فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {هَوْنًا} [الفرقان: 63] الْهَوْنُ: هُوَ الرِّفْقُ وَالسُّكُونُ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِالْعِلْمِ وَالْحِلْمِ وَالتَّوَاضُعِ، لَا بِالْمَرِحِ وَالْكِبْرِ، وَالرِّيَاءِ وَالْمَكْرِ، وَفِي مَعْنَاهُ قُلْت: تَوَاضَعْت فِي الْعَلْيَاءِ وَالْأَصْلُ كَابِرٌ ... وَحُزْت نِصَابَ السَّبْقِ بِالْهَوْنِ فِي الْأَمْرِ
سُكُونٌ فَلَا خُبْثَ السَّرِيرَةِ أَصْلُهُ ... وَجُلُّ سُكُونِ النَّاسِ مِنْ عِظَمِ الْمَكْرِ
وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَيُّهَا النَّاسُ، عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ، فَإِنَّ الْبِرَّ لَيْسَ فِي الْإِيضَاعِ».
وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يُسْرِعُ جِبِلَّةً لَا تَكَلُّفًا. وَالْقَصْدُ وَالتُّؤَدَةُ وَحُسْنُ الصَّمْتِ مِنْ أَخْلَاقِ النُّبُوَّةِ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي قَبَسِ الْمُوَطَّأِ.
وَقَدْ قِيلَ: مَعْنَاهُ يَمْشُونَ رِفْقًا مِنْ ضَعْفِ الْبَدَنِ، قَدْ بَرَاهُمْ الْخَوْفُ، وَأَنْحَلَتْهُمْ الْخَشْيَةُ، حَتَّى صَارُوا كَأَنَّهُمْ الْفِرَاخُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان: 63]
اُخْتُلِفَ فِي الْجَاهِلِينَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ الْكُفَّارُ.
الثَّانِي: أَنَّهُمْ السُّفَهَاءُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {سَلامًا} [الفرقان: 63]
فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بِمَعْنَى حَسَنٍ وَسَدَادٍ.
الثَّانِي: أَنَّهُ قَوْلُ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: لَمْ يُؤْمَرْ الْمُسْلِمُونَ يَوْمئِذٍ أَنْ يُسَلِّمُوا عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَلَكِنَّهُ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِمْ: [تَسَلُّمُنَا مِنْكُمْ] وَلَا خَيْرَ بَيْنَنَا وَلَا شَرَّ.
قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَلَا نُهُوا عَنْ ذَلِكَ، بَلْ أُمِرُوا بِالصَّفْحِ وَالْهَجْرِ الْجَمِيلِ، وَقَدْ كَانَ مَنْ سَلَفَ مِنْ الْأُمَمِ فِي دِينِهِمْ التَّسْلِيمُ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ.
وَفِي الإسرائليات: إنَّ عِيسَى مَرَّ بِهِ خِنْزِيرٌ فَقَالَ لَهُ: اذْهَبْ بِسَلَامٍ حِينَ لَمْ يَقُلْ وَهُوَ لَا يَعْقِلُ السَّلَامُ.
فَأَمَّا الْكُفَّارُ فَكَانُوا يَفْعَلُونَهُ وَتَلِينُ جَوَانِبُهُمْ بِهِ؟ وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقِفُ عَلَى أَنْدِيَتِهِمْ وَيُحَيِّيهِمْ وَيُدَانِيهِمْ وَلَا يُدَاهِنُهُمْ. فَيُحْتَمَلُ قَوْلُهُ: {قَالُوا سَلامًا} [الفرقان: 63] الْمَصْدَرَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ التَّحِيَّةَ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ كُلَّهُ فِي سُورَةِ هُودٍ.
وَقَدْ اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ السَّفِيهَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ إذَا جَفَاك يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ لَهُ سَلَامٌ عَلَيْك.
وَهَلْ وُضِعَ السَّلَامُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ إلَّا عَلَى مَعْنَى السَّلَامَةِ وَالتَّوَادِّ؟ كَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُ: سَلِمْت مِنِّي، فَأَسْلَمُ مِنْك.
{"ayah":"وَعِبَادُ ٱلرَّحۡمَـٰنِ ٱلَّذِینَ یَمۡشُونَ عَلَى ٱلۡأَرۡضِ هَوۡنࣰا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ ٱلۡجَـٰهِلُونَ قَالُوا۟ سَلَـٰمࣰا"}