الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأمّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أنَّهُ الحَقُّ مِن رَبِّهِمْ وأمّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أرادَ اللَّهُ بِهَذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا ويَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وما يُضِلُّ بِهِ إلّا الفاسِقِينَ﴾ ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثاقِهِ ويَقْطَعُونَ ما أمَرَ اللَّهُ بِهِ أنْ يُوصَلَ ويُفْسِدُونَ في الأرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الخاسِرُونَ﴾ اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ بِالدَّلِيلِ كَوْنَ القُرْآنِ مُعْجِزًا أوْرَدَ هَهُنا شُبْهَةً أوْرَدَها الكُفّارُ قَدْحًا في ذَلِكَ وأجابَ عَنْها، وتَقْرِيرُ الشُّبْهَةِ: أنَّهُ جاءَ في القُرْآنِ ذِكْرُ النَّحْلِ والذُّبابِ والعَنْكَبُوتِ والنَّمْلِ، وهَذِهِ الأشْياءُ لا يَلِيقُ ذِكْرُها بِكَلامِ الفُصَحاءِ فاشْتِمالُ القُرْآنِ عَلَيْها يَقْدَحُ في فَصاحَتِهِ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ مُعْجِزًا، فَأجابَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ بِأنَّ (p-١٢٢)صِغَرَ هَذِهِ الأشْياءِ لا يَقْدَحُ في الفَصاحَةِ إذا كانَ ذِكْرُها مُشْتَمِلًا عَلى حِكَمٍ بالِغَةٍ، فَهَذا هو الإشارَةُ إلى كَيْفِيَّةِ تَعَلُّقِ هَذِهِ الآيَةِ بِما قَبْلَها، ثُمَّ في هَذِهِ الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ لَمّا نَزَلْ: ﴿ياأيُّها النّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فاسْتَمِعُوا لَهُ﴾ [الحج: ٧٣]، فَطَعَنَ في أصْنامِهِمْ ثُمَّ شَبَّهَ عِبادَتَها بِبَيْتِ العَنْكَبُوتِ قالَتِ اليَهُودُ: أيُّ قَدْرٍ لِلذُّبابِ والعَنْكَبُوتِ حَتّى يَضْرِبَ اللَّهُ المَثَلَ بِهِما ؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ. والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ المُنافِقِينَ طَعَنُوا في ضَرْبِ الأمْثالِ بِالنّارِ والظُّلُماتِ والرَّعْدِ والبَرْقِ في قَوْلِهِ: ﴿مَثَلُهم كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نارًا﴾ [البقرة: ١٧] . والقَوْلُ الثّالِثُ: أنَّ هَذا الطَّعْنَ كانَ مِنَ المُشْرِكِينَ، قالَ القَفّالُ: الكُلُّ مُحْتَمَلٌ هَهُنا، أمّا اليَهُودُ فَلِأنَّهُ قِيلَ في آخِرِ الآيَةِ: ﴿وما يُضِلُّ بِهِ إلّا الفاسِقِينَ﴾ ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثاقِهِ﴾ وهَذا صِفَةُ اليَهُودِ؛ لِأنَّ الخِطابَ بِالوَفاءِ وبِالعَهْدِ فِيما بَعْدُ إنَّما هو لِبَنِي إسْرائِيلَ، وأمّا الكُفّارُ والمُنافِقُونَ فَقَدْ ذَكَرُوا في سُورَةِ المُدَّثِّرِ ﴿ولِيَقُولَ الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ والكافِرُونَ ماذا أرادَ اللَّهُ بِهَذا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشاءُ ويَهْدِي مَن يَشاءُ﴾ [المدثر: ٣١] الآيَةَ، فَأمّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ هُمُ المُنافِقُونَ، والَّذِينَ كَفَرُوا يَحْتَمِلُ المُشْرِكِينَ لِأنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، فَقَدْ جُمِعَ الفَرِيقانِ هَهُنا. إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: احْتِمالُ الكُلِّ هَهُنا قائِمٌ لِأنَّ الكافِرِينَ والمُنافِقِينَ واليَهُودَ كانُوا مُتَوافِقِينَ في إيذاءِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وقَدْ مَضى مِن أوَّلِ السُّورَةِ إلى هَذا المَوْضِعِ ذِكْرُ اليَهُودِ وذِكْرُ المُنافِقِينَ وذِكْرُ المُشْرِكِينَ. وكُلُّهم مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، ثُمَّ قالَ القَفّالُ: وقَدْ يَجُوزُ أنْ يَنْزِلَ ذَلِكَ ابْتِداءً مِن غَيْرِ سَبَبٍ لِأنَّ مَعْناهُ في نَفْسِهِ مُفِيدٌ. * * * المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اعْلَمْ أنَّ الحَياءَ تَغَيُّرٌ وانْكِسارٌ يَعْتَرِي الإنْسانَ مِن خَوْفِ ما يُعابُ بِهِ ويُذَمُّ، واشْتِقاقُهُ مِنَ الحَياةِ، يُقالُ: حَيِيَ الرَّجُلُ، كَما يُقالُ: نَسِيَ وخَشِيَ، وشَظِيَ الفَرَسُ: إذا اعْتَلَّتْ هَذِهِ الأعْضاءُ. جَعَلَ الحَيِيَّ لِما يَعْتَرِيهِ الِانْكِسارُ والتَّغَيُّرُ مُنْكَسِرَ القُوَّةِ مُنَغَّصَ الحَياةِ، كَما قالُوا: فُلانٌ هَلَكَ حَياءً مِن كَذا، وماتَ حَياءً، ورَأيْتُ الهَلاكَ في وجْهِهِ مِن شِدَّةِ الحَياءِ، وذابَ حَياءً، وإذا ثَبَتَ هَذا اسْتَحالَ الحَياءُ عَلى اللَّهِ تَعالى لِأنَّهُ تَغَيُّرٌ يَلْحَقُ البَدَنَ، وذَلِكَ لا يُعْقَلُ إلّا في حَقِّ الجِسْمِ، ولَكِنَّهُ وارِدٌ في الأحادِيثِ. رَوى سَلْمانُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنَّهُ قالَ: ”«إنَّ اللَّهَ تَعالى حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي إذا رَفَعَ العَبْدُ إلَيْهِ يَدَيْهِ أنْ يَرُدَّهُما صِفْرًا حَتّى يَضَعَ فِيهِما خَيْرًا» “، وإذا كانَ كَذَلِكَ وجَبَ تَأْوِيلُهُ، وفِيهِ وجْهانِ: الأوَّلُ: وهو القانُونُ في أمْثالِ هَذِهِ الأشْياءِ؛ أنَّ كُلَّ صِفَةٍ ثَبَتَتْ لِلْعَبْدِ مِمّا يَخْتَصُّ بِالأجْسامِ فَإذا وُصِفَ اللَّهُ تَعالى بِذَلِكَ فَذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلى نِهاياتِ الأعْراضِ لا عَلى بِداياتِ الأعْراضِ، مِثالُهُ أنَّ الحَياءَ حالَةٌ تَحْصُلُ لِلْإنْسانِ لَكِنَّ لَها مَبْدَأً ومُنْتَهًى، أمّا المَبْدَأُ فَهو التَّغَيُّرُ الجُسْمانِيُّ الَّذِي يَلْحَقُ الإنْسانَ مِن خَوْفِ أنْ يُنْسَبَ إلى القَبِيحِ، وأمّا النِّهايَةُ فَهو أنْ يَتْرُكَ الإنْسانُ ذَلِكَ الفِعْلَ، فَإذا ورَدَ الحَياءُ في حَقِّ اللَّهِ تَعالى فَلَيْسَ المُرادُ مِنهُ ذَلِكَ الخَوْفُ الَّذِي هو مَبْدَأُ الحَياءِ ومُقَدَّمَتُهُ، بَلْ تَرْكُ الفِعْلِ الَّذِي هو مُنْتَهاهُ وغايَتُهُ، وكَذَلِكَ الغَضَبُ لَهُ عَلامَةٌ ومُقَدَّمَةٌ وهي غَلَيانُ دَمِ القَلْبِ وشَهْوَةُ الِانْتِقامِ، ولَهُ غايَةٌ وهو إنْزالُ العِقابِ بِالمَغْضُوبِ عَلَيْهِ، فَإذا وصَفْنا اللَّهَ تَعالى بِالغَضَبِ فَلَيْسَ المُرادُ ذَلِكَ المَبْدَأ - أعْنِي شَهْوَةَ الِانْتِقامِ وغَلَيانَ دَمِ القَلْبِ - بَلِ المُرادُ تِلْكَ النِّهايَةُ وهو إنْزالُ العِقابِ، فَهَذا هو القانُونُ الكُلِّيُّ في هَذا البابِ. الثّانِي: يَجُوزُ أنْ تَقَعَ هَذِهِ العِبارَةُ في كَلامِ الكَفَرَةِ فَقالُوا: أمّا يَسْتَحِي رَبُّ مُحَمَّدٍ أنْ يَضْرِبَ مَثَلًا بِالذُّبابِ والعَنْكَبُوتِ، فَجاءَ هَذا الكَلامُ عَلى سَبِيلِ إطْباقِ الجَوابِ عَلى السُّؤالِ، وهَذا فَنٌّ بَدِيعٌ مِنَ الكَلامِ، ثُمَّ (p-١٢٣)قالَ القاضِي: ما لا يَجُوزُ عَلى اللَّهِ مِن هَذا الجِنْسِ إثْباتًا فَيَجِبُ أنْ لا يُطْلَقَ عَلى طَرِيقِ النَّفْيِ أيْضًا عَلَيْهِ، وإنَّما يُقالُ: إنَّهُ لا يُوصَفُ بِهِ، فَأمّا أنْ يُقالَ: لا يَسْتَحِي، ويُطْلَقُ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَمُحالٌ؛ لِأنَّهُ يُوهِمُ نَفْيَ ما يَجُوزُ عَلَيْهِ، وما ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعالى مِن كِتابِهِ في قَوْلِهِ: ﴿لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ ولا نَوْمٌ﴾ [البقرة: ٢٥٥]، وقَوْلِهِ: ﴿لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدْ﴾ [الإخلاص: ٣] فَهو بِصُورَةِ النَّفْيِ ولَيْسَ بِنَفْيٍ عَلى الحَقِيقَةِ، وكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿ما اتَّخَذَ اللَّهُ مِن ولَدٍ﴾ [المؤمنون: ٩١]، وكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وهُوَ يُطْعِمُ ولا يُطْعَمُ﴾ [الأنعام: ١٤]، ولَيْسَ كُلُّ ما ورَدَ في القُرْآنِ إطْلاقُهُ جائِزًا أنْ يُطْلَقَ في المُخاطَبَةِ، فَلا يَجُوزُ أنْ يُطْلَقَ ذَلِكَ إلّا مَعَ بَيانِ أنَّ ذَلِكَ مُحالٌ. ولِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: لا شَكَّ في أنَّ هَذِهِ الصِّفاتِ مَنفِيَّةٌ عَنِ اللَّهِ سُبْحانَهُ، فَكانَ الإخْبارُ عَنِ انْتِفائِها صِدْقًا فَوَجَبَ أنْ يَجُوزَ. بَقِيَ أنْ يُقالَ: إنَّ الإخْبارَ عَنِ انْتِفائِها يَدُلُّ عَلى صِحَّتِها عَلَيْهِ، فَنَقُولُ: هَذِهِ الدَّلالَةُ مَمْنُوعَةٌ وذَلِكَ لِأنَّ تَخْصِيصَ هَذا النَّفْيِ بِالذِّكْرِ لا يَدُلُّ عَلى ثُبُوتِ غَيْرِهِ، بَلْ لَوْ قُرِنَ بِاللَّفْظِ ما يَدُلُّ عَلى انْتِفاءِ الصِّحَّةِ أيْضًا كانَ ذَلِكَ أحْسَنَ مِن حَيْثُ إنَّهُ يَكُونُ مُبالَغَةً في البَيانِ، ولَيْسَ إذا كانَ غَيْرُهُ أحْسَنَ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبِيحًا. * * * المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: اعْلَمْ أنَّ ضَرْبَ الأمْثالِ مِنَ الأُمُورِ المُسْتَحْسَنَةِ في العُقُولِ ويَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: أحَدُها: إطْباقُ العَرَبِ والعَجَمِ عَلى ذَلِكَ، أمّا العَرَبُ فَذَلِكَ مَشْهُورٌ عِنْدَهم وقَدْ تَمَثَّلُوا بِأحْقَرِ الأشْياءِ، فَقالُوا في التَّمْثِيلِ بِالذَّرَّةِ: أجْمَعُ مِن ذَرَّةٍ، وأضْبَطُ مِن ذَرَّةٍ، وأخْفى مِنَ الذَّرَّةِ، وفي التَّمْثِيلِ بِالذُّبابِ: أجْرَأُ مِنَ الذُّبابِ، وأخْطَأُ مِنَ الذُّبابِ، وأطْيَشُ مِنَ الذُّبابِ، وأشْبَهُ مِنَ الذُّبابِ بِالذُّبابِ، وألَحُّ مِنَ الذُّبابِ. وفي التَّمْثِيلِ بِالقُرادِ: أسْمَعُ مِن قُرادٍ، وأصْغَرُ مِن قُرادٍ. وأعْلَقُ مِن قُرادٍ. وأغَمُّ مِن قُرادٍ، وأدَبُّ مِن قُرادٍ، وقالُوا في الجَرادِ: أطْيَرُ مِن جَرادَةٍ، وأحْطَمُ مِن جَرادَةٍ، وأفْسَدُ مِن جَرادَةٍ. وأصْفى مِن لُعابِ الجَرادِ. وفي الفَراشَةِ: أضْعَفُ مِن فَراشَةٍ، وأطْيَشَ مِن فَراشَةٍ، وأجْهَلُ مِن فَراشَةٍ، وفي البَعُوضَةِ: أضْعَفُ مِن بَعُوضَةٍ، وأعَزُّ مِن مُخِّ البَعُوضَةِ، وكَلَّفَنِي مُخَّ البَعُوضَةِ، في مِثْلِ تَكْلِيفِ ما لا يُطاقُ. وأمّا العَجَمُ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ ”كِتابُ كَلِيلَةَ ودِمْنَةَ“ وأمْثالُهُ، وفي بَعْضِها: قالَتِ البَعُوضَةُ، وقَدْ وقَعَتْ عَلى نَخْلَةٍ عالِيَةٍ وأرادَتْ أنْ تَطِيرَ عَنْها: يا هَذِهِ اسْتَمْسِكِي فَإنِّي أُرِيدُ أنْ أطِيرَ، فَقالَتِ النَّخْلَةُ: واللَّهِ ما شَعَرْتُ بِوُقُوعِكِ فَكَيْفَ أشْعُرُ بِطَيَرانِكِ. وثانِيها: أنَّهُ ضَرَبَ الأمْثالَ في إنْجِيلِ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - بِالأشْياءِ المُسْتَحْقَرَةِ، قالَ: مَثَلُ مَلَكُوتِ السَّماءِ كَمَثَلِ رَجُلٍ زَرَعَ في قَرْيَتِهِ حِنْطَةً جَيِّدَةً نَقِيَّةً، فَلَمّا نامَ النّاسُ جاءَ عَدُوُّهُ فَزَرَعَ الزُّوانَ بَيْنَ الحِنْطَةِ، فَلَمّا نَبَتَ الزَّرْعُ وأثْمَرَ العُشْبُ غَلَبَ عَلَيْهِ الزُّوانُ، فَقالَ عَبِيدُ الزّارِعِ: يا سَيِّدَنا ألَيْسَ حِنْطَةً جَيِّدَةً نَقِيَّةً زَرَعْتَ في قَرْيَتِكَ ؟ قالَ: بَلى، قالُوا: فَمِن أيْنَ هَذا الزُّوانُ ؟ قالَ: لَعَلَّكم إنْ ذَهَبْتُمْ أنْ تَقْلَعُوا الزُّوانَ فَتَقْلَعُوا مَعَهُ الحِنْطَةَ، فَدَعُوهُما يَتَرَبَّيانِ جَمِيعًا حَتّى الحَصادِ. فَأمَرَ الحَصّادِينَ أنْ يَلْتَقِطُوا الزُّوانَ مِنَ الحِنْطَةِ وأنْ يَرْبُطُوهُ حُزَمًا ثُمَّ يَحْرِقُوهُ بِالنّارِ ويَجْمَعُوا الحِنْطَةَ إلى الخَزائِنِ. وأُفَسِّرُ لَكم: ذَلِكَ الرَّجُلُ الَّذِي زَرَعَ الحِنْطَةَ الجَيِّدَةَ هو أبُو البَشَرِ، والقَرْيَةُ هي العالَمُ، والحِنْطَةُ الجَيِّدَةُ النَّقِيَّةُ هو نَحْنُ أبْناءُ المَلَكُوتِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِطاعَةِ اللَّهِ تَعالى، والعَدُوُّ الَّذِي زَرَعَ الزُّوانَ هو إبْلِيسُ، والزُّوانُ هو المَعاصِي الَّتِي يَزْرَعُها إبْلِيسُ وأصْحابُهُ، والحَصّادُونَ هُمُ المَلائِكَةُ يَتْرُكُونَ النّاسَ حَتّى تَدْنُوَ آجالُهم فَيَحْصُدُونَ أهْلَ الخَيْرِ إلى مَلَكُوتِ اللَّهِ، وأهْلَ الشَّرِّ إلى الهاوِيَةِ وكَما أنَّ الزُّوانَ يُلْتَقَطُ ويُحْرَقُ بِالنّارِ كَذَلِكَ رُسُلُ اللَّهِ ومَلائِكَتُهُ يَلْتَقِطُونَ مِن مَلَكُوتِهِ المُتَكاسِلِينَ وجَمِيعَ عُمّالِ الإثْمِ فَيُلْقُونَهم في أتُونِ الهاوِيَةِ فَيَكُونُ هُنالِكَ البُكاءُ وصَرِيفُ الأسْنانِ، ويَكُونُ الأبْرارُ هُنالِكَ في مَلَكُوتِ (p-١٢٤)رَبِّهِمْ، مَن كانَتْ لَهُ أُذُنٌ تَسْمَعُ فَلْيَسْمَعْ. وأضْرِبُ لَكم مَثَلًا آخَرَ يُشْبِهُ مَلَكُوتَ السَّماءِ: لَوْ أنَّ رَجُلًا أخَذَ حَبَّةً مِن خَرْدَلٍ وهي أصْغَرُ الحُبُوبِ وزَرَعَها في قَرْيَتِهِ، فَلَمّا نَبَتَتْ عَظُمَتْ حَتّى صارَتْ كَأعْظَمِ شَجَرَةٍ مِنَ البُقُولِ، وجاءَ طَيْرٌ مِنَ السَّماءِ فَعَشَّشَ في فُرُوعِها، فَكَذَلِكَ الهُدى؛ مَن دَعا إلَيْهِ ضاعَفَ اللَّهُ أجْرَهُ وعَظَّمَهُ ورَفَعَ ذِكْرَهُ، ونَجّى مَنِ اقْتَدى بِهِ. وقالَ: لا تَكُونُوا كَمُنْخُلٍ يَخْرُجُ مِنهُ الدَّقِيقُ الطَّيِّبُ ويُمْسِكُ النُّخالَةَ، وكَذَلِكَ أنْتُمْ تَخْرُجُ الحِكْمَةُ مِن أفْواهِكم وتُبْقُونَ الغِلَّ في صُدُورِكم. وقالَ: قُلُوبُكم كالحَصاةِ الَّتِي لا تُنْضِجُها النّارُ ولا يُلَيِّنُها الماءُ ولا تَنْسِفُها الرِّياحُ، وقالَ لا تَدَّخِرُوا ذَخائِرَكم حَيْثُ السُّوسُ والأرَضَةُ فَتُفْسِدَها، ولا في البَرِّيَّةِ حَيْثُ السُّمُومُ واللُّصُوصُ فَتَحْرِقَها السُّمُومُ وتَسْرِقَها اللُّصُوصُ، ولَكِنِ ادَّخِرُوا ذَخائِرَكم عِنْدَ اللَّهِ. وقالَ: نَحْفِرُ فَنَجِدُ دَوابَّ عَلَيْها لِباسُها وهُناكَ رِزْقُها وهُنَّ لا يَزْرَعْنَ ولا يَحْصُدْنَ، ومِنهُنَّ مَن هو في جَوْفِ الحَجَرِ الأصَمِّ أوْ في جَوْفِ العُودِ، مَن يَأْتِيهِنَّ بِلِباسِهِنَّ وأرْزاقِهِنَّ إلّا اللَّهُ ؟ أفَلا تَعْقِلُونَ ؟ وقالَ: لا تُثِيرُوا الزَّنابِيرَ فَتَلْدَغَكم ولا تُخاطِبُوا السُّفَهاءَ فَيَشْتُمُوكم. فَظَهَرَ أنَّ اللَّهَ تَعالى ضَرَبَ الأمْثالَ بِهَذِهِ الأشْياءِ الحَقِيرَةِ، وأمّا العَقْلُ فَلِأنَّ مِن طَبْعِ الخَيالِ المُحاكاةُ والتَّشَبُّهُ، فَإذا ذُكِرَ المَعْنى وحْدَهُ أدْرَكَهُ العَقْلُ ولَكِنْ مَعَ مُنازَعَةِ الخَيالِ، وإذا ذُكِرَ مَعَهُ الشَّبَهُ أدْرَكَهُ العَقْلُ مَعَ مُعاوَنَةِ الخَيالِ، ولا شَكَّ أنَّ الثّانِيَ يَكُونُ أكْمَلَ، وأيْضًا فَنَحْنُ نَرى أنَّ الإنْسانَ يَذْكُرُ مَعْنًى ولا يَلُوحُ لَهُ كَما يَنْبَغِي، فَإذا ذَكَرَ المِثالَ اتَّضَحَ وصارَ مُبَيَّنًا مَكْشُوفًا، وإنْ كانَ التَّمْثِيلُ يُفِيدُ زِيادَةَ البَيانِ والوُضُوحِ وجَبَ ذِكْرُهُ في الكِتابِ الَّذِي لا يُرادُ مِنهُ إلّا الإيضاحُ والبَيانُ. أمّا قَوْلُهم: ضَرْبُ الأمْثالِ بِهَذِهِ الأشْياءِ الحَقِيرَةِ لا يَلِيقُ بِاللَّهِ تَعالى، قُلْنا: هَذا جَهْلٌ؛ لِأنَّهُ تَعالى هو الَّذِي خَلَقَ الصَّغِيرَ والكَبِيرَ وحُكْمُهُ في كُلِّ ما خَلَقَ وبَرَأ عامٌّ؛ لِأنَّهُ قَدْ أحْكَمَ جَمِيعَهُ، ولَيْسَ الصَّغِيرُ أخَفَّ عَلَيْهِ مِنَ الكَبِيرِ والعَظِيمُ أصْعَبَ مِنَ الصَّغِيرِ، وإذا كانَ الكُلُّ بِمَنزِلَةٍ واحِدَةٍ لَمْ يَكُنِ الكَبِيرُ أوْلى أنْ يَضْرِبَهُ مَثَلًا لِعِبادِهِ مِنَ الصَّغِيرِ، بَلِ المُعْتَبَرُ فِيهِ ما يَلِيقُ بِالقِصَّةِ، فَإذا كانَ الألْيَقُ بِها الذُّبابَ والعَنْكَبُوتَ يَضْرِبُ المَثَلَ بِهِما لا بِالفِيلِ والجَمَلِ، فَإذا أرادَ تَعالى أنْ يُقَبِّحَ عِبادَتَهُمُ الأصْنامَ وعُدُولَهم عَنْ عِبادَةِ الرَّحْمَنِ صَلُحَ أنْ يَضْرِبَ المَثَلَ بِالذُّبابِ لِيُبَيِّنَ أنَّ قَدَرَ مَصَرَّتِها لا يَنْدَفِعُ بِهَذِهِ الأصْنامِ، ويَضْرِبُ المَثَلَ بِبَيْتِ العَنْكَبُوتِ لِيُبَيِّنَ أنَّ عِبادَتَها أوْهَنُ وأضْعَفُ مِن ذَلِكَ، وفي مِثْلِ ذَلِكَ كُلَّما كانَ المَضْرُوبُ بِهِ المَثَلُ أضْعَفَ كانَ المَثَلُ أقْوى وأوْضَحَ. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قالَ الأصَمُّ: ”ما“ في قَوْلِهِ: (مَثَلًا ما) صِلَةٌ زائِدَةٌ، كَقَوْلِهِ: ﴿فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ١٥٩]، وقالَ أبُو مُسْلِمٍ: مَعاذَ اللَّهِ أنْ يَكُونَ في القُرْآنِ زِيادَةٌ ولَغْوٌ، والأصَحُّ قَوْلُ أبِي مُسْلِمٍ؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى وصَفَ القُرْآنِ بِكَوْنِهِ هُدًى وبَيانًا، وكَوْنُهُ لَغْوًا يُنافِي ذَلِكَ. وفي (بَعُوضَةً) قِراءَتانِ، إحْداهُما: النَّصْبُ، وفي لَفْظَةِ (ما) عَلى هَذِهِ القِراءَةِ وجْهانِ، الأوَّلُ: أنَّها مَبْنِيَّةٌ وهي الَّتِي إذا قُرِنَتْ بِاسْمٍ نَكِرَةٍ أبْهَمَتْهُ إبْهامًا وزادَتْهُ شُيُوعًا وبُعْدًا عَنِ الخُصُوصِيَّةِ. بَيانُهُ أنَّ الرَّجُلَ إذا قالَ لِصاحِبِهِ: أعْطِنِي كِتابًا أنْظُرْ فِيهِ، فَأعْطاهُ بَعْضَ الكُتُبِ، صَحَّ لَهُ أنْ يَقُولَ: أرَدْتُ كِتابًا آخَرَ ولَمْ أُرِدْ هَذا، ولَوْ قالَهُ مَعَ (ما) لَمْ يَصِحَّ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأنَّ تَقْدِيرَ الكَلامِ: أعْطِنِي كِتابًا، أيَّ كِتابٍ كانَ. الثّانِي: أنَّها نَكِرَةٌ قامَ تَفْسِيرُها بِاسْمِ الجِنْسِ مَقامَ الصِّفَةِ، أمّا عَلى قِراءَةِ الرَّفْعِ فَفِيها وجْهانِ: الأوَّلُ: أنَّها مَوْصُولَةٌ صِلَتُها الجُمْلَةُ؛ لِأنَّ التَّقْدِيرَ هو بَعُوضَةٌ، فَحُذِفَ المُبْتَدَأُ كَما حُذِفَ في ﴿تَمامًا عَلى الَّذِي أحْسَنَ﴾ [الأنعام: ١٥٤] . الثّانِي: أنْ تَكُونَ اسْتِفْهامِيَّةً؛ فَإنَّهُ لَمّا قالَ: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أنْ يَضْرِبَ مَثَلًا﴾ كَأنَّهُ قالَ بَعْدَهُ: ما بَعُوضَةٌ فَما فَوْقَها، حَتّى يَضْرِبَ المَثَلَ بِهِ، بَلْ لَهُ أنْ يُمَثِّلَ بِما هو أقَلُّ مِن ذَلِكَ كَثِيرًا، كَما يُقالُ: فُلانٌ لا يُبالِي بِما وهَبَ، ما دِينارٌ ودِينارانِ، أيْ يَهَبُ ما هو أكْثَرُ مِن ذَلِكَ بِكَثِيرٍ. * * * (p-١٢٥)المَسْألَةُ الخامِسَةُ: قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: ضَرْبُ المَثَلِ: اعْتِمادُهُ وتَكْوِينُهُ، مِن ضَرْبِ اللَّبِنِ وضَرْبِ الخاتَمِ. المَسْألَةُ السّادِسَةُ: انْتَصَبَ (بَعُوضَةً) بِأنَّهُ عَطْفُ بَيانٍ لِـ (مَثَلًا) أوْ مَفْعُولٌ لِـ (يَضْرِبَ) و(مَثَلًا) حالٌ مِنَ النَّكِرَةِ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ، أوْ ثانِي مَفْعُولَيْنِ لِـ (يَضْرِبَ) مُضَمَّنًا مَعْنى يَجْعَلُ، وهَذا إذا كانَتْ (ما) صِلَةً أوْ إبْهامِيَّةً، فَإنْ كانَتْ مُفَسَّرَةً بِبَعُوضَةٍ فَهي تابِعَةٌ لِما هي تَفْسِيرٌ لَهُ، والمُفَسِّرُ والمُفَسَّرُ مَعًا لِمَجْمُوعِهِما عَطْفُ بَيانٍ أوْ مَفْعُولٌ، و(مَثَلًا) حالٌ مُقَدَّمَةٌ. وأمّا رَفْعُها فَبِكَوْنِها خَبَرَ مُبْتَدَأٍ، أمّا إذا كانَتْ (ما) مَوْصُولَةً أوْ مَوْصُوفَةً أوِ اسْتِفْهامِيَّةً فَأمْرُها ظاهِرٌ، فَإذا كانَتْ إبْهامِيَّةً فَهي عَلى الجَوابِ، كَأنَّ قائِلًا قالَ: ما هو ؟ فَقِيلَ: بَعُوضَةٌ. المَسْألَةُ السّابِعَةُ: قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: اشْتِقاقُ البَعُوضِ مِنَ البَعْضِ وهو القَطْعُ كالبَضْعِ والعَضْبِ، يُقالُ: بَعَضَهُ البَعُوضُ، ومِنهُ: بَعْضُ الشَّيْءِ؛ لِأنَّهُ قِطْعَةٌ مِنهُ، والبَعُوضُ في أصْلِهِ صِفَةٌ عَلى فَعُولٍ كالقَطُوعِ، فَغَلَبَتِ اسْمِيَّتُهُ، وعَنْ بَعْضِهِمِ: اشْتِقاقُهُ مِن بَعْضِ الشَّيْءِ، سُمِّيَ بِهِ لِقِلَّةِ جُرْمِهِ وصِغَرِهِ ولِأنَّ بَعْضَ الشَّيْءِ قَلِيلٌ بِالقِياسِ إلى كُلِّهِ، والوَجْهُ القَوِيُّ هو الأوَّلُ، قالَ: وهو مِن عَجائِبِ خَلْقِ اللَّهِ تَعالى؛ فَإنَّهُ صَغِيرٌ جِدًّا وخُرْطُومُهُ في غايَةِ الصِّغَرِ ثُمَّ إنَّهُ مَعَ ذَلِكَ مُجَوَّفٌ ثُمَّ ذَلِكَ الخُرْطُومُ مَعَ فَرْطِ صِغَرِهِ وكَوْنِهِ جَوْفًا يَغُوصُ في جِلْدِ الفِيلِ والجامُوسِ عَلى ثَخانَتِهِ، كَما يَضْرِبُ الرَّجُلُ إصْبَعَهُ في الخَبِيصِ، وذَلِكَ لِما رَكَّبَ اللَّهُ في رَأْسِ خُرْطُومِهِ مِنَ السُّمِّ. المَسْألَةُ الثّامِنَةُ: في قَوْلِهِ: ﴿فَما فَوْقَها﴾ وجْهانِ: أحَدُهُما: أنْ يَكُونَ المُرادُ فَما هو أعْظَمُ مِنها في الجُثَّةِ كالذُّبابِ والعَنْكَبُوتِ والحِمارِ والكَلْبِ، فَإنَّ القَوْمَ أنْكَرُوا تَمْثِيلَ اللَّهِ تَعالى بِكُلِّ هَذِهِ الأشْياءِ. والثّانِي: أرادَ بِما فَوْقَها في الصِّغَرِ أيْ بِما هو أصْغَرُ مِنها، والمُحَقِّقُونَ مالُوا إلى هَذا القَوْلِ لِوُجُوهٍ : أحَدُها: أنَّ المَقْصِدَ مِن هَذا التَّمْثِيلِ تَحْقِيرُ الأوْثانِ، وكُلَّما كانَ المُشَبَّهُ بِهِ أشَدَّ حَقارَةً كانَ المَقْصُودُ في هَذا البابِ أكْمَلَ حُصُولًا. وثانِيها: أنَّ الغَرَضَ هَهُنا بَيانُ أنَّ اللَّهَ تَعالى لا يَمْتَنِعُ مِنَ التَّمْثِيلِ بِالشَّيْءِ الحَقِيرِ، وفي مِثْلِ هَذا المَوْضِعِ يَجِبُ أنْ يَكُونَ المَذْكُورُ ثانِيًا أشَدَّ حَقارَةً مِنَ الأوَّلِ، يُقالُ: إنَّ فُلانًا يَتَحَمَّلُ الذُّلَّ في اكْتِسابِ الدِّينارِ، وفي اكْتِسابِ ما فَوْقَهُ، يَعْنِي في القِلَّةِ؛ لِأنَّ تَحَمُّلَ الذُّلِّ في اكْتِسابِ أقَلَّ مِنَ الدِّينارِ أشَدُّ مِن تَحَمُّلِهِ في اكْتِسابِ الدِّينارِ. وثالِثُها: أنَّ الشَّيْءَ كُلَّما كانَ أصْغَرَ كانَ الِاطِّلاعُ عَلى أسْرارِهِ أصْعَبَ، فَإذا كانَ في نِهايَةِ الصِّغَرِ لَمْ يُحِطْ بِهِ إلّا عِلْمُ اللَّهِ تَعالى، فَكانَ التَّمْثِيلُ بِهِ أقْوى في الدَّلالَةِ عَلى كَمالِ الحِكْمَةِ مِنَ التَّمْثِيلِ بِالشَّيْءِ الكَبِيرِ، واحْتَجَّ الأوَّلُونَ بِوَجْهَيْنِ: الأوَّلُ: بِأنَّ لَفْظَ ”فَوْقَ“ يَدُلُّ عَلى العُلُوِّ، فَإذا قِيلَ هَذا فَوْقَ ذاكَ، فَإنَّما مَعْناهُ أنَّهُ أكْبَرُ مِنهُ، ويُرْوى أنَّ رَجُلًا مَدَحَ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والرَّجُلُ مُتَّهَمٌ فِيهِ، فَقالَ عَلِيٌّ: أنا دُونَ ما تَقُولُ وفَوْقَ ما في نَفْسِكَ، أرادَ بِهَذا أعْلى مِمّا في نَفْسِكَ. الثّانِي: كَيْفَ يُضْرَبُ المَثَلُ بِما دُونَ البَعُوضَةِ وهي النِّهايَةُ في الصِّغَرِ ؟ والجَوابُ عَنِ الأوَّلِ: أنَّ كُلَّ شَيْءٍ كانَ ثُبُوتُ صِفَةٍ فِيهِ أقْوى مِن ثُبُوتِها في شَيْءٍ آخَرَ كانَ ذَلِكَ الأقْوى فَوْقَ الأضْعَفِ في تِلْكَ الصِّفَةِ، يُقالُ: إنَّ فُلانًا فَوْقَ فُلانٍ في اللُّؤْمِ والدَّناءَةِ. أيْ هو أكْثَرُ لُؤْمًا ودَناءَةً مِنهُ، وكَذا إذا قِيلَ: هَذا فَوْقَ ذَلِكَ في الصِّغَرِ، وجَبَ أنْ يَكُونَ أكْثَرَ صِغَرًا مِنهُ، والجَوابُ عَنِ الثّانِي أنَّ جَناحَ البَعُوضَةِ أقَلُّ مِنها وقَدْ ضَرَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَثَلًا لِلدُّنْيا. * * * المَسْألَةُ التّاسِعَةُ: ”أمّا“ حَرْفٌ فِيهِ مَعْنى الشَّرْطِ، ولِذَلِكَ يُجابُ بِالفاءِ وهَذا يُفِيدُ التَّأْكِيدُ، تَقُولُ: زَيْدٌ ذاهِبٌ، فَإذا قَصَدْتَ تَوْكِيدَ ذَلِكَ وأنَّهُ لا مَحالَةَ ذاهِبٌ قُلْتَ: أمّا زَيْدٌ فَذاهِبٌ، إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: إيرادُ (p-١٢٦)الجُمْلَتَيْنِ مُصَدَّرَتَيْنِ بِهِ إحْمادٌ عَظِيمٌ لِأمْرِ المُؤْمِنِينَ واعْتِدادٌ بِعِلْمِهِمْ أنَّهُ الحَقُّ وذَمٌّ عَظِيمٌ لِلْكافِرِينَ عَلى ما قالُوهُ وذَكَرُوهُ. المَسْألَةُ العاشِرَةُ: ”الحَقُّ“ الثّابِتُ الَّذِي لا يَسُوغُ إنْكارُهُ، يُقالُ: حَقَّ الأمْرُ: إذا ثَبَتَ ووَجَبَ، وحَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ، وثَوْبٌ مُحَقَّقٌ: مُحْكَمُ النَّسْجِ. المَسْألَةُ الحادِيَةَ عَشْرَةَ: ”ماذا“ فِيهِ وجْهانِ أنْ يَكُونَ (ذا) اسْمًا مَوْصُولًا بِمَعْنى الَّذِي، فَيَكُونُ كَلِمَتَيْنِ، وأنْ يَكُونَ (ذا) مُرَكَّبَةً مَعَ (ما) مَجْعُولَيْنِ اسْمًا واحِدًا، فَيَكُونُ كَلِمَةً واحِدَةً، فَهو عَلى الوَجْهَيْنِ، الأوَّلُ مَرْفُوعُ المَحَلِّ عَلى الِابْتِداءِ وخَبَرُهُ (ذا) مَعَ صِلَتِهِ، وعَلى الثّانِي: مَنصُوبُ المَحَلِّ في حُكْمِ (ما) وحْدَهُ كَما لَوْ قُلْتَ: ما أرادَ اللَّهُ. * * * المَسْألَةُ الثّانِيَةَ عَشْرَةَ: الإرادَةُ ماهِيَّةٌ يَجِدُها العاقِلُ مِن نَفْسِهِ ويُدْرِكُ التَّفْرِقَةَ البَدِيهِيَّةَ بَيْنَها وبَيْنَ عِلْمِهِ وقُدْرَتِهِ وألَمِهِ ولَذَّتِهِ. وإذا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ تَصَوُّرُ ماهِيَّتِها مُحْتاجًا إلى التَّعْرِيفِ، وقالَ المُتَكَلِّمُونَ: إنَّها صِفَةٌ تَقْتَضِي رُجْحانَ أحَدِ طَرَفَيِ الجائِزِ عَلى الآخَرِ لا في الوُقُوعِ بَلْ في الإيقاعِ، واحْتَرَزْنا بِهَذا القَيْدِ الأخِيرِ عَنِ القُدْرَةِ، واخْتَلَفُوا في كَوْنِهِ تَعالى مُرِيدًا مَعَ اتِّفاقِ المُسْلِمِينَ عَلى إطْلاقِ هَذا اللَّفْظِ عَلى اللَّهِ تَعالى، فَقالَ النَّجّارِيَّةُ: إنَّهُ مَعْنًى سَلْبِيٌّ ومَعْناهُ أنَّهُ غَيْرُ مَغْلُوبٍ ولا مُسْتَكْرَهٍ، ومِنهم مَن قالَ: إنَّهُ أمْرٌ ثُبُوتِيٌّ، وهَؤُلاءِ اخْتَلَفُوا، فَقالَ الجاحِظُ والكَعْبِيُّ وأبُو الحَسَنِ البَصْرِيُّ: مَعْناهُ عِلْمُهُ تَعالى بِاشْتِمالِ الفِعْلِ عَلى المَصْلَحَةِ أوِ المَفْسَدَةِ، ويُسَمُّونَ هَذا العِلْمَ بِالدّاعِي أوِ الصّارِفِ، وقالَ أصْحابُنا وأبُو عَلِيٍّ وأبُو هاشِمٍ وأتْباعُهُما: إنَّهُ صِفَةٌ زائِدَةٌ عَلى العِلْمِ، ثُمَّ القِسْمَةُ في تِلْكَ الصِّفَةِ، إمّا أنْ تَكُونَ ذاتِيَّةً وهو القَوْلُ الثّانِي لِلنَّجّارِيَّةِ، وإمّا أنْ تَكُونَ مَعْنَوِيَّةً، وذَلِكَ المَعْنى إمّا أنْ يَكُونَ قَدِيمًا وهو قَوْلُ الأشْعَرِيَّةِ، أوْ مُحْدَثًا وذَلِكَ المُحْدَثُ إمّا أنْ يَكُونَ قائِمًا بِاللَّهِ تَعالى، وهو قَوْلُ الكَرّامِيَّةِ، أوْ قائِمًا بِجِسْمٍ آخَرَ، وهَذا القَوْلَ لَمْ يَقُلْ بِهِ أحَدٌ، أوْ يَكُونَ مَوْجُودًا لا في مَحَلٍّ، وهو قَوْلُ أبِي عَلِيٍّ وأبِي هاشِمٍ وأتْباعِهِما. المَسْألَةُ الثّالِثَةَ عَشْرَةَ: الضَّمِيرُ في ”﴿أنَّهُ الحَقُّ﴾“ لِلْمَثَلِ أوْ لِـ (أنْ يَضْرِبَ) وفي قَوْلِهِمْ: ماذا أرادَ اللَّهُ بِهَذا، اسْتِحْقارٌ، كَما قالَتْ عائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - في عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاصِ: يا عَجَبًا لِابْنِ عَمْرٍو هَذا. * * * المَسْألَةُ الرّابِعَةَ عَشْرَةَ: ”﴿مَثَلًا﴾“ نُصِبَ عَلى التَّمْيِيزِ، كَقَوْلِكَ لِمَن أجابَ بِجَوابٍ غَثٍّ: ماذا أرَدْتَ بِهَذا جَوابًا ؟ ولِمَن حَمَلَ سِلاحًا رَدِيئًا: كَيْفَ تَنْتَفِعُ بِهَذا سِلاحًا ؟ أوْ عَلى الحالِ كَقَوْلِهِ: ﴿هَذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكم آيَةً﴾ [الأعراف: ٧٣] . المَسْألَةُ الخامِسَةَ عَشْرَةَ: اعْلَمْ أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ وتَعالى لَمّا حَكى عَنْهم كُفْرَهم واسْتِحْقارَهم كَلامَ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: ﴿ماذا أرادَ اللَّهُ بِهَذا مَثَلًا﴾ أجابَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا ويَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾ ونُرِيدُ أنَّ نَتَكَلَّمَ هَهُنا في الهِدايَةِ والإضْلالِ لِيَكُونَ هَذا المَوْضِعُ كالأصْلِ الَّذِي يُرْجَعُ إلَيْهِ في كُلِّ ما يَجِيءُ في هَذا المَعْنى مِنَ الآياتِ، فَنَتَكَلَّمُ أوَّلًا في الإضْلالِ فَنَقُولُ: إنَّ الهَمْزَةَ تارَةً تَجِيءُ لِنَقْلِ الفِعْلِ مِن غَيْرِ المُتَعَدِّي إلى المُتَعَدِّي كَقَوْلِكَ: خَرَجَ؛ فَإنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ، فَإذا قُلْتَ: أخْرَجَ، فَقَدْ جَعَلْتَهُ مُتَعَدِّيًا، وقَدْ تَجِيءُ لِنَقْلِ الفِعْلِ مِنَ المُتَعَدِّي إلى غَيْرِ المُتَعَدِّي كَقَوْلِكَ: كَبَبْتُهُ فَأكَبَّ، وقَدْ تَجِيءُ لِمُجَرَّدِ الوُجْدانِ. حُكِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَعْدِيكَرِبَ أنَّهُ قالَ لِبَنِي سُلَيْمٍ: قاتَلْناكم فَما أجَبْناكم، وهاجَيْناكم فَما أفْحَمْناكم، وسَألْناكم فَما أبْخَلْناكم. أيْ فَما وجَدْناكم جُبَناءَ (p-١٢٧)ولا مُفْحَمِينَ ولا بُخَلاءَ. ويُقالُ: أتَيْتُ أرْضَ فُلانٍ فَأعْمَرْتُها؛ أيْ وجَدْتُها عامِرَةً، قالَ المُخَبَّلُ: ؎تَمَنّى حُصَيْنٌ أنْ يَسُودَ خُزاعَةَ فَأمْسى حُصَيْنٌ قَدْ أذَلَّ وأقْهَرا أيْ وُجِدَ ذَلِيلًا مَقْهُورًا، ولِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: الهَمْزَةُ لا تُفِيدُ إلّا نَقْلَ الفِعْلِ مِن غَيْرِ المُتَعَدِّي إلى المُتَعَدِّي ؟ فَأمّا قَوْلُهُ: كَبَبْتُهُ فَأكَبَّ، فَلَعَلَّ المُرادَ كَبَبْتُهُ فَأكَبَّ نَفْسَهُ عَلى وجْهِهِ، فَيَكُونُ قَدْ ذُكِرَ الفِعْلُ مَعَ حَذْفِ المَفْعُولَيْنِ، وهَذا لَيْسَ بِعَزِيزٍ. وأمّا قَوْلُهُ، قاتَلْناكم فَما أجَبْناكم، فالمُرادُ ما أثَّرَ قِتالُنا في صَيْرُورَتِكم جُبَناءَ. وما أثَّرَ هِجاؤُنا لَكم في صَيْرُورَتِكم مُفْحَمِينَ، وكَذا القَوْلُ في البَواقِي، وهَذا القَوْلُ الَّذِي قُلْناهُ أوْلى؛ دَفْعًا لِلِاشْتِراكِ. إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ قَوْلُنا: أضَلَّهُ اللَّهُ، لا يُمْكِنُ حَمْلُهُ إلّا عَلى وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّهُ صَيَّرَهُ ضالًّا، والثّانِي: أنَّهُ وجَدَهُ ضالًّا، أمّا التَّقْدِيرُ الأوَّلُ وهو أنَّهُ صَيَّرَهُ ضالًّا فَلَيْسَ في اللَّفْظِ دَلالَةٌ عَلى أنَّهُ تَعالى صَيَّرَهُ ضالًّا عَنْ ماذا، وفِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ صَيَّرَهُ ضالًّا عَنِ الدِّينِ. والثّانِي: أنَّهُ صَيَّرَهُ ضالًّا عَنِ الجَنَّةِ، أمّا الأوَّلُ وهو أنَّهُ تَعالى صَيَّرَهُ ضالًّا عَنِ الدِّينِ، فاعْلَمْ أنَّ مَعْنى الإضْلالِ عَنِ الدِّينِ في اللُّغَةِ هو الدُّعاءُ إلى تَرْكِ الدِّينِ وتَقْبِيحِهِ في عَيْنِهِ، وهَذا هو الإضْلالُ الَّذِي أضافَهُ اللَّهُ تَعالى إلى إبْلِيسَ فَقالَ: ﴿إنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ﴾ [القصص: ١٥]، وقالَ: ﴿ولَأُضِلَّنَّهم ولَأُمَنِّيَنَّهُمْ﴾ [النساء: ١١٩]، ﴿وقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أرِنا الَّذَيْنِ أضَلّانا مِنَ الجِنِّ والإنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أقْدامِنا﴾ [فصلت: ٢٩]، وقالَ: ﴿وزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أعْمالَهم فَصَدَّهم عَنِ السَّبِيلِ﴾ [النمل: ٢٤]، ﴿وقالَ الشَّيْطانُ﴾ [إبراهيم: ٢٢]، إلى قَوْلِهِ: ﴿وما كانَ لِي عَلَيْكم مِن سُلْطانٍ إلّا أنْ دَعَوْتُكم فاسْتَجَبْتُمْ لِي﴾ [إبراهيم: ٢٢]، وأيْضًا أضافَ اللَّهُ تَعالى هَذا الإضْلالَ إلى فِرْعَوْنَ فَقالَ: ﴿وأضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وما هَدى﴾ [طه: ٧٩] . واعْلَمْ أنَّ الأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلى أنَّ الإضْلالَ بِهَذا المَعْنى لا يَجُوزُ عَلى اللَّهِ تَعالى؛ لِأنَّهُ تَعالى ما دَعا إلى الكُفْرِ وما رَغَّبَ فِيهِ بَلْ نَهى عَنْهُ وزَجَرَ وتَوَعَّدَ بِالعِقابِ عَلَيْهِ، وإذا كانَ المَعْنى الأصْلِيُّ لِلْإضْلالِ في اللُّغَةِ لَيْسَ إلّا هَذا، وهَذا المَعْنى مَنفِيٌّ بِالإجْماعِ ثَبَتَ انْعِقادُ الإجْماعِ عَلى أنَّهُ لا يَجُوزُ إجْراءُ هَذا اللَّفْظِ عَلى ظاهِرِهِ. وعِنْدَ هَذا افْتَقَرَ أهْلُ الجَبْرِ والقَدَرِ إلى التَّأْوِيلِ، أمّا أهْلُ الجَبْرِ فَقَدْ حَمَلُوهُ عَلى أنَّهُ تَعالى خَلَقَ الضَّلالَ والكُفْرَ فِيهِمْ وصَدَّهم عَنِ الإيمانِ وحالَ بَيْنَهم وبَيْنَهُ، ورُبَّما قالُوا: هَذا هو حَقِيقَةُ اللَّفْظِ في أصْلِ اللُّغَةِ؛ لِأنَّ الإضْلالَ عِبارَةٌ عَنْ جَعْلِ الشَّيْءِ ضالًّا كَما أنَّ الإخْراجَ والإدْخالَ عِبارَةٌ عَنْ جَعْلِ الشَّيْءِ خارِجًا وداخِلًا، وقالَتِ المُعْتَزِلَةُ: هَذا التَّأْوِيلُ غَيْرُ جائِزٍ لا بِحَسَبِ الأوْضاعِ اللُّغَوِيَّةِ ولا بِحَسَبِ الدَّلائِلِ العَقْلِيَّةِ. * * * أمّا الأوْضاعُ اللُّغَوِيَّةُ فَبَيانُهُ مِن وُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّهُ لا يَصِحُّ مِن طَرِيقِ اللُّغَةِ أنْ يُقالَ لِمَن مَنَعَ غَيْرَهُ مِن سُلُوكِ الطَّرِيقِ كَرْهًا وجَبْرًا أنَّهُ أضَلَّهُ، بَلْ يُقالُ: مَنَعَهُ مِنهُ وصَرَفَهُ عَنْهُ، وإنَّما يَقُولُونَ: إنَّهُ أضَلَّهُ عَنِ الطَّرِيقِ، إذا لَبَّسَ عَلَيْهِ وأوْرَدَ مِنَ الشُّبْهَةِ ما يُلَبِّسُ عَلَيْهِ الطَّرِيقَ فَلا يَهْتَدِي لَهُ. وثانِيها: أنَّهُ تَعالى وصَفَ إبْلِيسَ وفِرْعَوْنَ بِكَوْنِهِما مُضَلِّلَيْنِ، مَعَ أنَّ فِرْعَوْنَ وإبْلِيسَ ما كانا خالِقَيْنِ لِلضَّلالِ في قُلُوبِ المُسْتَجِيبِينَ لَهُما بِالِاتِّفاقِ، وأمّا عِنْدُ الجَبْرِيَّةِ فَلِأنَّ العَبْدَ لا يَقْدِرُ عَلى الإيجادِ، وأمّا عِنْدَ القَدَرِيَّةِ فَلِأنَّ العَبْدَ لا يَقْدِرُ عَلى هَذا النَّوْعِ مِنَ الإيجادِ، فَلَمّا حَصَلَ اسْمُ المُضِلِّ حَقِيقَةً مَعَ نَفْيِ الخالِقِيَّةِ بِالِاتِّفاقِ، عَلِمْنا أنَّ اسْمَ المُضِلِّ غَيْرُ مَوْضُوعٍ في اللُّغَةِ لِخالِقِ الضَّلالِ. (p-١٢٨)وثالِثُها: أنَّ الإضْلالَ في مُقابَلَةِ الهِدايَةِ فَكَما صَحَّ أنْ يُقالَ: هَدَيْتُهُ فَما اهْتَدى، وجَبَ صِحَّةُ أنْ يُقالَ: أضْلَلْتُهُ فَما ضَلَّ، وإذا كانَ كَذَلِكَ اسْتَحالَ حَمْلُ الإضْلالِ عَلى خَلْقِ الضَّلالِ، وأمّا بِحَسَبِ الدَّلائِلِ العَقْلِيَّةِ فَمِن وُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّهُ تَعالى لَوْ خَلَقَ الضَّلالَ في العَبْدِ ثُمَّ كَلَّفَهُ بِالإيمانِ لَكانَ قَدْ كَلَّفَهُ بِالجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ وهو سَفَهٌ وظُلْمٌ، وقالَ تَعالى: ﴿وما رَبُّكَ بِظَلّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [فصلت: ٤٦]، وقالَ: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلّا وُسْعَها﴾ [البقرة: ٢٨٦]، وقالَ: ﴿وما جَعَلَ عَلَيْكم في الدِّينِ مِن حَرَجٍ﴾ [الحج: ٧٨] . وثانِيها: لَوْ كانَ تَعالى خالِقًا لِلْجَهْلِ ومُلَبِّسًا عَلى المُكَلَّفِينَ لَما كانَ مُبَيِّنًا لِما كُلِّفَ العَبْدُ بِهِ، وقَدْ أجْمَعَتِ الأُمَّةُ عَلى كَوْنِهِ تَعالى مُبَيِّنًا. وثالِثُها: أنَّهُ تَعالى لَوْ خَلَقَ فِيهِمُ الضَّلالَ وصَدَّهم عَنِ الإيمانِ لَمْ يَكُنْ لِإنْزالِ الكُتُبِ عَلَيْهِمْ وبِعْثَةِ الرُّسُلِ إلَيْهِمْ فائِدَةٌ؛ لِأنَّ الشَّيْءَ الَّذِي لا يَكُونُ مُمْكِنَ الحُصُولِ كانَ السَّعْيُ في تَحْصِيلِهِ عَبَثًا وسَفَهًا. ورابِعُها: أنَّهُ عَلى مُضادَّةٍ كَبِيرَةٍ مِنَ الآياتِ نَحْوَ قَوْلِهِ: ﴿فَما لَهم لا يُؤْمِنُونَ﴾ [الانشقاق: ٢٠]، ﴿فَما لَهم عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ﴾ [المدثر: ٤٩]، ﴿وما مَنَعَ النّاسَ أنْ يُؤْمِنُوا إذْ جاءَهُمُ الهُدى إلّا أنْ قالُوا أبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا﴾ [الإسراء: ٩٤]، فَبَيَّنَ أنَّهُ لا مانِعَ لَهم مِنَ الإيمانِ البَتَّةَ، وإنَّما امْتَنَعُوا لِأجْلِ إنْكارِهِمْ بِعْثَةَ الرُّسُلِ مِنَ البَشَرِ، وقالَ: ﴿وما مَنَعَ النّاسَ أنْ يُؤْمِنُوا إذْ جاءَهُمُ الهُدى ويَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ﴾ [الكهف: ٥٥]، وقالَ: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وكُنْتُمْ أمْواتًا فَأحْياكُمْ﴾ [البقرة: ٢٨]، وقالَ: ﴿فَأنّى تُصْرَفُونَ﴾ [يونس: ٣٢] وقالَ: ﴿فَأنّى تُؤْفَكُونَ﴾ [الأنعام: ٩٥] فَلَوْ كانَ اللَّهُ تَعالى قَدْ أضَلَّهم عَنِ الدِّينِ وصَرَفَهم عَنِ الإيمانِ لَكانَتْ هَذِهِ الآياتُ باطِلَةً. وخامِسُها: أنَّهُ تَعالى ذَمَّ إبْلِيسَ وحِزْبَهُ ومَن سَلَكَ سَبِيلَهُ في إضْلالِ النّاسِ عَنِ الدِّينِ وصَرْفِهِمْ عَنِ الحَقِّ وأمَرَ عِبادَهُ ورَسُولَهُ بِالِاسْتِعاذَةِ مِنهم بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلْ أعُوذُ بِرَبِّ النّاسِ﴾ [الناس: ١] إلى قَوْلِهِ: ﴿مِن شَرِّ الوَسْواسِ﴾ [الناس: ٤] و﴿قُلْ أعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ﴾ [الفلق: ١]، ﴿وقُلْ رَبِّ أعُوذُ بِكَ مِن هَمَزاتِ الشَّياطِينِ﴾، ﴿فَإذا قَرَأْتَ القُرْآنَ فاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ﴾، فَلَوْ كانَ اللَّهُ تَعالى يُضِلُّ عِبادَهُ عَنِ الدِّينِ كَما تُضِلُّ الشَّياطِينُ لاسْتَحَقَّ مِنَ المَذَمَّةِ مِثْلَ ما اسْتَحَقُّوهُ ولَوَجَبَ الِاسْتِعاذَةُ مِنهُ كَما وجَبَ مِنهم، ولَوَجَبَ أنْ يَتَّخِذُوهُ عَدُوًّا مِن حَيْثُ أضَلَّ أكْثَرَ خَلْقِهِ كَما وجَبَ اتِّخاذُ إبْلِيسَ عَدُوًّا لِأجْلِ ذَلِكَ، قالُوا: بَلْ خِصِّيصِيَّةُ اللَّهِ تَعالى في ذَلِكَ أكْثَرُ؛ إذْ تَضْلِيلُ إبْلِيسَ سَواءٌ وجُودُهُ وعَدَمُهُ فِيما يَرْجِعُ إلى حُصُولِ الضَّلالِ، بِخِلافِ تَضْلِيلِ اللَّهِ فَإنَّهُ هو المُؤَثِّرُ في الضَّلالِ، فَيَلْزَمُ مِن هَذا تَنْزِيهُ إبْلِيسَ عَنْ جَمِيعِ القَبائِحِ وإحالَتُها كُلِّها عَلى اللَّهِ تَعالى، فَيَكُونُ الذَّمُّ مُنْقَطِعًا بِالكُلِّيَّةِ عَنْ إبْلِيسَ وعائِدًا إلى اللَّهِ، سُبْحانَهُ وتَعالى عَنْ قَوْلِ الظّالِمِينَ. وسادِسُها: أنَّهُ تَعالى أضافَ الإضْلالَ عَنِ الدِّينِ إلى غَيْرِهِ وذَمَّهم لِأجْلِ ذَلِكَ، فَقالَ: ﴿وأضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وما هَدى﴾ [طه: ٧٩]، ﴿وأضَلَّهُمُ السّامِرِيُّ﴾ [طه: ٨٥]، ﴿وإنْ تُطِعْ أكْثَرَ مَن في الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [الأنعام: ١١٦]، ﴿إنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهم عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الحِسابِ﴾ [ص: ٢٦]، وقَوْلُهُ تَعالى حاكِيًا عَنْ إبْلِيسَ: ﴿ولَأُضِلَّنَّهم ولَأُمَنِّيَنَّهم ولَآمُرَنَّهُمْ﴾ [النساء: ١١٩]، فَهَؤُلاءِ إمّا أنْ يَكُونُوا قَدْ أضَلُّوا غَيْرَهم عَنِ الدِّينِ في الحَقِيقَةِ أوْ يَكُونَ اللَّهُ هو الَّذِي أضَلَّهم أوْ حَصَلَ الإضْلالُ بِاللَّهِ وبِهِمْ عَلى سَبِيلِ الشَّرِكَةِ، فَإنْ كانَ اللَّهُ تَعالى قَدْ أضَلَّهم عَنِ الدِّينِ دُونَ هَؤُلاءِ فَهو سُبْحانُهُ وتَعالى قَدْ تَقَوَّلَ عَلَيْهِمْ إذْ (p-١٢٩)قَدْ رَماهم بِدَأْبِهِ وعابَهم بِما فِيهِ وذَمَّهم بِما لَمْ يَفْعَلُوهُ، واللَّهُ مُتَعالٍ عَنْ ذَلِكَ، وإنْ كانَ اللَّهُ تَعالى مُشارِكًا لَهم في ذَلِكَ فَكَيْفَ يَجُوزُ أنْ يَذُمَّهم عَلى فِعْلٍ هو شَرِيكٌ فِيهِ ومُساوٍ لَهم فِيهِ، وإذا فَسَدَ الوَجْهانِ صَحَّ أنْ لا يُضافَ خَلْقُ الضَّلالِ إلى اللَّهِ تَعالى. وسابِعُها: أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ أكْثَرَ الآياتِ الَّتِي فِيها ذِكْرُ الضَّلالِ مَنسُوبًا إلى العُصاةِ عَلى ما قالَ: ﴿وما يُضِلُّ بِهِ إلّا الفاسِقِينَ﴾، ﴿ويُضِلُّ اللَّهُ الظّالِمِينَ﴾ [إبراهيم: ٢٧]، ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الكافِرِينَ﴾ [المائدة: ٦٧]، ﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن هو مُسْرِفٌ مُرْتابٌ﴾ [غافر: ٣٤]، ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَن هو مُسْرِفٌ كَذّابٌ﴾ [غافر: ٢٨]، فَلَوْ كانَ المُرادُ بِالضَّلالِ المُضافِ إلَيْهِ تَعالى هو ما هم فِيهِ، كانَ كَذَلِكَ إثْباتًا لِلثّابِتِ وهَذا مُحالٌ. وثامِنُها: أنَّهُ تَعالى نَفى إلَهِيَّةَ الأشْياءِ الَّتِي كانُوا يَعْبُدُونَها مِن حَيْثُ إنَّهم لا يَهْدُونَ إلى الحَقِّ، قالَ: ﴿أفَمَن يَهْدِي إلى الحَقِّ أحَقُّ أنْ يُتَّبَعَ أمَّنْ لا يَهِدِّي إلّا أنْ يُهْدى﴾ [يونس: ٣٥]، فَنَفى رُبُوبِيَّةَ تِلْكَ الأشْياءِ مِن حَيْثُ إنَّها لا تَهْدِي، وأوْجَبَ رُبُوبِيَّةَ نَفْسِهِ مِن حَيْثُ إنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى يَهْدِي، فَلَوْ كانَ سُبْحانَهُ وتَعالى يُضِلُّ عَنِ الحَقِّ لَكانَ قَدْ ساواهم في الضَّلالِ وفِيما لِأجْلِهِ نَهى عَنِ اتِّباعِهِمْ، بَلْ كانَ قَدْ أرْبى عَلَيْهِمْ؛ لِأنَّ الأوْثانَ كَما أنَّها لا تَهْدِي فَهي لا تُضِلُّ، وهو سُبْحانُهُ وتَعالى مَعَ أنَّهُ إلَهٌ يَهْدِي فَهو يُضِلُّ. وتاسِعُها: أنَّهُ تَعالى يَذْكُرُ هَذا الضَّلالَ جَزاءً لَهم عَلى سُوءِ صَنِيعِهِمْ وعُقُوبَةً عَلَيْهِ، فَلَوْ كانَ المُرادُ ما هم عَلَيْهِ مِنَ الضَّلالِ كانَ ذَلِكَ عُقُوبَةً وتَهْدِيدًا بِأمْرٍ هم لَهُ مُلابِسُونَ، وعَلَيْهِ مُقْبِلُونَ، وبِهِ مُلْتَذُّونَ ومُغْتَبِطُونَ، ولَوْ جازَ ذَلِكَ لَجازَتِ العُقُوبَةُ بِالزِّنا عَلى الزِّنا وبِشُرْبِ الخَمْرِ عَلى شُرْبِ الخَمْرِ، وهَذا لا يَجُوزُ. وعاشِرُها: أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وما يُضِلُّ بِهِ إلّا الفاسِقِينَ﴾ ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثاقِهِ﴾ صَرِيحٌ في أنَّهُ تَعالى إنَّما يَفْعَلُ بِهِ هَذا الإضْلالَ بَعْدَ أنْ صارَ هو مِنَ الفاسِقِينَ النّاقِضِينَ لِعَهْدِ اللَّهِ بِاخْتِيارِ نَفْسِهِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ هَذا الإضْلالَ الَّذِي يَحْصُلُ بَعْدَ صَيْرُورَتِهِ فاسِقًا وناقِضًا لِلْعَهْدِ مُغايِرٌ لِفِسْقِهِ ونَقْضِهِ. وحادِي عاشِرِها: أنَّهُ تَعالى فَسَّرَ الإضْلالَ المَنسُوبَ إلَيْهِ في كِتابِهِ، إمّا بِكَوْنِهِ ابْتِلاءً وامْتِحانًا، أوْ بِكَوْنِهِ عُقُوبَةً ونَكالًا، فَقالَ في الِابْتِلاءِ: ﴿وما جَعَلْنا أصْحابَ النّارِ إلّا مَلائِكَةً وما جَعَلْنا عِدَّتَهم إلّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [المدثر: ٣١] أيِ امْتِحانًا، إلى أنْ قالَ: ﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشاءُ ويَهْدِي مَن يَشاءُ﴾ [المدثر: ٣١]، فَبَيَّنَ أنَّ إضْلالَهُ لِلْعَبْدِ يَكُونُ عَلى هَذا الوَجْهِ مِن إنْزالِهِ آيَةً مُتَشابِهَةً أوْ فِعْلًا مُتَشابِهًا لا يُعْرَفُ حَقِيقَةُ الغَرَضِ فِيهِ؛ والضّالُّ بِهِ هو الَّذِي لا يَقِفُ عَلى المَقْصُودِ ولا يَتَفَكَّرُ في وجْهِ الحِكْمَةِ فِيهِ بَلْ يَتَمَسَّكُ بِالشُّبُهاتِ في تَقْرِيرِ المُجْمَلِ الباطِلِ كَما قالَ تَعالى: ﴿فَأمّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنهُ ابْتِغاءَ الفِتْنَةِ وابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ﴾ [آل عمران: ٧]، وأمّا العُقُوبَةُ والنَّكالُ فَكَقَوْلِهِ: ﴿إذِ الأغْلالُ في أعْناقِهِمْ والسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ﴾ [غافر: ٧١]، إلى أنْ قالَ: ﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الكافِرِينَ﴾ [غافر: ٧٤] فَبَيَّنَ أنَّ إضْلالَهُ لا يَعْدُو أحَدَ هَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ، وإذا كانَ الإضْلالُ مُفَسَّرًا بِأحَدِ هَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ وجَبَ أنْ لا يَكُونَ مُفَسَّرًا بِغَيْرِهِما دَفْعًا لِلِاشْتِراكِ، فَثَبَتَ أنَّهُ لا يَجُوزُ حَمْلُ الإضْلالِ عَلى خَلْقِ الكُفْرِ والضَّلالِ، وإذا ثَبَتَ ذَلِكَ فَنَقُولُ: بَيَّنّا أنَّ الإضْلالَ في أصْلِ اللُّغَةِ الدُّعاءُ إلى الباطِلِ والتَّرْغِيبُ فِيهِ والسَّعْيُ في إخْفاءِ مَقابِحِهِ، وذَلِكَ لا يَجُوزُ عَلى اللَّهِ تَعالى فَوَجَبَ المَصِيرُ إلى التَّأْوِيلِ، والتَّأْوِيلُ الَّذِي ذَهَبَتِ الجَبْرِيَّةُ إلَيْهِ قَدْ أبْطَلْناهُ، فَوَجَبَ المَصِيرُ إلى وُجُوهٍ أُخَرَ مِنَ التَّأْوِيلاتِ: أحَدُها: أنَّ الرَّجُلَ إذا ضَلَّ بِاخْتِيارِهِ عِنْدَ حُصُولِ شَيْءٍ مِن غَيْرِ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ الشَّيْءُ أثَّرَ في (p-١٣٠)إضْلالِهِ فَيُقالُ لِذَلِكَ الشَّيْءِ: إنَّهُ أضَلَّهُ، قالَ تَعالى في حَقِّ الأصْنامِ ﴿رَبِّ إنَّهُنَّ أضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النّاسِ﴾ [إبراهيم: ٣٦]، أيْ ضَلُّوا بِهِنَّ، وقالَ: ﴿ولا يَغُوثَ ويَعُوقَ ونَسْرًا﴾ ﴿وقَدْ أضَلُّوا كَثِيرًا﴾ [نوح: ٢٣، ٢٤]، أيْ ضَلَّ كَثِيرٌ مِنَ النّاسِ بِهِمْ، وقالَ: ﴿ولَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنهم ما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِن رَبِّكَ طُغْيانًا وكُفْرًا﴾ [المائدة: ٦٤]، وقالَ: ﴿فَلَمْ يَزِدْهم دُعائِي إلّا فِرارًا﴾ [نوح: ٦]، أيْ لَمْ يَزْدادُوا بِدُعائِي لَهم إلّا فِرارًا، وقالَ: ﴿فاتَّخَذْتُمُوهم سِخْرِيًّا حَتّى أنْسَوْكم ذِكْرِي﴾ [المؤمنون: ١١٠]، وهم لَمْ يُنْسُوهم في الحَقِيقَةِ بَلْ كانُوا يُذَكِّرُونَهُمُ اللَّهَ ويَدْعُونَهم إلَيْهِ، ولَكِنْ لَمّا كانَ اشْتِغالُهم بِالسُّخْرِيَةِ مِنهم سَبَبًا لِنِسْيانِهِمْ أُضِيفَ الإنْساءُ إلَيْهِمْ، وقالَ في بَراءَةٍ: ﴿وإذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنهم مَن يَقُولُ أيُّكم زادَتْهُ هَذِهِ إيمانًا﴾ [التوبة: ١٢٤]، ﴿فَأمّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهم إيمانًا وهم يَسْتَبْشِرُونَ﴾ [التوبة: ١٢٤]، ﴿وأمّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهم رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ﴾ [التوبة: ١٢٥] . فَأخْبَرَ سُبْحانَهُ أنَّ نُزُولَ السُّورَةِ المُشْتَمِلَةِ عَلى الشَّرائِعِ يُعَرِّفُ أحْوالَهم، فَمِنهم مَن يَصْلُحُ عَلَيْها فَيَزْدادُ بِها إيمانًا، ومِنهم مَن يَفْسُدُ عَلَيْها فَيَزْدادُ بِها كُفْرًا، فَإذَنْ أُضِيفَتِ الزِّيادَةُ في الإيمانِ والزِّيادَةُ في الكُفْرِ إلى السُّورَةِ، إذْ كانُوا إنَّما صَلُحُوا عِنْدَ نُزُولِها وفَسَدُوا كَذَلِكَ أيْضًا، فَكَذا أُضِيفَ الهُدى والإضْلالُ إلى اللَّهِ تَعالى إذا كانَ إحْداثُهُما عِنْدَ ضَرْبِهِ تَعالى الأمْثالَ لَهم، وقالَ في سُورَةِ المُدَّثِّرِ: ﴿وما جَعَلْنا عِدَّتَهم إلّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ ويَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إيمانًا﴾ [المدثر: ٣١]، فَأخْبَرَ تَعالى أنَّ ذِكْرَهُ لِعِدَّةِ خَزَنَةِ النّارِ امْتِحانٌ مِنهُ لِعِبادِهِ لِيَتَمَيَّزَ المُخْلِصُ مِنَ المُرْتابِ، فَآلَتِ العاقِبَةُ إلى أنْ صَلُحَ عَلَيْها المُؤْمِنُونَ وفَسَدَ الكافِرُونَ، وأضافَ زِيادَةَ الإيمانِ وضِدَّها إلى المُمْتَحَنِينَ، فَقالَ: (لِيَزْدادَ) (ولِيَقُولَ) ثُمَّ قالَ بَعْدَ قَوْلِهِ: ﴿ماذا أرادَ اللَّهُ بِهَذا مَثَلًا﴾: ﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشاءُ ويَهْدِي مَن يَشاءُ﴾ [المدثر: ٣١]، فَأضافَ إلى نَفْسِهِ إضْلالَهم وهُداهم بَعْدَ أنْ أضافَ إلَيْهِمُ الأمْرَيْنِ مَعًا، فَبَيَّنَ تَعالى أنَّ الإضْلالَ مُفَسَّرٌ بِهَذا الِامْتِحانِ، ويُقالُ في العُرْفِ أيْضًا: أمْرَضَنِي الحُبُّ؛ أيْ مَرِضْتُ بِهِ، ويُقالُ: قَدْ أفْسَدَتْ فُلانَةٌ فُلانًا، وهي لَمْ تَعْلَمْ بِهِ، وقالَ الشّاعِرُ: ؎دَعْ عَنْكَ لَوْمِي فَإنَّ اللَّوْمَ إغْراءُ أيْ يُغْرِي المَلُومَ بِاللَّوْمِ. والإضْلالُ عَلى هَذا المَعْنى يَجُوزُ أنْ يُضافَ إلى اللَّهِ تَعالى عَلى مَعْنى أنَّ الكافِرِينَ ضَلُّوا بِسَبَبِ الآياتِ المُشْتَمِلَةِ عَلى الِامْتِحاناتِ، فَفي هَذِهِ الآيَةِ الكُفّارُ لَمّا قالُوا: ما الحاجَةُ إلى الأمْثالِ وما الفائِدَةُ فِيها، واشْتَدَّ عَلَيْهِمْ هَذا الِامْتِحانُ، حَسُنَتْ هَذِهِ الإضافَةُ. وثانِيها: أنَّ الإضْلالَ هو التَّسْمِيَةُ بِالضَّلالِ، فَيُقالُ: أضَلَّهُ؛ أيْ سَمّاهُ ضالًّا وحَكَمَ عَلَيْهِ بِهِ، وأكْفَرَ فُلانٌ فُلانًا: إذا سَمّاهُ كافِرًا، وأنْشَدُوا بَيْتَ الكُمَيْتِ: ؎وطائِفَةٌ قَدْ أكْفَرُونِي بِحُبِّكم ∗∗∗ وطائِفَةٌ قالُوا مُسِيءٌ ومُذْنِبُ وقالَ طَرَفَةُ: ؎وما زالَ شُرْبِي الرّاحَ حَتّى أضَلَّنِي ∗∗∗ صَدِيقِي وحَتّى ساءَنِي بَعْضُ ذَلِكا أرادَ سَمّانِي ضالًّا. وهَذا الوَجْهُ مِمّا ذَهَبَ إلَيْهِ قُطْرُبٌ وكَثِيرٌ مِنَ المُعْتَزِلَةِ، ومِن أهْلِ اللُّغَةِ مَن أنْكَرَهُ، وقالَ: إنَّما يُقالُ: ضَلَّلْتُهُ تَضْلِيلًا: إذا سَمَّيْتُهُ ضالًّا، وكَذَلِكَ فَسَّقْتُهُ وفَجَّرْتُهُ: إذا سَمَّيْتُهُ فاجِرًا فاسِقًا، وأُجِيبَ عَنْهُ بِأنَّهُ مَتى صَيَّرَهُ في نَفْسِهِ ضالًّا لَزِمَهُ أنْ يَصِيرَ مَحْكُومًا عَلَيْهِ بِالضَّلالِ، فَهَذا الحُكْمُ مِن لَوازِمِ ذَلِكَ التَّصْيِيرِ، وإطْلاقُ اسْمِ المَلْزُومِ عَلى اللّازِمِ مَجازٌ مَشْهُورٌ وأنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ أيْضًا لِأنَّ الرَّجُلَ إذا قالَ لِآخَرَ: فُلانٌ ضالٌّ، جازَ أنْ يُقالَ لَهُ: لِمَ جَعَلْتَهُ ضالًّا ؟ ويَكُونُ المَعْنى: لِمَ سَمَّيْتَهُ بِذَلِكَ ولِمَ حَكَمْتَ بِهِ عَلَيْهِ ؟ فَعَلى هَذا الوَجْهِ حَمَلُوا الإضْلالَ عَلى (p-١٣١)الحُكْمِ والتَّسْمِيَةِ. وثالِثُها: أنْ يَكُونَ الإضْلالُ هو التَّخْلِيَةُ وتَرْكُ المَنعِ بِالقَهْرِ والجَبْرِ، فَيُقالُ: أضَلَّهُ: إذا خَلّاهُ وضَلالَهُ، قالُوا: ومِن مَجازِهِ قَوْلُهم: أفْسَدَ فُلانٌ ابْنَهُ وأهْلَكَهُ ودَمَّرَ عَلَيْهِ: إذا لَمْ يَتَعَهَّدْهُ بِالتَّأْدِيبِ، ومِثْلُهُ قَوْلُ العَرْجِيِّ: ؎أضاعُونِي وأيَّ فَتًى أضاعُوا ∗∗∗ لِيَوْمِ كَرِيهَةٍ وسَدادِ ثَغْرِ ويُقالُ لِمَن تَرَكَ سَيْفَهُ في الأرْضِ النَّدِيَّةِ حَتّى فَسَدَ وصَدِئَ: أفْسَدْتَ سَيْفَكَ وأصْدَأْتَهُ. ورابِعُها: الضَّلالُ والإضْلالُ هو العَذابُ والتَّعْذِيبُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ المُجْرِمِينَ في ضَلالٍ وسُعُرٍ﴾ ﴿يَوْمَ يُسْحَبُونَ في النّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ﴾ [القمر: ٤٧، ٤٨]، فَوَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعالى بِأنَّهم يَوْمَ القِيامَةِ في ضَلالٍ، وذَلِكَ لا يَكُونُ إلّا عَذابَهم، وقالَ تَعالى: ﴿إذِ الأغْلالُ في أعْناقِهِمْ والسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ﴾ ﴿فِي الحَمِيمِ ثُمَّ في النّارِ يُسْجَرُونَ﴾ ﴿ثُمَّ قِيلَ لَهم أيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ﴾ ﴿مِن دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِن قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الكافِرِينَ﴾ [ غافِرٍ: ٧١: ٧٤ ]، فُسِّرَ ذَلِكَ الضَّلالُ بِالعَذابِ. وخامِسُها: أنْ يُحْمَلَ الإضْلالُ عَلى الإهْلاكِ والإبْطالِ كَقَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أضَلَّ أعْمالَهُمْ﴾ [محمد: ١]، قِيلَ: أبْطَلَها وأهْلَكَها، ومِن مَجازِهِ قَوْلُهم: ضَلَّ الماءُ في اللَّبَنِ: إذا صارَ مُسْتَهْلَكًا فِيهِ، ويُقالُ: أضْلَلْتُهُ أنا: إذا فَعَلْتَ ذَلِكَ بِهِ فَأهْلَكْتَهُ وصَيَّرْتَهُ كالمَعْدُومِ، ومِنهُ يُقالُ: أضَلَّ القَوْمُ مَيِّتَهم: إذا وارَوْهُ في قَبْرِهِ فَأخْفَوْهُ حَتّى صارَ لا يُرى، قالَ النّابِغَةُ: ؎وآبَ مُضِلُّوهُ بِعَيْنٍ جَلِيَّةٍ ∗∗∗ وغُودِرَ بِالجُولانِ حَزْمٌ ونائِلُ وقالَ تَعالى: ﴿وقالُوا أئِذا ضَلَلْنا في الأرْضِ أئِنّا لَفي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ [السجدة: ١٠]، أيْ أئِذا انْدَفَنّا فِيها فَخَفِيَتْ أشْخاصُنا، فَيُحْتَمَلُ عَلى هَذا المَعْنى: يُضِلُّ اللَّهُ إنْسانًا؛ أيْ يُهْلِكُهُ ويُعْدِمُهُ فَتَجُوزُ إضافَةُ الإضْلالِ إلَيْهِ تَعالى عَلى هَذا الوَجْهِ، فَهَذِهِ الوُجُوهُ الخَمْسَةُ إذا حَمَلْنا الإضْلالَ عَلى الإضْلالِ عَنِ الدِّينِ. وسادِسُها: أنْ يُحْمَلَ الإضْلالُ عَلى الإضْلالِ عَنِ الجَنَّةِ، قالَتِ المُعْتَزِلَةُ: وهَذا في الحَقِيقَةِ لَيْسَ تَأْوِيلًا بَلْ حَمْلًا لِلَّفْظِ عَلى ظاهِرِهِ، فَإنَّ الآيَةَ تَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى يُضِلُّهم ولَيْسَ فِيها دَلالَةٌ عَلى أنَّهُ عَنْ ماذا يُضِلُّهم، فَنَحْنُ نَحْمِلُها عَلى أنَّهُ تَعالى يُضِلُّهم عَنْ طَرِيقِ الجَنَّةِ، ثُمَّ حَمَلُوا كُلَّ ما في القُرْآنِ مِن هَذا الجِنْسِ عَلى هَذا المَحْمَلِ، وهو اخْتِيارُ الجُبّائِيِّ، قالَ تَعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْهِ أنَّهُ مَن تَوَلّاهُ فَأنَّهُ يُضِلُّهُ ويَهْدِيهِ إلى عَذابِ السَّعِيرِ﴾ [الحج: ٤] أيْ يُضِلُّهُ عَنِ الجَنَّةِ وثَوابِها. هَذا كُلُّهُ إذا حَمَلْنا الهَمْزَةَ في الإضْلالِ عَلى التَّعْدِيَةِ. وسابِعُها: أنْ نَحْمِلَ الهَمْزَةَ لا عَلى التَّعْدِيَةِ بَلْ عَلى الوُجْدانِ عَلى ما تَقَدَّمَ في أوَّلِ هَذِهِ المَسْألَةِ بَيانُهُ، فَيُقالُ: أضَلَّ فُلانٌ بَعِيرَهُ؛ أيْ ضَلَّ عَنْهُ، فَمَعْنى إضْلالِ اللَّهِ تَعالى لَهم أنَّهُ تَعالى وجَدَهم ضالِّينَ. وثامِنُها: أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا ويَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾ مِن تَمامِ قَوْلِ الكُفّارِ فَإنَّهم قالُوا: ماذا أرادَ اللَّهُ بِهَذا المَثَلِ الَّذِي لا يَظْهَرُ وجْهُ الفائِدَةِ فِيهِ، ثُمَّ قالُوا: يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا ويَهْدِي بِهِ كَثِيرًا، وذَكَرُوهُ عَلى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ، فَهَذا مِن قَوْلِ الكُفّارِ، ثُمَّ قالَ تَعالى جَوابًا لَهم: ﴿وما يُضِلُّ بِهِ إلّا الفاسِقِينَ﴾ أيْ ما أضَلَّ بِهِ إلّا الفاسِقَ. هَذا مَجْمُوعُ كَلامِ المُعْتَزِلَةِ. * * * وقالَتِ الجَبْرِيَّةُ: لَقَدْ سَمِعْنا كَلامَكم واعْتَرَفْنا لَكم بِجَوْدَةِ الإيرادِ وحُسْنِ التَّرْتِيبِ وقُوَّةِ الكَلامِ، ولَكِنْ ماذا نَعْمَلُ ولَكم أعْداءٌ ثَلاثَةٌ يُشَوِّشُونَ عَلَيْكم هَذِهِ الوُجُوهَ الحَسَنَةَ والدَّلائِلَ اللَّطِيفَةَ ؟ أحَدُها: مَسْألَةُ الدّاعِي وهي أنَّ القادِرَ عَلى العِلْمِ والجَهْلِ والإهْداءِ والإضْلالِ لِمَ فَعَلَ أحَدَهُما دُونَ الآخَرِ ؟(p-١٣٢) وثانِيها: مَسْألَةُ العِلْمِ، عَلى ما سَبَقَ تَقْرِيرُها في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ﴾ [البقرة: ٧] وما رَأيْنا لَكم في دَفْعِ هَذَيْنِ الكَلامَيْنِ كَلامًا مُحِيلًا قَوِيًّا ونَحْنُ لا شَكَّ نَعْلَمُ أنَّهُ لا يَخْفى عَلَيْكم مَعَ ما مَعَكم مِنَ الذَّكاءِ الضَّعْفَ عَنْ تِلْكَ الأجْوِبَةِ الَّتِي تَكَلَّمُوا بِها، فَكَما أنْصَفْنا واعْتَرَفْنا لَكم بِحُسْنِ الكَلامِ الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ فَأنْصِفُوا أيْضًا واعْتَرِفُوا بِأنَّهُ لا وجْهَ لَكم عَنْ هَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ، فَإنَّ التَّعامِيَ والتَّغافُلَ لا يَلِيقُ بِالعُقَلاءِ. وثالِثُها: أنَّ فِعْلَ العَبْدِ لَوْ كانَ بِإيجادِهِ لَما حَصَلَ إلّا الَّذِي قَصَدَ إيجادَهُ، لَكِنَّ أحَدًا لا يُرِيدُ إلّا تَحْصِيلَ العِلْمِ والِاهْتِداءِ، ويَحْتَرِزُ كُلَّ الِاحْتِرازِ عَنِ الجَهْلِ والضَّلالِ، فَكَيْفَ يَحْصُلُ الجَهْلُ والإضْلالُ لِلْعَبْدِ مَعَ أنَّهُ ما قَصَدَ إلّا تَحْصِيلَ العِلْمِ والِاهْتِداءِ ؟ فَإنْ قِيلَ: إنَّهُ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ الكُفْرُ بِالإيمانِ والعِلْمُ بِالجَهْلِ فَظَنَّ في الجَهْلِ أنَّهُ عِلْمٌ، فَقَصَدَ إيقاعَهُ، فَلِذَلِكَ حَصَلَ لَهُ الجَهْلُ، قُلْنا: ظَنُّهُ في الجَهْلِ أنَّهُ عِلْمٌ ظَنُّ خَطَأٍ، فَإنْ كانَ اخْتارَهُ أوَّلًا فَقَدِ اخْتارَ الجَهْلَ والخَطَأ لِنَفْسِهِ، وذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وإنْ قُلْنا: إنَّهُ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِسَبَبِ ظَنٍّ آخَرَ مُتَقَدِّمٍ عَلَيْهِ، لَزِمَ أنْ يَكُونَ قَبْلَ كُلِّ ظَنٍّ ظَنٌّ لا إلى نِهايَةٍ، وهو مُحالٌ. ورابِعُها: أنَّ التَّصَوُّراتِ غَيْرُ كَسْبِيَّةٍ والتَّصْدِيقاتِ البَدِيهِيَّةَ غَيْرُ كَسْبِيَّةٍ والتَّصْدِيقاتِ بِأسْرِها غَيْرُ كَسْبِيَّةٍ، فَهَذِهِ مُقَدَّماتٌ ثَلاثَةٌ: المُقَدَّمَةُ الأُولى: في بَيانِ أنَّ التَّصَوُّراتِ غَيْرُ كَسْبِيَّةٍ، وذَلِكَ لِأنَّ مَن يُحاوِلُ اكْتِسابَها: فَإمّا أنْ يَكُونَ مُتَصَوِّرًا لَها، أوْ لا يَكُونَ مُتَصَوِّرًا لَها. فَإنْ كانَ مُتَصَوِّرًا لَها اسْتَحالَ أنْ يَطْلُبَ تَحْصِيلَ تَصَوُّرِها لِأنَّ تَحْصِيلَ الحاصِلِ مُحالٌ، وإنْ لَمْ يَكُنْ مُتَصَوِّرًا لَها كانَ ذِهْنُهُ غافِلًا عَنْها، والغافِلُ عَنِ الشَّيْءِ يَسْتَحِيلُ أنْ يَكُونَ طالِبَهُ. المُقَدَّمَةُ الثّانِيَةُ: في بَيانِ أنَّ التَّصْدِيقاتِ البَدِيهِيَّةَ غَيْرُ كَسْبِيَّةٍ لِأنَّ حُصُولَ طَرَفَيِ التَّصْدِيقِ إمّا أنْ يَكُونَ كافِيًا في جَزْمِ الذِّهْنِ بِذَلِكَ التَّصْدِيقِ أوْ لا يَكُونَ كافِيًا، فَإنْ كانَ الأوَّلُ كانَ ذَلِكَ التَّصْدِيقُ دائِرًا مَعَ ذَيْنَكِ التَّصَوُّرَيْنِ عَلى سَبِيلِ الوُجُوبِ نَفْيًا وإثْباتًا، وما كانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَقْدُورًا، وإنْ كانَ الثّانِي لَمْ يَكُنِ التَّصْدِيقُ بَدِيهِيًّا بَلْ مُتَوَقَّفًا فِيهِ. المُقَدَّمَةُ الثّالِثَةُ: في بَيانِ أنَّ التَّصْدِيقاتِ بِأسْرِها غَيْرُ كَسْبِيَّةٍ، وذَلِكَ لِأنَّ هَذِهِ النَّظَرِيّاتِ إنْ كانَتْ واجِبَةَ اللُّزُومِ عَنْ تِلْكَ البَدِيهِيّاتِ الَّتِي هي غَيْرُ مَقْدُورَةٍ كانَتْ تِلْكَ النَّظَرِيّاتُ أيْضًا غَيْرَ مَقْدُورَةٍ. وإنْ لَمْ تَكُنْ واجِبَةَ اللُّزُومِ عَنْ تِلْكَ البَدِيهِيّاتِ لَمْ يُمْكِنِ الِاسْتِدْلالُ بِتِلْكَ البَدِيهِيّاتِ عَلى تِلْكَ النَّظَرِيّاتِ، فَلَمْ تَكُنْ تِلْكَ الِاعْتِقاداتُ الحاصِلَةُ في تِلْكَ النَّظَرِيّاتِ عُلُومًا، بَلْ لا تَكُونُ إلّا اعْتِقادًا حاصِلًا لِلْمُقَلِّدِ ولَيْسَ كَلامُنا فِيهِ، فَثَبَتَ أنَّ كَلامَكم في عَدَمِ إسْنادِ الِاهْتِداءِ والضَّلالِ إلى اللَّهِ تَعالى مُعارَضٌ بِهَذِهِ الوُجُوهِ العَقْلِيَّةِ القاطِعَةِ الَّتِي لا جَوابَ عَنْها. ولْنَتَكَلَّمِ الآنَ فِيما ذَكَرُوهُ مِنَ التَّأْوِيلاتِ: أمّا التَّأْوِيلُ الأوَّلُ فَساقِطٌ؛ لِأنَّ إنْزالَ هَذِهِ المُتَشابِهاتِ هَلْ لَها أثَرٌ في تَحْرِيكِ الدَّواعِي أوْ لَيْسَ لَها أثَرٌ في ذَلِكَ ؟ فَإنْ كانَ الأوَّلُ وجَبَ عَلى قَوْلِكم أنْ يُقَبَّحَ لِوَجْهَيْنِ، الأوَّلُ: أنّا قَدْ دَلَّلْنا في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ﴾ [البقرة: ٧] عَلى أنَّهُ مَتى حَصَلَ الرُّجْحانُ فَلا بُدَّ وأنْ يَحْصُلَ الوُجُوبُ وأنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الِاسْتِواءِ وبَيْنَ الوُجُوبِ المانِعِ مِنَ النَّقِيضِ واسِطَةٌ، فَإذا أثَّرَ إنْزالُ هَذِهِ المُتَشابِهاتِ في التَّرْجِيحِ وثَبَتَ أنَّهُ مَتى حَصَلَ التَّرْجِيحُ فَقَدْ حَصَلَ الوُجُوبُ، فَحِينَئِذٍ جاءَ الجَبْرُ وبَطَلَ ما قُلْتُمُوهُ. الثّانِي: هَبْ أنَّهُ لا يَنْتَهِي إلى حَدِّ الوُجُوبِ إلّا أنَّ المُكَلَّفَ يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ مُزاحَ العُذْرِ والعِلَّةِ، وإنْزالُ هَذِهِ المُتَشابِهاتِ عَلَيْهِ مَعَ أنَّ (p-١٣٣)لَها أثَرًا في تَرْجِيحِ جانِبِ الضَّلالِ عَلى جانِبِ الِاهْتِداءِ كالعُذْرِ لِلْمُكَلَّفِ في عَدَمِ الإقْدامِ عَلى الطّاعَةِ، فَوَجَبَ أنْ يُقَبَّحَ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ تَعالى، وأمّا إنْ لَمْ يَكُنْ لِذَلِكَ أثَرٌ في إقْدامِهِمْ عَلى تَرْجِيحِ جانِبِ الضَّلالِ عَلى جانِبِ الِاهْتِداءِ كانَتْ نِسْبَةُ هَذِهِ المُتَشابِهاتِ إلى ضَلالِهِمْ كَصَرِيرِ البابِ ونَعِيقِ الغُرابِ، فَكَما أنَّ ضَلالَهم لا يُنْسَبُ إلى هَذِهِ الأُمُورِ الأجْنَبِيَّةِ كَذَلِكَ وجَبَ أنْ لا يُنْسَبَ إلى هَذِهِ المُتَشابِهاتِ بِوَجْهٍ ما، وحِينَئِذٍ يَبْطُلُ تَأْوِيلُهم. أمّا التَّأْوِيلُ الثّانِي: وهو التَّسْمِيَةُ والحُكْمُ فَهو وإنْ كانَ في غايَةِ البُعْدِ لَكِنَّ الإشْكالَ مَعَهُ باقٍ؛ لِأنَّهُ إذا سَمّاهُ اللَّهُ بِذَلِكَ وحَكَمَ بِهِ عَلَيْهِ فَلَوْ لَمْ يَأْتِ المُكَلَّفُ بِهِ لانْقَلَبَ خَبَرُ اللَّهِ الصِّدْقُ كَذِبًا وعِلْمُهُ جَهْلًا، وكُلُّ ذَلِكَ مُحالٌ، فَكانَ عَدَمُ إتْيانِ المُكَلَّفِ بِهِ مُحالًا وإتْيانُهُ بِهِ واجِبًا، وهَذا عَيْنُ الجَبْرِ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنهُ وأنَّهُ مُلاقِيكم لا مَحالَةَ، وهَهُنا يَنْتَهِي البَحْثُ إلى الجَوابَيْنِ المَشْهُورَيْنِ لَهُما في هَذا المَقامِ وكُلُّ عاقِلٍ يَعْلَمُ بِبَدِيهَةِ عَقْلِهِ سُقُوطَ ذَلِكَ. وأمّا التَّأْوِيلُ الثّالِثُ وهو التَّخْلِيَةُ وتَرْكُ المَنعِ، فَهَذا إنَّما يُسَمّى إضْلالًا إذا كانَ الأوْلى والأحْسَنُ بِالوالِدِ أنْ يَمْنَعَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَأمّا إذا كانَ الوَلَدُ بِحَيْثُ لَوْ مَنَعَهُ والِدُهُ عَنْ ذَلِكَ لَوَقَعَ في مَفْسَدَةٍ أعْظَمَ مِن تِلْكَ المَفْسَدَةِ الأُولى، لَمْ يَقُلْ أحَدٌ أنَّهُ أفْسَدَ ولَدَهُ وأضَلَّهُ، وهَهُنا الأمْرُ بِخِلافِ ذَلِكَ؛ لِأنَّهُ تَعالى لَوْ مَنَعَ المُكَلَّفَ جَبْرًا عَنْ هَذِهِ المَفْسَدَةِ لَزِمَتْ مَفْسَدَةٌ أُخْرى أعْظَمُ مِنَ الأُولى، فَكَيْفَ يُقالُ: إنَّهُ تَعالى أفْسَدَ المُكَلَّفَ وأضَلَّهُ، بِمَعْنى أنَّهُ ما مَنَعَهُ عَنِ الضَّلالِ مَعَ أنَّهُ لَوْ مَنَعَهُ لَكانَتْ تِلْكَ المَفْسَدَةُ أعْظَمَ. وأمّا التَّأْوِيلُ الرّابِعُ فَقَدِ اعْتَرَضَ القَفّالُ عَلَيْهِ فَقالَ: لا نُسَلِّمُ بِأنَّ الضَّلالَ جاءَ بِمَعْنى العَذابِ، أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ المُجْرِمِينَ في ضَلالٍ وسُعُرٍ﴾ [القمر: ٤٧] فَيُمْكِنُ أنْ يَكُونَ المُرادُ في ضَلالٍ عَنِ الحَقِّ في الدُّنْيا، وفي سُعُرٍ؛ أيْ في عَذابِ جَهَنَّمَ في الآخِرَةِ، ويَكُونُ قَوْلُهُ: ﴿يَوْمَ يُسْحَبُونَ﴾ [القمر: ٤٨] مِن صِلَةِ سُعُرٍ، وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إذِ الأغْلالُ في أعْناقِهِمْ﴾ [غافر: ٧١] إلى قَوْلِهِ: ﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الكافِرِينَ﴾ [غافر: ٧٤] فَمَعْنى قَوْلِهِ: ضَلُّوا عَنّا؛ أيْ بَطَلُوا فَلَمْ نَنْتَفِعْ بِهِمْ في هَذا اليَوْمِ الَّذِي كُنّا نَرْجُو شَفاعَتَهم فِيهِ، ثُمَّ قَوْلُهُ: ﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الكافِرِينَ﴾ [غافر: ٧٤] قَدْ يَكُونُ عَلى مَعْنى: كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ أعْمالَهم، أيْ يُحْبِطُها يَوْمَ القِيامَةِ، ويُحْتَمَلُ: كَذَلِكَ يَخْذُلُهُمُ اللَّهُ تَعالى في الدُّنْيا فَلا يُوَفِّقُهم لِقَبُولِ الحَقِّ إذْ ألِفُوا الباطِلَ وأعْرَضُوا عَنِ التَّدَبُّرِ، فَإذا خَذَلَهُمُ اللَّهُ تَعالى وأتَوْا يَوْمَ القِيامَةِ فَقَدْ بَطَلَتْ أعْمالُهُمُ الَّتِي كانُوا يَرْجُونَ الِانْتِفاعَ بِها في الدُّنْيا. وأمّا التَّأْوِيلُ الخامِسُ: وهو الإهْلاكُ، فَغَيْرُ لائِقٍ بِهَذا المَوْضِعِ لِأنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿ويَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾ يَمْنَعُ مِن حَمْلِ الإضْلالِ عَلى الإهْلاكِ. وأمّا التَّأْوِيلُ السّادِسُ: وهو أنَّهُ يُضِلُّهُ عَنْ طَرِيقِ الجَنَّةِ فَضَعِيفٌ؛ لِأنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿يُضِلُّ بِهِ﴾ أيْ يُضِلُّ بِسَبَبِ اسْتِماعِ هَذِهِ الآياتِ، والإضْلالُ عَنْ طَرِيقِ الجَنَّةِ لَيْسَ بِسَبَبِ اسْتِماعِ هَذِهِ الآياتِ بَلْ بِسَبَبِ إقْدامِهِ عَلى القَبائِحِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ. وأمّا التَّأْوِيلُ السّابِعُ: وهو أنَّ قَوْلَهُ: ﴿يُضِلَّهُ﴾ [الأنعام: ١٢٥] أيْ يَجِدُهُ ضالًّا قَدْ بَيَّنّا أنَّ إثْباتَ هَذِهِ اللُّغَةِ لا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وأيْضًا فَلِأنَّهُ عَدّى الإضْلالَ بِحَرْفِ الباءِ فَقالَ: ﴿يُضِلُّ بِهِ﴾ والإضْلالُ بِمَعْنى الوُجْدانِ لا يَكُونُ مُعَدًّى بِحَرْفِ الباءِ. (p-١٣٤)وأمّا التَّأْوِيلُ الثّامِنُ: فَهو في هَذِهِ الآيَةِ يُوجِبُ تَفْكِيكَ النَّظْمِ؛ لِأنَّهُ إلى قَوْلِهِ: (يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا ويَهْدِي بِهِ كَثِيرًا) مِن كَلامِ الكُفّارِ، ثُمَّ قَوْلُهُ: ﴿وما يُضِلُّ بِهِ إلّا الفاسِقِينَ﴾ كَلامُ اللَّهِ تَعالى مِن غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَهُما بَلْ مَعَ حَرْفِ العَطْفِ وهو الواوُ، ثُمَّ هَبْ أنَّهُ هَهُنا كَذَلِكَ لَكِنَّهُ في سُورَةِ المُدَّثِّرِ وهو قَوْلُهُ: ﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشاءُ ويَهْدِي مَن يَشاءُ﴾ [المدثر: ٣١] لا شَكَّ أنَّهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعالى، فَهَذا هو الكَلامُ في الإضْلالِ. * * * أمّا الهُدى فَقَدْ جاءَ عَلى وُجُوهٍ: أحَدُها: الدَّلالَةُ والبَيانُ، قالَ تَعالى: ﴿أوَلَمْ يَهْدِ لَهم كَمْ أهْلَكْنا﴾ [السجدة: ٢٦]، وقالَ: ﴿فَإمّا يَأْتِيَنَّكم مِنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدايَ﴾ [البقرة: ٣٨]، وهَذا إنَّما يَصِحُّ لَوْ كانَ الهُدى عِبارَةً عَنِ البَيانِ، وقالَ: ﴿إنْ يَتَّبِعُونَ إلّا الظَّنَّ وما تَهْوى الأنْفُسُ ولَقَدْ جاءَهم مِن رَبِّهِمُ الهُدى﴾ [النجم: ٢٣]، وقالَ: ﴿إنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إمّا شاكِرًا وإمّا كَفُورًا﴾ [الإنسان: ٣]، أيْ سَواءٌ شَكَرَ أوْ كَفَرَ فالهِدايَةُ قَدْ جاءَتْهُ في الحالَتَيْنِ، وقالَ: ﴿وأمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهم فاسْتَحَبُّوا العَمى عَلى الهُدى﴾ [فصلت: ١٧]، وقالَ: ﴿ثُمَّ آتَيْنا مُوسى الكِتابَ تَمامًا عَلى الَّذِي أحْسَنَ وتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وهُدًى ورَحْمَةً لَعَلَّهم بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنعام: ١٥٤]، وهَذا لا يُقالُ لِلْمُؤْمِنِ، وقالَ تَعالى حِكايَةً عَنْ خُصُومِ داوُدَ - عَلَيْهِ السَّلامُ -: ﴿ولا تُشْطِطْ واهْدِنا إلى سَواءِ الصِّراطِ﴾ [ص: ٢٢]، أيْ أرْشِدْنا، وقالَ: ﴿إنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أدْبارِهِمْ مِن بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهم وأمْلى لَهُمْ﴾ [محمد: ٢٥]، وقالَ: ﴿أنْ تَقُولَ نَفْسٌ ياحَسْرَتا عَلى ما فَرَّطْتُ في جَنْبِ اللَّهِ﴾ [الزمر: ٥٦]، إلى قَوْلِهِ: ﴿أوْ تَقُولَ لَوْ أنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ المُتَّقِينَ﴾ [الزمر: ٥٧]، إلى قَوْلِهِ: ﴿بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها واسْتَكْبَرْتَ﴾ [الزمر: ٥٩]، أخْبَرَ أنَّهُ قَدْ هَدى الكافِرَ مِمّا جاءَهُ مِنَ الآياتِ، وقالَ: ﴿أوْ تَقُولُوا لَوْ أنّا أُنْزِلَ عَلَيْنا الكِتابُ لَكُنّا أهْدى مِنهم فَقَدْ جاءَكم بَيِّنَةٌ مِن رَبِّكم وهُدًى﴾ [الأنعام: ١٥٧]، وهَذِهِ مُخاطَبَةٌ لِلْكافِرِينَ. وثانِيها: قالُوا في قَوْلِهِ: ﴿وإنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى: ٥٢]، أيْ لَتَدْعُو، وقَوْلُهُ: ﴿ولِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ﴾ [الرعد: ٧]، أيْ داعٍ يَدْعُوهم إلى ضَلالٍ أوْ هُدًى. وثالِثُها: التَّوْفِيقُ مِنَ اللَّهِ بِالألْطافِ المَشْرُوطَةِ بِالإيمانِ، يُؤْتِيها المُؤْمِنِينَ جَزاءً عَلى إيمانِهِمْ ومَعُونَةً عَلَيْهِ وعَلى الِازْدِيادِ مِن طاعَتِهِ، فَهَذا ثَوابٌ لَهم، وبِإزائِهِ ضِدُّهُ لِلْكافِرِينَ وهو أنْ يَسْلُبَهم ذَلِكَ فَيَكُونُ مَعَ أنَّهُ تَعالى ما هَداهم يَكُونُ قَدْ أضَلَّهم، والدَّلِيلُ عَلى هَذا الوَجْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهم هُدًى﴾ [محمد: ١٧]، ﴿ويَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى﴾ [مريم: ٧٦]، ﴿واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ﴾ [البقرة: ٢٥٨]، ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالقَوْلِ الثّابِتِ في الحَياةِ الدُّنْيا وفي الآخِرَةِ ويُضِلُّ اللَّهُ الظّالِمِينَ﴾ [إبراهيم: ٢٧]، ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إيمانِهِمْ وشَهِدُوا أنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وجاءَهُمُ البَيِّناتُ واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ﴾ [آل عمران: ٨٦]، فَأخْبَرَ أنَّهُ لا يَهْدِيهِمْ وأنَّهم قَدْ جاءَهُمُ البَيِّناتُ، فَهَذا الهُدى غَيْرُ البَيانِ لا مَحالَةَ، وقالَ تَعالى: ﴿ومَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾ [التغابن: ١١]، ﴿أُولَئِكَ كَتَبَ في قُلُوبِهِمُ الإيمانَ وأيَّدَهم بِرُوحٍ مِنهُ﴾ [المجادلة: ٢٢] . ورابِعُها: الهُدى إلى طَرِيقِ الجَنَّةِ، قالَ تَعالى: ﴿فَأمّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ واعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهم في رَحْمَةٍ مِنهُ وفَضْلٍ ويَهْدِيهِمْ إلَيْهِ صِراطًا مُسْتَقِيمًا﴾ [النساء: ١٧٥]، وقالَ: ﴿قَدْ جاءَكم مِنَ اللَّهِ نُورٌ وكِتابٌ مُبِينٌ﴾ ﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ ويُخْرِجُهم مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ بِإذْنِهِ ويَهْدِيهِمْ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ . (p-١٣٥)[المائدة: ١٦]، وقالَ: ﴿والَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أعْمالَهُمْ﴾ ﴿سَيَهْدِيهِمْ ويُصْلِحُ بالَهُمْ﴾ ﴿ويُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ﴾ [محمد: ٥]، والهِدايَةُ بَعْدَ القَتْلِ لا تَكُونُ إلّا إلى الجَنَّةِ، وقالَ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهم بِإيمانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنْهارُ﴾ [يونس: ٩]، وهَذا تَأْوِيلُ الجُبّائِيِّ. وخامِسُها: الهُدى بِمَعْنى التَّقْدِيمِ، يُقالُ: هَدى فُلانٌ فُلانًا؛ أيْ قَدَّمَهُ أمامَهُ، وأصْلُ هَدى مِن هِدايَةِ الطَّرِيقِ؛ لِأنَّ الدَّلِيلَ يَتَقَدَّمُ المَدْلُولَ. وتَقُولُ العَرَبُ: أقْبَلَتْ هَوادِي الخَيْلِ؛ أيْ مُتَقَدِّماتُها، ويُقالُ لِلْعُنُقِ: هادِي، وهَوادِي الخَيْلِ: أعْناقُها لِأنَّها تَتَقَدَّمُها. وسادِسُها: يَهْدِي؛ أيْ يَحْكُمُ بِأنَّ المُؤْمِنَ مُهْتَدٍ، وتَسْمِيَتُهُ بِذَلِكَ لِأنَّ حَقِيقَةَ قَوْلِ القائِلِ: هَداهُ: جَعَلَهُ مُهْتَدِيًا، وهَذا اللَّفْظُ قَدْ يُطْلَقُ عَلى الحُكْمِ والتَّسْمِيَةِ، قالَ تَعالى: ﴿ما جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ﴾ [المائدة: ١٠٣]، أيْ ما حَكَمَ ولا شَرَعَ، وقالَ: ﴿إنَّ الهُدى هُدى اللَّهِ﴾ [آل عمران: ٧٣]، مَعْناهُ أنَّ الهُدى ما حَكَمَ اللَّهُ بِأنَّهُ هُدًى، وقالَ: ﴿مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهو المُهْتَدِي﴾ [الكهف: ١٧] أيْ مَن حَكَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالهُدى فَهو المُسْتَحِقُّ لِأنْ يُسَمّى مُهْتَدِيًا، فَهَذِهِ هي الوُجُوهُ الَّتِي ذَكَرَها المُعْتَزِلَةُ، وقَدْ تَكَلَّمْنا عَلَيْها فِيما تَقَدَّمَ في بابِ الإضْلالِ. قالَتِ الجَبْرِيَّةُ: وهَهُنا وجْهٌ آخَرُ وهو أنْ يَكُونَ الهُدى بِمَعْنى خَلْقِ الهِدايَةِ والعِلْمِ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿واللَّهُ يَدْعُو إلى دارِ السَّلامِ ويَهْدِي مَن يَشاءُ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [يونس: ٢٥]، قالَتِ القَدَرِيَّةُ: هَذا غَيْرُ جائِزٍ؛ لِوُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّهُ لا يَصِحُّ في اللُّغَةِ أنْ يُقالَ لِمَن حَمَلَ غَيْرَهُ عَلى سُلُوكِ الطَّرِيقِ كَرْهًا وجَبْرًا، أنَّهُ هَداهُ إلَيْهِ، وإنَّما يُقالُ: رَدَّهُ إلى الطَّرِيقِ المُسْتَقِيمِ وحَمَلَهُ عَلَيْهِ وجَرَّهُ إلَيْهِ، فَأمّا أنْ يُقالَ: إنَّهُ هَداهُ إلَيْهِ، فَلا. وثانِيها: لَوْ حَصَلَ ذَلِكَ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعالى لَبَطَلَ الأمْرُ والنَّهْيُ والمَدْحُ والذَّمُّ والثَّوابُ والعِقابُ، فَإنْ قِيلَ: هَبْ أنَّهُ خَلْقُ اللَّهِ تَعالى إلّا أنَّهُ كَسْبُ العَبْدِ. قُلْنا: هَذا الكَسْبُ مَدْفُوعٌ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ وُقُوعَ هَذِهِ الحَرَكَةِ إمّا أنْ يَكُونَ بِتَخْلِيقِ اللَّهِ تَعالى أوْ لا يَكُونَ بِتَخْلِيقِهِ، فَإنْ كانَ بِتَخْلِيقِهِ، فَمَتى خَلَقَهُ اللَّهُ تَعالى اسْتَحالَ مِنَ العَبْدِ أنْ يَمْتَنِعَ مِنهُ، ومَتى لَمْ يَخْلُقْهُ اسْتَحالَ مِنَ العَبْدِ الإتْيانُ بِهِ، فَحِينَئِذٍ تَتَوَجَّهُ الإشْكالاتُ المَذْكُورَةُ. وإنْ لَمْ يَكُنْ بِتَخْلِيقِ اللَّهِ تَعالى بَلْ مِنَ العَبْدِ فَهَذا هو القَوْلُ بِالِاعْتِزالِ. الثّانِي: أنَّهُ لَوْ كانَ خَلْقًا لِلَّهِ تَعالى وكَسْبًا لِلْعَبْدِ لَمْ يَخْلُ مِن أحَدِ وُجُوهٍ ثَلاثَةٍ، إمّا أنْ يَكُونَ اللَّهُ يَخْلُقُهُ أوَّلًا ثُمَّ يَكْتَسِبُهُ العَبْدُ، أوْ يَكْتَسِبُهُ العَبْدُ أوَّلًا ثُمَّ يَخْلُقُهُ اللَّهُ تَعالى، أوْ يَقَعُ الأمْرانِ مَعًا، فَإنْ خَلَقَهُ اللَّهُ تَعالى كانَ العَبْدُ مَجْبُورًا عَلى اكْتِسابِهِ فَيَعُودُ الإلْزامُ، وإنِ اكْتَسَبَهُ العَبْدُ أوَّلًا فاللَّهُ مَجْبُورٌ عَلى خَلْقِهِ، وإنْ وقَعا مَعًا وجَبَ أنْ لا يَحْصُلَ هَذا الأمْرُ إلّا بَعْدَ اتِّفاقِهِما، لَكِنَّ هَذا الِاتِّفاقَ غَيْرُ مَعْلُومٍ لَنا فَوَجَبَ أنْ لا يَحْصُلَ هَذا الِاتِّفاقُ، وأيْضًا فَهَذا الِاتِّفاقُ وجَبَ أنْ لا يَحْصُلَ إلّا بِاتِّفاقٍ آخَرَ؛ لِأنَّهُ مِن كَسْبِهِ وفِعْلِهِ، وذَلِكَ يُؤَدِّي إلى ما لا نِهايَةَ لَهُ مِنَ الِاتِّفاقِ وهو مُحالٌ. هَذا مَجْمُوعُ كَلامِ المُعْتَزِلَةِ. قالَتِ الجَبْرِيَّةُ: إنّا قَدْ دَلَّلْنا بِالدَّلائِلِ العَقْلِيَّةِ الَّتِي لا تَقْبَلُ الِاحْتِمالَ والتَّأْوِيلَ عَلى أنَّ خالِقَ هَذِهِ الأفْعالِ هو اللَّهُ تَعالى، إمّا بِواسِطَةٍ أوْ بِغَيْرِ واسِطَةٍ، والوُجُوهُ الَّتِي تَمَسَّكْتُمْ بِها وُجُوهٌ نَقْلِيَّةٌ قابِلَةٌ لِلِاحْتِمالِ، والقاطِعُ لا يُعارِضُهُ المُحْتَمَلُ، فَوَجَبَ المَصِيرُ إلى ما قُلْناهُ، وبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. * * * المَسْألَةُ السّادِسَةَ عَشْرَةَ: لِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: لِمَ وُصِفَ المَهْدِيُّونَ بِالكَثْرَةِ، والقِلَّةُ صِفَتُهم؛ لِقَوْلِهِ: ﴿وقَلِيلٌ مِن عِبادِيَ الشَّكُورُ﴾ [سبأ: ١٣]، ﴿وقَلِيلٌ ما هُمْ﴾ [ص: ٢٤] ولِحَدِيثِ: ”«النّاسُ كَإبِلٍ مِائَةٍ لا تَجِدُ فِيها راحِلَةً» “ وحَدِيثِ: ”«النّاسُ أُخْبِرْ تَقْلَهُ» “، والجَوابُ: أهْلُ الهُدى كَثِيرٌ في أنْفُسِهِمْ، وحَيْثُ يُوصَفُونَ بِالقِلَّةِ إنَّما يُوصَفُونَ بِها (p-١٣٦)بِالقِياسِ إلى أهْلِ الضَّلالِ، وأيْضًا فَإنَّ القَلِيلَ مِنَ المَهْدِيِّينَ كَثِيرٌ في الحَقِيقَةِ وإنْ قَلُّوا في الصُّورَةِ فَسُمُّوا بِالكَثِيرِ ذَهابًا إلى الحَقِيقَةِ. المَسْألَةُ السّابِعَةَ عَشْرَةَ: قالَ الفَرّاءُ: الفاسِقُ أصْلُهُ مِن قَوْلِهِمْ: فَسَقَتِ الرَّطْبَةُ مِن قِشْرِها؛ أيْ خَرَجَتْ، فَكَأنَّ الفاسِقَ هو الخارِجُ عَنِ الطّاعَةِ، وتُسَمّى الفَأْرَةُ فُوَيْسِقَةٌ لِخُرُوجِها لِأجْلِ المَضَرَّةِ، واخْتَلَفَ أهْلُ القِبْلَةِ في أنَّهُ هَلْ هو مُؤْمِنٌ أوْ كافِرٌ، فَعِنْدَ أصْحابِنا أنَّهُ مُؤْمِنٌ، وعِنْدَ الخَوارِجِ أنَّهُ كافِرٌ، وعِنْدَ المُعْتَزِلَةِ أنَّهُ لا مُؤْمِنٌ ولا كافِرٌ، واحْتَجَّ المُخالِفُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿بِئْسَ الِاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإيمانِ﴾ [الحجرات: ١١]، وقالَ: ﴿إنَّ المُنافِقِينَ هُمُ الفاسِقُونَ﴾ [التوبة: ٦٧]، وقالَ: ﴿حَبَّبَ إلَيْكُمُ الإيمانَ وزَيَّنَهُ في قُلُوبِكم وكَرَّهَ إلَيْكُمُ الكُفْرَ والفُسُوقَ والعِصْيانَ﴾ [الحجرات: ٧]، وهَذِهِ المَسْألَةُ طَوِيلَةٌ مَذْكُورَةٌ في عِلْمِ الكَلامِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب