الباحث القرآني

﴿الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلى الأرْضِ هَوْنًا﴾ والهَوْنُ مَصْدَرٌ بِمَعْنى اللِّينِ والرِّفْقِ، ونَصْبُهُ إمّا عَلى أنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أيْ مَشْيًا هَوْنًا، أوْ عَلى أنَّهُ حالٌ مِن ضَمِيرِ ﴿يَمْشُونَ﴾ والمُرادُ: يَمْشُونَ هَيِّنِينَ في تَؤُدَةٍ وسَكِينَةٍ ووَقارٍ وحُسْنِ سَمْتٍ، لا يَضْرِبُونَ بِأقْدامِهِمْ ولا يَخْفُقُونَ بِنِعالِهِمْ أشَرًا وبَطَرًا، ورَوِيَ نَحْوُ هَذا عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٍ، وعِكْرِمَةَ، والفُضَيْلِ بْنِ عِياضٍ، وغَيْرِهِمْ. وعَنِ الإمامِ أبِي عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - أنَّ الهَوْنَ مَشْيُ الرَّجُلِ بِسَجِيَّتِهِ الَّتِي جُبِلَ عَلَيْها لا يَتَكَلَّفُ ولا يَتَبَخْتَرُ. وأخْرَجَ الآمِدِيُّ في شَرْحِ دِيوانِ الأعْشى بِسَنَدِهِ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - أنَّهُ رَأى غُلامًا يَتَبَخْتَرُ في مِشْيَتِهِ فَقالَ لَهُ: إنَّ البَخْتَرَةَ مِشْيَةٌ تُكْرَهُ إلّا في سَبِيلِ اللَّهِ تَعالى، وقَدْ مَدَحَ اللَّهُ تَعالى أقْوامًا بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿وعِبادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلى الأرْضِ هَوْنًا﴾ فاقْصِدْ في مِشْيَتِكَ. وقِيلَ: المَشْيُ الهَوْنُ مُقابِلُ السَّرِيعِ وهو مَذْمُومٌ، فَقَدْ أخْرَجَ أبُو نُعَيْمٍ في (الحِلْيَةِ) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، وابْنُ النَّجّارِ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالا: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ««سُرْعَةَ المَشْيِ تُذْهِبُ بَهاءَ المُؤْمِنِ»». وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرانَ أنَّ ﴿هَوْنًا﴾ بِمَعْنى حُلَماءَ بِالسُّرْيانِيَّةِ، فَيَكُونُ حالًا لا غَيْرُ، والظّاهِرُ (p-44)أنَّهُ عَرَبِيٌّ بِمَعْنى اللِّينِ والرِّفْقِ، وفَسَّرَهُ الرّاغِبُ بِتَذَلُّلِ الإنْسانِ في نَفْسِهِ لِما لا يُلْحِقُ بِهِ غَضاضَةً وهو المَمْدُوحُ، ومِنهُ الحَدِيثُ ««المُؤْمِنُ هَيِّنٌ لَيِّنٌ»». والظّاهِرُ بَقاءُ المَشْيِ عَلى حَقِيقَتِهِ، وأنَّ المُرادَ مَدْحَهم بِالسَّكِينَةِ والوَقارِ فِيهِ مِن غَيْرِ تَعْمِيمٍ، نَعَمْ يَلْزَمُ مِن كَوْنِهِمْ يَمْشُونَ كَذَلِكَ أنَّهم هَيِّنُونَ لَيِّنُونَ في سائِرِ أُمُورِهِمْ بِحُكْمِ العادَةِ عَلى ما قِيلَ. واخْتارَ ابْنُ عَطِيَّةَ أنَّ المُرادَ مَدْحُهم بِعَدَمِ الخُشُونَةِ والفَظاظَةِ في سائِرِ أُمُورِهِمْ وتَصَرُّفاتِهِمْ، والمُرادُ أنَّهم يَعِيشُونَ بَيْنَ النّاسِ هَيِّنِينَ في كُلِّ أُمُورِهِمْ، وذِكْرُ المَشْيِ لِما أنَّهُ انْتِقالٌ في الأرْضِ، وهو يَسْتَدْعِي مُعاشَرَةَ النّاسِ ومُخالَطَتَهُمْ، واللِّينُ مَطْلُوبٌ فِيها غايَةَ الطَّلَبِ. ثُمَّ قالَ: وأمّا أنْ يَكُونَ المُرادُ مَدْحَهم بِالمَشْيِ وحْدَهُ هَوْنًا فَباطِلٌ، فَكَمْ ماشٍ هَوْنًا رُوَيْدًا وهو ذِئْبٌ أطْلَسُ، وقَدْ كانَ ﷺ يَتَكَفَّأُ في مَشْيِهِ كَأنَّما يَمْشِي في صَبَبٍ، وهو - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - الصَّدْرُ في هَذِهِ الآيَةِ، وفِيهِ بَحْثٌ مِن وجْهَيْنِ فَلا تَغْفُلْ، وقَرَأ اليَمانِيُّ والسُّلَمِيُّ: (يُمَشُّونَ) مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مُشَدَّدًا. ﴿وإذا خاطَبَهُمُ الجاهِلُونَ﴾ أيِ السُّفَهاءُ، وقَلِيلُو الأدَبِ كَما في قَوْلِهِ: ؎ألا لا يَجْهَلَنْ أحَدٌ عَلَيْنا فَنَجْهَلُ فَوْقَ جَهْلِ الجاهِلِينا ﴿قالُوا سَلامًا﴾ بَيانٌ لِحالِهِمْ في المُعامَلَةِ مَعَ غَيْرِهِمْ إثْرَ بَيانِ حالِهِمْ في أنْفُسِهِمْ، أوْ بَيانٌ لِحُسْنِ مُعامَلَتِهِمْ، وتَحْقِيقٌ لِلِينِهِمْ عِنْدَ تَحَقُّقِ ما يَقْتَضِي خِلافَ ذَلِكَ إذا خُلِّيَ الإنْسانُ وطَبْعَهُ، أيْ: إذا خاطَبُوهم بِالسُّوءِ قالُوا تَسَلُّمًا مِنكم ومُتارَكَةً لا خَيْرَ بَيْنَنا وبَيْنَكم ولا شَرَّ. فَـ(سَلامًا) مَصْدَرٌ أُقِيمَ مَقامَ التَّسْلِيمِ، وهو مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِفِعْلِهِ المُضْمَرِ، والتَّقْدِيرُ: نَتَسَلَّمُ تَسَلُّمًا مِنكُمْ، والجُمْلَةُ مَقُولُ القَوْلِ، وإلى هَذا ذَهَبَ سِيبَوَيْهِ في الكِتابِ، ومَنَعَ أنْ يُرادَ السَّلامُ المَعْرُوفُ بِأنَّ الآيَةَ مَكِّيَّةٌ والسَّلامَ في النِّساءِ وهي مَدَنِيَّةٌ، ولَمْ يُؤْمَرِ المُسْلِمُونَ بِمَكَّةَ أنْ يُسَلِّمُوا عَلى المُشْرِكِينَ. وقالَ الأصَمُّ: هو سَلامُ تَوْدِيعٍ لا تَحِيَّةٍ كَقَوْلِ إبْراهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - لِأبِيهِ ﴿سَلامٌ عَلَيْكَ﴾ ولا يَخْفى أنَّهُ راجِعٌ إلى المُتارَكَةِ وهو كَثِيرٌ في كَلامِ العَرَبِ، وقالَ مُجاهِدٌ: المُرادُ قالُوا قَوْلًا سَدِيدًا. وتُعُقِّبَ بِأنَّ هَذا تَفْسِيرٌ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأنَّ المُرادَ هاهُنا يَقُولُونَ هَذِهِ اللَّفْظَةَ لا أنَّهم يَقُولُونَ قَوْلًا ذا سَدادٍ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿سَلامٌ عَلَيْكم لا نَبْتَغِي الجاهِلِينَ﴾ ورَدَّهُ صاحِبُ الكَشْفِ بِأنَّ تِلْكَ الآيَةَ لا تُخالِفُ هَذا التَّفْسِيرَ؛ فَإنَّ قَوْلَهُمْ: (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) مِن سَدادِ القَوْلِ أيْضًا، كَيْفَ والظّاهِرُ أنَّ خُصُوصَ اللَّفْظِ غَيْرُ مَقْصُودٍ بَلْ هو أوْ ما يُؤَدِّي مُؤَدّاهُ أيْضًا مِن كُلِّ قَوْلٍ يَدُلُّ عَلى المُتارَكَةِ مَعَ الخُلُوِّ عَنِ الإثْمِ واللَّغْوِ وهو حَسَنٌ لا غُبارَ عَلَيْهِ. وفِي بَعْضِ التَّوارِيخِ - كَما في البَحْرِ - أنَّ إبْراهِيمَ بْنَ المَهْدِيِّ كانَ مُنْحَرِفًا عَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ - فَرَآهُ في النَّوْمِ قَدْ تَقَدَّمَ إلى عُبُورِ قَنْطَرَةٍ فَقالَ لَهُ: إنَّما تَدَّعِي هَذا الأمْرَ بِامْرَأةٍ ونَحْنُ أحَقُّ بِهِ مِنكَ، فَحُكِيَ ذَلِكَ عَلى المَأْمُونِ، ثُمَّ قالَ: ما رَأيْتُ لَهُ بَلاغَةً في الجَوابِ كَما يُذْكَرُ عَنْهُ، فَقالَ لَهُ المَأْمُونُ: فَما أجابَكَ بِهِ؟ قالَ: كانَ يَقُولُ لِي: سَلامًا سَلامًا، فَقالَ المَأْمُونُ: يا عَمِّ قَدْ أجابَكَ بِأبْلَغِ جَوابٍ، ونَبَّهَهُ عَلى هَذِهِ الآيَةِ فَخَزِيَ إبْراهِيمُ واسْتَحْيى، عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ تَعالى ما يَسْتَحِقُّ. والظّاهِرُ أنَّ المُرادَ مَدْحُهم بِالإغْضاءِ عَنِ السُّفَهاءِ وتَرْكِ مُقابَلَتِهِمْ في الكَلامِ، ولا تَعَرُّضَ في الآيَةِ لِمُعامَلَتِهِمْ مَعَ الكَفَرَةِ فَلا تُنافِي آيَةَ القِتالِ لِيُدَّعى نَسْخُها بِها لِأنَّها مَكِّيَّةٌ وتِلْكَ مَدَنِيَّةٌ، ونُقِلَ عَنْ أبِي العالِيَةِ - واخْتارَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ - أنَّها نُسِخَتْ بِالنَّظَرِ إلى الكَفَرَةِ بِآيَةِ القِتالِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب