الباحث القرآني

وَقَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿والَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكم ويَذَرُونَ أزْواجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأنْفُسِهِنَّ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وعَشْرًا﴾، هَذا لِلْمُتَوَفّى عَنْها زَوْجُها، عَلَيْها أنْ تَنْتَظِرَ بَعْدَ وفاتِهِ إذا كانَتْ غَيْرَ ذاتِ حَمْلٍ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وعَشْرًا، لا تَتَزَوَّجُ فِيهِنَّ، ولا تَسْتَعْمِلُ الزِّينَةَ، وقالَ النَّحْوِيُّونَ - في خَبَرِ ”اَلَّذِينَ“ - غَيْرَ قَوْلٍ: قالَ أبُو الحَسَنِ الأخْفَشُ: اَلْمَعْنى: يَتَرَبَّصْنَ بَعْدَهُمْ، أوْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ، وقالَ غَيْرُهُ مِنَ البَصْرِيِّينَ: أزْواجُهم يَتَرَبَّصْنَ، وحُذِفَ ”أزْواجُهم“، لِأنَّ في الكَلامِ دَلِيلًا عَلَيْهِ، وهَذا إطْباقُ البَصْرِيِّينَ، وهو صَوابٌ، وقالَ الكُوفِيُّونَ - وهَذا القَوْلُ قَوْلُ الفَرّاءِ، وهو مَذْهَبُهُ -: إنَّ الأسْماءَ إذا (p-٣١٥)كانَتْ مُضافَةً إلى شَيْءٍ، وكانَ الِاعْتِمادُ في الخَبَرِ الثّانِي، أُخْبِرَ عَنِ الثّانِي، وتُرِكَ الإخْبارُ عَنِ الأوَّلِ، وأغْنى الإخْبارُ عَنِ الثّانِي عَنِ الإخْبارِ عَنِ الأوَّلِ، قالُوا: فالمَعْنى: ”وَأزْواجُ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ يَتَرَبَّصْنَ“، وأنْشَدَ الفَرّاءُ: ؎لَعَلِّيَ إنْ مالَتْ بِيَ الرِّيحُ مَيْلَةً ∗∗∗ عَلى ابْنِ أبِي ذُبّانَ أنْ يَتَقَدَّما اَلْمَعْنى: لَعَلَّ ابْنَ أبِي ذُبّانَ أنْ يَتَقَدَّمَ إلَيَّ، مالَتْ بِيَ الرِّيحُ مَيْلَةً عَلَيْهِ، وهَذا القَوْلُ غَيْرُ جائِزٍ، لا يَجُوزُ أنْ يَبْدَأ اسْمٌ ولا يُحَدَّثَ عَنْهُ، لِأنَّ الكَلامَ إنَّما وُضِعَ لِلْفائِدَةِ، فَما لا يُفِيدُ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، وهو أيْضًا مِن قَوْلِهِمْ مُحالٌ، لِأنَّ الِاسْمَ إنَّما يَرْفَعُهُ اسْمٌ إذا ابْتُدِئَ مِثْلُهُ أوْ ذُكِرَ عائِدٌ عَلَيْهِ، فَهَذا عَلى قَوْلِهِمْ باطِلٌ، لِأنَّهُ لَمْ يَأْتِ اسْمٌ يَرْفَعُهُ، ولا ذُكِرَ عائِدٌ عَلَيْهِ، والَّذِي هو الحَقُّ في هَذِهِ المَسْألَةِ عِنْدِي أنَّ ذِكْرَ ”اَلَّذِينَ“، قَدْ جَرى ابْتِداءً، وذِكْرَ الأزْواجِ قَدْ جَرى مُتَّصِلًا بِصِلَةِ ”اَلَّذِينَ“، فَصارَ الضَّمِيرُ الَّذِي في ”يَتَرَبَّصْنَ“، يَعُودُ عَلى الأزْواجِ، مُضافاتٍ إلى ”اَلَّذِينَ“، كَأنَّكَ قُلْتَ: ”يَتَرَبَّصُ أزْواجُهم“، ومِثْلُ (p-٣١٦)هَذا مِنَ الكَلامِ قَوْلُكَ: ”اَلَّذِي يَمُوتُ ويُخَلِّفُ ابْنَتَيْنِ تَرِثانِ الثُّلُثَيْنِ“، اَلْمَعْنى: ”تَرِثُ ابْنَتاهُ الثُّلُثَيْنِ“، ومَعْنى قَوْلِهِ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿وَعَشْرًا﴾، يَدْخُلُ فِيها الأيّامُ، زَعَمَ سِيبَوَيْهِ أنَّكَ إذا قُلْتَ: ”لِخَمْسٍ بَقِينَ“، فَقَدْ عَلِمَ المُخاطَبُ أنَّ الأيّامَ داخِلَةٌ مَعَ اللَّيالِي، وزَعَمَ غَيْرُهُ أنَّ لَفْظَ التَّأْنِيثِ مُغَلَّبٌ في هَذا البابِ، وحَكى الفَرّاءُ: ”صُمْنا عَشْرًا مِن شَهْرِ رَمَضانَ“، فالصَّوْمُ إنَّما يَكُونُ في الأيّامِ، ولَكِنَّ التَّأْنِيثَ مُغَلَّبٌ في اللَّيالِي، لِإجْماعِ أهْلِ اللُّغَةِ: ”سِرْنا خَمْسًا، بَيْنَ يَوْمٍ ولَيْلَةٍ“، أنْشَدَ سِيبَوَيْهِ: ؎فَطافَتْ ثَلاثًا بَيْنَ يَوْمٍ ولَيْلَةٍ ∗∗∗ يَكُونُ النَّكِيرُ أنْ تَصِيحَ وتَجْأرا قالَ سِيبَوَيْهِ: هَذا بابُ المُؤَنَّثِ الَّذِي اسْتُعْمِلَ لِلتَّأْنِيثِ والتَّذْكِيرِ، والتَّأْنِيثُ أصْلُهُ، قالَ: تَقُولُ: ”عِنْدِي ثَلاثُ بَطّاتٍ ذُكُورٌ، وثَلاثٌ مِنَ الإبِلِ ذُكُورٌ“، قالَ: لِأنَّكَ تَقُولُ: ”هَذِهِ إبِلٌ“، وكَذَلِكَ: ”ثَلاثٌ مِنَ الغَنَمِ ذُكُورٌ“، قالَ: فَإنْ قُلْتَ: ”عِنْدِي ثَلاثَةُ ذُكُورٍ مِنَ الإبِلِ“، لَمْ يَكُنْ إلّا التَّذْكِيرُ، لِأنَّكَ إنَّما ذَكَرْتَ ذُكُورًا، ثُمَّ جِئْتَ تَقُولُ: ”مِنَ الإبِلِ“، بَعْدَ أنْ مَضى الكَلامُ عَلى التَّذْكِيرِ، ولَيْسَ بَيْنَ النَّحْوِيِّينَ البَصْرِيِّينَ والكُوفِيِّينَ خِلافٌ في الَّذِي ذَكَرْنا مِن بابِ تَأْنِيثِ هَذِهِ الأشْياءِ، فَإنْ قُلْتَ: ”عِنْدِي خَمْسَةٌ بَيْنَ رَجُلٍ وامْرَأةٍ“، غَلَّبْتَ التَّذْكِيرَ لا غَيْرُ. وَقَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿فَإذا بَلَغْنَ أجَلَهُنَّ﴾، (p-٣١٧)أيْ: غايَةَ هَذِهِ الأشْهُرِ والعَشَرِ، ﴿فَلا جُناحَ عَلَيْكم فِيما فَعَلْنَ في أنْفُسِهِنَّ بِالمَعْرُوفِ﴾، أيْ: لا جُناحَ عَلَيْكم في أنَّ تَتْرُكُوهُنَّ، إذا انْقَضَتْ هَذِهِ المُدَّةُ، أنْ يَتَزَوَّجْنَ، وأنْ يَتَزَيَّنَّ زِينَةً لا يُنْكَرُ مِثْلُها، وهَذا مَعْنى ”بِالمَعْرُوفِ“ .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب