الباحث القرآني

طالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا﴾ [البقرة ٢٦]. * الشيخ: لا ﴿مَثَلًا﴾ قف. * الطالب: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (٢٦) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (٢٧) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [البقرة ٢٦ - ٢٨]. * الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾، ﴿لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا﴾، ولو كان مثلًا حقيرًا ما دام يثبت به الحق فالعبرة بالغاية، وقوله: ﴿أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا﴾، كلمة (ما) هنا يقولون: إنها نكرة واصفة، أي: مثلًا أيّ مثل، وقوله: ﴿بَعُوضَةً﴾ عطف بيان لـ(ما)، أي: مثلًا بعوضة فما فوقها، وقوله: ﴿بَعُوضَةً﴾ البعوضة معروفة، ويضرب بها المثل في الحقارة. وقد ذكروا أن سبب نزول هذه الآية[[انظر تفسير الطبري (١ / ٤٠٠)، الدر المنثور (١ / ٢٢٥).]] : أن المشركين اعترضوا كيف يضرب الله المثل بالذباب في قوله تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ﴾ [الحج ٧٣]، قالوا: ذباب يذكره الله عز وجل في مقام المحاجة؟! فبيّن الله عز وجل أنه لا يستحيي من الحق، حتى وإن ضرب المثل بالبعوضة فما فوقها. وقوله: ﴿مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾، ﴿فَمَا فَوْقَهَا﴾ هل المراد بما فوق أي فما فوقها في الحقارة، فيكون المعنى أدنى من البعوضة، أو فما فوقها في الارتفاع فيكون المراد ما هو أعلى من البعوضة؟ فأيهما مثلًا أعلى خلقة الذباب أو البعوضة؟ الذباب أكبر وأقوى لا شك، لكن مع ذلك يمكن أن يكون معنى الآية فما فوقها، أي فما دونها؛ لأن الفوقية تكون للأدنى وللأعلى، كما أن الوراء تكون للأمام وللخلف، كما في قوله تعالى: ﴿وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا﴾ [الكهف ٧٩]. ﴿بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾، ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ﴾ أي المثل الذي ضربه الله الحق من ربهم، ويؤمنون به، ويرون أن فيه آيات بينات، ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا﴾؛ لأنه لم يتبين لهم الحق لإعراضهم عنه، وقد قال الله تعالى: ﴿إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٣) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [المطففين ١٣، ١٤]، ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا﴾، ﴿مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ﴾ كلمة (ما) هنا اسم موصول؟ * الطلبة: استفهام. * الشيخ: استفهام، و(ذا) اسم إشارة، أي ما هذا أراد الله، ولكن يقال: إن (ذا) هنا اسم موصول، أي: ما الذي أراد الله بهذا مثلًا؟ كما قال ابن مالك: ؎وَمِثْلُ مَا ذَا بَعْدَ مَا اسْتِفْهَامِ ∗∗∗ أَوْ مَنْ إِذَا لَمْ تُلْغَ فِيالْكَلَامِ فلنا في إعرابها وجهان: أن نجعل (ماذا) كلمة واحدة، ونقول: كلها اسم استفهام، أو أن نجعل (ما) اسم استفهام مبتدأ، و(الذي) خبره، أي ما الذي أراد الله بهذا مثلًا؟ * طالب: (ذا) يا شيخ. * الشيخ: نعم (ذا)، (ذا) التي بمعنى (الذي). ﴿مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا﴾، ﴿مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا﴾ حال كونه مثلًا، فـ (مثلًا) هذه حال مِن (ذا)، قال الله تعالى: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا﴾ هذا ليس من قول الذين كفروا، ولهذا ينبغي الوقوف على قوله: ﴿مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا﴾، ﴿يُضِلُّ بِهِ﴾ أي بالمثل، ﴿كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾، فذكر الله عز وجل أن الناس في مقابلة الأمثال ينقسمون إلى قسمين: قسم يضل -والعياذ بالله- وقسم يهتدي، فمن الذي يضل؟ قال: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾؛ لأن الله تعالى لا يُضل أحدًا إلا إذا كان فيه زيغ كما قال تعالى: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف ٥]، فليس إضلال من يضله الله عز وجل لمجرد المشيئة، بل لأنه ليس أهلًا للهداية، ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾، ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾ أي الخارجين عن طاعة الله، والمراد هنا الخروج المطلق الذي هو الكفر؛ لأن الفسق قد يراد به الكفر، وقد يراد به ما دونه، ففي قوله تبارك وتعالى: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ﴾ [السجدة ٢٠]، المراد بالفسق هنا أيش؟ الكفر، وكذلك هنا المراد به الكفر. في هذه الآية الكريمة: إثبات الحياء لله؛ لقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا﴾، وهل الحياء الثابت لله كحياء المخلوق؟ لا؛ لأن حياء المخلوق انكسار لما يدهمه أي يدهم الإنسان ويعجز عن مقاومته، فتجده ينكسر ولا يتكلم، أو لا يفعل الشيء الذي يستحى منه، وقد جاء في السنة إثبات الحياء صريحًا في قول النبي ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ»[[أخرجه أبو داود (١٤٨٨)، والترمذي (٣٥٥٦) وقال: هذا حديث حسن غريب، ورواه بعضهم ولم يرفعه، وابن ماجه (٣٨٦٥) من حديث سلمان الفارسي.]]، ولكن كما هي القاعدة عندنا أن كل صفة أثبتها الله لنفسه فهي مفارقة لصفات المخلوق؛ لقوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى ١١]. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن الله تعالى يضرب الأمثال؛ لأن الأمثال أمور محسوسة يُستدل بها على الأمور المعقولة، انظر إلى قوله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا﴾ [العنكبوت ٤١]، هل هذا البيت يمنعها (...) من كوارث الدهر؟ لا، ﴿وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ﴾، وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ﴾ [الرعد ١٤]، إنسان بسط كفيه إلى الماء، غدير مثلًا أو نهر، بسط كفيه هكذا إلى الماء يريد أن يصل الماء إلى فمه، هذا لا يمكن، هؤلاء الذين يمدون أيديهم إلى الأصنام كالذي يمد يديه إلى النهر ليبلغ فاه، فالأمثال لا شك أنها تقرّب المعاني إلى الإنسان؛ إما لفهم المعنى، وإما لحكمتها وبيان وجه هذا المثل. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن البعوضة من أحقر المخلوقات؛ لقوله: ﴿بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾، ومع كونها من أحقر المخلوقات فإنها تقضّ مضاجع الجبابرة، أليس كذلك؟ نعم، وربما تهلك لو سُلِّطت على الإنسان لأهلكته، وهي هذه الحشرة الصغيرة المهينة. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: فضيلة الإيمان، وأن المؤمن لا يمكن أن يعارض ما أنزله الله عز وجل بعقله؛ لقوله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾، ولا يعترضون ولا يقولون: لم ولا كيف؟ يقولون: سمعنا وآمنا وصدقنا؛ لأنهم يؤمنون بأن الله عز وجل له الحكمة البالغة فيما شرع وقدّر. * ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات الربوبية الخاصة؛ لقوله: ﴿مِنْ رَبِّهِمْ﴾، واعلم أن ربوبية الله تنقسم إلى قسمين: عامة، وخاصة، وقد اجتمعا في قوله تعالى: ﴿قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (١٢١) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ﴾ [الأعراف ١٢١، ١٢٢]، فالأول ربوبية عامة والثاني خاصة، كما أن مقابل ذلك العبودية تنقسم إلى عبودية عامة كما في قوله تبارك وتعالى: ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السماوات وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾ [مريم ٩٣]، وخاصة كما في قوله تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ﴾ [الفرقان ١]. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن ديدن الكافرين الاعتراض، الاعتراض على حكم الله وحكمة الله؛ لقوله: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا﴾، وكل من اعترض ولو على جزء من الشريعة ففيه شبه بالكفار، فمثلًا لو قال: لماذا ينقض الوضوءَ لحمُ الإبل ولا ينقض الوضوء لحمُ الحمار مثلًا؟ ماذا نقول؟ نقول: هذا اعتراض، وهو دليل على نقص الإيمان، وإنما قلت: ولا ينقض لحم الحمار؛ لأن الحمار لحمه خبيث نجس، فلو أكله الإنسان للضرورة لم ينتقض وضوؤه ولغير ضرورة لا يجوز أكله. والدليل على أن الاعتراض على شريعة الله عز وجل وحكمه من ديدن الكفار قوله: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا﴾. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن لفظ الكثير لا يدل على الأكثر؛ لقوله: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾، فهنا لو أننا أخذنا بظاهر الآية لكان الضالون والمهتدون سواء، وليس كذلك؛ لأن بني آدم تسع مئة وتسعة وتسعون من الألف ضالون وواحد من الألف مهتدي، فكلمة (كثير) لا يعني الأكثر، وعلى هذا لو قال إنسان: عندي لك دراهم كثيرة، وأعطاه ثلاثة، يصح؟ * الطلبة: (...). * الشيخ: لأيش؟ لأن الكثير يُطلق على القليل وعلى الكثير، وعلى الأكثر يعني. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن إضلال مَن ضل ليس لمجرد المشيئة، بل لوجود العلة التي كانت سببًا في إضلال الله العبد؛ لقوله: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾. * ومن فوائد الآية الكريمة: الرد على القدرية الذين قالوا: إن أفعال العباد لا علاقة لها بفعل الله؛ لقوله: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾. * وفيها أيضًا: رد على الجبرية؛ لأن فسق هؤلاء الفاسقين كان سببًا وبإرادته، فيكون فيها رد على الطائفتين: القدرية النُّفَاة، والقدرية المثبِتة.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب