﴿وَعِبَادُ ٱلرَّحۡمَـٰنِ ٱلَّذِینَ یَمۡشُونَ عَلَى ٱلۡأَرۡضِ هَوۡنࣰا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ ٱلۡجَـٰهِلُونَ قَالُوا۟ سَلَـٰمࣰا ٦٣ وَٱلَّذِینَ یَبِیتُونَ لِرَبِّهِمۡ سُجَّدࣰا وَقِیَـٰمࣰا ٦٤﴾ [الفرقان ٦٣-٦٤]
* [فَصْلٌ: في هَدْيِهِ ﷺ في مَشْيِهِ وحْدَهُ ومَعَ أصْحابِهِ]
كانَ إذا مَشى تَكَفَّأ تَكَفُّؤًا، وكانَ أسْرَعَ النّاسِ مِشْيَةً وأحْسَنَها وأسْكَنَها، قالَ أبُو هُرَيْرَةَ:
«ما رَأيْتُ شَيْئًا أحْسَنَ مِن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، كَأنَّ الشَّمْسَ تَجْرِي في وجْهِهِ، وما رَأيْتُ أحَدًا أسْرَعَ في مِشْيَتِهِ مِن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ كَأنَّما الأرْضُ تُطْوى لَهُ، وإنّا لَنُجْهِدَ أنْفُسَنا وإنَّهُ لَغَيْرُ مُكْتَرِثٍ»وَقالَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
«كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إذا مَشى تَكَفَّأ تَكَفُّؤًا كَأنَّما يَنْحَطُّ مِن صَبَبٍ»وَقالَ مَرَّةً
«إذا مَشى تَقَلَّعَ»قُلْتُ: والتَّقَلُّعُ الِارْتِفاعُ مِنَ الأرْضِ بِجُمْلَتِهِ كَحالِ المُنْحَطِّ مِنَ الصَّبَبِ، وهي مِشْيَةُ أُولِي العَزْمِ والهِمَّةِ والشَّجاعَةِ، وهي أعْدَلُ المِشْياتِ وأرْواحُها لِلْأعْضاءِ وأبْعَدُها مِن مِشْيَةِ الهَوَجِ والمَهانَةِ والتَّماوُتِ، فَإنَّ الماشِيَ إمّا أنْ يَتَماوَتَ في مَشْيِهِ ويَمْشِيَ قِطْعَةً واحِدَةً كَأنَّهُ خَشَبَةٌ مَحْمُولَةٌ، وهي مِشْيَةٌ مَذْمُومَةٌ قَبِيحَةٌ، وإمّا أنْ يَمْشِيَ بِانْزِعاجٍ واضْطِرابٍ مَشْيَ الجَمَلِ الأهْوَجِ، وهي مِشْيَةٌ مَذْمُومَةٌ أيْضًا، وهي دالَّةٌ عَلى خِفَّةِ عَقْلِ صاحِبِها، ولا سِيَّما إنْ كانَ يُكْثِرُ الِالتِفاتَ حالَ مَشْيِهِ يَمِينًا وشِمالًا، وإمّا أنْ يَمْشِيَ هَوْنًا، وهي مِشْيَةُ عِبادِ الرَّحْمَنِ كَما وصَفَهم بِها في كِتابِهِ فَقالَ:
﴿وَعِبادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلى الأرْضِ هَوْنًا﴾قالَ غَيْرُ واحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: بِسَكِينَةٍ ووَقارٍ مِن غَيْرِ تَكَبُّرٍ ولا تَماوُتٍ، وهي مِشْيَةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَإنَّهُ مَعَ هَذِهِ المِشْيَةِ كانَ كَأنَّما يَنْحَطُّ مِن صَبَبٍ، وكَأنَّما الأرْضُ تُطْوى لَهُ، حَتّى كانَ الماشِي مَعَهُ يُجْهِدُ نَفْسَهُ ورَسُولُ اللَّهِ ﷺ غَيْرُ مُكْتَرِثٍ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أمْرَيْنِ: أنَّ مِشْيَتَهُ لَمْ تَكُنْ مِشْيَةً بِتَماوُتٍ ولا بِمَهانَةٍ، بَلْ مِشْيَةٌ أعْدَلُ المِشْياتِ.
والمِشْياتُ عَشَرَةُ أنْواعٍ: هَذِهِ الثَّلاثَةُ مِنها، والرّابِعُ: السَّعْيُ، والخامِسُ: الرَّمَلُ، وهو أسْرَعُ المَشْيِ مَعَ تَقارُبِ الخُطى ويُسَمّى: الخَبَبَ، وفي الصَّحِيحِ مِن حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ
«خَبَّ في طَوافِهِ ثَلاثًا ومَشى أرْبَعًا».
السّادِسُ: النَّسَلانُ، وهو العَدْوُ الخَفِيفُ الَّذِي لا يُزْعِجُ الماشِيَ ولا يُكْرِثُهُ. وفي بَعْضِ المَسانِيدِ أنَّ المُشاةَ شَكَوْا إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنَ المَشْيِ في حَجَّةِ الوَداعِ فَقالَ:
«اسْتَعِينُوا بِالنَّسَلانِ».
والسّابِعُ: الخَوْزَلى، وهي مِشْيَةُ التَّمايُلِ، وهي مِشْيَةٌ يُقالُ: إنَّ فِيها تَكَسُّرًا وتَخَنُّثًا.
والثّامِنُ: القَهْقَرى، وهي المِشْيَةُ إلى وراءٍ.
والتّاسِعُ: الجَمَزى، وهي مِشْيَةٌ يَثِبُ فِيها الماشِي وثْبًا.
والعاشِرُ: مِشْيَةُ التَّبَخْتُرِ، وهي مِشْيَةُ أُولِي العُجْبِ والتَّكَبُّرِ، وهي الَّتِي خَسَفَ اللَّهُ سُبْحانَهُ بِصاحِبِها لَمّا نَظَرَ في عِطْفَيْهِ وأعْجَبَتْهُ نَفْسُهُ، فَهو يَتَجَلْجَلُ في الأرْضِ إلى يَوْمِ القِيامَةِ.
وَأعْدَلُ هَذِهِ المِشْياتِ مِشْيَةُ الهَوْنِ والتَّكَفُّؤِ.
وَأمّا مَشْيُهُ مَعَ أصْحابِهِ فَكانُوا يَمْشُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ وهو خَلْفَهم ويَقُولُ: (دَعُوا ظَهْرِي لِلْمَلائِكَةِ)
وَلِهَذا جاءَ في الحَدِيثِ: وكانَ يَسُوقُ أصْحابَهُ.
وَكانَ يَمْشِي حافِيًا ومُنْتَعِلًا، وكانَ يُماشِي أصْحابَهُ فُرادى وجَماعَةً،
«وَمَشى في بَعْضِ
غَزَواتِهِ مَرَّةً فَدَمِيَتْ أُصْبُعُهُ وسالَ مِنها الدَّمُ فَقالَ:
هَلْ أنْتَ إلّا أُصْبُعٌ دَمِيَتَ ∗∗∗ وفي سَبِيلِ اللَّهِ ما لَقِيتَ
» وكانَ في السَّفَرِ ساقَةُ أصْحابُهُ يُزْجِي الضَّعِيفَ ويُرْدِفُهُ ويَدْعُو لَهُمْ، ذَكَرَهُ أبو داود.
فإن قيل: ما السر في نصب السلام من قوله تعالى:
﴿وَإذا خاطَبَهُمُ الجاهِلُونَ قالُوا سَلامًا﴾ورفعه من قوله:
﴿وَإذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أعْرَضُوا عَنْهُ وقالُوا لَنا أعْمالُنا ولَكم أعْمالُكم سَلامٌ عَلَيْكُمْ﴾وما الفرق بين الموضعين؟
فالجواب عنه أن الله سبحانه مدح عباده الذين ذكرهم في هذه الآيات بأحسن أوصافهم وأعمالهم فقال:
﴿وَعِبادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلى الأرْضِ هَوْنًا وإذا خاطَبَهُمُ الجاهِلُونَ قالُوا سَلامًا﴾فـ (سلاما) هنا صفة لمصدر محذوف هو القول نفسه.
أي قالوا قولا سلاما أي سدادا وصوابا وسليما من الفحش والخنا، ليس مثل قول الجاهلين الذين يخاطبونهم بالجهل، فلو رفع السلام هنا لم يكن فيه المدح المذكور بل كان يتضمن أنهم إذا خاطبهم الجاهلون سلموا عليهم، وليس هذا معنى الآية، ولا مدح فيه.
وإنما المدح في الإخبار عنهم بأنهم لا يقابلون الجهل مثله بل يقابلونه بالقول السلام، فهو من باب دفع السيئة بالتي هي أحسن التي لا يلقاها إلا ذو حظ عظيم.
وتفسير السلف وألفاظهم صريحة بهذا المعنى.
وتأمل كيف جمعت الآية وصفهم في حركتي الأرجل والألسن بأحسنها وألطفها وأحكمها وأوقرها فقال
﴿الذين يمشون على الأرض هونا﴾أي بسكينة ووقار والهون بفتح الهاء من الشيء، وهو مصدر هان هونا أي سهل.
ومنه قولهم يمشي على هينته. ولا أحسبها إلا مولدة، ومع هذا فهي قياس اللفظة فإنها على بناء الحالة والهيئة فهي (فعلة) من الهون، وأصلها هونة فقلبت واوها ياء لانكسار ما قبلها فاللفظة صحيحة المادة والتصريف.
وأما الهون بالضم فهو الهوان فأعطوا حركة الضم القوية للمعنى الشديد وهو الهوان وأعطوا حركة الفتح السهلة للمعنى السهل وهو الهون، فوصف مشيهم بأنه مشي حلم ووقار وسكينة لا مشي جهل وعنف وتبختر.
ووصف نطقهم بأنه سلام فهو نطق حلم وسكينة ووقار، لا نطق جهل وفحش وخنا وغلظة.
فلهذا جمع بين المشي والنطق في الآية، فلا يليق بهذا المعنى الشريف العظيم الخطير أن يكون المراد منه سلام عليكم فتأمله.
وأما قوله تعالى
﴿وَإذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أعْرَضُوا عَنْهُ وقالُوا لَنا أعْمالُنا ولَكم أعْمالُكم سَلامٌ عَلَيْكم لا نَبْتَغِي الجاهِلِينَ (٥٥)﴾فإنها وصف لطائفة من مؤمني أهل الكتاب قدموا على رسول الله ﷺ مكة المكرمة فآمنوا به فعيرهم المشركون وقالوا: قبحتم من وفد بعثكم قومكم لتعلموا خبر الرجل ففارقتم دينكم وتبعتموه ورغبتم عن دين قومكم
فأخبر عنهم بأنهم خاطبوهم خطاب متاركة وإعراض وهجر جميل فقالوا:
﴿لَنا أعْمالُنا ولَكم أعْمالُكم سَلامٌ عَلَيْكم لا نَبْتَغِي الجاهِلِينَ﴾وكان رفع السلام متعينا لأنه حكاية ما قد وقع ونصب (السلام) في آية الفرقان متعينا لأنه تعليم وإرشاد لما هو الأكمل والأولى للمؤمن أن يعتمده إذا خاطبه الجاهل.
فتأمل هذه الأسرار التي أدناها يساوي رحلة.
والله تعالى المحمود وحده على ما منَّ به وأنعم.
وهي المواهب من رب العباد فما ∗∗∗ يقال لولا ولا هلا ولا فلما
(قاعِدَة)
اللَّذَّة من حَيْثُ هي مَطْلُوبَة للْإنْسان بل ولكُل حَيّ، فَلا تذم من جِهَة كَونها لَذَّة وإنَّما تذم ويكون تَركها خيرا من نيلها وأنفع إذا تَضَمَّنت فَوات لَذَّة أعظم مِنها وأكمل، أو أعقبت ألما حُصُوله أعظم من ألم فَواتها.
فهاهنا يظْهر الفرق بَين العاقِل الفطن والأحمق الجاهِل ضمن عرف العقل بَين، فَمَتى علا فالتَّفاوُت بَين اللذتين والألمين وأنه لا نِسْبَة لأحَدهما إلى الآخر هان عَلَيْهِ ترك أدنى اللذتين لتَحْصِيل أعلاهما، واحْتِمال أيسر الألمين لدفع أعلاهما.
وَإذا تقررت هَذِه القاعِدَة فلذة الآخِرَة أعظم وأدوم، ولَذَّة الدُّنْيا أصْغَر وأقصر.
وَكَذَلِكَ ألم الآخِرَة وألم الدُّنْيا، والمعوّل في ذَلِك على الإيمان واليَقِين فَإذا قوي اليَقِين وباشر القلب آثر الأعْلى على الأدْنى في جانب اللَّذَّة، واحْتمل الألَم الأسهل على الأصعب. والله المُسْتَعان.
* (موعظة)
المتعبدون بالليل يقربون إلى نوق الأبدان خيط الرقاد فإذا تناولت سد الفاقة رفعت رؤوسها فإذا الدليل على الجادة فتأخذ في السير من النجوم الجواري مؤذن ومنها مقيم، فأرباب العزائم يؤذن في محلتهم بليل ويقام لهم أول الوقت ومن دونهم يصلون في أول الوقت وأهل الفتور في آخرة.
إذا هجمت جنود الرقاد على العيون صاح حارس اليقظة بالمتعبدين الصلاة خير من النوم وهتف رقيب المعاتبة كذب من ادعى محبتي حتى إذا جنة الليل نام عني فيصيح المشتاق
سلوا الليل عني مذ تناءت دياركم ∗∗∗ هل اكتحلت بالغمض لي فيه أجفان
ثم تمر بالمجتهدين سيارة النجوم فيبعثون مع كل فيج رسالة فتسلم أخباره إلى ركب السحر فتهب لمجيئها رياح الأسحار فيقول المنتظر إني لأجد ريح يوسف. سبحان من أنعم على الموجودات بإيجادها من غير طلب فلما وجدت بسطت أكف السؤال لطلب تكميلها، فالأجنة في بطون الأمهات تطلب تكميل الخلق، والبذر تحت التراب يطلب قوته من الري، ومخ الثمار ينتظر من فضله كمال نضجه، ومراكب البحار تحريكها بالرياح، وأصحاب البضائع ينتظرون وجود الأرباح عليهم، وطلاب العلم يسألون فتح منغلق الفهم، وأهل المجاهدة يرومون المعاونة على الطبع، والمظلوم يترقب طلوع فجر النصر، والمريض يتململ بين يديه طلبا للطفه، والمكروب ينتظر كشف ما به، والخائف يترقب بريد الأمن، والأبدان المتمزقة في اللحود تنتظر جمع الشمل بعد الشتات، وعرائس الجنان يسألن سلامة بعولتهن وتعجيل اللقاء، فإذا قام الخلق من أطباق التراب بإنعاش البعث نكس صاحب الزلل رأس الندم طلبا للعفو، ومد العابد يد التقاضي بالمسلم فيه عند حلول الأجل، وحدق الزاهد إلى جزاء الصبر، وأشرف المحب على أطلال الشوق إلى الحبيب، وصاح العارف بلسان الوجد إذ لم يبق وقت للصمت
لي عندكم دين فواعجبا ∗∗∗ الدين لي وفؤادي الرهن
من شاء باهلني باهلته بهم ∗∗∗ وبعد عند ورود الحوض نستبق
وقال غيره:
عدمت دوائي بالعراق وربما ∗∗∗ وجدت بنجد لي طبيبا مداويا
ويا جبل الريان إن تعر منهم ∗∗∗ فإني سأكسوك الدموع الجواريا
ومن جذري لا أسأل الركب عنهم ∗∗∗ وأغلاق وجدي باقيات كما هيا
ومن يسال الركبان عن كل غائب ∗∗∗ فلا بد أن يلقى بشيرا وناعيا
(موعظة أخرى)
إقبال الليل عند المحبين كقميص يوسف في أجفان يعقوب.
لو أحببت المخدوم حضر قلبك في خدمته.
فيا دارها بالحزن إن مزارها ∗∗∗ قريب ولكن دون ذلك أهوال
العروس تلبس عند العرض تحت الثياب شعار الخوف من الرد وفوق الثياب حلة الانكسار وحمرة الخجل تغنيها عن تخمير مستعار لأنها لا تدري على ماذا تقدم فكيف يسكن من لا يعرف العواقب.
مداراة قيس ممكن ولكن لا مع ذكر ليلى.
انقسم العباد ثلاثة: أقسام: فمنهم من لاحظ الحصاد فزاد في البذر، ومنهم من رأى حق المخدوم فقام بأدائه، ومنهم من خدم حبا وشوقا فتلذذ بالخدمة.
وهذه الخدمة لا ثقل لها لأن محركها الحب وغيرها ثقيل على البدن.
نوق أبدان المحبين لا تحس بالنصب وأسماعها مشغولة بصوت الحادي، وقلوبها معلقة بالمنزل.
من عبده خوفا أمنه، ومن عبده رجاء أعطاه أمله، ومن عبده حبا فلا تعلم نفس ما أخفي لها.
يراها بعين الشوق قلبي على النوى ∗∗∗ فتحظى ولكن من لعيني برؤياها
وهبكم منعتم أن يراها بعينه ∗∗∗ فهل تمنعون القلب أن يتمناها
كم دخل المجلس عاص في باطنه باطية خمر، فما زالت تعمل فيها حدة شمس التذكير حتى انقلبت خلا فحلت.
يكون أجاجا دونكم فإذا انتهى ∗∗∗ إليكم تلقى نشركم فيطيب
* [فَصْلٌ مَنزِلَةُ التَّواضِعِ]
وَمِن مَنازِلِ
﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ مَنزِلَةُ التَّواضُعِ
قالَ اللَّهُ تَعالى:
﴿وَعِبادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلى الأرْضِ هَوْنًا﴾ [الفرقان: ٦٣]أيْ سَكِينَةً ووَقارًا مُتَواضِعِينَ، غَيْرَ أشِرِينَ، ولا مَرِحِينَ ولا مُتَكَبِّرِينَ. قالَ الحَسَنُ: عُلَماءُ حُلَماءُ. وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ الحَنَفِيَّةِ: أصْحابُ وقارٍ وعِفَّةٍ لا يَسْفَهُونَ. وإنْ سُفِهَ عَلَيْهِمْ حَلُمُوا.
والهَوْنُ بِالفَتْحِ في اللُّغَةِ: الرِّفْقُ واللِّينُ. والهُونُ بِالضَّمِّ: الهَوانُ.
فالمَفْتُوحُ مِنهُ: صِفَةُ أهْلِ الإيمانِ. والمَضْمُومُ: صِفَةُ أهْلِ الكُفْرانِ. وجَزاؤُهم مِنَ اللَّهِ النِّيرانُ.
وَقالَ تَعالى:
﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكم عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهم ويُحِبُّونَهُ أذِلَّةٍ عَلى المُؤْمِنِينَ أعِزَّةٍ عَلى الكافِرِينَ﴾ [المائدة: ٥٤].
لَمّا كانَ الذُّلُّ مِنهم ذُلَّ رَحْمَةٍ وعَطْفٍ وشَفَقَةٍ وإخْباتٍ عَدّاهُ بِأداةِ عَلى تَضْمِينًا لِمَعانِي هَذِهِ الأفْعالِ. فَإنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ ذُلَّ الهَوانِ الَّذِي صاحِبُهُ ذَلِيلٌ. وإنَّما هو ذُلُّ اللِّينِ والِانْقِيادِ الَّذِي صاحِبُهُ ذَلُولٌ، فالمُؤْمِنُ ذَلُولٌ. كَما في الحَدِيثِ
«المُؤْمِنِ كالجَمَلِ الذَّلُولِ.
والمُنافِقُ والفاسِقُ ذَلِيلٌ» وأرْبَعَةٌ يَعْشَقُهُمُ الذُّلُّ أشَدَّ العِشْقِ: الكَذّابُ. والنَّمّامُ. والبَخِيلُ. والجَبّارُ.
وَقَوْلُهُ:
﴿أعِزَّةٍ عَلى الكافِرِينَ﴾ [المائدة: ٥٤] هو مِن عِزَّةِ القُوَّةِ والمَنَعَةِ والغَلَبَةِ. قالَ عَطاءٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لِلْمُؤْمِنِينَ كالوالِدِ لِوَلَدِهِ. وعَلى الكافِرِينَ كالسَّبُعِ عَلى فَرِيسَتِهِ. كَما قالَ في الآيَةِ الأُخْرى
﴿أشِدّاءُ عَلى الكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ﴾ [الفتح: ٢٩]وَهَذا عَكْسُ حالِ مَن قِيلَ فِيهِمْ:
كِبْرًا عَلَيْنا، وجُبْنًا عَنْ عَدُوِّكُمُ ∗∗∗ لَبِئْسَتِ الخِلَّتانِ: الكِبْرُ، والجُبْنُ
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِن حَدِيثِ عِياضِ بْنِ حِمارٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ
«إنَّ اللَّهَ أوْحى إلَيَّ: أنْ تَواضَعُوا، حَتّى لا يَفْخَرَ أحَدٌ عَلى أحَدٍ. ولا يَبْغِيَ أحَدٌ عَلى أحَدٍ».
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ
«لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَن كانَ في قَلْبِهِ مِثْقالُ ذَرَّةٍ مِن كِبْرٍ».
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مَرْفُوعًا
«ألا أُخْبِرُكم بِأهْلِ النّارِ؟ كُلُّ عُتُلٍّ جَوّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ».
وَفِي حَدِيثِ احْتِجاجِ الجَنَّةِ والنّارِ
«أنَّ النّارَ قالَتْ: ما لِي لا يَدْخُلُنِي إلّا الجَبّارُونَ، والمُتَكَبِّرُونَ؟ وقالَتِ الجَنَّةُ: ما لِي لا يَدْخُلُنِي إلّا ضُعَفاءُ النّاسِ وسَقْطُهُمْ».
وَهُوَ في الصَّحِيحِ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أبِي سَعِيدٍ وعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قالا: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
«يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: العِزَّةُ إزارِي. والكِبْرِياءُ رِدائِي. فَمَن نازَعَنِي عَذَّبْتُهُ».
وَفِي جامِعِ التِّرْمِذِيِّ مَرْفُوعًا عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
«لا يَزالُ الرَّجُلُ يَذْهَبُ بِنَفْسِهِ حَتّى يُكْتَبَ في دِيوانِ الجَبّارِينَ. فَيُصِيبُهُ ما أصابَهُمْ».
«وَكانَ النَّبِيُّ ﷺ يَمُرُّ عَلى الصِّبْيانِ فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ».
«وَكانَتِ الأمَةُ تَأْخُذُ بِيَدِهِ ﷺ. فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شاءَتْ.»«وَكانَ ﷺ إذا أكَلَ لَعِقَ أصابِعَهُ الثَّلاثَ».
«وَكانَ ﷺ يَكُونُ في بَيْتِهِ في خِدْمَةِ أهْلِهِ، ولَمْ يَكُنْ يَنْتَقِمُ لِنَفْسِهِ قَطُّ».
وَكانَ ﷺ
«يَخْصِفُ نَعْلَهُ، ويُرَقِّعُ ثَوْبَهُ، ويَحْلِبُ الشّاةَ لِأهْلِهِ، ويَعْلِفُ البَعِيرَ ويَأْكُلُ مَعَ الخادِمِ. ويُجالِسُ المَساكِينَ، ويَمْشِي مَعَ الأرْمَلَةِ واليَتِيمِ في حاجَتِهِما، ويَبْدَأُ مَن لَقِيَهُ بِالسَّلامِ، ويُجِيبُ دَعْوَةَ مَن دَعاهُ. ولَوْ إلى أيْسَرِ شَيْءٍ».
«وَكانَ ﷺ هَيِّنَ المُؤْنَةِ، لَيِّنَ الخُلُقِ. كَرِيمَ الطَّبْعِ. جَمِيلَ المُعاشَرَةِ. طَلْقَ الوَجْهِ بَسّامًا، مُتَواضِعًا مِن غَيْرِ ذِلَّةٍ، جَوادًا مِن غَيْرِ سَرَفٍ، رَقِيقَ القَلْبِ رَحِيمًا بِكُلِّ مُسْلِمٍ خافِضَ الجَناحِ لِلْمُؤْمِنِينَ، لَيِّنَ الجانِبِ لَهُمْ».
وَقالَ ﷺ
«ألا أُخْبِرُكم بِمَن يَحْرُمُ عَلى النّارِ - أوْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ النّارُ - تَحْرُمُ عَلى كُلِّ قَرِيبٍ هَيِّنٍ لَيِّنٍ سَهْلٍ»رَواهُ التِّرْمِذِيُّ. وقالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَقالَ:
«لَوْ دُعِيتُ إلى ذِراعٍ - أوْ كُراعٍ - لَأجَبْتُ، ولَوْ أُهْدِيَ إلَيَّ ذِراعٌ - أوْ كُراعٌ - لَقَبِلْتُ» رَواهُ البُخارِيُّ.
وَكانَ ﷺ
«يَعُودُ المَرِيضَ. ويَشْهَدُ الجِنازَةَ. ويَرْكَبُ الحِمارَ، ويُجِيبُ دَعْوَةَ العَبْدِ».
«وَكانَ يَوْمَ قُرَيْظَةَ عَلى حِمارٍ مَخْطُومٍ بِحَبْلٍ مِن لِيفٍ عَلَيْهِ إكافٌ مِن لِيفٍ».
* [فَصْلٌ أقْوالُ العُلَماءِ في التَّواضُعِ]
سُئِلَ الفُضَيْلُ بْنُ عِياضٍ عَنِ التَّواضُعِ؟ فَقالَ: يَخْضَعُ لِلْحَقِّ، ويَنْقادُ لَهُ. ويَقْبَلُهُ مِمَّنْ قالَهُ.
وَقِيلَ: التَّواضُعُ أنْ لا تَرى لِنَفْسِكَ قِيمَةً. فَمَن رَأى لِنَفْسِهِ قِيمَةً فَلَيْسَ لَهُ في التَّواضُعِ نَصِيبٌ.
وَهَذا مَذْهَبُ الفُضَيْلِ وغَيْرِهِ.
وَقالَ الجُنَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ: هو خَفْضُ الجَناحِ، ولِينُ الجانِبِ.
وَقالَ أبُو يَزِيدَ البَسْطامِيُّ: هو أنْ لا يَرى لِنَفْسِهِ مَقامًا ولا حالًا. ولا يَرى في الخَلْقِ شَرًّا مِنهُ.
وَقالَ ابْنُ عَطاءٍ: هو قَبُولُ الحَقِّ مِمَّنْ كانَ. والعِزُّ في التَّواضُعِ. فَمَن طَلَبَهُ في الكِبْرِ فَهو كَتَطَلُّبِ الماءِ مِنَ النّارِ.
وَقالَ إبْراهِيمُ بْنُ شَيْبانَ: الشَّرَفُ في التَّواضُعِ. والعِزُّ في التَّقْوى. والحُرِّيَّةُ في القَناعَةِ.
وَيُذْكَرُ عَنْ سُفْيانَ الثَّوْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، أنَّهُ قالَ: أعَزُّ الخَلْقِ خَمْسَةُ أنْفُسٍ: عالِمٌ زاهِدٌ وفَقِيهٌ صُوفِيٌّ. وغَنِيٌّ مُتَواضِعٌ. وفَقِيرٌ شاكِرٌ. وشَرِيفٌ سُنِّيٌّ.
وَقالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: رَأيْتُ عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلى عاتِقِهِ قِرْبَةُ ماءٍ، فَقُلْتُ: يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ، لا يَنْبَغِي لَكَ هَذا.
فَقالَ: لَمّا أتانِيَ الوُفُودُ سامِعِينَ مُطِيعِينَ. دَخَلَتْ نَفْسِي نَخْوَةٌ. فَأرَدْتُ أنْ أكْسِرَها.
وَوَلِيَ أبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إمارَةً مَرَّةً. فَكانَ يَحْمِلُ حِزْمَةَ الحَطَبِ عَلى ظَهْرِهِ. ويَقُولُ: طَرِّقُوا لِلْأمِيرِ.
وَرَكِبَ زَيْدُ بْنُ ثابِتٍ مَرَّةً. فَدَنا ابْنُ عَبّاسٍ لِيَأْخُذَ بِرِكابِهِ. فَقالَ: مَهْ يا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ! فَقالَ: هَكَذا أُمِرْنا أنْ نَفْعَلَ بِكُبَرائِنا. فَقالَ: أرِنِي يَدَكَ. فَأخْرَجَها إلَيْهِ فَقَبَّلَها. فَقالَ: هَكَذا أُمِرْنا نَفْعَلُ بِأهْلِ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.
وَقَسَّمَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَيْنَ الصَّحابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم حُلَلًا، فَبَعَثَ إلى مُعاذٍ حُلَّةً مُثَمَّنَةً. فَباعَها. واشْتَرى بِثَمَنِها سِتَّةَ أعْبُدٍ وأعْتَقَهم. فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ. فَبَعَثَ إلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ حُلَّةً دُونَها. فَعاتَبَهُ مُعاذٌ، فَقالَ عُمَرُ: لِأنَّكَ بِعْتَ الأُولى. فَقالَ مُعاذٌ: وما عَلَيْكَ؟ ادْفَعْ لِي نَصِيبِي. وقَدْ حَلَفْتُ لَأضْرِبَنَّ بِها رَأْسَكَ فَقالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: رَأْسِي بَيْنَ يَدَيْكَ. وقَدْ يَرْفُقُ الشّابُّ بِالشَّيْخِ.
وَمَرَّ الحَسَنُ عَلى صِبْيانٍ مَعَهم كِسَرُ خُبْزٍ. فاسْتَضافُوهُ. فَنَزَلَ فَأكَلَ مَعَهُمْ، ثُمَّ حَمَلَهم إلى مَنزِلِهِ. فَأطْعَمَهم وكَساهُمْ، وقالَ: اليَدُ لَهم. لِأنَّهم لا يَجِدُونَ شَيْئًا غَيْرَ ما أطْعَمُونِي، ونَحْنُ نَجِدُ أكْثَرَ مِنهُ.
وَيُذْكَرُ أنَّ أبا ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَيَّرَ بِلالًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِسَوادِهِ، ثُمَّ نَدِمَ. فَألْقى بِنَفْسِهِ. فَحَلَفَ: لا رَفَعْتُ رَأْسِي حَتّى يَطَأ بِلالٌ خَدِّي بِقَدَمِهِ. فَلَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ حَتّى فَعَلَ بِلالٌ.
وَقالَ رَجاءُ بْنُ حَيْوَةَ. قَوَّمْتُ ثِيابَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهو يَخْطُبُ - بِاثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا. وكانَتْ قِباءً وعِمامَةً وقُمُصًا وسَراوِيلَ ورِداءً وخُفَّيْنِ وقَلَنْسُوَةً.
وَرَأى مُحَمَّدُ بْنُ واسِعٍ ابْنًا لَهُ يَمْشِي مِشْيَةً مُنْكَرَةً. فَقالَ: تَدْرِي بِكَمْ شَرَيْتُ أُمَّكَ؟ بِثَلاثِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وأبُوكَ - لا كَثَّرَ اللَّهُ في المُسْلِمِينَ مِثْلَهُ - أنا. وأنْتَ تَمْشِي هَذِهِ المِشْيَةَ؟
وَقالَ حَمْدُونُ القَصّارُ: التَّواضُعُ أنْ لا تَرى لِأحَدٍ إلى نَفْسِكَ حاجَةً، لا في الدِّينِ ولا في الدُّنْيا.
وَقالَ إبْراهِيمُ بْنُ أدْهَمَ: ما سُرِرْتُ في إسْلامِي إلّا ثَلاثَ مَرّاتٍ: كُنْتُ في سَفِينَةٍ، وفِيها رَجُلٌ مِضْحاكٌ. كانَ يَقُولُ: كُنّا في بِلادِ التُّرْكِ فَأخَذَ العِلْجُ هَكَذا - وكانَ يَأْخُذُ بِشَعَرِ رَأْسِي ويَهُزُّنِي - لِأنَّهُ لَمْ يَكُنْ في تِلْكَ السَّفِينَةِ أحَدٌ أحْقَرُ مِنِّي. والأُخْرى: كُنْتُ عَلِيلًا في مَسْجِدٍ. فَدَخَلَ المُؤَذِّنُ، وقالَ: اخْرُجْ. فَلَمْ أُطِقْ، فَأخَذَ بِرِجْلِي وجَرَّنِي إلى خارِجٍ. والأُخْرى: كُنْتُ بِالشّامِ وعَلَيَّ فَرْوٌ. فَنَظَرْتُ فِيهِ فَلَمْ أُمَيِّزْ بَيْنَ شَعَرِهِ وبَيْنَ القَمْلِ لِكَثْرَتِهِ. فَسَرَّنِي ذَلِكَ.
وَفِي رِوايَةٍ: كُنْتُ يَوْمًا جالِسًا. فَجاءَ إنْسانٌ فَبالَ عَلَيَّ.
وَقالَ بَعْضُهُمْ: رَأيْتُ في الطَّوافِ رَجُلًا بَيْنَ يَدَيْهِ شاكِرِيَّةٌ يَمْنَعُونَ النّاسَ لِأجْلِهِ عَنِ الطَّوافِ، ثُمَّ رَأيْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ عَلى جِسْرِ بَغْدادَ يَسْألُ شَيْئًا. فَتَعَجَّبْتُ مِنهُ. فَقالَ لِي: إنِّي تَكَبَّرْتُ في مَوْضِعٍ يَتَواضَعُ النّاسُ فِيهِ، فابْتَلانِي اللَّهُ بِالذُّلِّ في مَوْضِعٍ يَتَرَفَّعُ النّاسُ فِيهِ.
وَبَلَغَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ العَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أنَّ ابْنًا لَهُ اشْتَرى خاتَمًا بِألْفِ دِرْهَمٍ. فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ: بَلَغَنِي أنَّكَ اشْتَرَيْتَ فَصًّا بِألْفِ دِرْهَمٍ. فَإذا أتاكَ كِتابِي فَبِعِ الخاتَمَ. وأشْبِعْ بِهِ ألْفَ بَطْنٍ. واتَّخِذْ خاتَمًا بِدِرْهَمَيْنِ. واجْعَلْ فَصَّهُ حَدِيدًا صِينِيًّا. واكْتُبْ عَلَيْهِ: رَحِمَ اللَّهُ امْرَءًا عَرَفَ قَدْرَ نَفْسِهِ. واللَّهُ أعْلَمُ.
[دَرَجاتُ التَّواضُعِ]
[الدَّرَجَةُ الأُولى التَّواضُعُ لِلدِّينِ]
قالَ: وهو عَلى ثَلاثِ دَرَجاتٍ. الدَّرَجَةُ الأُولى: التَّواضُعُ لِلدِّينِ. وهو أنْ لا يُعارِضَ بِمَعْقُولٍ مَنقُولًا. ولا يَتَّهِمَ لِلدِّينِ دَلِيلًا. ولا يَرى إلى الخِلافِ سَبِيلًا.
التَّواضُعُ لِلدِّينِ، هو الِانْقِيادُ لِما جاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ، والِاسْتِسْلامُ لَهُ، والإذْعانُ. وذَلِكَ بِثَلاثَةِ أشْياءَ.
الأوَّلُ: أنْ لا يُعارِضَ شَيْئًا مِمّا جاءَ بِهِ بِشَيْءٍ مِنَ المُعارَضاتِ الأرْبَعَةِ السّارِيَةِ في العالَمِ، المُسَمّاةِ: بِالمَعْقُولِ، والقِياسِ، والذَّوْقِ، والسِّياسَةِ.
فالأُولى: لِلْمُنْحَرِفِينَ أهْلِ الكِبْرِ مِنَ المُتَكَلِّمِينَ، الَّذِينَ عارَضُوا نُصُوصَ الوَحْيِ بِمَعْقُولاتِهِمُ الفاسِدَةِ. وقالُوا: إذا تَعارَضَ العَقْلُ والنَّقْلُ: قَدَّمْنا العَقْلَ. وعَزَلْنا النَّقْلَ. إمّا عَزْلَ تَفْوِيضٍ، وإمّا عَزْلَ تَأْوِيلٍ.
والثّانِي: لِلْمُتَكَبِّرِينَ مِنَ المُنْتَسِبِينَ إلى الفِقْهِ، قالُوا: إذا تَعارَضَ القِياسُ والرَّأْيُ والنُّصُوصُ: قَدَّمْنا القِياسَ عَلى النَّصِّ. ولَمْ نَلْتَفِتْ إلَيْهِ.
والثّالِثُ: لِلْمُتَكَبِّرِينَ المُنْحَرِفِينَ مِنَ المُنْتَسِبِينَ إلى التَّصَوُّفِ والزُّهْدِ. فَإذا تَعارَضَ عِنْدَهُمُ الذَّوْقُ والأمْرُ. قَدَّمُوا الذَّوْقَ والحالَ. ولَمْ يَعْبَأُوا بِالأمْرِ.
والرّابِعُ: لِلْمُتَكَبِّرِينَ المُنْحَرِفِينَ مِنَ الوُلاةِ والأُمَراءِ الجائِرِينَ. إذا تَعارَضَتْ عِنْدَهُمُ الشَّرِيعَةُ والسِّياسَةُ. قَدَّمُوا السِّياسَةَ. ولَمْ يَلْتَفِتُوا إلى حُكْمِ الشَّرِيعَةِ.
فَهَؤُلاءِ الأرْبَعَةُ: هم أهْلُ الكِبْرِ. والتَّواضُعُ: التَّخَلُّصُ مِن ذَلِكَ كُلِّهِ.
الثّانِي: أنْ لا يَتَّهِمَ دَلِيلًا مِن أدِلَّةِ الدِّينِ، بِحَيْثُ يَظُنُّهُ فاسِدَ الدَّلالَةِ، أوْ ناقِصَ الدَّلالَةِ، أوْ قاصِرَها، أوْ أنَّ غَيْرَهُ كانَ أوْلى مِنهُ. ومَتى عَرَضَ لَهُ شَيْءٌ مِن ذَلِكَ فَلْيَتَّهِمْ فَهْمَهُ، ولْيَعْلَمْ أنَّ الآفَةَ مِنهُ، والبَلِيَّةَ فِيهِ، كَما قِيلَ:
وَكَمْ مِن عائِبٍ قَوْلًا صَحِيحًا ∗∗∗ وآفَتُهُ مِنَ الفَهْمِ السَّقِيمِ
وَلَكِنْ تَأْخُذُ الأذْهانُ مِنهُ عَلى قَدْرِ القَرائِحِ والفُهُومِ وهَكَذا الواقِعُ في الواقِعِ حَقِيقَةً: أنَّهُ ما اتَّهَمَ أحَدٌ دَلِيلًا لِلدِّينِ إلّا وكانَ المُتَّهَمُ هو الفاسِدَ الذِّهْنِ. المَأْفُونَ في عَقْلِهِ، وذِهْنِهِ. فالآفَةُ مِنَ الذِّهْنِ العَلِيلِ. لا في نَفْسِ الدَّلِيلِ.
وَإذا رَأيْتَ مِن أدِلَّةِ الدِّينِ ما يُشْكَلُ عَلَيْكَ، ويَنْبُو فَهْمُكَ عَنْهُ فاعْلَمْ أنَّهُ لِعَظَمَتِهِ وشَرَفِهِ اسْتَعْصى عَلَيْكَ، وأنَّ تَحْتَهُ كَنْزًا مِن كُنُوزِ العِلْمِ. ولَمْ تُؤْتَ مِفْتاحَهُ بَعْدُ. هَذا في حَقِّ نَفْسِكَ.
وَأمّا بِالنِّسْبَةِ إلى غَيْرِكَ: فاتَّهِمْ آراءَ الرِّجالِ عَلى نُصُوصِ الوَحْيِ، ولْيَكُنْ رَدُّها أيْسَرَ شَيْءٍ عَلَيْكَ لِلنُّصُوصِ، فَما لَمْ تَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَسْتَ عَلى شَيْءٍ. ولَوْ. . ولَوْ. . وهَذا لا خِلافَ فِيهِ بَيْنَ العُلَماءِ.
قالَ الشّافِعِيُّ، قَدَّسَ اللَّهُ رَوْحَهُ: أجْمَعَ المُسْلِمُونَ عَلى أنَّ مَنِ اسْتَبانَتْ لَهُ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: لَمْ يَحِلَّ لَهُ أنْ يَدَعَها لِقَوْلِ أحَدٍ.
الثّالِثُ: أنْ لا يَجِدَ إلى خِلافِ النَّصِّ سَبِيلًا ألْبَتَّةَ. لا بِباطِنِهِ، ولا بِلِسانِهِ ولا بِفِعْلِهِ. ولا بِحالِهِ. بَلْ إذا أحَسَّ بِشَيْءٍ مِنَ الخِلافِ: فَهو كَخِلافِ المُقْدِمِ عَلى الزِّنا، وشُرْبِ الخَمْرِ، وقَتْلِ النَّفْسِ. بَلْ هَذا الخِلافُ أعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِن ذَلِكَ. وهو داعٍ إلى النِّفاقِ. وهو الَّذِي خافَهُ الكِبارُ. والأئِمَّةُ عَلى نُفُوسِهِمْ.
واعْلَمْ أنَّ المُخالِفَ لِلنَّصِّ - لِقَوْلِ مَتْبُوعِهِ وشَيْخِهِ ومُقَلِّدِهِ، أوْ لِرَأْيِهِ ومَعْقُولِهِ، وذَوْقِهِ، وسِياسَتِهِ. إنْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ مَعْذُورًا، ولا واللَّهِ ما هو بِمَعْذُورٍ - فالمُخالِفُ لِقَوْلِهِ، لِنُصُوصِ الوَحْيِ أوْلى بِالعُذْرِ عِنْدَ اللَّهِ ورَسُولِهِ، ومَلائِكَتِهِ. والمُؤْمِنِينَ مِن عِبادِهِ.
فَواعَجَبًا إذا اتَّسَعَ بُطْلانُ المُخالِفِينَ لِلنُّصُوصِ لِعُذْرِ مَن خالَفَها تَقْلِيدًا، أوْ تَأْوِيلًا، أوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ. فَكَيْفَ ضاقَ عَنْ عُذْرِ مَن خالَفَ أقْوالَهُمْ، وأقْوالَ شُيُوخِهِمْ. لِأجْلِ مُوافَقَةِ النُّصُوصِ؟ وكَيْفَ نَصَبُوا لَهُ الحَبائِلَ. وبَغَوْهُ الغَوائِلَ. ورَمَوْهُ بِالعَظائِمِ. وجَعَلُوهُ أسْوَأ حالًا مِن أرْبابِ الجَرائِمِ؟ فَرَمَوْهُ بِدائِهِمْ وانْسَلُّوا مِنهُ لِواذًا. وقَذَفُوهُ بِمُصابِهِمْ. وجَعَلُوا تَعْظِيمَ المَتْبُوعِينَ مَلاذًا لَهم ومَعاذًا. واللَّهُ أعْلَمُ.
* (فَصْلٌ)
قالَ: ولا يَصِحُّ ذَلِكَ إلّا بِأنْ يُعْلَمَ: أنَّ النَّجاةَ في البَصِيرَةِ، والِاسْتِقامَةَ بَعْدَ الثِّقَةِ. وأنَّ البَيِّنَةَ وراءَ الحُجَّةِ.
يَقُولُ: إنَّ ما ذَكَرْناهُ مِنَ التَّواضُعِ لِلدِّينِ بِهَذِهِ الأُمُورِ الثَّلاثَةِ:
الأُولى: عِلْمُهُ أنَّ النَّجاةَ مِنَ الشَّقاءِ والضَّلالِ: إنَّما هي في البَصِيرَةِ. فَمَن لا بَصِيرَةَ لَهُ: فَهو مِن أهْلِ الضَّلالِ في الدُّنْيا. والشَّقاءِ في الآخِرَةِ.
والبَصِيرَةُ نُورٌ يَجْعَلُهُ اللَّهُ في عَيْنِ القَلْبِ، يُفَرِّقُ بِهِ العَبْدُ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ، ونِسْبَتُهُ إلى القَلْبِ: كَنِسْبَةِ ضَوْءِ العَيْنِ إلى العَيْنِ.
وَهَذِهِ البَصِيرَةُ وهْبِيَّةٌ وكَسَبِيَّةُ. فَمَن أدارَ النَّظَرَ في أعْلامِ الحَقِّ وأدِلَّتِهِ، وتَجَرَّدَ لِلَّهِ مِن هَواهُ: اسْتَنارَتْ بَصِيرَتُهُ. ورُزِقَ فُرْقانًا يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ.
الثّانِي: أنْ يَعْلَمَ أنَّ الِاسْتِقامَةَ إنَّما تَكُونُ بَعْدَ الثِّقَةِ، أيْ لا يَتَصَوَّرُ حُصُولَ الِاسْتِقامَةِ في القَوْلِ والعَمَلِ والحالِ، إلّا بَعْدَ الثِّقَةِ بِصِحَّةِ ما مَعَهُ مِنَ العِلْمِ. وأنَّهُ مُقْتَبِسٌ مِن مِشْكاةِ النُّبُوَّةِ. ومَن لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلا ثِقَةَ لَهُ ولا اسْتِقامَةَ.
الثّالِثُ: أنْ يَعْلَمَ أنَّ البَيِّنَةَ وراءَ الحُجَّةِ. والبَيِّنَةُ مُرادُهُ بِها: اسْتِبانَةُ الحَقِّ وظُهُورُهُ. وهَذا إنَّما يَكُونُ بَعْدَ الحُجَّةِ إذا قامَتِ اسْتَبانَ الحَقُّ وظَهَرَ واتَّضَحَ.
وَفِيهِ مَعْنًى آخَرُ. وهُوَ: أنَّ العَبْدَ إذا قَبِلَ حُجَّةَ اللَّهِ بِمَحْضِ الإيمانِ والتَّسْلِيمِ والِانْقِيادِ: كانَ هَذا القَبُولُ هو سَبَبَ تَبْيُّنِها وظُهُورِها، وانْكِشافِها لِقَلْبِهِ. فَلا يَصْبِرُ عَلى بَيِّنَةِ رَبِّهِ إلّا بَعْدَ قَبُولِ حُجَّتِهِ.
وَفِيهِ مَعْنًى آخَرُ أيْضًا: أنَّهُ لا يَتَبَيَّنُ لَهُ عَيْبُ عَمَلِهِ مِن صِحَّتِهِ إلّا بَعْدَ العِلْمِ الَّذِي هو حُجَّةُ اللَّهِ عَلى العَبْدِ. فَإذا عَرَفَ الحُجَّةَ اتَّضَحَ لَهُ بِها ما كانَ مُشْكَلًا عَلَيْهِ مِن عُلُومِهِ، وما كانَ مَعِيبًا مِن أعْمالِهِ.
وَفِيهِ مَعْنًى آخَرُ أيْضًا: وهو أنْ يَكُونَ " وراءَ " بِمَعْنى أمامَ. والمَعْنى: أنَّ الحُجَّةَ إنَّما تَحْصُلُ لِلْعَبْدِ بَعْدَ تَبَيُّنِها. فَإذا لَمْ تَتَبَيَّنْ لَهُ لَمْ تَكُنْ لَهُ حُجَّةٌ. يَعْنِي فَلا يَقْنَعُ مِنَ الحُجَّةِ بِمُجَرَّدِ حُصُولِها بِلا تَبَيُّنٍ. فَإنَّ التَّبَيُّنَ أمامَ الحُجَّةِ. واللَّهُ أعْلَمُ.
* [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثّانِيَةُ أنْ تَرْضى بِما رَضِيَ الحَقُّ بِهِ لِنَفْسِهِ]
* فَصْلٌقالَ الدَّرَجَةُ الثّانِيَةُ: أنْ تَرْضى بِما رَضِيَ الحَقُّ بِهِ لِنَفْسِهِ عَبْدًا مِنَ المُسْلِمِينَ أخًا. وأنْ لا تَرُدَّ عَلى عَدُوِّكَ حَقًّا. وأنْ تَقْبَلَ مِنَ المُعْتَذِرِ مَعاذِيرَهُ.
يَقُولُ: إذا كانَ اللَّهُ قَدْ رَضِيَ أخاكَ المُسْلِمَ لِنَفْسِهِ عَبْدًا. أفَلا تَرْضى أنْتَ بِهِ أخًا؟
فَعَدَمُ رِضاكَ بِهِ أخًا - وقَدْ رَضِيَهُ سَيِّدُكَ الَّذِي أنْتَ عَبْدُهُ عَبْدًا لِنَفْسِهِ - عَيْنُ الكِبْرِ. وأيُّ قَبِيحٍ أقْبَحُ مِن تَكَبُّرِ العَبْدِ عَلى عَبْدٍ مِثْلِهِ، لا يَرْضى بِأُخُوَّتِهِ. وسَيِّدُهُ راضٍ بِعُبُودِيَّتِهِ؟
فَيَجِيءُ مِن هَذا: أنَّ المُتَكَبِّرَ غَيْرُ راضٍ بِعُبُودِيَّةِ سَيِّدِهِ. إذْ عُبُودِيَّتُهُ تُوجِبُ رِضاهُ بِأُخُوَّةِ عَبْدِهِ. وهَذا شَأْنُ عَبِيدِ المُلُوكِ. فَإنَّهم يَرَوْنَ بَعْضَهم خُشْداشِيَّةَ بَعْضٍ. ومَن تَرَفَّعَ مِنهم عَنْ ذَلِكَ: لَمْ يَكُنْ مِن عَبِيدِ أُسْتاذِهِمْ.
قَوْلُهُ: وأنْ لا تَرُدَّ عَلى عَدُوِّكَ حَقًّا.
أيْ لا تَصِحُّ لَكَ دَرَجَةُ التَّواضُعِ حَتّى تَقْبَلَ الحَقَّ مِمَّنْ تُحِبُّ ومِمَّنْ تُبْغِضُ فَتَقْبَلُهُ مِن عَدُوِّكَ كَما تَقْبَلُهُ مِن ولِيِّكَ. وإذا لَمْ تَرُدَّ عَلَيْهِ حَقَّهُ، فَكَيْفَ تَمْنَعُهُ حَقًّا لَهُ قِبَلَكَ؟ بَلْ حَقِيقَةُ التَّواضُعِ أنَّهُ إذا جاءَكَ قَبِلْتَهُ مِنهُ. وإذا كانَ لَهُ عَلَيْكَ حَقٌّ أدَّيْتَهُ إلَيْهِ. فَلا تَمْنَعُكَ عَداوَتُهُ مِن قَبُولِ حَقِّهِ، ولا مِن إيتائِهِ إيّاهُ.
وَأمّا قَبُولُكَ مِنَ المُعْتَذِرِ مَعاذِيرَهُ.
فَمَعْناهُ: أنَّ مَن أساءَ إلَيْكَ. ثُمَّ جاءَ يَعْتَذِرُ مِن إساءَتِهِ، فَإنَّ التَّواضُعَ يُوجِبُ عَلَيْكَ قَبُولَ مَعْذِرَتِهِ، حَقًّا كانَتْ أوْ باطِلًا. وتَكِلُ سَرِيرَتُهُ إلى اللَّهِ تَعالى. كَما فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ في المُنافِقِينَ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْهُ في الغَزْوِ. فَلَمّا قَدِمَ جاءُوا يَعْتَذِرُونَ إلَيْهِ. فَقَبِلَ أعْذارَهم. ووَكَلَ سَرائِرَهم إلى اللَّهِ تَعالى.
وَعَلامَةُ الكَرَمِ والتَّواضُعِ: أنَّكَ إذا رَأيْتَ الخَلَلَ في عُذْرِهِ لا تُوقِفُهُ عَلَيْهِ ولا تُحاجُّهُ. وقُلْ: يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ الأمْرُ كَما تَقُولُ. ولَوْ قُضِيَ شَيْءٌ لَكانَ، والمَقْدُورُ لا مَدْفَعَ لَهُ. ونَحْوُ ذَلِكَ.
* [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثّالِثَةُ أنْ تَتَّضِعَ لِلْحَقِّ]
قالَ الدَّرَجَةُ الثّالِثَةُ: أنْ تَتَّضِعَ لِلْحَقِّ. فَتَنْزِلَ عَنْ رَأْيِكَ وعَوائِدِكَ في الخِدْمَةِ
وَرُؤْيَةِ حَقِّكَ في الصُّحْبَةِ. وعَنْ رَسْمِكَ في المُشاهَدَةِ.
بِقَوْلِ التَّواضُعِ بِأنْ تَخْدِمَ الحَقَّ سُبْحانَهُ. وتَعْبُدَهُ بِما أمَرَكَ بِهِ، عَلى مُقْتَضى أمْرِهِ. لا عَلى ما تَراهُ مِن رَأْيِكَ. ولا يَكُونَ الباعِثُ لَكَ داعِيَ العادَةِ. كَما هو باعِثُ مَن لا بَصِيرَةَ لَهُ، غَيْرَ أنَّهُ اعْتادَ أمْرًا فَجَرى عَلَيْهِ. ولَوِ اعْتادَ ضِدَّهُ لَكانَ كَذَلِكَ.
وَحاصِلُهُ: أنَّهُ لا يَكُونُ باعِثُهُ عَلى العُبُودِيَّةِ مُجَرَّدَ رَأْيٍ، ومُوافَقَةَ هَوًى ومَحَبَّةٍ وعادَةٍ. بَلِ الباعِثُ مُجَرَّدُ الأمْرِ. والرَّأْيُ والمَحَبَّةُ والهَوى والعَوائِدُ: مُنَفِّذَةٌ تابِعَةٌ. لا أنَّها مُطاعَةٌ باعِثَةٌ. وهَذِهِ نُكْتَةٌ لا يَتَنَبَّهُ لَها إلّا أهْلُ البَصائِرِ.
وَأمّا نُزُولُهُ عَنْ رُؤْيَةِ حَقِّهِ في الصُّحْبَةِ.
فَمَعْناهُ: أنْ لا يَرى لِنَفْسِهِ حَقًّا عَلى اللَّهِ لِأجْلِ عَمَلِهِ. فَإنَّ صُحْبَتَهُ مَعَ اللَّهِ بِالعُبُودِيَّةِ والفَقْرِ المَحْضِ، والذُّلِّ والِانْكِسارِ. فَمَتى رَأى لِنَفْسِهِ عَلَيْهِ حَقًّا فَسَدَتِ الصُّحْبَةُ. وصارَتْ مَعْلُولَةً وخِيفَ مِنها المَقْتُ. ولا يُنافِي هَذا ما أحَقَّهُ سُبْحانَهُ عَلى نَفْسِهِ مِن إثابَةِ عابِدِيهِ وإكْرامِهِمْ. فَإنَّ ذَلِكَ حَقٌّ أحَقَّهُ عَلى نَفْسِهِ بِمَحْضِ كَرَمِهِ وبِرِّهِ وجُودِهِ وإحْسانِهِ. لا بِاسْتِحْقاقِ العَبِيدِ، وأنَّهم أوْجَبُوهُ عَلَيْهِ بِأعْمالِهِمْ.
فَعَلَيْكَ بِالفُرْقانِ في هَذا المَوْضِعِ الَّذِي هو مُفْتَرَقُ الطُّرُقِ. والنّاسُ فِيهِ ثَلاثُ فِرَقٍ.
فِرْقَةٌ رَأتْ أنَّ العَبْدَ أقَلُّ وأعْجَزُ مِن أنْ يُوجِبَ عَلى رَبِّهِ حَقًّا. فَقالَتْ: لا يَجِبُ عَلى اللَّهِ شَيْءٌ ألْبَتَّةَ. وأنْكَرَتْ وُجُوبَ ما أوْجَبَ عَلى نَفْسِهِ.
وَفِرْقَةٌ رَأتْ أنَّهُ سُبْحانَهُ أوْجَبَ عَلى نَفْسِهِ أُمُورًا لِعَبْدِهِ. فَظَنَّتْ أنَّ العَبْدَ أوْجَبَها عَلَيْهِ بِأعْمالِهِ، وأنَّ أعْمالَهُ كانَتْ سَبَبًا لِهَذا الإيجابِ. والفِرْقَتانِ غالِطَتانِ.
والفِرْقَةُ الثّالِثَةُ: أهْلُ الهُدى والصَّوابِ، قالَتْ: لا يَسْتَوْجِبُ العَبْدُ عَلى اللَّهِ بِسَعْيِهِ نَجاةً ولا فَلاحًا. ولا يُدْخِلُ أحَدًا عَمَلُهُ الجَنَّةَ أبَدًا، ولا يُنْجِيهِ مِنَ النّارِ. واللَّهُ تَعالى - بِفَضْلِهِ وكَرَمِهِ، ومَحْضِ جُودِهِ وإحْسانِهِ - أكَّدَ إحْسانَهُ وجُودَهُ وبِرَّهُ بِأنْ أوْجَبَ لِعَبْدِهِ عَلَيْهِ سُبْحانَهُ حَقًّا بِمُقْتَضى الوَعْدِ. فَإنَّ وعْدَ الكَرِيمِ إيجابٌ، ولَوْ بِعَسى، ولَعَلَّ.
وَلِهَذا قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: عَسى مِنَ اللَّهِ واجِبٌ.
وَوَعْدُ اللَّئِيمِ خُلْفٌ. ولَوِ اقْتَرَنَ بِهِ العَهْدُ والحَلِفُ.
والمَقْصُودُ: أنَّ عَدَمَ رُؤْيَةِ العَبْدِ لِنَفْسِهِ حَقًّا عَلى اللَّهِ لا يُنافِي ما أوْجَبَهُ اللَّهُ عَلى نَفْسِهِ. وجَعَلَهُ حَقًّا لِعَبْدِهِ. قالَ النَّبِيُّ ﷺ لِمُعاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
«يا مُعاذُ، أتَدْرِي ما حَقُّ اللَّهِ عَلى العِبادِ؟ قالَ: اللَّهُ ورَسُولُهُ أعْلَمُ. قالَ: حَقُّهُ عَلَيْهِمْ أنْ يَعْبُدُوهُ ولا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا. يا مُعاذُ، أتَدْرِي ما حَقُّ العِبادِ عَلى اللَّهِ إذا فَعَلُوا ذَلِكَ؟ قُلْتُ: اللَّهُ ورَسُولُهُ أعْلَمُ. قالَ: حَقُّهم عَلَيْهِ: أنْ لا يُعَذِّبَهم بِالنّارِ».
فالرَّبُّ سُبْحانَهُ ما لِأحَدٍ عَلَيْهِ حَقٌّ. ولا يَضِيعُ لَدَيْهِ سَعْيٌ. كَما قِيلَ:
ما لِلْعِبادِ عَلَيْهِ حَقٌّ واجِبٌ ∗∗∗ كَلّا ولا سَعْيٌ لَدَيْهِ ضائِعُ
إنْ عُذِّبُوا فَبِعَدْلِهِ، أوْ نُعِّمُوا ∗∗∗ فَبِفَضْلِهِ وهو الكَرِيمُ الواسِعُ
وَأمّا قَوْلُهُ: وتَنْزِلُ عَنْ رَسْمِكَ في المُشاهَدَةِ.
أيْ مِن جُمْلَةِ التَّواضُعِ لِلْحَقِّ: فَناؤُكَ عَنْ نَفْسِكَ. فَإنَّ رَسْمَهُ هي نَفْسُهُ. والنُّزُولُ عَنْها: فَناؤُهُ عَنْها حِينَ شُهُودِهِ الحَضْرَةَ. وهَذا النُّزُولُ يَصِحُّ أنْ يُقالَ كَسْبِيٌّ بِاعْتِبارٍ، وإنْ كانَ عِنْدَ القَوْمِ غَيْرَ كَسْبِيٍّ. لِأنَّهُ يَحْصُلُ عِنْدَ التَّجَلِّي. والتَّجَلِّي نُورٌ. والنُّورُ يَقْهَرُ الظُّلْمَةَ ويُبْطِلُها. والرَّسْمُ عِنْدَ القَوْمِ ظُلْمَةٌ. فَهي تَنْفِرُ مِنَ النُّورِ بِالذّاتِ. فَصارَ النُّزُولُ عَنِ الرَّسْمِ حِينَ التَّجَلِّي ذاتِيًّا.
وَوَجْهُ كَوْنِهِ كَسْبِيًّا: أنَّهُ نَتِيجَةُ المَقاماتِ الكَسْبِيَّةِ. ونَتِيجَةُ الكَسْبِيِّ كَسْبِيٌّ. وثَمَرَتُهُ، وإنْ حَصَلَتْ ضَرُورَةً بِالذّاتِ: لَمْ يَمْتَنِعْ أنْ يُطْلَقَ عَلَيْها كَوْنُها كَسَبِيَّةً بِاعْتِبارِ السَّبَبِ. واللَّهُ أعْلَمُ.