الباحث القرآني

﴿إنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أنْ يَضْرِبَ مَثَلا ما بَعُوضَةً﴾: شُرُوعٌ في تَنْزِيهِ ساحَةِ التَّنْزِيلِ عَنْ تَعَلُّقِ رَيْبٍ خاصٍّ؛ اعْتَراهم مِن جِهَةِ ما وقَعَ فِيهِ مِن ضَرْبِ الأمْثالِ؛ وبَيانٌ لِحِكْمَتِهِ؛ وتَحْقِيقٌ لِلْحَقِّ؛ إثْرَ تَنْزِيهِها عَمّا اعْتَراهم مِن مُطْلَقِ الرَّيْبِ؛ بِالتَّحَدِّي؛ وإلْقامِ الحَجَرِ؛ وإفْحامِ كافَّةِ البُلَغاءِ مِن أهْلِ المَدَرِ والوَبَرِ؛ رَوى أبُو صالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - أنَّ المُنافِقُونَ طَعَنُوا في ضَرْبِ الأمْثالِ بِالنّارِ؛ والظُّلُماتِ؛ والرَّعْدِ؛ والبَرْقِ؛ وقالُوا: اللَّهُ أجَلُّ وأعْلى مِن ضَرْبِ الأمْثالِ؛ ورَوى عَطاءٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنَّ هَذا الطَّعْنَ كانَ مِنَ المُشْرِكِينَ؛ ورُوِيَ عَنْهُ أيْضًا أنَّهُ لَمّا نَزَلَ قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿يا أيُّها النّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فاسْتَمِعُوا لَهُ﴾؛ الآيَةُ.. وقَوْلُهُ (تَعالى): ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أوْلِياءَ﴾؛ الآيَةُ.. قالَتِ اليَهُودُ: أيُّ قَدْرٍ لِلذُّبابِ؛ والعَنْكَبُوتِ؛ حَتّى يَضْرِبَ اللَّهُ (تَعالى) بِهِما الأمْثالَ؟ وجَعَلُوا ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلى إنْكارِ كَوْنِهِ مِن عِنْدِ اللَّهِ (تَعالى)؛ مَعَ أنَّهُ لا يَخْفى عَلى أحَدٍ - مِمَّنْ لَهُ تَمْيِيزٌ - أنَّهُ لَيْسَ مِمّا يُتَصَوَّرُ فِيهِ التَّرَدُّدُ؛ فَضْلًا عَنِ النَّكِيرِ؛ بَلْ هو مِن أوْضَحِ أدِلَّةِ كَوْنِهِ خارِجًا عَنْ طَوْقِ البَشَرِ؛ نازِلًا مِن عِنْدِ خَلّاقِ القُوى والقَدَرِ؛ كَيْفَ لا.. وإنَّ التَّمْثِيلَ؛ كَما مَرَّ؛ لَيْسَ إلّا إبْرازَ المَعْنى المَقْصُودِ في مَعْرِضِ الأمْرِ المَشْهُودِ؛ وتَحْلِيَةَ المَعْقُولِ بِحِلْيَةِ المَحْسُوسِ. وتَصْوِيرُ أوابِدِ المَعانِي بِهَيْئَةِ المَأْنُوسِ لِاسْتِمالَةِ الوَهْمِ؛ واسْتِنْزالِهِ عَنْ مُعارَضَتِهِ لِلْعَقْلِ؛ واسْتِعْصائِهِ عَلَيْهِ؛ في إدْراكِ الحَقائِقِ الخَفِيَّةِ؛ وفَهْمِ الدَّقائِقِ الأبِيَّةِ؛ كَيْ يُتابِعَهُ فِيما يَقْتَضِيهِ ويُشايِعُهُ؛ إلى ما يَرْتَضِيهِ؛ ولِذَلِكَ شاعَتِ الأمْثالُ في الكُتُبِ الإلَهِيَّةِ؛ والكَلِماتِ النَّبَوِيَّةِ؛ وذاعَتْ في عِباراتِ البُلَغاءِ؛ وإشاراتِ الحُكَماءِ؛ ومِن قَضِيَّةِ وُجُوبِ التَّماثُلِ بَيْنَ المُمَثَّلِ والمُمَثَّلِ بِهِ في مَناطِ التَّمْثِيلِ؛ تَمْثِيلُ العَظِيمِ بِالعَظِيمِ؛ والحَقِيرِ بِالحَقِيرِ؛ وقَدْ مُثِّلَ في الإنْجِيلِ غِلُّ الصَّدْرِ بِالنُّخالَةِ؛ ومُعارَضَةُ السُّفَهاءِ بِإثارَةِ الزَّنابِيرِ؛ وجاءَ في عِباراتِ البُلَغاءِ: أجْمَعُ مِن ذَرَّةٍ؛ وأجْرَأُ مِنَ الذُّبابِ؛ وأسْمَعُ مِن قُرادٍ؛ وأضْعَفُ مِن بَعُوضَةٍ؛ إلى غَيْرِ ذَلِكَ؛ مِمّا لا يَكادُ يُحْصَرُ؛ والحَياءُ: تَغَيُّرُ النَّفْسِ؛ وانْقِباضُها عَمّا يُعابُ بِهِ؛ أوْ يُذَمُّ عَلَيْهِ؛ يُقالُ: "حَيِيَ الرَّجُلُ"؛ و"هُوَ حَيِيٌّ"؛ واشْتِقاقُهُ مِن "الحَياةُ"؛ اشْتِقاقَ "شَظِيَ"؛ و"نَسِيَ"؛ و"حَشِيَ"؛ مِن "الشَّظْيُ"؛ و"النَّسْيُ"؛ و"الحَشْيُ"؛ يُقالُ: "شَظِيَ الفَرَسُ؛ ونَسِيَ؛ وحَشِيَ"؛ إذا اعْتَلَّتْ مِنهُ تِلْكَ الأعْضاءُ؛ كَأنَّ مَن يَعْتَرِيهِ الحَياءُ تَعْتَلُّ قُوَّتُهُ الحَيَوانِيَّةُ؛ وتُنْتَقَصُ. و"اسْتَحْيا" بِمَعْناهُ؛ خَلا أنَّهُ يَتَعَدّى بِنَفْسِهِ؛ وبِحَرْفِ الجَرِّ؛ يُقالُ: اسْتَحْيَيْتُهُ؛ واسْتَحْيَيْتُ مِنهُ؛ والأوَّلُ لا يَتَعَدّى إلّا بِحَرْفِ الجَرِّ؛ وقَدْ يُحْذَفُ مِنهُ إحْدى الياءَيْنِ؛ ومِنهُ قَوْلُهُ: ؎ ألا يَسْتَحِي مِنّا المُلُوكُ ويَتَّقِي ∗∗∗ مَحارِمَنا لا يَبْوُءُ الدَّمُ بِالدَّمِ وَقَوْلُهُ: ؎ إذا ما اسْتَحَيْنَ الماءَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ ∗∗∗ كَرَعْنَ بِسَبْتٍ في إناءٍ مِنَ الوَرْدِ فَكَما أنَّهُ إذا أُسْنِدَ إلَيْهِ - سُبْحانَهُ - بِطَرِيقِ الإيجابِ - في مِثْلِ قَوْلِهِ ﷺ: « "إنَّ اللَّهَ يَسْتَحْيِي مِن ذِي الشَّيْبَةِ المُسْلِمِ أنْ يُعَذِّبَهُ"؛» وقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -: ﴿إنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ؛ يَسْتَحْيِي إذا رَفَعَ إلَيْهِ العَبْدُ يَدَهُ أنْ يُرُدَّهُما صِفْرًا حَتّى يَضَعَ فِيهِما خَيْرًا﴾ - يُرادُ بِهِ التَّرْكُ الخاصُّ؛ عَلى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ؛ حَيْثُ مُثِّلَ في (p-72)الحَدِيثَيْنِ الكَرِيمَيْنِ تَرْكُهُ تَعْذِيبَ ذِي الشَّيْبَةِ؛ وتَخْيِيبُ العَبْدِ مِن عَطائِهِ؛ بِتَرْكِ مَن يَتْرُكُهُما حَياءً؛ كَذَلِكَ إذا نُفِيَ عَنْهُ (تَعالى) في المَوادِّ الخاصَّةِ؛ كَما في هَذِهِ الآيَةِ الشَّرِيفَةِ؛ وفي قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿واللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الحَقِّ﴾؛ يُرادُ بِهِ سَلْبُ ذَلِكَ التَّرْكِ الخاصِّ المُضاهِي لِتَرْكِ المُسْتَحْيِي عَنْهُ؛ لا سَلْبُ وصْفِ الحَياءِ عَنْهُ (تَعالى) رَأْسًا؛ كَما في قَوْلِكَ: إنَّ اللَّهَ لا يُوصَفُ بِالحَياءِ؛ لِأنَّ تَخْصِيصَ السَّلْبِ بِبَعْضِ المَوادِّ يُوهِمُ كَوْنَ الإيجابِ مِن شَأْنِهِ (تَعالى) في الجُمْلَةِ؛ فالمُرادُ هَهُنا عَدَمُ تَرْكِ ضَرْبِ المَثَلِ المُماثِلِ لِتَرْكِ مَن يَسْتَحْيِي مِن ضَرْبِهِ؛ وفِيهِ رَمْزٌ إلى تَعاضُدِ الدَّواعِي إلى ضَرْبِهِ؛ وتَآخُذِ البَواعِثِ إلَيْهِ؛ إذْ الِاسْتِحْياءُ إنَّما يُتَصَوَّرُ في الأفْعالِ المَقْبُولَةِ لِلنَّفْسِ؛ المَرْضِيَّةِ عِنْدَها؛ ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ وُرُودُهُ عَلى طَرِيقَةِ المُشاكَلَةِ؛ فَإنَّهم كانُوا يَقُولُونَ: أما يَسْتَحْيِي رَبُّ مُحَمَّدٍ أنْ يَضْرِبَ مَثَلًا بِالأشْياءِ المُحَقَّرَةِ؟ كَما في قَوْلِ مَن قالَ: ؎ مَن مُبْلِغٌ أفَناءَ يَعْرُبَ كُلَّها ∗∗∗ أنِّي بَنَيْتُ الجارَ قَبْلَ المَنزِلِ وَضَرْبُ المَثَلِ: اسْتِعْمالُهُ في مَضْرِبِهِ؛ وتَطْبِيقُهُ بِهِ؛ لا صُنْعُهُ وإنْشاؤُهُ في نَفْسِهِ؛ وإلّا لَكانَ إنْشاءُ الأمْثالِ السّائِرَةِ في مَوارِدِها ضَرْبًا لَها دُونَ اسْتِعْمالِها بَعْدَ ذَلِكَ في مَضارِبِها؛ لِفِقْدانِ الإنْشاءِ هُناكَ؛ والأمْثالُ الوارِدَةُ في التَّنْزِيلِ - وإنْ كانَ اسْتِعْمالُها في مَضارِبِها - عَيْنُ إنْشائِها في أنْفُسِها؛ لَكِنَّ التَّعْبِيرَ عَنْهُ بِالضَّرْبِ لَيْسَ بِهَذا الِاعْتِبارِ؛ بَلْ بِالِاعْتِبارِ الأوَّلِ؛ قَطْعًا؛ وهو مَأْخُوذٌ إمّا مِن ضَرْبِ الخاتَمِ؛ بِجامِعِ التَّطْبِيقِ؛ فَكَما أنَّ ضَرْبَهُ تَطْبِيقُهُ بِقالَبِهِ؛ كَذَلِكَ اسْتِعْمالُ الأمْثالِ في مَضارِبِها تَطْبِيقُها بِها؛ كَأنَّ المَضارِبَ قَوالِبُ تُضْرَبُ الأمْثالُ عَلى شاكِلَتِها؛ لَكِنْ لا بِمَعْنى أنَّها تَنْشَأُ بِحَسَبِها؛ بَعْدَ أنْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ؛ بَلْ بِمَعْنى أنَّها تُورَدُ مُنْطَبِقَةً عَلَيْها؛ سَواءٌ كانَ إنْشاؤُها حِينَئِذٍ - كَعامَّةِ الأمْثالِ التَّنْزِيلِيَّةِ؛ فَإنَّ مَضارِبَها قَوالِبُها -؛ أوْ قَبْلَ ذَلِكَ - كَسائِرِ الأمْثالِ السّائِرَةِ -؛ فَإنَّها وإنْ كانَتْ مَصْنُوعَةً مِن قَبْلُ إلّا أنَّ تَطْبِيقَها - أيْ إيرادَها مُنْطَبِقَةً عَلى مَضارِبِها - إنَّما يَحْصُلُ عِنْدَ الضَّرْبِ؛ وإمّا مِن ضَرْبِ الطِّينِ عَلى الجِدارِ لِيَلْتَزِقَ بِهِ؛ بِجامِعِ الإلْصاقِ؛ كَأنَّ مَن يَسْتَعْمِلُها يُلْصِقُها بِمَضارِبِها؛ ويَجْعَلُها ضَرْبَةَ لازِبٍ؛ لا تَنْفَكُّ عَنْها؛ لِشَدَّةِ تَعَلُّقِها بِها؛ ومَحَلُّ "أنْ يَضْرِبَ" - عَلى تَقْدِيرِ تَعْدِيَةِ "يَسْتَحْيِي" بِنَفْسِهِ - النَّصْبُ عَلى المَفْعُولِيَّةِ؛ وأمّا عَلى تَقْدِيرِ تَعْدِيَتِهِ بِالجارِّ فَعِنْدَ الخَلِيلِ: الخَفْضُ؛ بِإضْمارِ "مِن"؛ وعِنْدَ سِيبَوَيْهِ: النَّصْبُ؛ بِإفْضاءِ الفِعْلِ إلَيْهِ بَعْدَ حَذْفِها؛ و"مَثَلًا" مَفْعُولٌ لِـ "يَضْرِبَ"؛ و"ما" اسْمِيَّةٌ؛ إبْهامِيَّةٌ؛ تَزِيدُ ما تُقارِنُهُ مِنَ الِاسْمِ المُنَكَّرِ إبْهامًا وشَياعًا؛ كَما في قَوْلِكَ: أعْطِنِي كِتابًا ما؛ كَأنَّهُ قِيلَ: "مَثَلًا ما مِنَ الأمْثالِ؛ أيَّ مَثَلٍ كانَ"؛ فَهي صِفَةٌ لِما قَبْلَها؛ أوْ حَرْفِيَّةٌ؛ مَزِيدَةٌ لِتَقْوِيَةِ النِّسْبَةِ وتَوْكِيدِها؛ كَما في قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ﴾ . و"بَعُوضَةً": بَدَلٌ مِن "مَثَلًا"؛ أوْ عَطْفُ بَيانٍ عِنْدَ مَن يُجَوِّزُهُ في النَّكِراتِ؛ أوْ مَفْعُولٌ لِـ "يَضْرِبَ"؛ و"مَثَلًا" حالٌ تَقَدَّمَتْ عَلَيْها؛ لِكَوْنِها نَكِرَةً؛ أوْ هُما مَفْعُولاهُ؛ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنى الجَعْلِ والتَّصْيِيرِ؛ وقُرِئَ بِالرَّفْعِ؛ عَلى أنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ؛ أيْ: هو بَعُوضَةٌ؛ والجُمْلَةُ عَلى تَقْدِيرِ كَوْنِ "ما" مَوْصُولَةَ صِلَةٍ لَها؛ مَحْذُوفَةَ الصَّدْرِ؛ كَما في قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿تَمامًا عَلى الَّذِي أحْسَنَ﴾؛ عَلى قِراءَةِ الرَّفْعِ؛ وعَلى تَقْدِيرِ كَوْنِها مَوْصُوفَةَ صِفَةٍ لَها كَذَلِكَ. ومَحَلُّ "ما" عَلى الوَجْهَيْنِ: النَّصْبُ؛ عَلى أنَّهُ بَدَلٌ مِن "مَثَلًا"؛ أوْ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ لِـ "يَضْرِبَ"؛ وعَلى تَقْدِيرِ كَوْنِها إبْهامِيَّةً: صِفَةٌ لِـ "مَثَلًا" كَذَلِكَ؛ وأمّا عَلى تَقْدِيرِ كَوْنِها اسْتِفْهامِيَّةً فَهي خَبَرٌ لَها؛ كَأنَّهُ لَمّا ورَدَ اسْتِبْعادُهم ضَرْبَ المَثَلِ قِيلَ: ما بَعُوضَةٌ؟ وأيُّ مانِعٍ فِيها حَتّى لا يُضْرَبَ بِها المَثَلُ؟ بَلْ لَهُ (تَعالى) أنْ يُمَثِّلَ بِما هو أصْغَرُ مِنها وأحْقَرُ؛ كَجَناحِها؛ عَلى ما وقَعَ في قَوْلِهِ ﷺ: "لَوْ كانَتِ الدُّنْيا تَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَناحَ بَعُوضَةٍ ما سَقى الكافِرَ مِنها شَرْبَةَ ماءٍ". و"البَعُوضُ": "فَعُولٌ" مِن "البَعْضُ"؛ وهو "القَطْعُ"؛ كَـ "البَضْعُ" و"العَضْبُ"؛ غَلَبَ عَلى هَذا النَّوْعِ؛ كَـ "الخَمُوشُ"؛ في لُغَةِ هُذَيْلٍ؛ مِن "الخَمْشُ"؛ وهو "الخَدْشُ". ﴿فَما فَوْقَها﴾: عَطْفٌ عَلى "بَعُوضَةً"؛ عَلى (p-73)تَقْدِيرِ نَصْبِها عَلى الوُجُوهِ المَذْكُورَةِ؛ و"ما" مَوْصُولَةٌ؛ أوْ مَوْصُوفَةٌ؛ صِلَتُها الظَّرْفُ؛ وأمّا عَلى تَقْدِيرِ رَفْعِها فَهو عَطْفٌ عَلى "ما" الأُولى؛ عَلى تَقْدِيرِ كَوْنِها مَوْصُولَةً؛ أوْ مَوْصُوفَةً؛ وأمّا عَلى تَقْدِيرِ كَوْنِها اسْتِفْهامِيَّةً فَهو عَطْفٌ عَلى خَبَرِها؛ أعْنِي "بَعُوضَةً"؛ لا عَلى نَفْسِها؛ كَما قِيلَ؛ والمَعْنى: ما بَعُوضَةٌ فالَّذِي فَوْقَها؛ أوْ فَشَيْءٌ فَوْقَها؛ حَتّى لا يُضْرَبَ بِها المَثَلُ؟ وكَذا عَلى تَقْدِيرِ كَوْنِها صِفَةً لِلنَّكِرَةِ؛ أوْ زائِدَةٌ؛ و"بَعُوضَةٌ" خَبَرٌ لِلْمُضْمَرِ؛ وذِكْرُ البَعُوضَةِ؛ فَما فَوْقَها؛ مِن بَيْنِ أفْرادِ المَثَلِ إنَّما هو بِطَرِيقِ التَّمْثِيلِ؛ دُونَ التَّعْيِينِ والتَّخْصِيصِ؛ فَلا يُخِلُّ بِالشُّيُوعِ؛ بَلْ يُقَرِّرُهُ ويُؤَكِّدُهُ؛ بِطَرِيقِ الأوْلَوِيَّةِ؛ والمُرادُ بِالفَوْقِيَّةِ إمّا الزِّيادَةُ في المَعْنى الَّذِي أُرِيدَ بِالتَّمْثِيلِ؛ أعْنِي الصِّغَرَ والحَقارَةَ؛ وإمّا الزِّيادَةُ في الحَجْمِ والجُثَّةِ؛ لَكِنْ لا بالِغًا ما بَلَغَ؛ بَلْ في الجُمْلَةِ؛ كالذُّبابِ؛ والعَنْكَبُوتِ؛ وعَلى التَّقْدِيرِ الأوَّلِ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ "ما" الثّانِيَةُ خاصَّةً اسْتِفْهامِيَّةً إنْكارِيَّةً؛ والمَعْنى أنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَأيَّ شَيْءٍ فَوْقَها في الصِّغَرِ والحَقارَةِ؛ فَإذَنْ لَهُ (تَعالى) أنْ يُمَثِّلَ بِكُلِّ ما يُرِيدُ؛ ونَظِيرُهُ في احْتِمالِ الأمْرَيْنِ ما رُوِيَ أنَّ رَجُلًا بِمِنًى خَرَّ عَلى طُنُبِ فُسْطاطٍ؛ فَقالَتْ عائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - حِينَ ذُكِرَ لَها ذَلِكَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: « "ما مِن مُسْلِمٍ يُشاكُ شَوْكَةً فَما فَوْقَها إلّا كُتِبَتْ لَهُ بِها دَرَجَةٌ؛ ومُحِيَتْ عَنْهُ بِها خَطِيئَةٌ"؛» فَإنَّهُ يَحْتَمِلُ ما يُجاوِزُ الشَّوْكَةَ في القِلَّةِ؛ كَنَخْبَةِ النَّمْلَةِ؛ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -: « "ما أصابَ المُؤْمِنَ مِن مَكْرُوهٍ فَهو كَفّارَةٌ لِخَطاياهُ؛ حَتّى نَخْبَةُ النَّمْلَةِ"؛» وما تَجاوَزَها مِنَ الألَمِ؛ كَأمْثالِ ما حُكِيَ مِنَ الحَرُورِ. ﴿فَأمّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾: شُرُوعٌ في تَفْصِيلِ ما يَتَرَتَّبُ عَلى ضَرْبِ المَثَلِ مِنَ الحُكْمِ؛ إثْرَ تَحْقِيقِ حَقِّيَّةِ صُدُورِهُ عَنْهُ (تَعالى)؛ والفاءُ لِلدَّلالَةِ عَلى تَرَتُّبِ ما بَعْدَها عَلى ما يَدُلُّ عَلَيْهِ ما قَبْلَها؛ كَأنَّهُ قِيلَ: فَيَضْرِبُهُ فَأمّا الَّذِينَ.. إلَخْ.. وتَقْدِيمُ بَيانِ حالِ المُؤْمِنِينَ عَلى ما حُكِيَ مِنَ الكَفَرَةِ؛ مِمّا لا يَفْتَقِرُ إلى بَيانِ السَّبَبِ؛ وفي تَصْدِيرِ الجُمْلَتَيْنِ بِـ "أمّا" مِن إحْمادِ أمْرِ المُؤْمِنِينَ؛ وذَمِّ الكَفَرَةِ؛ ما لا يَخْفى؛ وهو حَرْفٌ مُتَضَمِّنٌ لِمَعْنى اسْمِ الشَّرْطِ؛ وفِعْلُهُ بِمَنزِلَةِ "مَهْما يَكُنْ مِن شَيْءٍ"؛ ولِذَلِكَ يُجابُ بِالفاءِ؛ وفائِدَتُهُ تَوْكِيدُ ما صُدِّرَ بِهِ؛ وتَفْصِيلُ ما في نَفْسِ المُتَكَلِّمِ مِنَ الأقْسامِ؛ فَقَدْ تُذْكَرُ جَمِيعًا؛ وقَدْ يُقْتَصَرُ عَلى واحِدٍ مِنها؛ كَما في قَوْلِهِ - عَزَّ وجَلَّ مِن قائِلٍ -: ﴿فَأمّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾؛ إلَخْ.. قالَ سِيبَوَيْهِ: "أمّا زَيْدٌ فَذاهِبٌ" مَعْناهُ: مَهْما يَكُنْ مِن شَيْءٍ فَهو ذاهِبٌ لا مَحالَةَ؛ وأنَّهُ مِنهُ عَزِيمَةٌ؛ وكانَ الأصْلُ دُخُولَ الفاءِ عَلى الجُمْلَةِ؛ لِأنَّها الجَزاءُ؛ لَكِنْ كَرِهُوا إيلاءَها حَرْفَ الشَّرْطِ؛ فَأدْخَلُوها الخَبَرَ؛ وعَوَّضَ المُبْتَدَأُ عَنِ الشَّرْطِ لَفْظًا؛ والمُرادُ بِالمَوْصُولِ: فَرِيقُ المُؤْمِنِينَ المَعْهُودِينَ؛ كَما أنَّ المُرادَ بِالمَوْصُولِ الآتِي فَرِيقُ الكَفَرَةِ؛ لا مَن يُؤْمِنُ بِضَرْبِ المَثَلِ؛ ومَن يَكْفُرُ بِهِ؛ لِاخْتِلالِ المَعْنى؛ أيْ: فَأمّا المُؤْمِنُونَ؛ ﴿فَيَعْلَمُونَ أنَّهُ الحَقُّ مِن رَبِّهِمْ﴾؛ كَسائِرِ ما ورَدَ مِنهُ (تَعالى)؛ والحَقُّ هُوَ: الثّابِتُ الَّذِي يَحِقُّ ثُبُوتُهُ لا مَحالَةَ؛ بِحَيْثُ لا سَبِيلَ لِلْعَقْلِ إلى إنْكارِهِ؛ لا الثّابِتُ مُطْلَقًا؛ واللّامُ لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّهُ مَشْهُودٌ لَهُ بِالحَقِّيَّةِ؛ وأنَّ لَهُ حِكَمًا؛ ومَصالِحَ؛ و"مِن" لِابْتِداءِ الغايَةِ المَجازِيَّةِ؛ وعامِلُها مَحْذُوفٌ؛ وقَعَ حالًا مِنَ الضَّمِيرِ المُسْتَكِنِّ في "الحَقُّ"؛ أوْ مِنَ الضَّمِيرِ العائِدِ إلى المَثَلِ؛ أوْ إلى ضَرْبِهِ؛ أيْ: كائِنًا وصادِرًا مِن رَبِّهِمْ؛ والتَّعَرُّضُ لِعُنْوانِ الربوبية؛ مَعَ الإضافَةِ إلى ضَمِيرِهِمْ؛ لِتَشْرِيفِهِمْ؛ ولِلْإيذانِ بِأنَّ ضَرْبَ المَثَلِ تَرْبِيَةٌ لَهُمْ؛ وإرْشادٌ إلى ما يُوَصِّلُهم إلى كَمالِهِمُ اللّائِقِ بِهِمْ؛ والجُمْلَةُ سادَّةٌ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ "يَعْلَمُونَ"؛ عِنْدَ الجُمْهُورِ؛ ومَسَدَّ مَفْعُولِهِ الأوَّلِ؛ والثّانِي مَحْذُوفٌ عِنْدَ الأخْفَشِ؛ أيْ: فَيَعْلَمُونَ حَقِّيَّتَهُ ثابِتَةً؛ ولَعَلَّ الِاكْتِفاءَ بِحِكايَةِ عِلْمِهِمُ المَذْكُورِ عَنْ حِكايَةِ اعْتِرافِهِمْ بِمُوجِبِهِ - كَما في قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿والرّاسِخُونَ في العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِن عِنْدِ رَبِّنا﴾ - لِلْإشْعارِ بِقُوَّةِ ما بَيْنَهُما مِنَ التَّلازُمِ؛ وظُهُورِهِ المُغْنِي عَنِ الذِّكْرِ. ﴿وَأمّا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾؛ مِمَّنْ حُكِيَتْ (p-74)أقْوالُهم وأحْوالُهُمْ؛ ﴿فَيَقُولُونَ ماذا أرادَ اللَّهُ بِهَذا مَثَلا﴾: أُوثِرَ "يَقُولُونَ" عَلى "لا يَعْلَمُونَ"؛ حَسْبَما يَقْتَضِيهِ ظاهِرُ قَرِينِهِ؛ دَلالَةً عَلى كَمالِ غُلُوِّهِمْ في الكُفْرِ؛ وتَرامِي أمْرِهِمْ في العُتُوِّ؛ فَإنَّ مُجَرَّدَ عَدَمِ العِلْمِ بِحَقِّيَّتِهِ لَيْسَ بِمَثابَةِ إنْكارِها؛ والِاسْتِهْزاءِ بِهِ صَرِيحًا؛ وتَمْهِيدًا لِتَعْدادِ ما نُعِيَ عَلَيْهِمْ في تَضاعِيفِ الجَوابِ مِنَ الضَّلالِ؛ والفِسْقِ؛ ونَقْضِ العَهْدِ؛ وغَيْرِ ذَلِكَ مِن شَنائِعِهِمُ المُتَرَتِّبَةِ عَلى قَوْلِهِمُ المَذْكُورِ؛ عَلى أنَّ عَدَمَ العِلْمِ بِحَقِّيَّتِهِ لا يَعُمُّ جَمِيعَهُمْ؛ فَإنَّ مِنهم مَن يَعْلَمُ بِها؛ وإنَّما يَقُولُ ما يَقُولُ مُكابَرَةً وعِنادًا؛ وحَمَلَهُ عَلى عَدَمِ الإذْعانِ؛ والقَبُولِ الشّامِلِ لِلْجَهْلِ والعِنادِ؛ تَعَسُّفٌ ظاهِرٌ؛ هَذا.. وقَدْ قِيلَ: كانَ مِن حَقِّهِ "وَأمّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَعْلَمُونَ"؛ لِيُطابِقَ قَرِينَهُ؛ ويُقابِلَ قَسِيمَهُ؛ لَكِنْ لَمّا كانَ قَوْلُهم هَذا دَلِيلًا واضِحًا عَلى جَهْلِهِمْ عُدِلَ إلَيْهِ عَلى سَبِيلِ الكِنايَةِ؛ لِيَكُونَ كالبُرْهانِ عَلَيْهِ؛ فَتَأمَّلْ؛ وكُنْ عَلى الحَقِّ المُبِينِ؛ و"ماذا" إمّا مُؤَلَّفَةٌ مِن كَلِمَةِ اسْتِفْهامٍ وقَعَتْ مُبْتَدَأً؛ خَبَرُهُ "ذا"؛ بِمَعْنى "الَّذِي"؛ وصِلَتُهُ ما بَعْدَهُ؛ والعائِدُ مَحْذُوفٌ؛ فالأحْسَنُ أنْ يَجِيءَ جَوابُهُ مَرْفُوعًا؛ وإمّا مُنْزَلَةٌ مَنزِلَةَ اسْمٍ واحِدٍ؛ بِمَعْنى: "أيُّ شَيْءٍ"؛ فالأحْسَنُ في جَوابِهِ النَّصْبُ؛ والإرادَةُ: نُزُوعُ النَّفْسِ ومَيْلُها إلى الفِعْلِ؛ بِحَيْثُ يَحْمِلُها إلَيْهِ؛ أوِ القُوَّةُ الَّتِي هي مَبْدَؤُةٌ؛ والأوَّلُ مَعَ الفِعْلِ؛ والثّانِي قَبْلَهُ؛ وكِلاهُما مِمّا لا يُتَصَوَّرُ في حَقِّهِ (تَعالى)؛ ولِذَلِكَ اخْتَلَفُوا في إرادَتِهِ - عَزَّ وجَلَّ -؛ فَقِيلَ: إرادَتُهُ (تَعالى) لِأفْعالِهِ كَوْنُهُ غَيْرَ ساهٍ فِيهِ؛ ولا مُكْرَهٍ؛ ولِأفْعالِ غَيْرِهِ أمْرُهُ بِها؛ فَلا تَكُونُ المَعاصِي بِإرادَتِهِ (تَعالى)؛ وقِيلَ: هي عِلْمُهُ بِاشْتِمالِ الأمْرِ عَلى النِّظامِ الأكْمَلِ؛ والوَجْهِ الأصْلَحِ؛ فَإنَّهُ يَدْعُو القادِرَ إلى تَحْصِيلِهِ؛ والحَقُّ أنَّها عِبارَةٌ عَنْ تَرْجِيحِ أحَدِ طَرَفَيِ المَقْدُورِ عَلى الآخَرِ؛ وتَخْصِيصُهُ بِوَجْهٍ دُونَ وجْهٍ؛ أوْ مَعْنًى يُوجِبُهُ؛ وهي أعَمُّ مِنَ الِاخْتِيارِ؛ فَإنَّهُ تَرْجِيحٌ مَعَ تَفْضِيلٍ؛ وفي كَلِمَةِ "هَذا" تَحْقِيرٌ لِلْمُشارِ إلَيْهِ؛ واسْتِرْذالٌ لَهُ؛ و"مَثَلًا" نُصِبَ عَلى التَّمْيِيزِ؛ أوْ عَلى الحالِ؛ كَما في قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿ناقَةُ اللَّهِ لَكم آيَةً﴾؛ ولَيْسَ مُرادُهم بِهَذِهِ العَظِيمَةِ اسْتِفْهامَ الحِكْمَةِ في ضَرْبِ المَثَلِ؛ ولا القَدْحَ في اشْتِمالِهِ عَلى الفائِدَةِ؛ مَعَ اعْتِرافِهِمْ بِصُدُورِهِ عَنْهُ - جَلَّ وعَلا -؛ بَلْ غَرَضُهُمُ التَّنْبِيهُ بِادِّعاءِ أنَّهُ مِنَ الدَّناءَةِ والحَقارَةِ بِحَيْثُ لا يَلِيقُ بِأنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ أمْرٌ مِنَ الأُمُورِ الدّاخِلَةِ تَحْتَ إرادَتِهِ (تَعالى)؛ عَلى اسْتِحالَةِ أنْ يَكُونَ ضَرْبُ المَثْلِ بِهِ مِن عِنْدِهِ - سُبْحانَهُ -؛ فَقَوْلُهُ - عَزَّ مِن قائِلٍ -: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا ويَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾؛ جَوابٌ عَنْ تِلْكَ المَقالَةِ الباطِلَةِ؛ ورَدٌّ لَها بِبَيانِ أنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلى حِكْمَةٍ جَلِيلَةٍ؛ وغايَةٍ جَمِيلَةٍ؛ هي كَوْنُهُ ذَرِيعَةً إلى هِدايَةِ المُسْتَعِدِّينَ لِلْهِدايَةِ؛ وإضْلالِ المُنْهَمِكِينَ في الغَوايَةِ؛ فَوُضِعَ الفِعْلانِ مَوْضِعَ الفِعْلِ الواقِعِ في الِاسْتِفْهامِ؛ مُبالَغَةً في الدَّلالَةِ عَلى تَحْقِيقِهِما؛ فَإنَّ إرادَتَهُما دُونَ وُقُوعِهِما بِالفِعْلِ؛ وتَجافِيًا عَنْ نَظْمِ الإضْلالِ مَعَ الهِدايَةِ في سِلْكِ الإرادَةِ لِإيهامِهِ تَساوِيهِما في تَعَلُّقِهِما؛ ولَيْسَ كَذَلِكَ؛ فَإنَّ المُرادَ بِالذّاتِ مِن ضَرْبِ المَثَلِ هو التَّذَكُّرُ والِاهْتِداءُ؛ كَما يُنْبِئُ عَنْهُ قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿وَتِلْكَ الأمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ لَعَلَّهم يَتَفَكَّرُونَ﴾؛ ونَظائِرُهُ؛ وأمّا الإضْلالُ فَهو أمْرٌ عارِضٌ مُتَرَتِّبٌ عَلى سُوءِ اخْتِيارِهِمْ؛ وأُوثِرَ صِيغَةُ الِاسْتِقْبالِ إيذانًا بِالتَّجَدُّدِ والِاسْتِمْرارِ؛ وقِيلَ: وُضِعَ الفِعْلانِ مَوْضِعَ مَصْدَرَيْهِما؛ كَأنَّهُ قِيلَ: أرادَ إضْلالَ كَثِيرٍ؛ وهِدايَةَ كَثِيرٍ؛ وقُدِّمَ الإضْلالُ عَلى الهِدايَةِ مَعَ تَقَدُّمِ حالِ المُهْتَدِينَ عَلى حالِ الضّالِّينَ فِيما قَبْلَهُ؛ لِيَكُونَ أوَّلُ ما يَقْرَعُ أسْماعَهم مِنَ الجَوابِ أمْرًا فَظِيعًا يَسُوءُهُمْ؛ ويَفُتُّ في أعَضادِهِمْ؛ وهو السِّرُّ في تَخْصِيصِ هَذِهِ الفائِدَةِ بِالذِّكْرِ؛ وقِيلَ: هو بَيانٌ لِلْجُمْلَتَيْنِ المُصَدَّرَتَيْنِ بِـ "أمّا"؛ وتَسْجِيلٌ بِأنَّ العِلْمَ بِكَوْنِهِ حَقًّا هُدًى؛ وأنَّ الجَهْلَ بِوَجْهِ إيرادِهِ؛ والإنْكارَ لِحُسْنِ مَوْرِدِهِ؛ ضَلالٌ وفُسُوقٌ وكَثْرَةُ كُلِّ فَرِيقٍ إنَّما هي بِالنَّظَرِ إلى أنْفُسِهِمْ؛ لا بِالقِياسِ إلى مُقابِلِيهِمْ؛ فَلا يَقْدَحُ في (p-75) ذَلِكَ أقَلِّيَّةُ أهْلِ الهُدى بِالنِّسْبَةِ إلى أهْلِ الضَّلالِ؛ حَسْبَما نَطَقَ بِهِ قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿وَقَلِيلٌ مِن عِبادِيَ الشَّكُورُ﴾؛ ونَحْوُ ذَلِكَ؛ واعْتِبارُ كَثْرَتِهِمُ الذّاتِيَّةِ دُونَ قِلَّتِهِمُ الإضافِيَّةِ؛ لِتَكْمِيلِ فائِدَةِ ضَرْبِ المَثَلِ وتَكْثِيرِها؛ ويَجُوزُ أنْ يُرادَ في الأوَّلِينَ الكَثْرَةُ مِن حَيْثُ العَدَدُ؛ وفي الآخِرِينَ مِن حَيْثُ الفَضْلُ والشَّرَفُ؛ كَما في قَوْلِ مَن قالَ: ؎ إنَّ الكِرامَ كَثِيرٌ في البِلادِ وإنْ ∗∗∗ قَلُّوا كَما غَيْرُهم قَلٌّ وإنْ كَثُرُوا وَإسْنادُ الإضْلالِ؛ أيْ خَلْقِ الضَّلالِ؛ إلَيْهِ - سُبْحانَهُ - مَبْنِيٌّ عَلى أنَّ جَمِيعَ الأشْياءِ مَخْلُوقَةٌ لَهُ (تَعالى)؛ وإنْ كانَ أفْعالُ العِبادِ مِن حَيْثُ الكَسْبُ مُسْتَنِدَةً إلَيْهِمْ؛ وجَعْلُهُ مِن قَبِيلِ إسْنادِ الفِعْلِ إلى سَبَبِهِ يَأْباهُ التَّصْرِيحُ بِالسَّبَبِ؛ وقُرِئَ: "يُضَلُّ بِهِ كَثِيرٌ ويُهْدى بِهِ كَثِيرٌ"؛ عَلى البِناءِ لِلْمَفْعُولِ؛ وتَكْرِيرُ "بِهِ" مَعَ جَوازِ الِاكْتِفاءِ بِالأوَّلِ لِزِيادَةِ تَقْرِيرِ السَّبَبِيَّةِ؛ وتَأْكِيدِها. ﴿وَما يُضِلُّ بِهِ﴾: أيْ بِالمَثَلِ؛ أوْ بِضَرْبِهِ؛ ﴿إلا الفاسِقِينَ﴾: عَطْفٌ عَلى ما قَبْلَهُ؛ وتَكْمِلَةٌ لِلْجَوابِ والرَّدِّ؛ وزِيادَةُ تَعْيِينٍ لِمَن أُرِيدَ إضْلالُهم بِبَيانِ صِفاتِهِمُ القَبِيحَةِ؛ المُسْتَتْبِعَةِ لَهُ؛ وإشارَةٌ إلى أنَّ ذَلِكَ لَيْسَ إضْلالًا ابْتِدائِيًّا؛ بَلْ هو تَثْبِيتٌ عَلى ما كانُوا عَلَيْهِ مِن فُنُونِ الضَّلالِ؛ وزِيادَةٌ فِيهِ؛ وقُرِئَ: "وَما يُضَلُّ بِهِ إلّا الفاسِقُونَ"؛ عَلى البِناءِ لِلْمَفْعُولِ؛ والفِسْقُ في اللُّغَةِ: الخُرُوجُ؛ يُقالُ: فَسَقَتِ الرُّطْبَةُ عَنْ قِشْرِها؛ والفَأْرَةُ مِن جُحْرِها؛ أيْ "خَرَجَتْ"؛ قالَ رُؤْبَةُ: ؎ يَذْهَبْنَ في نَجْدٍ وغَوْرًا غائِرًا ∗∗∗ فَواسِقًا عَنْ قَصْدِها جَوائِرا وَفِي الشَّرِيعَةِ: الخُرُوجُ عَنْ طاعَةِ اللَّهِ - عَزَّ وجَلَّ - بِارْتِكابِ الكَبِيرَةِ الَّتِي مِن جُمْلَتِها الإصْرارُ عَلى الصَّغِيرَةِ؛ ولَهُ طَبَقاتٌ ثَلاثٌ: الأُولى: التَّغابِي؛ وهو ارْتِكابُها أحْيانًا مُسْتَقْبِحًا لَها؛ والثّانِيَةُ: الِانْهِماكُ في تَعاطِيها؛ والثّالِثَةُ: المُثابَرَةُ عَلَيْها مَعَ جُحُودِ قُبْحِها؛ وهَذِهِ الطَّبَقَةُ مِن مَراتِبِ الكُفْرِ؛ فَما لَمْ يَبْلُغْها الفاسِقُ لا يُسْلَبْ عَنْهُ اسْمُ "المُؤْمِنُ"؛ لِاتِّصافِهِ بِالتَّصْدِيقِ الَّذِي عَلَيْهِ يَدُورُ الإيمانُ؛ ولِقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا﴾؛ والمُعْتَزِلَةُ لَمّا ذَهَبُوا إلى أنَّ الإيمانَ عِبارَةٌ عَنْ مَجْمُوعِ التَّصْدِيقِ؛ والإقْرارِ؛ والعَمَلِ؛ والكُفْرَ عَنْ تَكْذِيبِ الحَقِّ؛ وجُحُودِهِ؛ ولَمْ يَتَسَنَّ لَهم إدْخالُ الفاسِقِ في أحَدِهِما؛ فَجَعَلُوهُ قِسْمًا بَيْنَ قِسْمَيِ المُؤْمِنِ؛ والكافِرِ؛ لِمُشارَكَةِ كُلِّ واحِدٍ مِنهُما في بَعْضِ أحْكامِهِ. والمُرادُ بِالفاسِقِينَ هَهُنا: العاتُونَ؛ المارِدُونَ في الكُفْرِ؛ الخارِجُونَ عَنْ حُدُودِهِ؛ مِمَّنْ حُكِيَ عَنْهم ما حُكِيَ مِن إنْكارِ كَلامِ اللَّهِ (تَعالى)؛ والِاسْتِهْزاءِ بِهِ؛ وتَخْصِيصُ الإضْلالِ بِهِمْ مُتَرَتِّبًا عَلى صِفَةِ الفِسْقِ؛ وما أُجْرِيَ عَلَيْهِمْ مِنَ القَبائِحِ؛ لِلْإيذانِ بِأنَّ ذَلِكَ هو الَّذِي أعَدَّهم لِلْإضْلالِ؛ وأدّى بِهِمْ إلى الضَّلالِ؛ فَإنَّ كُفْرَهم وعُدُولَهم عَنِ الحَقِّ؛ وإصْرارَهم عَلى الباطِلِ؛ صَرَفَتْ وُجُوهَ أنْظارِهِمْ عَنِ التَّدَبُّرِ في حِكْمَةِ المَثَلِ؛ إلى حَقارَةِ المُمَثَّلِ بِهِ؛ حَتّى رَسَخَتْ بِهِ جَهالَتُهُمْ؛ وازْدادَتْ ضَلالَتُهُمْ؛ فَأنْكَرُوهُ؛ وقالُوا فِيهِ ما قالُوا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب