(الحمد لله) هو الثناء باللسان على الجميل الاختياري على قصد التبجيل، وبهذا فارق المدح، وقال الزمخشري إنهما أخوان، والحمد أخص من الشكر مورداً، وأعم منه متعلقاً، وبه صرح في الفائق، لكن الأوفق ما عليه الأكثر أنهما غير مترادفين بل متشابهان معنى أو اشتقاقاً كبيراً، وتعريفه لاستغراق إفراد الحمد، وأنها مختصة بالرب سبحانه على معنى أن حمد غيره لا اعتداد به، لأن المنعم هو الله عز وجل، أو على أن حمده هو الفرد الكامل، فيكون الحصر ادعائياً، ورجح الزمخشري أن التعريف هنا هو تعريف الجنس لا الإستغراق، وإليه نحا أبو السعود، والصواب ما ذكرناه وعليه الجمهور.
وقد جاء في الحديث " اللهم لك الحمد كله " [[ورد أحاديث كثيرة فيها هذا اللفظ ومنها ما أخرجه مسلم 769 - 476.]] قال ابن جرير الحمد ثناء أثنى به على نفسه، وفي ضمنه أمر عباده أن يثنوا عليه فكأنه قال قولوا الحمد لله، ثم رجح اتحاد الحمد والشكر مستدلاً على ذلك بما حاصله أن جميع أهل المعرفة بلسان العرب يوقعون كلاً من الحمد والشكر مكان الآخر، قال ابن كثير وفيه نظر لأنه اشتهر عند كثير من العلماء المتأخرين أن الحمد هو الثناء بالقول على المحمود بصفاته اللازمة والمتعدية، والشكر لا يكون إلا على المتعدية، ويكون بالجنان واللسان والأركان، انتهى.
ولا يخفى أن المرجع في مثل هذا إلى معنى الحمد في لغة العرب لا إلى ما قاله جماعة من العلماء المتأخرين فإن ذلك لا يرد على ابن جرير ولا تقوم به الحجة هذا إذا لم يثبت للحمد حقيقة شرعية فإن ثبتت وجب تقديمها.
روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال: الحمد لله كلمة الشكر، وإذا قال العبد الحمد لله قال الله: شكرني عبدي [[وفي الحديث الطويل لمسلم 395/قال الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي .... قال الله حمدني عبدي.]]، وروى ابن جرير عن الحكم بن عمير وكانت له صحبة قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إذا قلت الحمد لله رب العالمين فقد شكرت الله فزادك ".
وأخرج عبد الرزاق في المصنف والحكيم الترمذي في نوادر الأصول والخطابى في الغريب والبيهقي في الأدب والديلمي في مسند الفردوس عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: " الحمد رأس الشكر، ما شكر الله عبد لا يحمده " [[الدارقطني 10/ 311.]] وأخرج الطبراني في الأوسط بسند ضعيف عن النواس بن سمعان قال: " سرقت ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: لئن ردها الله عليّ لأشكرن ربي فرجعت، فلما رآها قال الحمد لله فانتظروا هل يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صوم أو صلاة فظنوا أنه نسي، فقالوا يا رسول الله كنت قد قلت لئن ردها الله عليّ لأشكرن ربي؛ قال ألم أقل الحمد لله ".
وقد ورد في فضل الحمد أحاديث: منها ما أخرجه أحمد والنسائي والحاكم وصححه البخاري في الأدب المفرد عن الأسود بن سريع قال: قلت يا رسول الله ألا أنشدك محامد حمدت بها ربي تبارك وتعالى؟ فقال أما إن ربك يحب الحمد [[ضعيف الجامع/2789.]].
وأخرج الترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجة وابن حبان والبيهقي عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله) [[صحيح الجامع 1/ 1115 - الأحاديث الصحيحة/1497. ابن حبان/2326.]].
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ما من عبد ينعم عليه بنعمة إلا كان الحمد أفضل منها " وأخرج مسلم والنسائي وأحمد عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم - " الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان " [[صحيح الجامع/3852.]] وأخرج البيهقي عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " ما شيء أحب إلى الله من الحمد "، وفي الباب أحاديث.
وأخرج أهل السنن وابن حبان والبيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع " [[ضعيف الجامع/4221.]] وأخرج مسلم عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها " [[صحيح الجامع/1812 - الأحاديث الصحيحة/1651. مسلم 8/ 87 الترمذي 1/ 334 أحمد 3/ 100.]].
وإيثار الرفع على النصب الذي هو الأصل للإيذان بأن ثبوت الحمد له تعالى لذاته لا لإثبات مثبت؛ وأن ذلك أمر دائم مستمر لا حادث متجدد كما تفيده قراءة النصب.
(رب العالمين) قال في الصحاح الرب اسم من أسماء الله تعالى ولا يقال في غيره إلا بالإضافة وقد قالوه في الجاهلية للملك وقال الزمخشري " الرب " المالك كما يقال رب الدار ورب الشيء أي مالكه قال القرطبي والرب السيد ومنه قوله تعالى: (اذكرني عند ربك) وفي الحديث " أن تلد الأمة ربتها " [[مسلم 8/من الحديث الجامع عن عمر بن الخطاب بينا نحن جلوس عند رسول الله ... وانظر الأربعين نووية الحديث الأول.]] والرب المصلح والمدبر والمربي والجابر والقائم قال والرب المعبود.
والعالمين جمع عالم لا واحد له من لفظه، وهو اسم لما يعلم به غلب فيما يعلم به الصانع من المصنوعات، قال أبو السعود وهو الأحق الأظهر أو اسم لكل موجود سوى الله تعالى، قال قتادة فيدخل فيه جميع الخلق، وهو ظاهر كلام الجوهري، وقيل أهل كل زمان عالم، قاله الحسين بن مفضل، وقال ابن عباس العالمون هم الجن والإنس، وقيل اسم جمع عالم بالفتح وليس جمعاً له لأن العالم عام في العقلاء وغيرهم، والعالمين مختص بالعقلاء، والخاص لا يكون جمعاً لما هو أعم منه، قاله ابن مالك وتبعه ابن هشام في توضيحه، وذهب كثير إلى أنه جمع عالم على حقيقة الجمع، وقال الفراء وأبو عبيد: العالم عبارة عما يعقل وهم أربعة أمم الانس والجن والملائكة والشياطين، ولا يقال للبهائم عالم لأن هذا الجمع إنما هو جمع ما يعقل، حكاها القرطبي وذكر أدلتها، وقال إن القول الأول أصح هذه الأقوال لأنه شامل لكل مخلوق موجود، دليله قوله تعالى: (قال فرعون وما رب العالمين، قال رب السموات والأرض وما بينهما) وقيل عنى به الناس فإن كل واحد منهم عالم، وفيه بعد.
قال الزجاج: العالم كل ما خلقه الله تعالى في الدنيا والآخرة وعلى هذا يكون جمعه بالياء والنون تغليباً للعقلاء على غيرهم وعن ابن عباس في الآية قال إنه الخلق كله، السموات كلهن ومن فيهن والأرضين كلهن ومن فيهن ومن بينهن مما يعلم ولا يعلم، وفيه دليل على أن رب العالمين جرى مجرى الدليل على وجود الآله القديم وبيان لشمول ربوبيته تعالى لجميع الأجناس، فآثار تربيته عز وجل الفائضة على كل فرد من أفراد الموجودات في كل آن من آنات الوجود غير متناهية فسبحانه ما أعظم شأنه لا تلاحظه العيون بأنظارها، ولا تطالعه العقول بأفكارها شأنه لا يضاهى، وإحسانه لا يتناهى، ونحن في معرفته حائرون، وفي إقامة مراسم شكره قاصرون.
وأتى بجمع القلة تنبيهاً على أنهم وإن كثروا قليلون في جنب عظمته وكبريائه تعالى، واختلف في مبلغ عدد العالم على أقوال لم يصح شيء منها، والحق ما قاله سبحانه وتعالى (وما يعلم جنود ربك إلا هو).
{"ayah":"ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ"}