الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] اعْلَمُوا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ الْمُشْكِلَاتِ أَنَّ الْبَارِئَ تَعَالَى حَمِدَ نَفْسَهُ، وَافْتَتَحَ بِحَمْدِهِ كِتَابَهُ، وَلَمْ يَأْذَنْ فِي ذَلِكَ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، بَلْ نَهَاهُمْ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ، فَقَالَ: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم: 32] وَمَنَعَ بَعْضَ النَّاسِ مِنْ أَنْ يَسْمَعَ مَدْحَ بَعْضٍ لَهُ، أَوْ يَرْكَنَ إلَيْهِ، وَأَمَرَهُمْ بِرَدِّ ذَلِكَ، وَقَالَ: «اُحْثُوا فِي وُجُوهِ الْمَدَّاحِينَ التُّرَابَ» رَوَاهُ الْمِقْدَادُ وَغَيْرُهُ.
وَكَأَنَّ فِي مَدْحِ اللَّهِ لِنَفْسِهِ وَحَمْدِهِ لَهَا وُجُوهًا مِنْهَا ثَلَاثٌ أُمَّهَاتٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَلَّمَنَا كَيْفَ نَحْمَدُهُ، وَكَلَّفَنَا حَمْدَهُ وَالثَّنَاءَ عَلَيْهِ؛ إذْ لَمْ يَكُنْ لَنَا سَبِيلٌ إلَيْهِ إلَّا بِهِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ مَعْنَاهُ: قُولُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَيَكُونُ فَائِدَةُ ذَلِكَ التَّكْلِيفَ لَنَا، وَعَلَى هَذَا تُخَرَّجُ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ بِنَصْبِ الدَّالِ فِي الشَّاذِّ.
الثَّالِثُ: أَنَّ مَدْحَ النَّفْسِ إنَّمَا نُهِيَ عَنْهُ لِمَا يُدْخِلُ عَلَيْهَا مِنْ الْعُجْبِ بِهَا، وَالتَّكَثُّرِ عَلَى الْخَلْقِ مِنْ أَجْلِهَا، فَاقْتَضَى ذَلِكَ الِاخْتِصَاصَ بِمَنْ يَلْحَقُهُ التَّغَيُّرُ، وَلَا يَجُوزُ مِنْهُ التَّكَثُّرُ، وَهُوَ الْمَخْلُوقُ، وَوَجَبَ ذَلِكَ لِلْخَالِقِ؛ لِأَنَّهُ أَهْلُ الْحَمْدِ.
وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ الصَّحِيحُ، وَالْفَائِدَةُ الْمَقْصُودَةُ.
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: فَهَذِهِ الْآيَةُ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَسْنَدْنَا لَكُمْ، «أَنَّهُ قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ، أَنْزَلْتُ عَلَيْكَ سَبْعًا، ثَلَاثًا لِي وَثَلَاثًا لَك، وَوَاحِدَةً بَيْنِي وَبَيْنَك؛ فَأَمَّا الثَّلَاثُ الَّتِي لِي: فَ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 3] {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] وَأَمَّا الثَّلَاثُ الَّتِي لَك فَ {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] وَأَمَّا الْوَاحِدَةُ الَّتِي بَيْنِي وَبَيْنَك فَ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]» يَعْنِي: مِنْ الْعَبْدِ الْعِبَادَةَ، وَمِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ الْعَوْنَ.
[مَسْأَلَةٌ أَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِي قِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ الْفَاتِحَةَ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِي قِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ الْفَاتِحَةَ: قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُومَ يَقْرَؤُهَا، وَإِنْ لَمْ يَقْرَأْهَا فَلَيْسَ لَهُ حَظٌّ فِي الصَّلَاةِ لِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ.
وَلِعُلَمَائِنَا فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: يَقْرَؤُهَا إذَا أَسَرَّ خَاصَّةً قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ.
الثَّانِي: قَالَ ابْنُ وَهْبٍ وَأَشْهَبُ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ: لَا يَقْرَأُ.
الثَّالِثُ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: يَقْرَؤُهَا خَلْفَ الْإِمَامِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَجْزَأَهُ، كَأَنَّهُ رَأَى ذَلِكَ مُسْتَحَبًّا، وَالْمَسْأَلَةُ عَظِيمَةُ الْخَطَرِ، وَقَدْ أَمْضَيْنَا الْقَوْلَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ فِي دَلَائِلِهَا بِمَا فِيهِ غُنْيَةً.
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي وُجُوبُ قِرَاءَتِهَا فِيمَا يُسِرُّ وَتَحْرِيمُهَا فِيمَا جَهَرَ إذَا سَمِعَ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ، لِمَا عَلَيْهِ مِنْ فَرْضِ الْإِنْصَاتِ لَهُ، وَالِاسْتِمَاعِ لِقِرَاءَتِهِ؛ فَإِنْ كَانَ عَنْهُ فِي مَقَامٍ بَعِيدٍ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ صَلَاةِ السِّرِّ؛ لِأَنَّ أَمْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقِرَاءَتِهَا عَامٌّ فِي كُلِّ صَلَاةٍ وَحَالَةٍ، وَخَصَّ مِنْ ذَلِكَ حَالَةَ الْجَهْرِ بِوُجُوبِ فَرْضِ الْإِنْصَاتِ، وَبَقِيَ الْعُمُومُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَهَذِهِ نِهَايَةُ التَّحْقِيقِ فِي الْبَابِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
{"ayah":"ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ"}