفاعِلِ واسْمِ المَفْعُولِ وغَيْرِ ذَلِكَ. وهَذا الفِعْلُ مِمّا نَقَلُوا أنَّهُ يَكُونُ مُتَعَدِّيًا بِنَفْسِهِ، ويَكُونُ مُتَعَدِّيًا بِحَرْفِ جَرٍّ، يُقالُ: اسْتَحْيَيْتُهُ واسْتَحْيَيْتُ مِنهُ. فَعَلى هَذا يُحْتَمَلُ ﴿أنْ يَضْرِبَ﴾ أنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِهِ عَلى أنْ يَكُونَ الفِعْلُ تَعَدّى إلَيْهِ بِنَفْسِهِ، أوْ تَعَدّى إلَيْهِ عَلى إسْقاطِ حَرْفِ الجَرِّ. وفي ذَلِكَ الخِلافِ الَّذِي ذَكَرْناهُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أنَّ لَهم جَنّاتٍ﴾ [البقرة: ٢٥]، أذَلِكَ في مَوْضِعِ نَصْبٍ بَعْدَ حَذْفِ حَرْفِ الجَرِّ أمْ في مَوْضِعِ جَرٍّ ؟ . واخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ في مَعْنى الِاسْتِحْياءِ المَنسُوبِ إلى اللَّهِ - تَعالى - نَفْيُهُ، فَقِيلَ: المَعْنى لا يَتْرُكُ، فَعَبَّرَ بِالحَياءِ عَنِ التَّرْكِ، قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وغَيْرُهُ؛ لِأنَّ التَّرْكَ مِن ثَمَراتِ الحَياءِ؛ لِأنَّ الإنْسانَ إذا اسْتَحْيا مِن فِعْلِ شَيْءٍ تَرَكَهُ، فَيَكُونُ مِن بابِ تَسْمِيَةِ المُسَبَّبِ بِاسْمِ السَّبَبِ. وقِيلَ: المَعْنى لا يَخْشى، وسُمِّيَتِ الخَشْيَةُ حَياءً لِأنَّها مِن ثَمَراتِهِ، ورَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ. وقَدْ قِيلَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وتَخْشى النّاسَ﴾ [الأحزاب: ٣٧]، أنَّ مَعْناهُ تَسْتَحِي مِنَ النّاسِ. وقِيلَ: المَعْنى لا يَمْتَنِعُ. وكُلُّ هَذِهِ الأقْوالِ مُتَقارِبَةٌ مِن حَيْثُ المَعْنى، يَجُوزُ أنْ يُوصَفَ اللَّهُ - تَعالى - بِها، وهَذِهِ التَّأْوِيلاتُ هي عَلى مَذْهَبِ مَن يَرى التَّأْوِيلَ في الأشْياءِ الَّتِي مَوْضُوعُها في اللُّغَةِ لا يَنْبَغِي أنْ يُوصَفَ اللَّهُ - تَعالى - بِهِ، وقِيلَ: يَنْبَغِي أنْ تَمُرَّ عَلى ما جاءَتْ، ونُؤْمِنُ بِها ولا نَتَأوَّلُها ونَكِلُ عِلْمَها إلَيْهِ تَعالى؛ لِأنَّ صِفاتَهُ تَعالى لا يَطَّلِعُ عَلى ماهِيَّتِها الخَلْقُ. والَّذِي عَلَيْهِ أكْثَرُ أهْلِ العِلْمِ أنَّ اللَّهَ - تَعالى - خاطَبَنا بِلِسانِ العَرَبِ، وفِيهِ الحَقِيقَةُ والمَجازُ، فَما صَحَّ في العَقْلِ نِسْبَتُهُ إلَيْهِ نَسَبْناهُ إلَيْهِ، وما اسْتَحالَ أوَّلْناهُ بِما يَلِيقُ بِهِ تَعالى، كَما نُؤَوِّلُ فِيما يُنْسَبُ إلى غَيْرِهِ مِمّا لا يَصِحُّ نِسْبَتُهُ إلَيْهِ، والحَياءُ بِمَوْضُوعِ اللُّغَةِ لا يَصِحُّ نِسْبَتُهُ إلى اللَّهِ - تَعالى - فَلِذَلِكَ أوَّلَهُ أهْلُ العِلْمِ، وقَدْ جاءَ مَنسُوبًا إلى اللَّهِ مُثْبَتًا فِيما رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنَّهُ قالَ: «إنَّ اللَّهَ حَيِيٌ كَرِيمٌ يَسْتَحِي إذا رَفَعَ إلَيْهِ العَبْدُ يَدَيْهِ أنْ يَرُدَّهُما صِفْرًا حَتّى يَضَعَ فِيهِما خَيْرًا»، وأُوِّلَ بِأنَّ هَذا جارٍ عَلى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ مِثْلُ تَرْكِهِ تَخْيِيبِ العَبْدِ مِن عَطائِهِ لِكَرَمِهِ بِتَرْكِ مَن تَرَكَ رَدَّ المُحْتاجَ إلَيْهِ حَياءً مِنهُ، وقَدْ يَجُوزُ أيْضًا في الِاسْتِحْياءِ، فَنُسِبَ إلى ما لا يَصِحُّ مِنهُ بِحالٍ، كالبَيْتِ الَّذِي أنْشَدْناهُ قَبْلُ وهو: ؎إذا ما اسْتَجَبْنَ الماءَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ قالَ أبُو تَمّامٍ: ؎هُوَ اللَّيْثُ لَيْثُ الغابِ بَأْسًا ونَجْدَةً ∗∗∗ وإنْ كانَ أحْيا مِنهُ وجْهًا وأكْرَما ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا يَسْتَحْيِي﴾ عَلى سَبِيلِ المُقابَلَةِ؛ لِأنَّهُ رُوِيَ أنَّ الكُفّارَ قالُوا: ما يَسْتَحِي رَبُّ (p-١٢٢)مُحَمَّدٍ أنْ يَضْرِبَ الأمْثالَ بِالذُّبابِ والعَنْكَبُوتِ، ومَجِيءُ الشَّيْءِ عَلى سَبِيلِ المُقابَلَةِ وإنْ لَمْ يَكُنْ مِن جِنْسِ ما قُوبِلَ بِهِ، شائِعٌ في لِسانِ العَرَبِ، ومِنهُ: ﴿وجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها﴾ [الشورى: ٤٠]، وجاءَ ذِكْرُ الِاسْتِحْياءِ مَنفِيًّا عَنِ اللَّهِ - تَعالى - وإنْ كانَ إثْباتُهُ بِمَوْضُوعِ اللُّغَةِ لا يَصِحُّ نِسْبَتُهُ إلى اللَّهِ - تَعالى - فَكُلُّ أمْرٍ مُسْتَحِيلٍ عَلى اللَّهِ - تَعالى - إثْباتُهُ يَصِحُّ أنْ يُنْفى عَنِ اللَّهِ - تَعالى - وبِذَلِكَ نَزَلَ القُرْآنُ وجاءَتِ السُّنَّةُ. ألا تَرى إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ ولا نَوْمٌ﴾ [البقرة: ٢٥٥]، ﴿لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدْ﴾ [الإخلاص: ٣]، ﴿ما اتَّخَذَ اللَّهُ مِن ولَدٍ﴾ [المؤمنون: ٩١]، ﴿وهُوَ يُطْعِمُ ولا يُطْعَمُ﴾ [الأنعام: ١٤] ؟ ونَقُولُ: اللَّهُ - تَعالى - لَيْسَ بِجِسْمٍ. فالإخْبارُ بِانْتِفاءِ هَذِهِ الأشْياءِ هو الصِّدْقُ المَحْضُ، ولَيْسَ انْتِفاءُ الشَّيْءِ مِمّا يَدُلُّ عَلى تَجْوِيزِهِ عَلى مَن نُفِيَ عَنْهُ، ولا صِحَّةُ نِسْبَتِهِ إلَيْهِ، كَما ذَهَبَ إلَيْهِ أبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ وغَيْرُهُ، زَعَمَ أنَّ ما لا يَجُوزُ عَلى اللَّهِ إثْباتًا يَجِبُ أنْ لا يُطْلَقَ عَلى طَرِيقِ النَّفْيِ، قالَ: فِيما ورَدَ مِن ذَلِكَ هو بِصُورَةِ النَّفْيِ ولَيْسَ بِنَفْيٍ عَلى الحَقِيقَةِ، وكَثْرَةِ ذَلِكَ، أعْنِي نَفْيَ الشَّيْءِ عَمّا لا يَصِحُّ إثْباتُهُ لَهُ، كَثِيرٌ في القُرْآنِ ولِسانِ العَرَبِ، بِحَيْثُ لا يُحْصَرُ ما ورَدَ مِن ذَلِكَ. ويَضْرِبُ: قِيلَ مَعْناهُ: يُبَيِّنُ، وقِيلَ: يَذْكُرُ، وقِيلَ: يَضَعُ، مَن ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ، وضُرِبَ البَعْثُ عَلى بَنِي فُلانٍ، ويَكُونُ يَضْرِبُ قَدْ تَعَدّى إلى واحِدٍ، وقِيلَ: يَضْرِبُ: في مَعْنى يَجْعَلُ ويَصِيرُ، كَما تَقُولُ: ضَرَبْتُ الطِّينَ لَبِنًا، وضَرَبْتُ الفِضَّةَ خاتَمًا. فَعَلى هَذا يَتَعَدّى لِاثْنَيْنِ، والأصَحُّ أنَّ ضَرَبَ لا يَكُونُ مِن بابِ ظَنَّ وأخَواتِها، فَيَتَعَدّى إلى اثْنَيْنِ، وبُطْلانُ هَذا المَذْهَبِ مَذْكُورٌ في كُتُبِ النَّحْوِ. وما: إذا نَصَبْتَ بَعُوضَةً زائِدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ أوْ صِفَةٌ لِلْمَثَلِ تَزِيدُ النَّكِرَةُ شَياعًا، كَما تَقُولُ: ائْتِنِي بِرَجُلٍ ما، أيْ أيُّ رَجُلٍ كانَ. وأجازَ الفَرّاءُ وثَعْلَبٌ والزَّجّاجُ: أنْ تَكُونَ ما نَكِرَةً، ويَنْتَصِبُ بَدَلًا مِن قَوْلِهِ: مَثَلًا. وقَرَأ الجُمْهُورُ: بِنَصْبِ بَعُوضَةً. واخْتُلِفَ في تَوْجِيهِ النَّصْبِ عَلى وُجُوهٍ، أحَدُها: أنْ تَكُونَ صِفَةً لِما، إذا جَعَلْنا ما بَدَلًا مِن مَثَلًا، ومَثَلًا مَفْعُولٌ بِيَضْرِبُ، وتَكُونُ ما إذْ ذاكَ قَدْ وُصِفَتْ بِاسْمِ الجِنْسِ المُتَنَكِّرِ لِإبْهامِ ما، وهو قَوْلُ الفَرّاءِ. الثّانِي: أنْ تَكُونَ بَعُوضَةً عَطْفُ بَيانٍ، ومَثَلًا مَفْعُولٌ بِيَضْرِبَ. الثّالِثُ: أنْ تَكُونَ بَدَلًا مِن مَثَلَ. الرّابِعُ: أنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لِيَضْرِبَ، وانْتَصَبَ مَثَلًا حالًا مِنَ النَّكِرَةِ مُقَدَّمَةٌ عَلَيْها. والخامِسُ: أنْ تَكُونَ مَفْعُولًا لِيَضْرِبَ ثانِيًا، والأوَّلُ هو المَثَلُ عَلى أنَّ ”يَضْرِبَ“ يَتَعَدّى إلى اثْنَيْنِ. والسّادِسُ: أنْ تَكُونَ مَفْعُولًا أوَّلَ لِيَضْرِبَ، ومَثَلًا المَفْعُولُ الثّانِي. والسّابِعُ: أنْ تَكُونَ مَنصُوبًا عَلى تَقْدِيرِ إسْقاطِ الجارِّ، والمَعْنى: أنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَيْنَ بَعُوضَةٍ فَما فَوْقَها، وحَكَوْا: لَهُ عِشْرُونَ ما ناقَةً فَجَمَلًا، ونَسَبَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ لِبَعْضِ الكُوفِيِّينَ، ونَسَبَهُ المَهْدَوِيُّ لِلْكُوفِيِّينَ، ونَسَبَهُ غَيْرُهُما لِلْكِسائِيِّ والفَرّاءِ، ويَكُونُ: مَثَلًا مَفْعُولًا بِيَضْرِبُ عَلى هَذا الوَجْهِ، وأنْكَرَ هَذا النَّصْبَ، أعْنِي نَصْبَ بَعُوضَةٍ عَلى هَذا الوَجْهِ، أبُو العَبّاسِ. وتَحْرِيرُ نَقْلِ هَذا المَذْهَبِ: أنَّ الكُوفِيِّينَ يَزْعُمُونَ أنَّ ما تَكُونُ جَزاءً في الأصْلِ وتُحَوُّلُ إلى لَفْظِ الَّذِي، فَيَنْتَصِبُ ما بَعْدَها، سَواءٌ كانَ نَكِرَةً أمْ غَيْرَ نَكِرَةٍ، ويُعْطَفُ عَلَيْهِ بِالفاءِ فَقَطْ، وتَلْزَمُ ولا يَصْلُحُ مَكانَها الواوُ، ولا ثُمَّ، ولا أوْ، ولا لا، ويَجْعَلُونَ النَّصْبَ في ذَلِكَ الِاسْمِ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، وهو بَيْنَ، فَلَمّا حَذَفَ بَيْنَ، قامَ هَذا مَقامَهُ في الإعْرابِ. ويُقَدِّرُونَ الفاءَ بِإلى، وقَدْ جاءَ التَّصْرِيحُ بِها في بَعْضِ المَواضِعِ. حَكى الكِسائِيُّ عَنِ العَرَبِ: مُطِرْنا ما زُبالَةٍ فالثَّعْلَبِيَّةُ، وما مَنصُوبَةٌ بِمُطِرْنا. وحَكى الكِسائِيُّ والفَرّاءُ عَنِ العَرَبِ: هي أحْسَنُ النّاسِ ما قَرْنًا، وانْتِصابُ ما في هَذِهِ المَسْألَةِ عَلى التَّفْسِيرِ، وتَقُولُ: هي حَسَنَةٌ ما قَرَنَها إلى قَدَمِها. قالَ الفَرّاءُ: أنْشَدَنا أعْرابِيٌّ مِن بَنِي سُلَيْمٍ: ؎يا أحْسَنَ النّاسِ ما قَرْنًا إلى قَدَمٍ ∗∗∗ ولا حِبالِ مُحِبٍّ واصِلٍ تَصِلِ وقالَ الكِسائِيُّ: سَمِعْتُ أعْرابِيًّا نَظَرَ إلى الهِلالِ فَقالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ ما إهْلالُكَ إلى سِرارِكَ، وحَكى الفَرّاءُ عَنِ العَرَبِ: الشَّنْقُ ما خُمّا فَعِشْرِينَ. والمَعْنى فِيما تَقَدَّمَ ما بَيْنَ كَذا إلى كَذا، وما في هَذا المَعْنى لا تَسْقُطُ، فَخَطَأٌ (p-١٢٣)أنْ يَقُولَ: مُطِرْنا زُبالَةً فالثَّعْلَبِيَّةُ. وهَذا الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ الكُوفِيُّونَ لا يَعْرِفُهُ البَصْرِيُّونَ، ورَدُّهُ إلى قَواعِدِ البَصْرِيِّينَ مَذْكُورٌ في غَيْرِ هَذا، والَّذِي نَخْتارُهُ مِن هَذِهِ الأعارِيبِ أنَّ ضَرَبَ يَتَعَدّى إلى اثْنَيْنِ هو الصَّحِيحُ، وذَلِكَ لِواحِدٍ هو مَثَلًا لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ضُرِبَ مَثَلٌ﴾ [الحج: ٧٣]، ولِأنَّهُ المُقَدَّمُ في التَّرْكِيبِ، وصالِحٌ لِأنْ يَنْتَصِبَ بِيَضْرِبَ. وما: صِفَةٌ تَزِيدُ النَّكِرَةَ شَياعًا؛ لِأنَّ زِيادَتَها في هَذا المَوْضِعِ لا تَنْقاسُ. وبَعُوضَةً: بَدَلٌ لِأنَّ عَطْفَ البَيانِ مَذْهَبُ الجُمْهُورِ فِيهِ أنَّهُ لا يَكُونُ في النَّكِراتِ، إنَّما ذَهَبَ إلى ذَلِكَ الفارِسِيُّ، ولِأنَّ الصِّفَةَ بِأسْماءِ الأجْناسِ لا تَنْقاسُ. وقَرَأ الضَّحّاكُ وإبْراهِيمُ بْنُ أبِي عَبْلَةَ ورُؤْبَةُ بْنُ العَجّاجِ وقُطْرُبٌ: بَعُوضَةٌ بِالرَّفْعِ، واتَّفَقَ المُعْرِبُونَ عَلى أنَّهُ خَبَرٌ، ولَكِنِ اخْتَلَفُوا فِيما يَكُونُ عَنْهُ خَبَرًا، فَقِيلَ: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ هو بَعُوضَةٌ، وفي هَذا وجْهانِ، أحَدُهُما: أنَّ هَذِهِ الجُمْلَةَ صِلَةٌ لِما، وما مَوْصُولَةٌ بِمَعْنى الَّذِي، وحَذْفُ هَذا العائِدِ، وهَذا الإعْرابُ لا يَصِحُّ إلّا عَلى مَذْهَبِ الكُوفِيِّينَ، حَيْثُ لَمْ يَشْتَرِطُوا في جَوازِ حَذْفِ هَذا الضَّمِيرِ طُولَ الصِّلَةِ، وأمّا البَصْرِيُّونَ فَإنَّهُمُ اشْتَرَطُوا ذَلِكَ في غَيْرِ أيٍّ مِنَ المَوْصُولاتِ، وعَلى مَذْهَبِهِمْ تَكُونُ هَذِهِ القِراءَةُ عَلى هَذا التَّخْرِيجِ شاذَّةٌ، ويَكُونُ إعْرابُ ما عَلى هَذا التَّخْرِيجِ بَدَلًا، التَّقْدِيرُ: مَثَلًا الَّذِي هو بَعُوضَةٌ. والوَجْهُ الثّانِي: أنْ تَكُونَ ما زائِدَةٌ أوْ صِفَةٌ وهو بَعُوضَةٌ وما بَعْدَهُ جُمْلَةٌ، كالتَّفْسِيرِ لِما انْطَوى عَلَيْهِ الكَلامُ السّابِقُ، وقِيلَ: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَلْفُوظٌ بِهِ وهو ما، عَلى أنْ تَكُونَ اسْتِفْهامِيَّةً. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، لَمّا اسْتَنْكَفُوا مِن تَمْثِيلِ اللَّهِ لِأصْنامِهِمْ بِالمُحَقَّراتِ قالَ: إنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أنْ يَضْرِبَ لِلْأنْدادِ ما شاءَ مِنَ الأشْياءِ المُحَقَّرَةِ بَلْهَ فَما فَوْقَها، كَما يُقالُ: فُلانٌ لا يُبالِي بِما وهَبَ ما دِينارٌ ودِينارانِ، والمُخْتارُ الوَجْهُ الثّانِي لِسُهُولَةِ تَخْرِيجِهِ؛ لِأنَّ الوَجْهَ الأوَّلَ لا يَجُوزُ فَصِيحًا عَلى مَذْهَبِ البَصْرِيِّينَ، والثّانِي فِيهِ غَرابَةٌ واسْتِبْعادٌ عَنْ مَعْنى الِاسْتِفْهامِ، و”ما“ مِن قَوْلِهِ: فَما مَعْطُوفَةٌ عَلى قَوْلِهِ بَعُوضَةً إنْ نَصَبْنا ما مَوْصُولَةٌ وصِلَتُها الظَّرْفُ، أوْ مَوْصُوفَةٌ وصِفَتُها الظَّرْفُ، والمَوْصُوفَةُ أرْجَحُ. وإنْ رَفَعْنا بَعُوضَةً، وكانَتْ ما مَوْصُولَةً فَعَطَفَ ما الثّانِيَةَ عَلَيْها أوِ اسْتِفْهامًا، فَذَلِكَ مِن عَطْفِ الجُمَلِ، أوْ كانَتِ البَعُوضَةُ خَبَرًا لِهو مَحْذُوفَةً، وما زائِدَةٌ، أوْ صِفَةٌ فَعَطَفَ عَلى البَعُوضَةِ، إمّا مَوْصُولَةٌ أوْ مَوْصُوفَةٌ، وما فَوْقَها الظّاهِرُ أنَّهُ يَعْنِي في الحَجْمِ كالذُّبابِ والعَنْكَبُوتِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ: ويَكُونُ ذِكْرُ البَعُوضَةِ تَنْبِيهًا عَلى الصِّغَرِ، وما فَوْقَها تَنْبِيهًا عَلى الكِبَرِ، وبِهِ قالَ أيْضًا قَتادَةُ وابْنُ جُرَيْجٍ، وقِيلَ: المَعْنى فَما فَوْقَها في الصِّغَرِ، أيْ وما يَزِيدُ عَلَيْها في الصِّغَرِ، كَما تَقُولُ: فُلانٌ أنْذَلُ النّاسِ، فَيُقالُ لَكَ: هو فَوْقَ ذَلِكَ، أيْ أبْلَغَ وأعْرَقَ في النَّذالَةِ، قالَهُ أبُو عُبَيْدَةَ والكِسائِيُّ. وقالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: فَوْقَ مَنِ الأضْدادِ يَنْطَلِقُ عَلى الأكْثَرِ والأقَلِّ، فَعَلى قَوْلِ مَن قالَ بِأنَّ اللَّفْظَ المُشْتَرَكَ يُحْمَلُ عَلى مَعانِيهِ، يَكُونُ دَلالَةً عَلى ما هو أصْغَرُ مِنَ البَعُوضَةِ وما هو أكْبَرُ. وقِيلَ: أرادَ ما فَوْقَها وما دُونَها، فاكْتَفى بِأحَدِ الشَّيْئَيْنِ عَنِ الآخَرِ لِدَلالَةِ المَعْنى عَلَيْها، كَما اكْتَفى في قَوْلِهِ: ﴿سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الحَرَّ﴾ [النحل: ٨١] عَنْ قَوْلِهِ: والبَرْدَ، ورُجِّحَ القَوْلُ بِالفَوْقِيَّةِ في الصِّغَرِ بِأنَّ المَقْصُودَ مِنَ التَّمْثِيلِ تَحْقِيرُ الأوْثانِ، وكُلَّما كانَ المُشَبَّهُ بِهِ أشَدَّ حَقارَةً كانَ المَقْصُودُ مِن هَذا البابِ أكْمَلَ، وبِأنَّ الغَرَضَ هُنا أنَّ اللَّهَ لا يَمْتَنِعُ عَنِ التَّمْثِيلِ بِالشَّيْءِ الحَقِيرِ، وبِأنَّ الشَّيْءَ كُلَّما كانَ أصْغَرُ كانَ الِاطِّلاعُ عَلى أسْرارِهِ أصْعَبَ. فَإذا كانَ في نِهايَةِ الصِّغَرِ لَمْ يُحِطْ بِهِ إلّا عِلْمُ اللَّهِ سُبْحانَهُ، فَكانَ التَّمْثِيلُ بِهِ أقْوى في الدَّلالَةِ عَلى كَمالِ الحِكْمَةِ مِنَ التَّمْثِيلِ بِالكَبِيرِ، والَّذِي نَخْتارُهُ القَوْلَ الأوَّلَ لِجَرَيانِ فَوْقَ عَلى مَشْهُورِ ما اسْتَقَرَّ فِيها في اللُّغَةِ، وفي المَعْنى الَّذِي أسْنَدَ اللَّهُ إلَيْهِ عَدَمُ الِاسْتِحْياءِ مِن أجْلِهِ في ضَرْبِ المَثَلِ بِهَذِهِ المُصَغَّراتِ والمُسْتَضْعَفاتِ وُجُوهٌ، أحَدُها: أنَّ البَعُوضَةَ قَدْ أوْجَدَها عَلى الغايَةِ القُصْوى مِنَ الإحْكامِ وحُسْنِ التَّأْلِيفِ والنِّظامِ، وأظْهَرَ فِيها مَعَ صِغَرِ حَجْمِها مِن بَدائِعِ الحِكْمَةِ كَمِثْلِ ما أظْهَرَهُ في الفِيلِ الَّذِي هو في غايَةِ الكِبَرِ وعِظَمِ الخِلْقَةِ. وإذا كُلُّ واحِدٍ مِنهُما قَدْ (p-١٢٤)اسْتَوْفى نِصابَ حُسْنِ الصَّنْعَةِ وبَدائِعِ التَّأْلِيفِ والصَّنْعَةِ، فَضَرْبُ المَثَلِ بِالصَّغِيرِ والكَبِيرِ سِيّانِ عِنْدَهُ إذا كانا في تَوْفِيَةِ الحِكْمَةِ سَواءً. الثّانِي: أنَّ البَعُوضَةَ لَمّا كانَتْ مِن أصْغَرِ ما خَلَقَ اللَّهُ - تَعالى - خَصَّها بِالذِّكْرِ في القِلَّةِ، فَلا يَسْتَحِي أنْ يَضْرِبَ المَثَلَ في الشَّيْءِ الكَبِيرِ بِالكَبِيرِ والحَقِيرِ بِالحَقِيرِ، ولَهُ المَثَلُ الأعْلى في ضَرْبِ الأمْثالِ. الثّالِثُ: أنَّ في البَعُوضَةِ، مَعَ صِغَرِ حَجْمِها وضَعْفِ بُنْيانِها، مِن حُسْنِ التَّأْلِيفِ ودَقِيقِ الصُّنْعِ، مِنِ اخْتِصارِ الخَصْرِ ودِقَّةِ الخُرْطُومِ ولَطِيفِ تَكْوِينِ الأعْضاءِ ولِينِ البَشَرَةِ، ما يُعْجِزُ أنْ يُحاطَ بِوَصْفِهِ، وهي مَعَ ذَلِكَ تَبْضَعُ بِشَوْكَةِ خُرْطُومِها، مَعَ لِينِها، جِلْدَ الجامُوسِ والفِيلِ، وتَهْتَدِي إلى مُراقِ البَشَرَةِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، فَلا يَسْتَحْيِي اللَّهُ - تَعالى - أنْ يَضْرِبَ بِها المَثَلَ، إذْ لَيْسَ في وُسْعِ أحَدٍ مِنَ البَشَرِ أنْ يَخْلُقَ مِثْلَها ولا أقَلَّ مِنها، كَما قالَ تَعالى: ﴿لَنْ يَخْلُقُوا ذُبابًا ولَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ﴾ [الحج: ٧٣] . الرّابِعُ: أنَّ المَثَلَ بِالذُّبابِ والبَعُوضِ والعَنْكَبُوتِ، وما يَجْرِي مَجْراهُ، أتى بِهِ تَعالى في غايَةِ ما يَكُونُ مِنَ التَّمْثِيلِ، وأحْسَنُ ما يَكُونُ مِنَ التَّشْبِيهِ؛ لِأنَّ الَّذِي جَعَلَها مَثَلًا لَهم في غايَةِ ما يَكُونُ مِنَ الحَقارَةِ، وضَعْفِ القُوَّةِ، وخِسَّةِ الذّاتِ والفِعْلِ، فَلَوْ شَبَّهَهم بِغَيْرِ ذَلِكَ ما حَسُنَ مَوْقِعُ التَّشْبِيهِ، ولا عَذُبَ مَذاقُ التَّمْثِيلِ، إذِ الشَّيْءُ لا يُشَبَّهُ إلّا بِما يُماثِلُهُ ويُشاكِلُهُ، ومَن أتى بِالشَّيْءِ عَلى وجْهِهِ فَلا يَسْتَحَيا مِنهُ. وتَصْدِيرُ الجُمْلَتَيْنِ بِأمّا الَّتِي مَعْناها الشَّرْطُ مُشْعِرٌ بِالتَّوْكِيدِ، إذْ هي أبْلَغُ مِن: فالَّذِينَ آمَنُوا يَعْلَمُونَ، والَّذِينَ كَفَرُوا يَقُولُونَ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ أنَّ ما بَرَزَ في حَيِّزِ أمّا مِنَ الخَبَرِ كانَ واقِعًا لا مَحالَةَ، وما مُفِيدُ ذَلِكَ ومُثِيرُهُ إلّا تَرَتُّبُ الحُكْمِ عَلى مَعْنى الشَّرْطِ، والضَّمِيرُ في أنَّهُ عائِدٌ عَلى المَثَلِ، وقِيلَ: هو عائِدٌ عَلى المَصْدَرِ المَفْهُومِ مِن يَضْرِبُ كَأنَّهُ قالَ: فَيَعْلَمُونَ أنَّ ضَرْبَ المَثَلِ. وقِيلَ: هو عائِدٌ عَلى المَصْدَرِ المَفْهُومِ مَن لا يَسْتَحْيِي، أيْ فَيَعْلَمُونَ أنَّ انْتِفاءَ الِاسْتِحْياءِ مِن ذِكْرِ الحَقِّ، والأظْهَرُ الأوَّلُ لِدَلالَةِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ماذا أرادَ اللَّهُ بِهَذا مَثَلًا﴾ فَمَيَّزَ اللَّهُ - تَعالى - المُشارَ إلَيْهِ هُنا بِالمَثَلِ. والتَّقْسِيمُ ورَدَ عَلى شَيْءٍ واحِدٍ، فَظَهَرَ أنَّهُ عائِدٌ عَلى المَثَلِ، وأخْبَرَ عَنِ المُؤْمِنِينَ بِالعِلْمِ لِأنَّهُ الجَزْمُ المُطابِقُ لِدَلِيلٍ، وأخْبَرَ عَنِ الكافِرِينَ بِالقَوْلِ، وهو اللَّفْظُ الجارِي عَلى اللِّسانِ، وجَعَلَ مُتَعَلِّقَهُ الجُمْلَةَ الِاسْتِفْهامِيَّةَ الشّامِلَةَ لِلِاسْتِغْراقِ والِاسْتِبْعادِ والِاسْتِهْزاءِ، وهي قَوْلُهُ: ﴿ماذا أرادَ اللَّهُ﴾ . وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى أقْسامِ ماذا، وهي هاهُنا تَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ مِن تِلْكَ الأقْسامِ. أحَدُهُما: أنْ تَكُونَ ما اسْتِفْهامًا في مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِداءِ، وذا بِمَعْنى الَّذِي خَبَرٌ عَنْ ما. وأرادَ صِلَةً لِذا المَوْصُولَةِ والعائِدُ مَحْذُوفٌ، إذْ فِيهِ شُرُوطُ جَوازِ الحَذْفِ، والتَّقْدِيرُ ما الَّذِي أرادَهُ اللَّهُ. والثّانِي: أنْ تَكُونَ ماذا كُلُّها اسْتِفْهامًا، وتَرْكِيبُ ذا مَعَ ما، وتَكُونُ مَفْعُولًا بِإرادَةِ التَّقْدِيرِ، أيْ شَيْءٌ أرادَهُ اللَّهُ، وهَذانِ الوَجْهانِ فَصِيحانِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: واخْتَلَفَ النَّحْوِيُّونَ في ماذا، فَقِيلَ: هي بِمَنزِلَةِ اسْمٍ واحِدٍ بِمَعْنى أيُّ شَيْءٍ أرادَ اللَّهُ، وقِيلَ: ”ما“ اسْمٌ و”ذا“ اسْمٌ آخَرُ بِمَعْنى الَّذِي، ”فَما“ في مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِداءِ وذا خَبَرٌ. انْتَهى كَلامُ ابْنِ عَطِيَّةَ، وظاهِرُهُ اخْتِلافُ النَّحْوِيِّينَ في ماذا هُنا ولَيْسَ كَذَلِكَ، إذْ هُما وجْهانِ سائِغانِ فَصِيحانِ في لِسانِ العَرَبِ ولَيْسَتْ مَسْألَةَ خِلافٍ عِنْدِ النَّحْوِيِّينَ، بَلْ كُلُّ مَن شَدا طَرَفًا مِن عِلْمِ النَّحْوِ يُجَوِّزُ هَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ في ماذا هُنا، وكَذا كُلُّ مَن وقَفْنا عَلى كَلامِهِ مِنَ المُفَسِّرِينَ والمُعْرِبِينَ ذَكَرُوا الوَجْهَيْنِ في ماذا هُنا. والإرادَةُ بِالتَّفْسِيرِ اللُّغَوِيِّ وهي مَيْلُ القَلْبِ إلى الشَّيْءِ يَسْتَحِيلُ نِسْبَتُها إلى اللَّهِ - تَعالى - . قالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: الإرادَةُ ماهِيَّةٌ يَجِدُها العاقِلُ مِن نَفْسِهِ ويُدْرِكُ التَّفْرِقَةَ البَدِيهِيَّةَ بَيْنَها وبَيْنَ عِلْمِهِ وقُدْرَتِهِ ولَذَّتِهِ وألَمِهِ. وقالَ المُتَكَلِّمُونَ: إنَّها صِفَةٌ تَقْتَضِي رُجْحانَ طَرَفَيِ الجائِزِ عَلى الآخَرِ في الإيقاعِ، لا في الوُقُوعِ، واحْتَرَزَ بِهَذا القَيْدِ الأخِيرِ مِنَ القُدْرَةِ. وأهْلُ السُّنَّةِ يَعْتَقِدُونَ أنَّ اللَّهَ مُرِيدٌ بِإرادَةٍ واحِدَةٍ أزَلِيَّةٍ مَوْجُودَةٍ بِذاتِهِ، والقَدَرِيَّةُ المُعْتَزِلَةُ والنَّجّارِيَّةُ والجَهْمِيَّةُ وبَعْضُ الرّافِضَةِ نَفَوُا الصِّفاتِ الَّتِي أثْبَتَها أهْلُ السُّنَّةِ، والبَهْشَمِيَّةُ والبَصْرِيُّونَ مِنَ المُعْتَزِلَةِ يَقُولُونَ (p-١٢٥)بِحُدُوثِ إرادَةِ اللَّهِ تَعالى لا في مَحَلٍّ، والكَرّامِيَّةُ تَقُولُ بِحُدُوثِها فِيهِ تَعالى، وإنَّها إراداتٌ كَثِيرَةٌ، وأكْثَرُهم زَعَمُوا مَعَ القَوْلِ بِالحُدُوثِ أنَّهُ يَسْتَحِيلُ فِيها العَدَمُ، ومِنهم مَن قالَ: يَجُوزُ عَدَمُها، وهَذِهِ المَسْألَةُ يُبْحَثُ فِيها في أُصُولِ الدِّينِ وانْتِصابُ (مَثَلًا) عَلى التَّمْيِيزِ عِنْدَ البَصْرِيِّينَ، أيْ مِن مَثَلٍ، وأجازَ بَعْضُهم نَصْبَهُ عَلى الحالِ مِنِ اسْمِ الإشارَةِ، أيْ مُتَمَثِّلًا بِهِ، والعامِلُ فِيهِ اسْمُ الإشارَةِ، وهو كَقَوْلِكَ لِمَن حَمَلَ سِلاحًا رَدِيئًا: ماذا أرَدْتَ بِهَذا سِلاحًا، فَنَصْبُهُ مِن وجْهَيْنِ: التَّمْيِيزُ والحالُ مِنِ اسْمِ الإشارَةِ. وأجازَ بَعْضُهم أنْ يَكُونَ حالًا مِنَ اللَّهِ تَعالى، أيْ مُتَمَثِّلًا. وأجازَ الكُوفِيُّونَ أنَّ يَكُونَ مَنصُوبًا عَلى القَطْعِ. ومَعْنى هَذا أنَّهُ كانَ يَجُوزُ أنْ يُعْرَبَ بِإعْرابِ الِاسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ، فَإذا لَمْ تُتْبِعْهُ في الإعْرابِ وقَطَعْتَهُ عَنْهُ، نُصِبَ عَلى القَطْعِ، وجَعَلُوا مِن ذَلِكَ: ؎وعالَيْنَ قُنْوانًا مِنَ البُسْرِ أحْمَرا فَأحْمَرُ عِنْدَهم مِن صِفاتِ البُسْرِ، إلّا أنَّهُ لَمّا قَطَعْتَهُ عَنْ إعْرابِهِ نَصَبْتَهُ عَلى القَطْعِ، وكانَ أصْلُهُ مِنَ البُسْرِ الأحْمَرِ، كَذَلِكَ قالُوا: ما أرادَ اللَّهُ بِهَذا المَثَلِ، فَلَمّا لَمْ يُجَرَّ عَلى إعْرابِ (هَذا) انْتَصَبَ (مَثَلًا) عَلى القَطْعِ، وإذا قُلْتَ: عَبْدُ اللَّهِ في الحَمّامِ عُرْيانًا، ويَجِيءُ زَيْدٌ راكِبًا، فَهَذا ونَحْوُهُ مَنصُوبٌ عَلى القَطْعِ عِنْدَ الكِسائِيِّ. وفَرَّقَ الفَرّاءُ فَزَعَمَ أنَّ ما كانَ فِيما قَبْلَهُ دَلِيلٌ عَلَيْهِ فَهو المَنصُوبُ عَلى القَطْعِ، وما لا فَمَنصُوبٌ عَلى الحالِ، وهَذا كُلُّهُ عِنْدَ البَصْرِيِّينَ مَنصُوبٌ عَلى الحالِ، ولَمْ يُثْبِتِ البَصْرِيُّونَ النَّصْبَ عَلى القَطْعِ. والِاسْتِدْلالُ عَلى بُطْلانِ ما ذَهَبَ إلَيْهِ الكُوفِيُّونَ مَذْكُورٌ في مَبْسُوطاتِ النَّحْوِ، والمُخْتارُ انْتِصابُ (مَثَلًا) عَلى التَّمْيِيزِ، وجاءَ عَلى مَعْنى التَّوْكِيدِ لِأنَّهُ مِن حَيْثُ أُشِيرَ إلَيْهِ عُلِمَ أنَّهُ مَثَلٌ، فَجاءَ التَّمْيِيزُ بَعْدَهُ مُؤَكِّدًا لِلِاسْمِ الَّذِي أُشِيرَ إلَيْهِ. ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا ويَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾: جُمْلَتانِ مُسْتَأْنَفَتانِ جارِيَتانِ مَجْرى البَيانِ والتَّفْسِيرِ لِلْجُمْلَتَيْنِ السّابِقَتَيْنِ المُصَدَّرَتَيْنِ بِإمّا، ووَصَفَ تَعالى العالِمِينَ بِأنَّهُ الحَقُّ والسّائِلِينَ عَنْهُ سُؤالَ اسْتِهْزاءٍ بِالكَثْرَةِ، وإنْ كانَ قَدْ قالَ تَعالى: ﴿وقَلِيلٌ مِن عِبادِيَ الشَّكُورُ﴾ [سبإ: ١٣] إلّا الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ وقَلِيلٌ ما هم. فَلا تَنافِيَ بَيْنَهُما؛ لِأنَّ الكَثْرَةَ والقِلَّةَ أمْرانِ نِسْبِيّانِ، فالمُهْتَدُونَ في أنْفُسِهِمْ كَثِيرٌ، وإذا وُصِفُوا بِالقِلَّةِ فَبِالنِّسْبَةِ إلى أهْلِ الضَّلالِ. أوْ تَكُونُ الكَثْرَةُ بِالنِّسْبَةِ إلى الحَقِيقَةِ، والقِلَّةُ بِالنِّسْبَةِ إلى الأشْخاصِ، فَسُمُّوا (كَثِيرًا) ذَهابًا إلى الحَقِيقَةِ، كَما قالَ الشّاعِرُ: ؎إنَّ الكِرامَ كَثِيرٌ في البِلادِ وإنْ ∗∗∗ قَلُّوا كَما غَيْرُهم قَلُّوا وإنْ كَثُرُوا واخْتارَ بَعْضُ المُعْرِبِينَ والمُفَسِّرِينَ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا ويَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾ في مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِـ (مَثَلًا) وكانَ المَعْنى: ﴿ماذا أرادَ اللَّهُ بِهَذا مَثَلًا﴾ يُفَرِّقُ بِهِ النّاسَ إلى ضَلالٍ وإلى هِدايَةٍ، فَعَلى هَذا يَكُونُ مِن كَلامِ الَّذِينَ كَفَرُوا. وهَذا الوَجْهُ لَيْسَ بِظاهِرٍ؛ لِأنَّ الَّذِي ذَكَرَ أنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحِي مِنهُ هو ضَرْبُ مَثَلٍ ما، أيُّ مَثَلٍ كانَ، بَعُوضَةً أوْ ما فَوْقَها، والَّذِينَ كَفَرُوا إنَّما سَألُوا سُؤالَ اسْتِهْزاءٍ ولَيْسُوا مُعْتَرِفِينَ بِأنَّ هَذا المَثَلَ يُضِلُّ اللَّهُ بِهِ كَثِيرًا ويَهْدِي بِهِ كَثِيرًا، إلّا إنْ ضُمِّنَ مَعْنى الكَلامِ أنَّ ذَلِكَ عَلى حَسَبِ اعْتِقادِكم وزَعْمِكم أيُّها المُؤْمِنُونَ فَيُمْكُنُ ذَلِكَ، ولَكِنْ كَوْنُهُ إخْبارًا مِنَ اللَّهِ تَعالى هو الظّاهِرُ. وإسْنادُ الضَّلالِ إلى اللَّهِ تَعالى إسْنادٌ حَقِيقِيٌّ، كَما أنَّ إسْنادَ الهِدايَةِ كَذَلِكَ، فَهو خالِقُ الضَّلالِ والهِدايَةِ، وقَدْ تُئُوِّلَ هُنا الإضْلالُ بِالإضْلالِ عَنْ طَرِيقِ الجَنَّةِ، والإضْلالُ عَنِ الدِّينِ في اللُّغَةِ هو الدُّعاءُ إلى تَقْبِيحِ الدِّينِ وتَرْكِهِ، وهو الإضْلالُ المُضافُ إلى الشَّيْطانِ، والإضْلالُ بِهَذا المَعْنى مُنْتَفٍ عَنِ اللَّهِ بِالإجْماعِ. والزَّمَخْشَرِيُّ عَلى طَرِيقَتِهِ الِاعْتِزالِيَّةِ يَقُولُ: إسْنادُ الضَّلالِ إلى اللَّهِ تَعالى إسْنادٌ إلى السَّبَبِ؛ لِأنَّهُ لَمّا ضَرَبَ بِهِ المَثَلَ فَضَلَّ بِهِ قَوْمٌ واهْتَدى بِهِ قَوْمٌ، تَسَبَّبَ لِضَلالِهِمْ وهُداهم. وقِيلَ: (يُضِلُّ) بِمَعْنى يُعَذِّبُ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ المُجْرِمِينَ في ضَلالٍ وسُعُرٍ﴾ [القمر: ٤٧] قالَهُ بَعْضُ المُعْتَزِلَةِ، ورَدَّ القَفّالُ هَذا وقالَ: بَلِ المُرادُ في الشّاهِدِ: في ضَلالٍ عَنِ الحَقِّ، وجَوَّزَ ابْنُ عَطِيَّةَ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا﴾ مِن كَلامِ الكُفّارِ، ويَكُونُ قَوْلُهُ: ﴿ويَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾ إلى (p-١٢٦)آخِرِ الآيَةِ مِن كَلامِ اللَّهِ تَعالى. وهَذا الَّذِي جَوَّزَهُ لَيْسَ بِظاهِرٍ؛ لِأنَّهُ إلْباسٌ في التَّرْكِيبِ؛ لِأنَّ الكَلامَ إمّا أنْ يَجْرِيَ عَلى أنَّهُ مِن كَلامِ الكُفّارِ، أوْ يَجْرِيَ عَلى أنَّهُ مِن كَلامِ اللَّهِ، وأمّا أنْ يَجْرِيَ بَعْضُهُ عَلى أنَّهُ مِن كَلامِ الكُفّارِ، وبَعْضُهُ مِن كَلامِ اللَّهِ تَعالى مِن غَيْرِ دَلِيلٍ عَلى ذَلِكَ، فَإنَّهُ يَكُونُ إلْباسًا في التَّرْكِيبِ، وكِتابُ اللَّهِ مُنَزَّهٌ عَنْهُ. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: يُضَلُّ بِهِ كَثِيرٌ ويُهْدى بِهِ كَثِيرٌ وما يُضَلُّ بِهِ إلّا الفاسِقُونَ، في الثَّلاثَةِ عَلى البِناءِ لِلْمَفْعُولِ. وقَرَأ إبْراهِيمُ بْنُ أبِي عَبْلَةَ في الثَّلاثَةِ عَلى البِناءِ لِلْفاعِلِ الظّاهِرِ، مَفْتُوحَ حَرْفِ المُضارَعَةِ. قالَ عُثْمانُ بْنُ سَعِيدٍ الصَّيْرَفِيُّ: هَذِهِ قِراءَةُ القَدَرِيَّةِ. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أنَّهُ قَرَأ: (يُضَلُّ) بِضَمِّ الياءِ في الأوَّلِ، (وما يَضِلُّ) بِهِ بِفَتْحِ الياءِ، والفاسِقُونَ بِالواوِ، وكَذا أيْضًا في القِراءَتَيْنِ السّابِقَتَيْنِ، وهي قِراءاتٌ مُتَّجِهَةٌ لِي أنَّها مُخالِفَةٌ لِلْمُصْحَفِ المُجْمَعِ عَلَيْهِ. والظّاهِرُ أنَّ الضَّمِيرَ في (بِهِ) في الثَّلاثَةِ عائِدٌ عَلى (مَثَلًا) وهو عَلى حَذْفِ المُضافِ، أيْ يَضْرِبُ المَثَلَ. وقِيلَ: الضَّمِيرُ في (بِهِ) مِن قَوْلِهِ: ﴿يُضِلُّ بِهِ﴾، أيْ بِالتَّكْذِيبِ في (بِهِ) مِن قَوْلِهِ: ﴿ويَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾، أيْ بِالتَّصْدِيقِ. ودَلَّ عَلى ذَلِكَ قُوَّةُ الكَلامِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَأمّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ﴾ ﴿وأمّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ﴾ . ومَعْنى: ﴿وما يُضِلُّ بِهِ إلّا الفاسِقِينَ﴾، أيْ: وما يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِلضَّلالَةِ إلّا عِنْدَ مَن خَرَجَ عَنِ الحَقِّ. وقالَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ: مَعْنى يُضِلُّ ويَهْدِي: الزِّيادَةُ في الضَّلالِ والهُدى، لا أنَّ ضَرْبَ المَثَلِ سَبَبٌ لِلضَّلالَةِ والهُدى، فَعَلى هَذا يَكُونُ التَّقْدِيرُ: نَزِيدُ مَن لَمْ يُصَدِّقْ بِهِ وكَفَرَ ضَلالًا عَلى ضَلالِهِ، ومَن آمَنَ بِهِ وصَدَّقَ إيمانًا عَلى إيمانِهِ والفاسِقِينَ: مَفْعُولُ (يُضِلُّ) لِأنَّهُ اسْتِثْناءٌ مُفَرَّغٌ، ومَنَعَ أبُو البَقاءِ أنْ يَكُونَ مَنصُوبًا عَلى الِاسْتِثْناءِ. ويَكُونُ مَفْعُولُ (يُضِلُّ) مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ: وما يُضِلُّ بِهِ أحَدًا إلّا الفاسِقِينَ، ولَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ، وذَلِكَ أنَّ الِاسْمَ بَعْدَ إلّا: إمّا أنْ يُفَرَّغَ لَهُ العامِلُ، فَيَكُونُ عَلى حَسَبِ العامِلِ نَحْوَ: ما قامَ إلّا زَيْدٌ، وما ضَرَبْتُ إلّا زَيْدًا، وما مَرَرْتُ إلّا بِزَيْدٍ، إذا جَعَلْتَ زَيْدًا وبِزَيْدٍ مَعْمُولًا لِلْعامِلِ قَبْلَ لا، أوْ لا يُفَرَّغُ. وإذا لَمْ يُفَرَّغْ، فَإمّا أنْ يَكُونَ العامِلُ طالِبًا مَرْفُوعًا، فَلا يَجُوزُ إلّا ذِكْرُهُ قَبْلَ إلّا، وإضْمارُهُ إنْ كانَ مِمّا يُضْمَرُ، أوْ مَنصُوبًا، أوْ مَجْرُورًا، فَيَجُوزُ حَذْفُهُ - لِأنَّهُ فَضْلَةٌ - وإثْباتُهُ، فَإنْ حَذَفْتَهُ كانَ الِاسْمُ الَّذِي بَعْدَ (إلّا) مَنصُوبًا عَلى الِاسْتِثْناءِ فَتَقُولُ: ما ضَرَبْتُ إلّا زَيْدًا، تُرِيدُ ما ضَرَبْتُ أحَدًا إلّا زَيْدًا، وما مَرَرْتُ إلّا عَمْرًا، تُرِيدُ ما ضَرَبَتْ أحَدًا إلّا زَيْدًا، وما مَرَرْتُ إلّا عَمْرًا، قالَ الشّاعِرُ: ؎نَجا سالِمٌ والنَّفْسُ مِنهُ بِشِدْقِهِ ∗∗∗ ولَمْ يَنْجُ إلّا جَفْنَ سَيْفٍ ومِئْزَرًا يُرِيدُ ولَمْ يَنْجُ بِشَيْءٍ إلّا جَفْنَ سَيْفٍ، وإنْ أثْبَتَّهُ ولَمْ تَحْذِفْهُ، فَلَهُ أحْكامٌ مَذْكُورَةٌ. فَعَلى هَذا الَّذِي قَدْ قَعَّدَهُ النَّحْوِيُّونَ يَجُوزُ في (الفاسِقِينَ) أنْ يَكُونَ مَعْمُولًا لِـ (يُضِلُّ)، ويَكُونَ مِنَ الِاسْتِثْناءِ المُفَرَّغِ، ويَجُوزَ أنْ يَكُونَ مَنصُوبًا عَلى الِاسْتِثْناءِ ويَكُونَ مَعْمُولُ (يُضِلُّ) قَدْ حُذِفَ لِفَهْمِ المَعْنى. والفاسِقُ هو الخارِجُ مِن طاعَةِ اللَّهِ تَعالى. فَتارَةً يَكُونُ ذَلِكَ بِكُفْرٍ، وتارَةً يَكُونُ بِعِصْيانٍ غَيْرِ الكُفْرِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الفاسِقُ في الشَّرِيعَةِ: الخارِجُ عَنْ أمْرِ اللَّهِ بِارْتِكابِ الكَبِيرَةِ، وهو النّازِلُ بَيْنَ المَنزِلَتَيْنِ، أيْ بَيْنِ مَنزِلَةِ المُؤْمِنِ والكافِرِ. وقالُوا: إنَّ أوَّلَ مَن حَدَّ لَهُ هَذا الحَدَّ أبُو حُذَيْفَةَ واصِلُ بْنُ عَطاءٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وعَنْ أشْياعِهِ، وكَوْنُهُ بَيْنَ بَيْنَ، أيْ حُكْمُهُ حُكْمُ المُؤْمِنِ في أنَّهُ يُناكَحُ، ويُوارَثُ، ويُغَسَّلُ، ويُصَلّى عَلَيْهِ، ويُدْفَنُ في مَقابِرِ المُسْلِمِينَ، وهو كالكافِرِ في الذَّمِّ، واللَّعْنِ، والبَراءَةِ مِنهُ، واعْتِقادِ عَداوَتِهِ، وأنْ لا تُقْبَلَ شَهادَتُهُ. ومَذْهَبُ مالِكِ بْنِ أنَسٍ والزَّيْدِيَّةِ أنَّ الصَّلاةَ لا تُجْزِئُ خَلْفَهُ، ويُقالُ لِلْخُلَفاءِ المَرَدَةِ مِنَ الكُفّارِ الفَسَقَةِ، وقَدْ جاءَ الِاسْتِعْمالانِ في كِتابِ اللَّهِ تَعالى: ﴿بِئْسَ الِاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإيمانِ﴾ [الحجرات: ١١]، يُرِيدُ اللَّمْزَ والتَّنابُزَ، ﴿إنَّ المُنافِقِينَ هُمُ الفاسِقُونَ﴾ [التوبة: ٦٧] . انْتَهى كَلامُ الزَّمَخْشَرِيِّ. وهو جارٍ عَلى مَذْهَبِهِ الِاعْتِزالِيِّ والَّذِي (p-١٢٧)عَلَيْهِ سَلَفُ هَذِهِ الأُمَّةِ: أنَّ مَن كانَ مُؤْمِنًا وفَسَقَ بِمَعْصِيَةٍ دُونَ الكُفْرِ، فَإنَّهُ فاسِقٌ بِفِسْقِهِ مُؤْمِنٌ بِإيمانِهِ، وأنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ بِفِسْقِهِ عَنِ الإيمانِ، ولا بَلَغَ حَدَّ الكُفْرِ. وذَهَبَتِ الخَوارِجُ إلى أنَّ مَن عَصى وأذْنَبَ ذَنْبًا فَقَدْ كَفَرَ بَعْدَ إيمانِهِ. ومِنهم مَن قالَ: مَن أذْنَبَ بَعْدَ الإيمانِ فَقَدْ أشْرَكَ. ومِنهم مَن قالَ: كُلُّ مَعْصِيَةٍ نِفاقٌ، وإنَّ حُكْمَ القاضِي بَعْدَ التَّصْدِيقِ أنَّهُ مُنافِقٌ. وذَهَبَتِ المُعْتَزِلَةُ إلى ما ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وذُكِرَ أنَّ لِأصْلِ هَذِهِ المَسْألَةِ سُمُّوا مُعْتَزِلَةً، فَإنَّهُمُ اعْتَزَلُوا قَوْلَ الأُمَّةِ فِيهِ، فَإنَّ الأُمَّةَ كانُوا عَلى قَوْلَيْنِ، فَأحْدَثُوا قَوْلًا ثالِثًا فَسُمُّوا مُعْتَزِلَةً لِذَلِكَ، وهَذِهِ المَسْألَةُ مُقَرَّرَةٌ في أُصُولِ الدِّينِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب