الباحث القرآني

﴿والَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكم ويَذَرُونَ أزْواجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأنْفُسِهِنَّ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وعَشْرًا فَإذا بَلَغْنَ أجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكم فِيما فَعَلْنَ في أنْفُسِهِنَّ بِالمَعْرُوفِ واللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ ﴿ولا جُناحَ عَلَيْكم فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِن خِطْبَةِ النِّساءِ أوْ أكْنَنْتُمْ في أنْفُسِكم عَلِمَ اللَّهُ أنَّكم سَتَذْكُرُونَهُنَّ ولَكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إلّا أنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا ولا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتّى يَبْلُغَ الكِتابُ أجَلَهُ واعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما في أنْفُسِكم فاحْذَرُوهُ واعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٣٥] ﴿لا جُناحَ عَلَيْكم إنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ومَتِّعُوهُنَّ عَلى المُوسِعِ قَدَرُهُ وعَلى المُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعًا بِالمَعْرُوفِ حَقًّا عَلى المُحْسِنِينَ﴾ [البقرة: ٢٣٦] ﴿وإنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أنْ تَمَسُّوهُنَّ وقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إلّا أنْ يَعْفُونَ أوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وأنْ تَعْفُوا أقْرَبُ لِلتَّقْوى ولا تَنْسَوُا الفَضْلَ بَيْنَكم إنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [البقرة: ٢٣٧] ﴿حافِظُوا عَلى الصَّلَواتِ والصَّلاةِ الوُسْطى وقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ﴾ [البقرة: ٢٣٨] ﴿فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أوْ رُكْبانًا فَإذا أمِنتُمْ فاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكم ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٢٣٩]، يَذَرُ: مَعْناهُ يَتْرُكُ، ويُسْتَعْمَلُ مِنهُ الأمْرُ، ولا يُسْتَعْمَلُ مِنهُ اسْمُ الفاعِلِ ولا المَفْعُولِ، وجاءَ الماضِي مِنهُ عَلى طَرِيقِ الشُّذُوذِ. خَبِيرٌ: لِلْمُبالَغَةِ، مِن خَبِرْتُ الشَّيْءَ: عَلِمْتُهُ، ومِنهُ: قَتَلَ أرْضًا خابَرَها، وخَبَرْتُ زَيْدًا: اخْتَبَرْتُهُ؛ ولِهَذِهِ المادَّةِ يَرْجِعُ الخَبَرُ لِأنَّهُ الشَّيْءُ (p-٢٢١)المُعْلَمُ بِهِ، والخَبارُ: الأرْضُ اللَّيِّنَةُ. التَّعْرِيضُ: الإشارَةُ إلى الشَّيْءِ دُونَ تَصْرِيحٍ. الخِطْبَةُ، بِكَسْرِ الخاءِ: التِماسُ النِّكاحِ، يُقالُ خَطَبَ فُلانٌ فُلانَةً، أيْ: سَألَها خِطْبَهُ، أيْ: حاجَتَهُ، فَهو مِن قَوْلِهِمْ: ما خَطْبُكَ ؟ أيْ: ما حاجَتُكَ وأمْرُكَ ؟ قالَ الفَرّاءُ: الخِطْبَةُ مَصْدَرٌ بِمَعْنى الخَطْبِ، وهو مِن قَوْلِكَ: إنَّهُ يُحْسِنُ القِعْدَةَ والجِلْسَةَ، يُرِيدُ: القُعُودَ والجُلُوسَ. والخُطْبَةُ بِضَمِّ الخاءِ الكَلامُ المُشْتَمِلُ عَلى: الزَّجْرِ، والوَعْظِ، والأذْكارِ، وكِلاهُما راجِعٌ لِلْخِطابِ الَّذِي هو الكَلامُ، وكانَتْسَجاحُ يَقُولُ لَها الرَّجُلُ: خِطْبٌ، فَتَقُولُ نِكْحٌ. أكَنَّ الشَّيْءَ: أخْفاهُ في نَفْسِهِ، وكَنَّهُ: سَتَرَهُ شَيْءٌ، والهَمْزَةُ في أكَنَّ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ المَعْنَيَيْنِ، كَأشْرَقَتِ العُقْدَةُ، في الحَبْلِ، وفي الغُصْنِ: مَعْرُوفَةٌ، يُقالُ: عَقَدْتُ الحَبْلَ والعَهْدَ، ويُقالُ: أعْقَدْتُ العَسَلَ، وهو راجِعٌ لِمَعْنى الِاشْتِدادِ، وتَعَقَّدَ الأمْرُ عَلَيَّ اشْتَدَّ، ومِنهُ العُقُودُ. المُقَتِّرُ: المُقِلُّ، أقْتَرَ الرَّجُلُ وقَتَّرَ يُقْتِرُ ويُقَتِّرُ، والقِلَّةُ مَعْنًى شامِلٌ لِجَمِيعِ مَواقِعِ اشْتِقاقِهِ، ومِنهُ القَتِيرُ: وهو مِسْمارُ الدِّرْعِ، والقَتْرَةُ: أدْنى الغُبارِ، والنّامُوسِ الصِّغارِ، والقُتارُ: رِيحُ القِدْرِ، قالَ طَرَفَةُ: ؎حِينَ قالَ النّاسُ في مَجْلِسِهِمْ أقُتارٌ ذاكَ أمْ رِيحُ قُطُرْ ؟ والقُتُرُ: بُيُوتُ الصَّيّادِينَ عَلى الماءِ، قالَ الشّاعِرُ: ؎رُبَّ رامٍ مِن بَنِي ثُعَلٍ ∗∗∗ مُثْلِجٍ كَفَّيْهِ في قُتُرِهْ النِّصْفُ: هو الجُزْءُ مِنَ اثْنَيْنِ عَلى السَّواءِ، ويُقالُ: بِكَسْرِ النُّونِ وضَمِّها ونَصِيفٌ، ومِنهُ: (ما بَلَغَ مُدَّ أحَدِهِمْ ولا نَصِيفَهُ)، أيْ: نِصْفَهُ، كَما يُقالُ: ثُمُنٌ وثُمَيْنٌ، وعُشْرٌ وعُشَيْرٌ، وسُدُسٌ وسُدَيْسٌ، ومِنهُ قِيلَ: النَّصَفُ المِقْنَعَةُ الَّتِي تُوضَعُ عَلى رَأْسِ المَرْأةِ: نَصِيفٌ، وكُلُّ شَيْءٍ بَلَغَ نِصْفَ غَيْرِهِ فَهو نِصْفٌ، يُقالُ: نَصَفَ النَّهارُ يَنْصُفُ، ونَصَفَ الماءُ القَدَحَ، والإزارُ السّاقَ، والغُلامُ القُرْآنَ، وحَكى الفَرّاءُ في جَمِيعِ هَذا: أنْصَفَ. المُحافَظَةُ عَلى الشَّيْءِ: المُواظَبَةُ عَلَيْهِ، وهو مِنَ الحِفْظِ، حَفِظَ المَكانَ: حَرَسَهُ، وحَفِظَ القُرْآنَ: تَذَكَّرَهُ غائِبًا، وهو راجِعٌ لِمَعْنى الحِراسَةِ، وحَفِظَ فُلانٌ: غَضِبَ، وأحْفَظَهُ: أغْضَبَهُ، ومَصْدَرُ ”حَفِظَ“ بِمَعْنى غَضِبَ: الحَفِيظَةُ والحِفْظُ. الرُّكُوبُ: مَعْرُوفٌ، ورُكْبانٌ: جَمْعُ راكِبٍ، وهو صِفَةٌ اسْتُعْمِلَتِ اسْتِعْمالَ الأسْماءِ، فَحَسُنَ أنْ يُجْمَعَ جَمْعَ الأسْماءِ، ومَعَ ذَلِكَ فَهو في الأسْماءِ مَحْفُوظٌ قَلِيلٌ، قالُوا: حاجِرٌ وحُجْرانٌ، ومِثْلُ رُكْبانٍ: صُحْبانٌ ورُعْيانٌ، جَمْعُ صاحِبٍ وراعٍ، فَإنْ لَمْ تُسْتَعْمَلِ الصِّفَةُ اسْتِعْمالَ الأسْماءِ لَمْ يَجِئْ فِيها فِعْلانٌ، لَمْ يَرِدْ مِثْلُ: ضِرْبانٍ وقِتْلانٍ، في جَمْعِ ضارِبٍ وقاتِلٍ. ﴿والَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكم ويَذَرُونَ أزْواجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأنْفُسِهِنَّ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وعَشْرًا﴾، مُناسَبَةُ هَذِهِ الآيَةِ لِما قَبْلَها أنَّهُ لَمّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ عِدَّةِ طَلاقِ الحَيْضِ، (p-٢٢٢)واتَّصَلَتِ الأحْكامُ إلى ذِكْرِ الرَّضاعِ، وكانَ في ضِمْنِها قَوْلُهُ: ﴿وعَلى الوارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ [البقرة: ٢٣٣]، أيْ: وارِثُ المَوْلُودِ لَهُ، ذِكْرُ عِدَّةِ الوَفاةِ؛ إذْ كانَتْ مُخالِفَةً لِعِدَّةِ طَلاقِ الحَيْضِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ”يُتَوَفَّوْنَ“ بِضَمِّ الياءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وقَرَأ عَلِيٌّ، والمُفَضَّلُ عَنْ عاصِمٍ بِفَتْحِ الياءِ مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ، ومَعْنى هَذِهِ القِراءَةِ: أنَّهم يَسْتَوْفُونَ آجالَهم. وإعْرابُ ”الَّذِينَ“: مُبْتَدَأٌ، واخْتُلِفَ ألَهُ خَبَرٌ أمْ لا ؟ فَذَهَبَ الكِسائِيُّ والفِراءُ إلى أنَّهُ لا خَبَرَ لَهُ، بَلْ أخْبَرَ عَنِ الزَّوْجاتِ المُتَّصِلِ ذِكْرُهُنَّ بِـ ”الَّذِينَ“؛ لِأنَّ الحَدِيثَ مَعَهُنَّ في الِاعْتِدادِ بِالأشْهُرِ؛ فَجاءَ الخَبَرُ عَمّا هو المَقْصُودُ، والمَعْنى: مَن ماتَ عَنْها زَوْجُها تَرَبَّصَتْ، وأنْشَدَ الفَرّاءُ - رَحِمَهُ اللَّهُ: ؎لَعَلِّيَ إنْ مالَتْ بِيَ الرِّيحُ مَيْلَةً ∗∗∗ عَلى ابْنِ أبِي ذَيّانَ أنْ يَتَنَدَّما فَقالَ: لَعَلِّي، ثُمَّ قالَ: أنْ يَتَنَدَّما؛ لِأنَّ المَعْنى: لَعَلَّ ابْنَ أبِي ذَيّانَ إنْ مالَتْ بِيَ الرِّيحُ مَيْلَةً أنْ يَتَنَدَّما. وقالَ الشّاعِرُ: ؎بَنِي أسَدٍ إنَّ ابْنَ قَيْسٍ وقَتْلَهُ ∗∗∗ بِغَيْرِ دَمٍ دارَ المَذَلَّةِ حَلَّتِ ألْغى ابْنَ قَيْسٍ، وقَدِ ابْتَدَأ بِذِكْرِهِ وأخْبَرَ عَنْ قَتْلِهِ أنَّهُ ذُلٌّ. وتَحْرِيرُ مَذْهَبِ الفَرّاءِ أنَّ العَرَبَ إذا ذَكَرَتْ أسْماءً مُضافَةً إلَيْها، فِيها مَعْنى الخَبَرِ، أنَّها تَتْرُكُ الإخْبارَ عَنِ الِاسْمِ الأوَّلِ ويَكُونُ الخَبَرُ عَنِ المُضافِ، مِثالُهُ: إنَّ زَيْدًا وأُخْتَهُ مُنْطَلِقَةٌ؛ لِأنَّ المَعْنى: إنَّ أُخْتَ زَيْدٍ مُنْطَلِقَةٌ، والبَيْتُ الأوَّلُ لَيْسَ مِن هَذا الضَّرْبِ، وإنَّما أوْرَدُوا مِمّا يُشْبِهُ هَذا الضَّرْبَ قَوْلَ الشّاعِرِ: ؎فَمَن يَكُ سائِلًا عَنِّي فَإنِّي ∗∗∗ وجِرْوَةَ لا تَرُودُ ولا تُعارُ والرَّدُّ عَلى الفَرّاءِ، وتَأْوِيلُ الأبْياتِ والآيَةِ؛ مَذْكُورٌ في النَّحْوِ. وذَهَبَ الجُمْهُورُ إلى أنَّ لَهُ خَبَرًا، واخْتَلَفُوا، فَقِيلَ: هو مَلْفُوظٌ بِهِ، وهو: يَتَرَبَّصْنَ، ولا حَذْفٌ يُصَحِّحُ مَعْنى الخَبَرِ؛ لِأنَّهُ رُبِطَ مِن جِهَةِ المَعْنى؛ لِأنَّ النُّونَ في ”يَتَرَبَّصْنَ“ عائِدٌ، فَقِيلَ: عَلى الأزْواجِ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ، فَلَوْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فَقِيلَ: يَتَرَبَّصْنَ أزْواجَهم - لَمْ يَحْتَجْ إلى حَذْفٍ، وكانَ إخْبارًا صَحِيحًا، فَكَذَلِكَ ما هو بِمَعْناهُ، وهو قَوْلُ الزَّجّاجِ. وقِيلَ: ثَمَّ حَذْفٌ يُصَحِّحُ مَعْنى الخَبَرِيَّةِ، واخْتَلَفُوا في مَحَلِّ الحَذْفِ، فَقِيلَ: مِنَ المُبْتَدَأِ، والتَّقْدِيرُ: وأزْواجُ الَّذِينَ؛ ودَلَّ عَلى المَحْذُوفِ قَوْلُهُ: ﴿ويَذَرُونَ أزْواجًا﴾ [البقرة: ٢٤٠] . وقِيلَ: مِنَ الخَبَرِ، وتَقْدِيرُهُ: يَتَرَبَّصْنَ بَعْدَهم، أوْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ، قالَهُ الأخْفَشُ. وقِيلَ: مِنَ الخَبَرِ، وهو أنْ يَكُونَ الخَبَرُ جُمْلَةً مِن مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وخَبَرُهُ ”يَتَرَبَّصْنَ“، تَقْدِيرُهُ: أزْواجُهم يَتَرَبَّصْنَ، ودَلَّ عَلَيْهِ المُظْهَرُ، قالَهُ المُبَرِّدُ. وقِيلَ: الخَبَرُ بِجُمْلَتِهِ مَحْذُوفٌ مُقَدَّرٌ قَبْلَ المُبْتَدَأِ، تَقْدِيرُهُ: فِيما يُتْلى عَلَيْكم حُكْمُ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكم ويَذَرُونَ أزْواجًا. وقَوْلُهُ: ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأنْفُسِهِنَّ﴾ بَيانٌ لِلْحُكْمِ المَتْلُوِّ، وهي جُمْلَةٌ لا مَوْضِعَ لَها مِنَ الإعْرابِ، قالُوا: وهَذا قَوْلُ سِيبَوَيْهِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إنَّما يَتَّجِهُ ذَلِكَ إذا كانَ في الكَلامِ لَفْظُ أمْرٍ بَعْدُ، مِثْلَ قَوْلِهِ: ﴿والسّارِقُ والسّارِقَةُ فاقْطَعُوا أيْدِيَهُما﴾ [المائدة: ٣٨]، وهَذِهِ الآيَةُ فِيها مَعْنى الأمْرِ لا لَفْظُهُ؛ فَيَحْتاجُ في هَذا التَّقْدِيرِ إلى تَقْدِيرٍ آخَرَ يُسْتَغْنى عَنْهُ إذا حَضَرَ لَفْظُ الأمْرِ، وحَسُنَ مَجِيءُ الآيَةِ هَكَذا أنَّها تَوْطِئَةٌ لِقَوْلِهِ: ﴿فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ﴾؛ إذِ القَصْدُ بِالمُخاطَبَةِ مِن أوَّلِ الآيَةِ إلى آخِرِها لِلرِّجالِ الَّذِينَ مِنهُمُ الحُكّامُ والنُّظّارُ، عِبارَةُ الأخْفَشِ والمُبَرِّدِ ما ذَكَرْناهُ. انْتَهى كَلامُهُ. وظاهِرَةُ قَوْلِهِ ”يَتَرَبَّصْنَ“ العُمُومُ في كُلِّ امْرَأةٍ تُوَفِّيَ عَنْها زَوْجُها، فَيَدْخُلُ فِيهِ الأمَةُ والكِتابِيَّةُ والصَّغِيرَةُ. ورُوِيَ عَنْ أبِي حَنِيفَةَ أنَّ عِدَّةَ الكِتابِيَّةِ ثَلاثُ حِيَضٍ إذا تُوُفِّيَ عَنْها زَوْجُها، ورُوِيَ عَنْهُ أنَّ عَلَيْها عِدَّةً، فَإنْ لَمْ يَدْخُلْ فَلا عِدَّةَ قَوْلًا واحِدًا، ويَتَخَرَّجُ عَلى هَذَيْنِ القَوْلَيْنِ الإحْدادُ، وتَخْصِيصُ الحامِلِ قِيلَ بِقَوْلِهِ: ﴿وأُولاتُ الأحْمالِ أجَلُهُنَّ﴾ [الطلاق: ٤] الآيَةَ، ولَمْ يُخَصِّصِ الشّافِعِيُّ هُنا العُمُومَ في حَقِّ الحامِلِ إلّا بِالسُّنَّةِ لا بِهَذِهِ الآيَةِ؛ لِأنَّها ورَدَتْ عُقَيْبَ ذِكْرِ المُطَلَّقاتِ، فَيُحْتَمَلُ أنْ يُقالَ: هي في المُطَلَّقَةِ لا في المُتَوَفّى عَنْها زَوْجُها، ولِأنَّ كُلَّ واحِدَةٍ مِنَ الآيَتَيْنِ أعَمُّ مِنَ الأُخْرى (p-٢٢٣)مِن وجْهٍ، وأخَصُّ مِنها مِن وجْهٍ؛ لِأنَّ الحامِلَ قَدْ يُتَوَفّى عَنْها زَوْجُها وقَدْ لا يُتَوَفّى، والَّتِي تُوَفِّيَ عَنْها زَوْجُها قَدْ تَكُونُ حامِلًا وقَدْ لا تَكُونُ؛ فامْتُنِعَ التَّخْصِيصُ. وقِيلَ: الآيَةُ تَتَناوَلُ أوَّلًا الحَوامِلَ، ثُمَّ نُسِخَ بِقَوْلِهِ: ﴿وأُولاتُ الأحْمالِ﴾ [الطلاق: ٤]، وعِدَّةُ الحامِلِ وضْعُ حَمْلِها عِنْدَ الجُمْهُورِ. ورُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، وابْنِ عَبّاسٍ، وغَيْرِهِما: أنَّ تَمامَ عِدَّتِها آخِرُ الأجَلَيْنِ، واخْتارَهُ سَحْنُونُ، ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ. ومَعْنى: ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأنْفُسِهِنَّ﴾ أيْ: يَنْتَظِرْنَ، قِيلَ: والتَّرَبُّصُ هُنا الصَّبْرُ عَنِ النِّكاحِ، قالَهُ الحَسَنُ، قالَ: ولَيْسَ الإحْدادُ بِشَيْءٍ، ولَها أنْ تَتَزَيَّنَ وتَتَطَيَّبَ. وضُعِّفَ قَوْلُهُ. وقِيلَ: تَرْكُ التَّزَوُّجِ ولُزُومُ البَيْتِ والإحْدادُ، وهو أنْ تَمْتَنِعَ مِنَ الزِّينَةِ، ومِن لُبْسِ المَصْبُوغِ الجَمِيلِ مِثْلَ الحُمْرَةِ والصُّفْرَةِ والخُضْرَةِ، والطِّيبِ، وما يَجْرِي مَجْرى ذَلِكَ، وهَذا قَوْلُ الجُمْهُورِ. ولَيْسَ في الآيَةِ نَصٌّ عَلى الإحْدادِ، بَلِ التَّرَبُّصُ مُجْمَلٌ بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ؛ ثَبَتَ في حَدِيثِ الفُرَيْعَةِ قَوْلُهُ ﷺ: (امْكُثِي في بَيْتِكِ حَتّى يَبْلُغَ الكِتابُ أجَلَهُ)، وكانَتْ مُتَوَفّى عَنْها زَوْجُها، قالَتْ: فاعْتَدَدْتُ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وعَشْرًا. وصَحَّ أنَّهُ قالَ: (لا يَحِلُّ لِامْرَأةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ أنْ تُحِدَّ عَلى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاثٍ إلّا عَلى زَوْجٍ؛ فَإنَّها تُحِدُّ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وعَشْرًا، وتَلْزَمُ المَبِيتَ في بَيْتِها)، وهَذا قَوْلُ الجُمْهُورِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وأبُو حَنِيفَةَ، وغَيْرُهُما: تَبِيتُ حَيْثُ شاءَتْ، ورُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وجابِرٍ، وعائِشَةَ، وبِهِ قالَ عَطاءٌ، وجابِرُ بْنُ زَيْدٍ، والحَسَنُ، وداوُدُ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: قالَ تَعالى: ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأنْفُسِهِنَّ﴾ ولَمْ يَقُلْ: يَعْتَدِدْنَ في بُيُوتِهِنَّ، ولْتَعْتَدَّ حَيْثُ شاءَتْ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وعَشْرًا، قالُوا: مَعْناهُ وعَشْرَ لَيالٍ؛ ولِذَلِكَ حَذَفَ التّاءَ، وهي قِراءَةُ ابْنِ عَبّاسٍ. والمُرادُ عَشْرُ لَيالٍ بِأيّامِها، فَيَدْخُلُ اليَوْمُ العاشِرُ، قِيلَ: وغَلَبَ حُكْمُ اللَّيالِي؛ إذِ اللَّيالِي أسْبَقُ مِنَ الأيّامِ، والأيّامَ في ضِمْنِها، وعَشْرٌ أخَفُّ في اللَّفْظِ، ولا تَنْقَضِي عِدَّتُها إلّا بِانْقِضاءِ اليَوْمِ العاشِرِ، هَذا قَوْلُ الجُمْهُورِ. وقالَ الأوْزاعِيُّ، وأبُو بَكْرٍ الأحَمُّ: لَيْسَ اليَوْمُ العاشِرُ مِنَ العِدَّةِ، بَلْ تَنْقَضِي بِتَمامِ عَشْرِ لَيالٍ. وقالَ المُبَرِّدُ: مَعْناهُ وعَشْرَ مُدَدٍ كُلُّ مُدَّةٍ مِنها يَوْمٌ ولَيْلَةٌ، تَقُولُ العَرَبُ: سِرْنا خَمْسًا، أيْ: بَيْنَ يَوْمٍ ولَيْلَةٍ، قالَ الشّاعِرُ: ؎فَطافَتْ ثَلاثًا بَيْنَ يَوْمٍ ولَيْلَةٍ ∗∗∗ وكانَ النَّكِيرُ أنْ تُضِيفَ وتَجْأرا وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وقِيلَ عَشْرٌ إذْهابًا إلى اللَّيالِي، والأيّامُ داخِلَةٌ مَعَها، ولا تَراهم قَطُّ يَسْتَعْمِلُونَ التَّذْكِيرَ فِيهِ ذاهِبِينَ إلى الأيّامِ، تَقُولُ: صُمْتُ عَشْرًا، ولَوْ ذُكِرَتْ خَرَجَتْ مِن كَلامِهِمْ، ومِنَ البَيِّنِ فِيهِ: ﴿إنْ لَبِثْتُمْ إلّا عَشْرًا﴾ [طه: ١٠٣]، ﴿إنْ لَبِثْتُمْ إلّا يَوْمًا﴾ [طه: ١٠٤] . انْتَهى كَلامُهُ. ولا يَحْتاجُ إلى تَأْوِيلٍ ”عَشْرٌ“ بِأنَّها لَيالٍ لِأجْلِ حَذْفِ التّاءِ، ولا إلى تَأْوِيلِها بِمُدَدٍ، كَما ذَهَبَ إلَيْهِ المُبَرِّدُ، بَلِ الَّذِي نَقَلَ أصْحابُنا أنَّهُ: إذا كانَ المَعْدُودُ مُذَكَّرًا وحَذَفْتَهُ، فَلَكَ فِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما، وهو الأصْلُ: أنْ يَبْقى العَدَدُ عَلى ما كانَ عَلَيْهِ لَوْ لَمْ يُحْذَفِ المَعْدُودُ؛ فَتَقُولُ: صُمْتُ خَمْسَةً، تُرِيدُ: خَمْسَةَ أيّامٍ، قالُوا: وهو الفَصِيحُ، قالُوا: ويَجُوزُ أنْ تُحْذَفَ مِنهُ كُلِّهِ تاءُ التَّأْنِيثِ، وحَكى الكِسائِيُّ عَنْ أبِي الجَرّاحِ: صُمْنا مِنَ الشَّهْرِ خَمْسًا، ومَعْلُومٌ أنَّ الَّذِي يُصامُ مِنَ الشَّهْرِ إنَّما هي الأيّامُ، واليَوْمُ مُذَكَّرٌ، وكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ؎وإلّا فَسِيرِي مِثْلَ ما سارَ راكِبٌ ∗∗∗ يُتَمِّمُ خَمْسًا لَيْسَ في سَيْرِهِ أمَمْ (p-٢٢٤)يُرِيدُ خَمْسَةَ أيّامٍ، وعَلى ذَلِكَ ما جاءَ في الحَدِيثِ، ثُمَّ أتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِن شَوّالٍ، وإذا تَقَرَّرَ هَذا فَجاءَ قَوْلُهُ: عَشْرًا عَلى أحَدِ الجائِزَيْنِ، وحُسْنُهُ هُنا أنَّهُ مَقْطَعُ كَلامٍ، فَهو شَبِيهٌ بِالفَواصِلِ، كَما حَسَّنَ قَوْلَهُ: ﴿إنْ لَبِثْتُمْ إلّا عَشْرًا﴾ [طه: ١٠٣] كَوْنُهُ فاصِلَةً، فَلِذَلِكَ اخْتِيرَ مَجِيءُ هَذا عَلى أحَدِ الجائِزَيْنِ، فَقَوْلُهُ: ولَوْ ذُكِرَتْ لَخَرَجَتْ عَنْ كَلامِهِمْ، لَيْسَ كَما ذُكِرَ، بَلْ لَوْ ذُكِرَ لَكانَ أتى عَلى الكَثِيرِ الَّذِي نَصُّوا عَلَيْهِ أنَّهُ الفَصِيحُ؛ إذْ حالُهُ عِنْدَهم مَحْذُوفًا كَحالِهِ مُثْبَتًا في الفَصِيحِ، وجَوَّزُوا الَّذِي ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلى أنَّ غَيْرَهُ أكْثَرُ مِنهُ، وقَوْلُهُ: ولا تَراهم قَطُّ يَسْتَعْمِلُونَ التَّذْكِيرَ فِيهِ، كَما ذُكِرَ؛ بَلِ اسْتِعْمالُ التَّذْكِيرِ هو الكَثِيرُ الفَصِيحُ فِيهِ كَما ذَكَرْنا. وقَوْلُهُ: ومِنَ البَيِّنِ فِيهِ ﴿إنْ لَبِثْتُمْ إلّا عَشْرًا﴾ [طه: ١٠٣] قَدْ بَيَّنّا مَجِيءَ هَذا عَلى الجائِزِ فِيهِ، وأنَّ مُحَسِّنَ ذَلِكَ إنَّما هو كَوْنُهُ فاصِلَةً، وقَوْلُهُ: ﴿إنْ لَبِثْتُمْ إلّا يَوْمًا﴾ [طه: ١٠٤] فائِدَةٌ ذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذا أنَّهُ عَلى زَعْمِهِ أرادَ اللَّيالِيَ، والأيّامُ داخِلَةٌ مَعَها؛ فَأتى بِقَوْلِهِ: ”إلّا يَوْمًا“ لِلدَّلالَةِ عَلى ذَلِكَ، وهَذا عِنْدَنا يَدُلُّ عَلى أنَّ قَوْلَهُ: ”عَشْرًا“ إنَّما يُرِيدُ بِها الأيّامَ؛ لِأنَّهُمُ اخْتَلَفُوا في مُدَّةِ اللُّبْثِ، فَقالَ قَوْمٌ: عَشْرٌ، وقالَ أمْثَلُهم طَرِيقَةً: يَوْمٌ، فَقَوْلُهُ: ”إلّا يَوْمًا“ مُقابِلٌ لِقَوْلِهِمْ: ”إلّا عَشْرًا“، ويُبَيِّنُ أنَّهُ أُرِيدَ بِالعَشْرِ الأيّامَ؛ إذْ لَيْسَ مِنَ التَّقابُلِ أنْ يَقُولَ بَعْضُهم: عَشْرُ لَيالٍ، ويَقُولُ بَعْضٌ: يَوْمًا. وظاهِرُ قَوْلِهِ ”أرْبَعَةِ أشْهُرٍ“ ما يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الشَّهْرِ، فَلَوْ وجَبَتِ العِدَّةُ مَعَ رُؤْيَةِ الهِلالِ لاعْتَدَّتْ بِالأهِلَّةِ، كانَ الشَّهْرُ تامًّا أوْ ناقِصًا. وإنْ وجَبَتْ في بَعْضِ شَهْرٍ، فَقِيلَ: تَسْتَوْفِي مِائَةً وثَلاثِينَ يَوْمًا، وقِيلَ: تَعْتَدُّ بِما يَمُرُّ عَلَيْها مِنَ الأهِلَّةِ شُهُورًا، ثُمَّ تُكْمِلُ الأيّامَ الأُوَلَ، وكِلا القَوْلَيْنِ عَنْ أبِي حَنِيفَةَ. ولَمّا كانَ الغالِبُ عَلى مَن ماتَ عَنْها زَوْجُها أنْ تَعْلَمَ ذَلِكَ، فَتَعْتَدَّ إثْرَ الوَفاةِ؛ جاءَ الفِعْلُ مُسْنَدًا إلَيْهِنَّ، وأُكِّدَ بِقَوْلِهِ: ”بِأنْفُسِهِنَّ“، فَلَوْ مَضَتْ عَلَيْها مُدَّةُ العِدَّةِ مِن حِينِ الوَفاةِ، وقامَتْ عَلى ذَلِكَ البَيِّنَةُ، ولَمْ تَكُنْ عَلِمَتْ بِوَفاتِهِ إلى أنِ انْقَضَتِ العِدَّةُ، فالَّذِي عَلَيْهِ الجُمْهُورُ أنَّ عِدَّتَها مِن يَوْمِ الوَفاةِ، وبِهِ قالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وابْنُ عَبّاسٍ، وابْنُ عُمَرَ، وجابِرٌ، وعَطاءٌ، والأسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ، وفُقَهاءُ الأمْصارِ. وقالَ عَلِيٌّ، والحَسَنُ البَصْرِيُّ، وخِلاسُ بْنُ عَمْرٍو، ورَبِيعَةُ: مِن يَوْمِ يَأْتِيها الخَبَرُ. وكَأنَّهم جَعَلُوا في إسْنادِ التَّرَبُّصِ إلَيْهِنَّ تَأْثِيرًا في العِدَّةِ. ورُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ، والشّافِعِيِّ أنَّهُما قالا: إذا قامَتِ البَيِّنَةُ فالعِدَّةُ مِن يَوْمِ يَمُوتُ، وإنْ لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ فَمِن يَوْمِ يَأْتِيها الخَبَرُ. ورُوِيَ عَنِ الشّافِعِيِّ مِثْلُ قَوْلِ الجُمْهُورِ، وأجْمَعُوا عَلى أنَّ المُعْتَدَّةَ، لَوْ كانَتْ حامِلًا لا تَعْلَمُ بِوَفاةِ الزَّوْجِ حَتّى وضَعَتِ الحَمْلَ؛ أنَّ عِدَّتَها مُنْقَضِيَةٌ، ولَمْ تَتَعَرَّضِ الآيَةُ في المُتَوَفّى عَنْها زَوْجُها إلّا لِأنْ تَتَرَبَّصَ تِلْكَ المُدَّةَ؛ فَلا نَفَقَةَ لَها في مُدَّةِ العِدَّةِ مِن رَأْسِ المالِ، ولَوْ كانَتْ حامِلًا، قالَهُ جابِرٌ، وابْنُ عَبّاسٍ، وابْنُ المُسَيَّبِ، وعَطاءٌ، والحَسَنُ، وعِكْرِمَةُ، وعَبْدُ المَلِكِ بْنُ يَعْلى، ويَحْيى الأنْصارِيُّ، ورَبِيعَةُ، ومالِكٌ، وأحْمَدُ، وإسْحاقُ، وابْنُ المُنْذِرِ، ورُوِيَ عَنْ أبِي حَنِيفَةَ. وقِيلَ: لَها النَّفَقَةُ مِن جَمِيعِ المالِ، ورُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وشُرَيْحٍ، وابْنِ سِيرِينَ، والشَّعْبِيِّ، وأبِي العالِيَةِ، والنَّخَعِيِّ، وخِلاسِ بْنِ عَمْرٍو، وحَمّادِ بْنِ أبِي سُلَيْمانَ، وأيُّوبَ السَّخْتِيانِيِّ، والثَّوْرِيِّ، وأبِي عُبَيْدٍ. وظاهِرُ قَوْلِهِ: ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأنْفُسِهِنَّ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وعَشْرًا﴾ أنَّهُ إذا تَرَبَّصَتْ هَذِهِ المُدَّةَ لَيْسَ عَلَيْها أكْثَرُ مِن ذَلِكَ، وإنْ كانَتْ مِمَّنْ تَحِيضُ فَلَمْ تَحِضْ فِيها، وقِيلَ: لا تَبْرَأُ إلّا بِحَيْضَةٍ تَأْتِي بِها في المُدَّةِ، وإلّا فَهي مُسْتَرِيبَةٌ؛ فَتَمْكُثُ حَتّى تَزُولَ رِيبَتُها. وأجْمَعَ الفُقَهاءُ عَلى أنَّ هَذِهِ الآيَةَ ناسِخَةٌ لِما بَعْدَها مِنَ الِاعْتِدادِ بِالحَوْلِ، وهَذا مِن غَرائِبِ النَّسْخِ؛ فَإنَّ الحُكْمَ الثّانِيَ يَنْسَخُ الأوَّلَ، وقِيلَ: إنَّ الحَوْلَ لَمْ يُنْسَخْ، وإنَّما هو لَيْسَ عَلى وجْهِ الوُجُوبِ، بَلْ هو عَلى النَّدْبِ، فَأرْبَعَةُ أشْهُرٍ وعَشْرًا أقَلُّ ما تَعْتَدُّ بِهِ المُتَوَفّى عَنْها زَوْجُها، والحَوْلُ هو الأكْمَلُ والأفْضَلُ. وقالَ قَوْمٌ: لَيْسَ في هَذا نَسْخٌ، وإنَّما هو نُقْصانٌ مِنَ الحَوْلِ، كَصَلاةِ المُسافِرِ لَمّا نَقَصَتْ مِنَ الأرْبَعِ إلى الِاثْنَيْنِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نَسْخًا، بَلْ كانَ تَخْفِيفًا. قالُوا: واخْتُصَّ هَذا العَدَدُ في عِدَّةِ المُتَوَفّى عَنْها زَوْجُها اسْتِبْراءً لِلْحَمْلِ؛ فَقَدْ رَوى ابْنُ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ - (p-٢٢٥)ﷺ - قالَ: (يَكُونُ خَلْقُ أحَدِكم نُطْفَةً أرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ عَلَقَةً أرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ مُضْغَةً أرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ، وزادَ اللَّهُ العَشْرَ لِأنَّها مَظِنَّةٌ لِظُهُورِ حَرَكَةِ الجَنِينِ، أوْ مُراعاةً لِنَقْصِ الشُّهُورِ وكَمالِها، أوِ اسْتِظْهارًا لِسُرْعَةِ ظُهُورِ الحَرَكَةِ أوْ إبْطائِها في الجَنِينِ) . قالَ أبُو العالِيَةِ وغَيْرُهُ: إنَّما زِيدَتِ العَشْرُ لِأنَّ نَفْخَ الرُّوحِ يَكُونُ فِيها، وظُهُورَ الحَمَلِ في الغالِبِ. وقالَ الأصْمَعِيُّ: ولَدُ كُلِّ عامِلٍ يَرْكُضُ في نِصْفِ حَمْلِهِ. وقالَ الرّاغِبُ: ذَكَرَ الأطِبّاءُ أنَّ الوَلَدَ - في الأكْثَرِ - إذا كانَ ذَكَرًا يَتَحَرَّكُ بَعْدَ ثَلاثَةِ أشْهُرٍ، وإذا كانَ أُنْثى بَعْدَ أرْبَعَةِ أشْهُرٍ، وزِيدَ عَلى ذَلِكَ عَشْرًا اسْتِظْهارًا. قالَ: وخُصَّتِ العَشْرَةُ بِالزِّيادَةِ لِكَوْنِها أكْمَلَ الأعْدادِ وأشْرَفَها لِما تَقَدَّمَ في: ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ﴾ [البقرة: ١٩٦] . قالَ القُشَيْرِيُّ: لَمّا كانَ حَقُّ المَيِّتِ أعْظَمَ؛ لِأنَّ فِراقَهُ لَمْ يَكُنْ بِالِاخْتِيارِ - كانَتْ مُدَّةُ وفاتِهِ أطْوَلَ، وفي ابْتِداءِ الإسْلامِ كانَتْ عِدَّةُ الوَفاةِ سَنَةً، ثُمَّ رُدَّتْ إلى أرْبَعَةِ أشْهُرٍ وعَشَرَةِ أيّامٍ لِتَخْفِيفِ بَراءَةِ الرَّحِمِ عَنْ ماءِ الزَّوْجِ، ثُمَّ إذا انْقَضَتِ العِدَّةُ أُبِيحَ لَها التَّزَوُّجُ بِزَوْجٍ آخَرَ؛ إذِ المَوْتُ لا يَسْتَدِيمُ مُوافاةً إلى آخِرِ عُمْرِ أحَدٍ، كَما قِيلَ: ؎وكَما تَبْلى وُجُوهٌ في الثَّرى ∗∗∗ فَكَذا يَبْلى عَلَيْهِنَّ الحَزَنْ ﴿فَإذا بَلَغْنَ أجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكم فِيما فَعَلْنَ في أنْفُسِهِنَّ بِالمَعْرُوفِ﴾، بُلُوغُ أجَلِهِنَّ: هو انْقِضاءُ المُدَّةِ المَضْرُوبَةِ في التَّرَبُّصِ، والمُخاطَبُونَ بِـ ”عَلَيْكم“: الأوْلِياءُ، أوِ الأئِمَّةُ والحُكّامُ والعُلَماءُ؛ إذْ هُمُ الَّذِينَ يُرْجَعُ إلَيْهِمْ في الوَقائِعِ، أوْ عامَّةُ المُؤْمِنِينَ، أقْوالٌ. ورَفَعَ الجُناحَ عَنِ الرِّجالِ في بُلُوغِ النِّساءِ أجَلَهُنَّ لِأنَّهم هُمُ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ عَلَيْهِنَّ، ويَأْخُذُونَهُنَّ بِأحْكامِ العَدَدِ، أوْ لِأنَّهم إذْ ذاكَ يَسُوغُ لَهم نِكاحُهُنَّ؛ إذْ كانَ ذَلِكَ في العِدَّةِ حَرامًا، فَزالَ الجُناحُ بَعْدَ انْقِضاءِ العِدَّةِ. والَّذِي فَعَلْنَ بِأنْفُسِهِنَّ: النِّكاحُ الحَلالُ، قالَهُ مُجاهِدٌ، وابْنُ شِهابٍ. أوِ: الطِّيبُ، والتَّزَيُّنُ، والنَّقْلَةُ مِن مَسْكَنٍ إلى مَسْكَنٍ، قالَهُ أبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ. ومَعْنى ”بِالمَعْرُوفِ“ أيْ: بِالإشْهادِ، وقِيلَ: ما أذِنَ فِيهِ الشَّرْعُ مِمّا يَتَوَقَّفُ النِّكاحُ عَلَيْهِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ﴿فِيما فَعَلْنَ في أنْفُسِهِنَّ﴾ مِنَ التَّعَرُّضِ لِلْخُطّابِ بِالمَعْرُوفِ بِالوَجْهِ الَّذِي لا يُنْكِرُهُ الشَّرْعُ، والمَعْنى: أنَّهُنَّ لَوْ فَعَلْنَ ما هو مُنْكَرٌ كانَ عَلى الأئِمَّةِ أنْ يَكُفُّوهُنَّ، وإنْ فَرَّطُوا كانَ عَلَيْهِمُ الجُناحُ. انْتَهى كَلامُهُ. وهو حَسَنٌ. ﴿واللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾: وعِيدٌ يَتَضَمَّنُ التَّحْذِيرَ، وخَبِيرٌ: لِلْمُبالَغَةِ، وهو العِلْمُ بِما لَطَفَ والتَّقَصِّي لَهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب