قولُه تعالى: {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ} الآية: فيه أوجهٌ: الأولُ: أَنَّ «الذين» مبتدأٌ لا خبرَ له، بل أَخْبر عن الزوجات المتصلِ ذِكْرُهُنَّ به، لأنَّ الحديثَ معهنَّ في الاعتدادِ، فجاء الخبرُ عن المقصود، إذ المعنى: مَنْ مات عنها زوجُها تربَّصت. وإليه ذهب الكسائي والفراء، وأنشد الفراء:
995 - لعَلِّيَ إنْ مَالَتْ بِيَ الريحُ مَيْلَةً ... على ابن أبي ذِبَّانَ أَنْ يتندَّما
فقال: «لعلي» ثم قال: «أن يتندم» فأخبر عن ابن أبي ذبَّان، فترك المتكلم، إذا التقديرُ: لعل ابن أبي ذبان أن يتندَّمَ إنْ مالت بي الريحُ ميلةً. وقال آخر:
996 - بني أسدٍ إنَّ ابن قَيسٍ وقَتْلَه ... بغيرِ دَمٍ دارُ المَذَلَّةِ حُلَّتِ
فأخبرَ عن قتلِه بأنه دارُ مذلَّة، وتَرَكَ الإِخبار عن ابن قيس.
وتحريرُ مذهبِ الكسائي والفراء أنه إذا ذُكِر اسمٌ، وذُكِر اسمٌ مضافٌ إليه فيه معنى الإِخبارِ تُرِك عن الأولِ وأُخْبِر عن الثاني/ نحو: «إنَّ زيداً وأخته منطلقةٌ» ، المعنى: أنَّ أخت زيد منطلقة، لكنَّ الآية الكريمة والبيتَ الأول ليسا من هذا الضربِ، وإنما الذي أورده تشبيهاً بهذا الضرب قوله:
997 - فَمَنْ يكُ سائِلاً عني فإني ... وجِرْوَةَ لا تَرُودُ ولا تُعارُ
ولتحرير هذا المذهب والردِّ عليه وتأويلِ دلائِله كتابٌ غيرُ هذا.
الثاني: أَنَّ له خبراً وهو «يتربَّصْن» ولا بُدَّ من حذفٍ يصحِّحُ وقوعَ هذه الجملةِ خبراً عن الأول لخلوِّها من الرابط، والتقديرُ: وأزواجُ الذين يُتَوفَّوْن يتربَّصْنَ. ويدلُّ على هذا المحذوفِ قولُه: «ويَذَرون أزواجاً» فَحُذِفَ المضافُ وأقيم المضافُ إليهُ مُقامَه لتلك الدلالةِ. الثالث أن الخبرَ أيضاً «يتربَّصْن» ولكن حُذِفَ العائدُ من الكلامِ لدلالةِ عليه، والتقدير: يتربصن بعدهم أو بعد موتِهم، قاله الأخفش. الرابع: أنَّ «يتربَّصْنَ» خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ، التقديرُ: أزواجُهم يتربَّصْنَ، وهذه الجملةُ خبرٌ عن الأول، قاله المبردُ. الخامس: أنَّ الخبرَ محذوفٌ بجملتِه قبلَ المبتدأ، تقديرُه: فيما يُتْلى عليكم حكمُ الذين يُتَوَفَّوْن، ويكون قولُه «يتربَّصْنَ» جملةً مبيِّنَةً للحكم ومفسِّرة له، فلا موضع لها من الإِعرابِ، ويُعْزى هذا لسيبويه. قال ابن عطية: «وحكى المهدويُّ عن سيبويه أنَّ المعنى:» وفيما يُتْلَى عليكم الذين يُتَوَفَّون، ولا أعرفُ هذا الذي حكاه، لأنَّ ذلك إنما يتَّجهُ إذا كان في الكلام لفظُ أمرٍ بعد المبتدأ نحو قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا} [المائدة: 38] ، {الزانية والزاني فاجلدوا} [النور: 2] ، وهذه الآيةُ فيها معنى الأمر لا لفظُه، فتحتاجُ مع هذا التقديرِ إلى تقديرِ آخر يُسْتغنى عنه إذا حَضَرَ لفظُ الأمرِ «. السادس: أنّ بعضَ الجملةِ قَام مَقام شَيءً مضافٍ إلى عائدِ المبتدأ، والتقديرُ:» والذين يُتَوفَّون منكم ويذرون أزواجاً يتربصُ أزواجُهم «فَحُذِف» أزواجهُم «بجملته، وقامَتِ النون التي هي ضميرُ الأزواج مَقامَهُنَّ بقيدِ إضافتهنَّ إلى ضميرِ المبتدأ.
وقراءةُ الجمهورِ «يُتَوَفَّوْنَ» مبنياً لِما لم يُسَمَّ فاعلُه، وقرأ مير المؤمنين - ورواها المفضل عن عاصم - بفتح الياء على بنائه للفاعل، ومعناها يَسْتوفون آجالَهم، قاله أبو القاسم الزمخشري.
والذي يُحكى أن أبا الأسود كان خلفَ جنازةٍ فقال له رجل: مَن المتوفِّي؟ بكسر الفاء، فقال: اللهُ، وكان أحدَ الأسباب الباعثة لعلي رضي الله عنه على أَنْ أمرَه بوضعِ كتابٍ في النحو. [وهذا] تُناقِضُه هذه القراءة.
وقد تقدَّم احتمالات في قوله: «يَتَرَبَّصْنَ بأنفسِهن ثلاثةَ قُروء» وهل « بأنفسهن» تأكيدٌ أو لا؟ وهل نصبُ «قروء» على الظرفِ أو المفعوليةِ؟ وهي جاريةٌ ههنا.
قوله: {مِنكُمْ} في محلِّ نصبٍ على الحالِ من مرفوعِ «يَتَوَفَّوْن» والعاملُ فيه محذوفٌ تقديره: حالَ كونِهم منكم. و «مِنْ» تحتمل التبعيض وبيانَ الجنسِ.
قوله: {وَعَشْراً} إنما قال «عشراً» من غير تأنيثٍ في العدد لأحد أوجهٍ، الأولُ: أنَّ المراد «عَشْر ليال» . مع أيامِها، وإنما أوثرت الليالي على الأيام في التاريخ لسَبْقها. قال الزمخشري: «وقيل» عَشْراً «ذهاباً إلى الليالي، والأيامُ داخلةٌ فيها، ولا تراهم قطُّ يستعملون التذكيرَ ذاهبين فيه إلى الأيام، تقول:» صُمْت عشراً «، ولو ذكَّرْت خَرَجْتَ من كلامِهم، ومن البيِّن قولُه تعالى: {إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً} [طه: 103] ، {إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً} [طه: 104] .
والثاني - وهو قولُ المبرد -: أَنَّ حَذْف التاء لأجلِ أنَّ التقديرَ عشرُ مُدَدٍ كلُّ مدة منها يومٌ وليلةٌ، تقول العرب:» سِرْنا خمساً «أي: بين يوم وليلة قال:
998 - فطافَتْ ثلاثاً بين يومٍ وليلةٍ ... وكان النكيرُ أَنْ تُضِيفَ وتَجْأرا
والثالث: أنَّ المعدودَ مذكرٌ وهو الأيام، وإنما حُذِفَت التاء لأنَّ المعدودَ المذكَّر متى ذُكِرَ وَجَبَ لَحاقُ التاء في عدده، وإذا حُذِفَ لفظاً جاز في العددِ الوجهان: ذِكْرُ التاءِ وعدمُها. حكى الكسائي:» صُمْنَا من الشهرِ خمساً «، ومنه الحديث:» وأتبعَه بستٍّ من شوال «، وقال آخر:
999 - وإلاَّ فسيري مثلَ ما سار راكبٌ ... تيمَّمَ خَمْساً ليس في سيره أَمَمْ
نَصَّ النحويون على ذلك. قال الشيخ:» فلا يُحْتَاج إلى تأويلها بالليالي ولا بالمُدَد كما قدَّره الزمخشري والمبرد على هذا «قال:» وإذا تقرر هذا فجاء قولُهُ: «وعشراً» على أحدِ الجائزين، وإنما حَسُنَ حذفُ التاءِ هنا لأنه مقطعُ كلامٍ فهو شبيهٌ بالفواصِلِ، كما حَسَّنَ قولَه: {إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً} [طه: 103] كونُه فاصلةً، فقوله: «ولو ذَكَّرْتَ لخرَجْتَ من كلامهم» ليس كما ذكر، بل هو الأفصحُ. وفائدةُ ذكره «إن لبثتم إلاَّ يوماً» بعد قولِهِ «إلا عَشْراً» أنه على زعمِهِ أرادَ الليالي والأيامُ داخلةٌ معها، فقولُهُ «إلا يوماً» دليلٌ على إرادةِ الأيام «، قال الشيخ:» وهذا عندنا يَدُلُّ على أنَّ المرادَ بالعشر الأيامُ، لأنهم اختلفوا في مُدَّة اللَّبْث، فقال بعضُهم: «عشراً» وقال بعضُهم: «يوما» فدلَّ على أنَّ المقابَلَ باليومِ إنما هو أيام، إذ لا يَحْسُنُ في المقابَلَةِ أن يقولَ بعضُهم: عشرُ ليال، فيقول البعضُ: يومٌ «.
قوله: {بالمعروف} فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ حالاً من فاعل «فَعَلْنَ» أي: فَعَلْنَ ملتبساتٍ بالمعروفِ ومصاحباتٍ له. والثاني: أنه مفعولٌ به أي: تكونُ الباءُ باءَ التعدية. والثالثُ: أن يكونَ نعتَ مصدر محذوفٍ أي: فَعَلْنَ فِعْلاً بالمعروف، أي: كائناً، ويجيءُ فيه مذهب/ سيبويه: أنه حالٌ من ضميرِ المصدرِ المعرفةِ أي: فَعَلْنَه - أي الفعلَ - ملتبساً بالمعروفِ وهو الوجهُ الرابعُ.
و «بما تعملون» متعلق ب «خبيرٌ» . وقُدِّمَ لأجلِ الفاصلةِ. و «ما» يجوزُ أن تكونَ مصدريةً وأن تكونَ بمعنى الذي أو نكرةً موصوفة، وهو ضعيفٌ. وعلى هذين القولين فلا بدَّ من عائدٍ محذوفٍ، وعلى الأولِ لا يُحتاج إليه إلا على رأيٍ ضعيفٍ.
{"ayah":"وَٱلَّذِینَ یُتَوَفَّوۡنَ مِنكُمۡ وَیَذَرُونَ أَزۡوَ ٰجࣰا یَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرۡبَعَةَ أَشۡهُرࣲ وَعَشۡرࣰاۖ فَإِذَا بَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَیۡكُمۡ فِیمَا فَعَلۡنَ فِیۤ أَنفُسِهِنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِیرࣱ"}