الباحث القرآني

(p-٨٥)القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [٢٦ ] ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أنْ يَضْرِبَ مَثَلا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأمّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أنَّهُ الحَقُّ مِن رَبِّهِمْ وأمّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أرادَ اللَّهُ بِهَذا مَثَلا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا ويَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وما يُضِلُّ بِهِ إلا الفاسِقِينَ﴾ "إنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها" أيْ: يَذْكُرُ مَثَلًا ما. يُقالُ ضَرَبَ مَثَلًا، ذَكَرَهُ، فَيَتَعَدّى لِمَفْعُولٍ واحِدٍ. أوْ صُيِّرَ، فَلِمَفْعُولَيْنِ. قالَ أبُو إسْحاقَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿واضْرِبْ لَهم مَثَلا﴾ [الكهف: ٣٢] أيِ: اذْكُرْ لَهم. وعِبارَةُ الجَوْهَرِيِّ: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا أيْ: وصَفَ وبَيَّنَ. وفي شَرْحِ نَظْمِ الفَصِيحِ: ضَرْبُ المَثَلِ: إيرادُهُ لِيَمْتَثِلَ بِهِ، ويَتَصَوَّرَ ما أرادَ المُتَكَلِّمُ بَيانَهُ لِلْمُخاطَبِ. يُقالُ: ضَرَبَ الشَّيْءُ مَثَلًا، وضَرَبَ بِهِ، وتَمَثَّلَهُ، وتَمَثَّلَ بِهِ. ثُمَّ قالَ: وهَذا مَعْنى قَوْلِ بَعْضِهِمْ: ضَرْبُ المَثَلِ اعْتِبارُ الشَّيْءِ بِغَيْرِهِ، وتَمْثِيلُهُ بِهِ. و"ما" هَذِهِ اسْمِيَّةٌ إبْهامِيَّةٌ، وهي الَّتِي إذا اقْتَرَنَتْ بِاسْمٍ نَكِرَةٍ أبْهَمَتْهُ إبْهامًا، وزادَتْهُ شِياعًا وعُمُومًا - كَقَوْلِكَ: أعْطِنِي كِتابًا ما،، تُرِيدُ أيَّ كِتابٍ كانَ -كَأنَّهُ قِيلَ: مَثَلًا ما مِنَ الأمْثالِ أيَّ مَثَلٍ كانَ. فَهي صِفَةٌ لِما قَبْلَها. أوْ حَرْفِيَّةٌ مَزِيدَةٌ لِتَقْوِيَةِ النِّسْبَةِ وتَوْكِيدِها -كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ﴾ [النساء: ١٥٥] كَأنَّهُ قِيلَ: لا يَسْتَحْيِي أنْ يَضْرِبَ مَثَلًا حَقًّا، أوِ البَتَّةَ. (p-٨٦)و"بَعُوضَةً" بَدَلٌ مِن "مَثَلًا". أوْ هُما مَفْعُولا "يَضْرِبُ"؛ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنى الجَعْلِ والتَّصْيِيرِ. ومَعْنى الآيَةِ: إنَّهُ تَعالى لا يَتْرُكُ ضَرْبَ المَثَلِ بِالبَعُوضَةِ، تَرْكَ مَن يَسْتَحْيِي أنْ يَتَمَثَّلَ بِها لِحَقارَتِها. أيْ لا يَسْتَصْغِرُ شَيْئًا يَضْرِبُ بِهِ مَثَلًا -ولَوْ كانَ في الحَقارَةِ والصِّغَرِ كالبَعُوضَةِ- كَما لا يَسْتَنْكِفُ عَنْ خَلْقِها، كَذَلِكَ لا يَسْتَنْكِفُ عَنْ ضَرْتِ المَثَلِ بِها. كَما ضَرَبَ المَثَلَ بِالذُّبابِ والعَنْكَبُوتِ في قَوْلِهِ: ﴿يا أيُّها النّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فاسْتَمِعُوا لَهُ إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبابًا ولَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وإنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنهُ ضَعُفَ الطّالِبُ والمَطْلُوبُ﴾ [الحج: ٧٣] وقالَ: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أوْلِياءَ كَمَثَلِ العَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وإنَّ أوْهَنَ البُيُوتِ لَبَيْتُ العَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [العنكبوت: ٤١] وغَيْرُ ذَلِكَ مِن أمْثالِ الكِتابِ العَزِيزِ، فَما اسْتَنْكَرَهُ السُّفَهاءُ، وأهْلُ العِنادِ والمِراءِ، واسْتَغْرَبُوهُ مِن أنْ تَكُونَ المُحَقَّراتُ مِنَ الأشْياءِ، ومَضْرُوبًا بِها المَثَلُ- لَيْسَ بِمَوْضِعٍ لِلِاسْتِنْكارِ والِاسْتِغْرابِ. مِن قِبَلِ أنَّ التَّمْثِيلَ إنَّما يُصارُ إلَيْهِ لِما فِيهِ مِن كَشْفِ المَعْنى، ورَفْعِ الحِجابِ عَنِ الغَرَضِ المَطْلُوبِ، وإدْناءِ المُتَوَهِّمِ مِنَ المُشاهَدِ. فَإنْ كانَ المُتَمَثِّلُ لَهُ عَظِيمًا، كانَ المُتَمَثِّلُ بِهِ مِثْلَهُ، وإنْ كانَ حَقِيرًا كانَ المُتَمَثِّلُ بِهِ كَذَلِكَ. فَلَيْسَ العِظَمُ والحَقارَةُ في المَضْرُوبِ بِهِ المَثَلُ إذًا، إلّا أمْرًا تَسْتَدْعِيهِ حالُ المُتَمَثَّلِ لَهُ وتَسْتَجِرُّهُ إلى نَفْسِها، فَيَعْمَلُ الضّارِبُ لِلْمَثَلِ عَلى حَسَبِ تِلْكَ القَضِيَّةِ. ألا تَرى إلى الحَقِّ لَمّا كانَ واضِحًا، جَلِيًّا أبْلَجَ، كَيْفَ تَمَثَّلَ لَهُ بِالضِّياءِ والنُّورِ ؟ وإلى الباطِلِ لَمّا كانَ بِضِدِّ صِفَتِهِ، كَيْفَ تَمَثَّلَ لَهُ بِالظُّلْمَةِ ؟ أفادَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. "فَأمّا الَّذِينَ آمَنُوا" شُرُوعٌ في تَفْصِيلِ ما يَتَرَتَّبُ عَلى ضَرْبِ المَثَلِ مِنَ الحُكْمِ إثْرَ (p-٨٧)تَحْقِيقِ حَقِّيَّةِ صُدُورِهِ عَنْهُ تَعالى -أيْ: فَأمّا المُؤْمِنُونَ "فَيَعْلَمُونَ أنَّهُ الحَقُّ مِن رَبِّهِمْ" كَسائِرِ ما ورَدَ مِنهُ تَعالى- والحَقُّ: هو الثّابِتُ الَّذِي لا يَسُوغُ إنْكارُهُ. وذَلِكَ لِأنَّ التَّمَثُّلَ بِهِ مَسُوقٌ عَلى قَضِيَّةِ مَضْرِبِهِ، ومُحْتَذًى عَلى مِثالِ ما يَسْتَدْعِيهِ - كَما جَعَلَ بَيْتَ العَنْكَبُوتِ مَثَلَ الآلِهَةِ الَّتِي جَعَلَها الكُفّارُ أنْدادًا لِلَّهِ تَعالى -وجُعِلَتْ أقَلَّ مِنَ الذُّبابِ، وأخَسَّ قَدْرًا، وضُرِبَتْ لَها البَعُوضَةُ فَما دُونَها مَثَلًا؛ لِأنَّهُ لا حالَ أحْقَرُ مِن تِلْكَ الأنْدادِ وأقَلُّ. . . . . . . ! . فالمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ عادَتُهُمُ الإنْصافُ، والعَمَلُ عَلى العَدْلِ والتَّسْوِيَةِ، والنَّظَرُ في الأُمُورِ بِناظِرِ العَقْلِ - إذا سَمِعُوا بِمِثْلِ هَذا التَّمْثِيلِ عَلِمُوا أنَّهُ الحَقُّ الَّذِي لا تَمُرُّ الشُّبْهَةُ بِساحَتِهِ، والصَّوابُ الَّذِي لا يَرْتَعُ الخَطَأُ حَوْلَهُ "وأمّا الَّذِينَ كَفَرُوا" مِمَّنْ غَلَبَهُمُ الجَهْلُ عَلى عُقُولِهِمْ، وغَشِيَهم عَلى بَصائِرِهِمْ- فَلا يَتَفَطَّنُونَ، ولا يُلْقُونَ أذْهانَهم، أوْ عَرَفُوا أنَّهُ الحَقُّ، إلّا أنَّ حُبَّ الرِّياسَةِ، وهَوى الإلْفِ والعادَةِ، لا يُخَلِّيهِمْ أنْ يُنْصِفُوا: "فَيَقُولُونَ ماذا أرادَ اللَّهُ بِهَذا مَثَلًا" أيْ: فَإذا سَمِعُوهُ عانَدُوا، وكابَرُوا، وقَضَوْا عَلَيْهِ بِالبُطْلانِ، وقابَلُوهُ بِالإنْكارِ، ولا خَفاءَ في أنَّ التَّمْثِيلَ بِالبَعُوضَةِ وبِأحْقَرَ مِنها- مِمّا لا تَغْبِي اسْتِقامَتُهُ وصِحَّتُهُ عَلى مَن بِهِ أدْنى مَسْكَةٍ، ولَكِنْ دَيْدَنُ المَحْجُوجِ المَبْهُوتِ الَّذِي لا يَبْقى لَهُ مُتَمَسِّكٌ بِدَلِيلٍ، ولا مُتَشَبِّثٌ بِأمارَةٍ ولا إقْناعٍ، أنْ يَرْمِيَ لِفَرْطِ الحَيْرَةِ، والعَجْزِ عَنْ إعْمالِ الحِيلَةِ، بِدَفْعِ الواضِحِ، وإنْكارِ المُسْتَقِيمِ، والتَّعْوِيلِ عَلى المُكابَرَةِ والمُغالَطَةِ- إذا لَمْ يَجِدْ سِوى ذَلِكَ مُعَوِّلًا. "يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا ويَهْدِي بِهِ كَثِيرًا" جَوابٌ عَنْ تِلْكَ المَقالَةِ الباطِلَةِ، ورَدَّ لَها بِبَيانِ أنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلى حِكْمَةٍ جَلِيلَةٍ، وغايَةٍ جَمِيلَةٍ، هي كَوْنُهُ ذَرِيعَةً إلى هِدايَةِ المُسْتَعِدِّينَ لِلْهِدايَةِ، وإضْلالِ المُنْهَمِكِينَ في الغِوايَةِ، وقَدَّمَ الإضْلالَ عَلى الهِدايَةِ -مَعَ تَقَدُّمِ حالِ المُهْتَدِينَ عَلى حالِ الضّالِّينَ فِيما قَبْلَهُ، لِيَكُونَ أوَّلُ ما يَقْرَعُ أسْماعَهم مِنَ الجَوابِ أمْرًا فَظِيعًا يَسُوؤُهم، ويُفِتُّ في أعَضادِهِمْ، وهو السِّرُّ في تَخْصِيصِ هَذِهِ الفائِدَةِ بِالذِّكْرِ "وما يُضِلُّ بِهِ" أيْ بِالمَثَلِ أوْ بِضَرْبِهِ "إلّا الفاسِقِينَ" تَكْمِلَةً لِلْجَوابِ والرَّدِّ، وزِيادَةَ تَعْيِينٍ لِمَن أُرِيدَ إضْلالُهم، بِبَيانِ صِفاتِهِمُ القَبِيحَةِ المُسْتَتْبَعَةِ لَهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب