عند قوله:
﴿الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ تجد تحت هذه الكلمة إثباتَ كل كمال للرب تعالى فعلًا ووصفًا واسمًا، وتنزيهه عن كل سوء وعيب فعلًا ووصفًا واسمًا، فهو محمود في أفعاله وأوصافه وأسمائه، منزَّهٌ عن العيوب والنقائص في أفعاله وأوصافه وأسمائه، فأفعاله كلها حكمة ورحمة ومصلحة وعدل لا تخرج عن ذلك، وأوصافه كلها أوصاف كمال ونعوت جلال، وأسماؤه كلها حسنى، وحمده قد ملأ الدنيا والآخرة والسماوات والأرض وما بينهما وما فيهما، فالكون كله ناطق بحمده، والخلق والأمر صادر عن حمده وقائم بحمده ووُجِد بحمده، فحمده هو سبب وجود كل موجود، وهو غاية كل موجود، وكلُّ موجود شاهد بحمده، وإرساله رسوله بحمده، وإنزاله كتبه بحمده، والجنة عُمرتْ بأهلها بحمده، والنار عُمرتْ بأهلها بحمده، وما أُطِيعَ إلا بحمده، وما عُصي إلا بحمده، ولا تسقط ورقة إلا بحمده، ولا يتحرك في الكون ذرة إلا بحمده.
وهو المحمود لذاته، وإن لم يحمده العباد، كما أنه هو الواحد الأحد ولو لم يُوحِّده العباد، والإله الحق وإن لم يُؤلِّهوه، وهو سبحانه الذي حَمِد نفسَه على لسان القائل: الحمد لله رب العالمين، كما قال النبي ﷺ: "إن الله تعالى قال على لسان نبيه: سمع الله لمن حمده".
فهو الحامد لنفسه في الحقيقة على لسان عبده، فإنه الذي أجرى الحمد على لسانه وقلبه، وإجراؤه بحمده، فله الحمد كله، وله الملك كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله، فهذه المعرفة من عبودية الحمد.
ومن عبوديته أيضًا أن يعلم أن حمده لربه سبحانه نعمة منه عليه، يستحق عليها الحمدَ، فإذا حمده على هذه النعمة استوجب عليه حمدًا آخر على نعمة حمده، وهلمَّ جرًّا. فالعبد ولو استنفد أنفاسَه كلَّها في حمده على نعمة من نعمه، كان ما يجب له من الحمد ويستحقه فوق ذلك وأضعافه، ولا يُحصِي أحد البتة ثناءً عليه بمحامده.
ومن عبودية العبد شهودُ العبد لعجزه عن الحمد، وأن ما قام به منه فالرب سبحانه هو المحمود عليه، إذ هو مُجرِيه على لسانه وقلبه.
ومن عبوديته تسليط الحمد على تفاصيل أحوال العبد كلها ظاهرةً وباطنةً على ما يحب العبد وما يكرهه، فهو سبحانه المحمود على ذلك كله في الحقيقة، وإن غاب عن شهود العبد.
ثم لقوله:
﴿رَبِّ العالَمِينَ﴾ من العبودية شهود تفرده سبحانه بالربوبية، وأنه كما أنه رب العالمين وخالقهم ورازقهم ومُدبِّر أمورهم ومُوجِدهم ومُفنِيهم، فهو وحده إلههم ومعبودهم وملجأهم ومفزعهم عند النوائب، فلا ربَّ غيره، ولا إلهَ سواه.
* (لطيفة)
قال جعفر بن محمد رضي الله عنه فقدَ أبي بغلة له فقال إن ردها الله عليَّ لأحمدنه بمحامد يرضاها، فما لبث أن أُتيَ بسرجها ولجامها فركبها، فلما استوى عليها وضم إليه ثيابه رفع رأسه إلى السماء فقال (الحمد لله) لم يزد عليها.
فقيل له في ذلك، فقال هل تركت وأبقيت شيئا؟!
جعلت الحمد كله لله.
(الفرق بين الحمد والمدح)
والفرق بينهما أن حمد يتضمن الثناء مع العلم بما يثنى به فإن تجرد عن العلم كان مدحا ولم يكن حمدا فكل حمد مدح دون العكس ومن حيث كان يتضمن العلم بخصال المحمود جاء فعله على حمد بالكسر موازنا لعلم ولم يجئ كذلك مدح فصار المدح في الأفعال الظاهرة كالضرب ونحوه ومن ثم في الكتاب والسنة حمد: ربنا فلانا ويقول مدح الله فلانا وأثنى على فلان ولا تقول حمد إلا لنفسه ولذلك قال سبحانه:
﴿الحَمْدُ لِلَّهِ﴾ بلام الجنس المفيدة للاستغراق فالحمد كله له إما ملكا وإما استحقاقا فحمده لنفسه استحقاق وحمد العباد له وحمد بعضهم لبعض ملك له فلو حمد هو غيره لم يسغ أن يقال في ذلك الحمد ملك له لأن الحمد كلامه ولم يسغ أن يضاف إليه على جهة الاستحاق وقد تعلق بغيره.
فإن قيل: أليس ثناؤه ومدحه لأوليائه إنما هو بما علم، فلم لا يجوز أن يسمى حمدا؟
قيل لا يسمى حمدا على الإطلاق إلا ما يتضمن العلم بالمحاسن على الكمال وذلك معدوم في غيره سبحانه فإذا مدح فإنما يمدح بخصلة هي ناقصة في حق العبد وهو أعلم بنقصانها وإذا حمد نفسه حمد بما علم من كمال صفاته قلت: ليس ما ذكره من الفرق بين الحمد والمدح باعتبار العلم وعدمه صحيحا فإن كل واحد منهما يتضمن العلم بما يحمد به غيره ويمدحه فلا يكون مادحا ولا حامدا من لم يعرف صفات المحمود والممدوح فكيف يصح قوله: إن تجرد عن العلم كان مادحا بل إن تجرد عن العلم كان كلاما بغير علم فإن طابق فصدق وإلا فكذب وقوله: ومن ثم لم يجئ في الكتاب والسنة حمد ربنا فلانا يقال وأين جاء فيهما مدح الله فلانا وقد جاء في السنة ما هو أخص من الحمد وهو الثناء الذي هو تكرار المحامد كما في قول النبي ﷺ لأهل قباء:
"ما هذا الطهور الذي أثنى الله عليكم به "
(صحيح) فإذا كان قد أثنى عليهم والثناء حمد متكرر فما يمنع حمده لمن شاء من عباده.
ثم الصحيح في تسمية النبي ﷺ محمدا أنه الذي يحمده الله وملائكته وعباده المؤمنون.
وأما من قال: الذي يحمده أهل السماوات وأهل الأرض فلا ينافي حمد الله بل حمد أهل السماوات والأرض له بعد حمد الله له فلما حمده الله حمده أهل السماوات والأرض وبالجملة فإذا كان الحمد ثناء خاصا على المحمود لم يمتنع أن يحمد الله تعالى من يشاء من خلقه كما يثني عليه فالصواب في الفرق بين الحمد والمدح أن يقال: الإخبار عن محاسن الغير إما أن يكون إخبارا مجردا من حب وإرادة أو مقرونا بحبه وإرادته فإن كان الأول فهو المدح وإن كان الثاني فهو الحمد فالحمد إخبار عن محاسن المحمود مع حبه وإجلاله وتعظيمه ولهذا كان خبرا يتضمن الإنشاء بخلاف المدح فإنه خبر مجرد فالقائل إذا قال: الحمد لله أو قال: ربنا لك الحمد تضمن كلامه الخبر عن كل ما يحمد عليه تعالى باسم جامع محيط متضمن لكل فرد من أفراد الحمد المحققة والمقدرة وذلك يستلزم إثبات كل كمال يحمد عليه الرب تعالى ولهذا لا تصلح هذه اللفظة على هذا الوجه ولا ينبغي إلا لمن هذا شأنه وهو الحميد المجيد ولما كان هذا المعنى مقارنا للحمد لا تتقوم حقيقته إلا به فسره من فسره بالرضى والمحبة وهو تفسير له بجزء مدلوله بل هو رضاء ومحبة ومقارنة للثناء، ولهذا السر والله أعلم جاء فعله على بناء الطبائع والغرائز فقيل: (حمد) لتضمنه الحب الذي هو بالطبائع والسجايا أولى وأحق من فهم وحذر وسقم ونحوه بخلاف الإخبار المجرد عن ذلك وهو المدح فإنه جاء على وزن فعل فقالوا: مدحه لتجرد معناه من معاني الغرائز والطبائع فتأمل هذه النكتة البديعة وتأمل الإنشاء الثابت في قولك ربنا لك الحمد وقولك الحمد لله كيف تجده تحت هذه الألفاظ ولذلك لا يقال موضعها المدح لله تعالى ولا ربنا لك المدح وسره ما ذكرت لك من الأخبار بمحاسن المحمود إخبارا مقترنا بحبه وإرادته وإجلاله وتعظيمه.
فإن قلت: فهذا ينقض قولكم إنه لا يمتنع أن يحمد الله تعالى من شاء من خلقه فإن الله تعالى لا يتعاظمه شيء ولا يستحق التعظيم غيره فكيف يعظم أحدا من عباده قلت: المحبة لا تنفك عن تعظيم وإجلال للمحبوب ولكن يضاف إلى كل ذات بحسب ما تقتضيه خصائص تلك الذات فمحبة العبد لربه تستلزم إجلاله وتعظيمه وكذلك محبة الرسول تستلزم توقيره وتعزيزه وإجلاله وكذلك محبة الوالدين والعلماء وملوك العدل وأما محبة الرب عبده فإنها تستلزم إعزازه لعبده وإكرامه إياه والتنويه بذكره وإلقاء التعظيم والمهابة له في قلوب أوليائه فهذا المعنى ثابت في محبته وحمده لعبده سمي تعظيما وإجلالا أو لم يسم ألا ترى أن محبته سبحانه لرسله كيف اقتضت أن نوه بذكرهم في أهل السماء والأرض ورفع ذكرهم على ذكر غيرهم وغضب على من لم يحبهم ويوقرهم ويجلهم وأحل به أنواع العقوبات في الدنيا والآخرة وجعل كرامته في الدنيا والآخرة لمحبيهم وأنصارهم وأتباعهم أولا ترى كيف أمر عباده وأولياءه بالصلاة التي هي تعظيم وثناء على خاتمهم وأفضلهم صلوات الله عليه وسلامه أفليس هذا تعظيما لهم وإعزازا وإكراما وتكريما.
فإن قيل: فقد ظهر الفرق بين الحمد والمدح واستبان صبح المعنى وأسفر وجهه فما الفرق بينهما وبين الثناء والمجد الفرق بين الحمد والمدح وبين الثناء والمجد؟
قيل: قد تعدينا طورنا فيما نحن بصدده ولكن نذكر الفرق تكميلا للفائدة فنذكر تقسيما جامعا لهذه المعاني الأربعة أعني الحمد والمدح والثناء والمجد فنقول الإخبار عن محاسن الغير له ثلاث اعتبارات اعتبار من حيث المخبر به واعتبار من حيث الإخبار عنه بالخبر واعتبار من حيث حال المخبر فمن حيث الاعتبار الأول ينشأ التقسيم إلى الحمد والمجد فإن المخبر به إما أن يكون من أوصاف العظمة والجلال والسعة وتوابعها أو من أوصاف الجمال والإحسان وتوابعها فإن كان الأول فهو المجد وإن كان الثاني فهو الحمد وهذا لأن لفظ م ج د في لغتهم يدور على معنى الاتساع والكثرة فمنه قولهم أمجد الدابة علفا أي أوسعها علفا ومنه مجد الرجل فهو ماجد إذا كثر خيره وإحسانه إلى الناس قال الشاعر:
أنت تكون ماجد نبيل ... إذا تهب شمأل بليل
ومنه قولهم في شجر الغار واستمجد "المرخ" "والعفار" أي كثرت النار فيهما ومن حيث اعتبار الخبر نفسه ينشأ التقسيم إلى الثناء والحمد فإن الخبر عن المحاسن إما متكرر أو لا فإن تكرر فهو الثناء وإن لم يتكرر فهو الحمد فإن الثناء مأخوذ من الثني وهو العطف ورد الشيء بعضه على بعض ومنه ثنيت الثوب ومنه التثنية في الاسم فالمثنى مكرر لمحاسن من يثنى عليه مرة بعد مرة ومن جهة اعتبار حال المخبر ينشأ التقسيم إلى المدح والحمد فإن المخبر عن محاسن الغير إما أن يقترن بإخباره حب له وإجلال أو لا فإن اقترن به الحب فهو الحمد وإلا فهو المدح فحصل هذه الأقسام وميزها ثم تأمل تنزيل قوله تعالى فيما رواه عنه رسول الله ﷺ حين يقول العبد: " (الحمد لله رب العالمين) فيقول الله حمدني عبدي فإذا قال (الرحمن الرحيم) قال أثنى علي عبدي لأنه كرر حمده فإذا قال (مالك يوم الدين) قال مجدني عبدي فإنه وصفه بالملك والعظمة والجلال "
رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
فاحمد الله على ما ساقه إليك من هذه الأسرار والفوائد عفوا لم تسهر فيها عينك ولم يسافر فيها فكرك عن وطنه ولم تتجرد في تحصيلها عن مألوفاتك بل هي عرائس معان تجلى عليك وتزف إليك فلك لذة التمتع بها ومهرها على غيرك لك غنمها وعليه غرمها.
* [فَصْلٌ: الفَرْقُ بَيْنَ الحَمْدِ والشُّكْرِ]
وَتَكَلَّمَ النّاسُ في الفَرْقِ بَيْنَ الحَمْدِ والشُّكْرِ أيُّهُما أعْلى وأفْضَلُ؟
وَفِي الحَدِيثِ
«الحَمْدُ رَأسُ الشُّكْرِ، فَمَن لَمْ يَحْمَدِ اللَّهَ لَمْ يَشْكُرْهُ».
والفَرْقُ بَيْنَهُما: أنَّ الشُّكْرَ أعَمُّ مِن جِهَةِ أنْواعِهِ وأسْبابِهِ، وأخَصُّ مِن جِهَةِ مُتَعَلَّقاتِهِ. والحَمْدُ أعَمُّ مِن جِهَةِ المُتَعَلَّقاتِ، وأخَصُّ مِن جِهَةِ الأسْبابِ.
وَمَعْنى هَذا: أنَّ الشُّكْرَ يَكُونُ بِالقَلْبِ خُضُوعًا واسْتِكانَةً، وبِاللِّسانِ ثَناءً واعْتِرافًا، وبِالجَوارِحِ طاعَةً وانْقِيادًا. ومُتَعَلَّقُهُ: النِّعَمُ، دُونَ الأوْصافِ الذّاتِيَّةِ، فَلا يُقالُ: شَكَرْنا اللَّهَ عَلى حَياتِهِ وسَمْعِهِ وبَصَرِهِ وعَلِمْهِ. وهو المَحْمُودُ عَلَيْها. كَما هو مَحْمُودٌ عَلى إحْسانِهِ وعَدْلِهِ، والشُّكْرُ يَكُونُ عَلى الإحْسانِ والنِّعَمِ.
فَكُلُّ ما يَتَعَلَّقُ بِهِ الشُّكْرُ يَتَعَلَّقُ بِهِ الحَمْدُ مِن غَيْرِ عَكْسٍ وكُلُّ ما يَقَعُ بِهِ الحَمْدُ يَقَعُ بِهِ الشُّكْرُ مِن غَيْرِ عَكْسٍ. فَإنَّ الشُّكْرَ يَقَعُ بِالجَوارِحِ. والحَمْدَ يَقَعُ بِالقَلْبِ واللِّسانِ.
* (فائدة)
فإذا قيل: "الحمد كله لله" فهذا له معنيان:
أحدهما أنه محمود على كل شيء وبكل ما يحمد به المحمود التام وإن كان بعض خلقه يحمد أيضًا كما يحمد رسله وأنبياؤه وأتباعهم - فذلك من حمده تبارك وتعالى بل هو المحمود بالقصد الأول [وبالذت وما نالوه من الحمد فإنما نالوه بحمده] فهو المحمود أولًا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا، وهذا كما أنه بكل شيء عليم، وقد علم غيره من علمه ما لم يكن يعلمه بدون تعليمه، وفي الدعاء المأْثور: "اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ كُلُهُ، ولَكَ المُلْكُ كُلُّهُ، وبِيَدِكِ الخَيْرُ كُلُّهُ، وإلَيْكَ يَرْجِعُ الأمْرُ كُلُّهُ، أسْألُكَ مِنَ الخَيْرِ كله وأعُوذُ بِكَ مِن الشَّرِّ كُلِّهِ"، وهو سبحانه له الملك وقد آتى من الملك بعض خلقه، وله الحمد وقد آتى غيره من الحمد ما شاءَ. وكما أن ملك المخلوق داخل في ملكه، فحمده أيضًا داخل في حمده، فما من محمود يحمد على شيء مما دق أو جل إلا والله المحمود عليه بالذات والأولوية أيضًا، وإذا قال الحامد: "اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْد"، فالمراد به أنت المستحق لكل حمد، ليس المراد به الحمد الخارجى فقط.
المعنى الثاني أن يقال: "لَكَ الحَمْد كلُّه" أي الحمد التام الكامل فهذا مختص بالله عز وجل ليس لغيره فيه شركة. والتحقيق أن له الحمد بالمعنيين جميعًا، فله عموم الحمد وكماله، وهذا من خصائصه سبحانه، فهو المحمود على كل حال وعلى كل شيء أكمل حمد وأعظمه، كما أن له الملك التام العام فلا يملك كل شيء إلا هو وليس الملك التام الكامل إلا له وأتباع الرسل صلوات الله وسلامه عليهم يثبتون له كمال الملك وكمال الحمد فإنهم يقولون: إنه خالق كل شيء وربه ومليكه، لا يخرج عن خلقه وقدرته ومشيئته شيء ألبتة فله الملك كله.
والقدرية المجوسية يخرجون من ملكه أفعال العباد، فيخرجون طاعات الأنبياء والمرسلين والملائكة والمتقين من ملكه كما يخرجون سائر حركات الملائكة والجن والإنس عن ملكه.
وأتباع الرسل يجعلون ذلك كله داخلًا تحت ملكه وقدرته، ويثبتون كمال الحمد أيضًا، وأنه المحمود على جميع ذلك وعلى كل ما خلقه ويخلقه، لما له فيه من الحكم والغايات المحمودة المقصودة بالفعل.
وأما نفاة الحكمة والأسباب من مثبتي القدر فهم في الحقيقة لا يثبتون له حمدًا كما لا يثبتون له الحكمة، فإن الحمد من لوازم الحكمة، والحكمة إنما تكون في حق من يفعل شيئًا لشيء فيريد بما يفعله الحكمة الناشئة من فعله.
فأما من لا يفعل شيئًا لشيء ألبتة فلا يتصور في حقه الحكمة.
* (فصل: في بيان أن حمده تعالى شامل لكل ما يحدثه)
والمقصود بيان شمول حمده تعالى وحكمته لكل ما يحدثه من إحسان ونعمة وامتحان وبلية، وما يقضيه من طاعة ومعصية، أنه سبحانه محمود على ذلك مشكور حمد المدح وحمد الشكر، أما حمد المدح فإنه محمود على كل ما خلق إذ هو رب العالمين والحمد لله رب العالمين وأما حمد الشكر فلأن ذلك كله نعمة في حق المؤمن إذا اقترن بواجبه من الإحسان، والنعمة إذا اقترنت بالشكر صارت نعمة والامتحان والبلية إذا اقترنا بالصبر كانا نعمه، والطاعة من أجلّ نعمه، وأما المعصية فإذا اقترنت بواجبها من التوبة والاستغفار والإنابة والذل والخضوع فقد ترتب عليها من الآثار المحمودة والغايات المطلوبة ما هو نعمة أيضًا وإن كان سببها مسخوطًا مبغوضًا للرب تعالى، ولكنه يحب ما يترتب عليها من التوبة والاستغفار، وهو سبحانه أفرح بتوبة عبده من الرجل إذا أضل راحلته بأرض دوِّية مهلكة عليها طعامه
وشرابه فأيس منها ومن الحياة فنام ثم استيقظ فإذا بها قد تعلق خطامها في أصل شجرة فجاءَ حتى أخذها، فالله أفرح بتوبة العبد حين يتوب إليه من هذا براحلته، فهذا الفرح العظيم الذي لا يشبهه شيء أحب إليه سبحانه من عدمه، وله أسباب ولوازم لابد منها، وما يحصل بتقدير عدمه من الطاعات وإن كان محبوبًا له فهذا الفرح أحب إليه بكثير ووجوده بدون لازمه ممتنع، فله من الحكمة في تقدير أسبابه وموجباته حكمة بالغة ونعمة سابغة. هذا بالإضافة إلى الرب جل جلاله، وأما بالإضافة إلى العبد فإنه قد يكون كمال عبوديته وخضوعه موقوفًا على أسباب لا تحصل بدونها، فتقدير الذنب عليه إذا اتصل به التوبة والإنابة والخضوع والذل والانكسار ودوام الافتقار كان من النعم باعتبار غايته وما يعقبه وإن كان من الابتلاء والامتحان باعتبار صورته ونفسه والرب تعالى محمود على الأمرين.
فإن اتصل بالذنب الآثار المحبوبة للرب سبحانه من والتوبة والذل والإنابة والانكسار فهو عين مصلحة العبد، والاعتبار بكمال النهاية لا بنقص البداية، وإن لم يتصل به ذلك، فهذا لا يكون إلا من خبث نفسه وشره وعدم استعداده لمجاورة ربه بين الأرواح الذكية الطاهرة في الملأ الأعلى ومعلوم وأن هذه النفس فيها من الشر والخبث ما فيها، فلا بد من خروج ذلك منها من القوة إلى الفعل ليترتب على ذلك الآثار المناسبة لها ومساكنة من تليق مساكنته ومجاورة الأرواح الخبيثة في المحل الأسفل، فإن هذه النفوس إذا كانت مهيأة لذلك فمن الحكمة أن تستخرج منها الأسباب التي توصلها إلى ما هي مهيأة له ولا يليق به سواه والرب تعالى محمود على إنعامه وإحسانه على أهل الإحسان والأنعام القابلين له فما كل أحد قابلًا لنعمته تعالى فحمده وحكمته تقتضي أن لا يودع وإحسانه وكنوزه في محل غير قابل لها.
ولا يبقى إلا أن يقال: فما الحكمة في خلق هذه الأرواح التي هي غير قابلة لنعمته؟
فقد تقدم من الجواب عن ذلك ما فيه كفاية. وأن خلق الأضداد والمقابلات وترتيب آثارها عليها موجب ربوبيته وحكمته وعلمه وعزته، وأن تقدير عدم ذلك هضم من جانب الربوبية. وأيضًا فإن هذه الحوادث نعمة في حق المؤمن، فإنها إذا وقعت فهو مأمور أن نكرها بقلبه ويده ولسانه فقط أو بقلبه فقط، ومأمور أن يجاهد أربابها بحسب الإمكان، فيترتب له على الإنكار والجهاد من مصالح قلبه ونفسه وبدنه ومصالح دنياه، وآخرته ما لم يكن ينال بدون ذلك، والمقصود بالقصد الأول إتمام نعمته تعالى على أوليائه ورسله وخاصته فاستعمال أعدائه فيما تكمل به النعمة على أُوليائه غاية الحكمة، وكان في تمكين أهل الكفر والفسق والعصيان من ذلك إيصال إلى الكمال الذي يحصل لهم بمعاداة هؤلاء وجهادهم والإنكار عليهم والموالاة فيه والمعاداة فيه وبذل نفوسهم وأموالهم وقواهم له.
فإن تمام العبودية لا يحصل إلا بالمحبة الصادقة، وإنما تكون المحبة صادقة إذا بذل فيها المحب ما يملكه من مال ورياسة وقوة في مرضاة محبوبة والتقرب إليه، فإن بذل له روحه كان هذا أعلى درجات المحبة، ومن المعلوم أن من لوازم ذلك التي لا يحصل إلا بها أو يخلق ذواتًا وأسبابًا وأعمالًا وأخلاقًا وطبائع تقتضي معاداة من يحبه ويؤثر مرضاته لها وعند ذلك تتحق المحبة الصادقة من غيرها فكل أحد يحب الإحسان والراحة والدعة واللذة، ويجب من يوصل إليه ذلك ويحصله له، ولكن الشأْن في أمر وراءَ هذا وهو محبته سبحانه ومحبة ما يحبه مما هو أكره شيء إلى النفوس وأشق شيء عليها مما لا يلائمها، فعند حصول أسباب ذلك يتبين من يحب الله لذاته ويحب ما يجب ممن يحبه لأجل مخلوقاته فقط من المأْكل والمشرب والمنكح والرياسة، فإن أُعطى منها رضى وإن منعها سخط وعتب على ربه وربما شكاه وربما ترك عبادته، فلولا خلق الأضداد وتسليط أعدائه وامتحان أوليائه بهم لم يستخرج خالص العبودية من عبيده الذين هم عبيده، ولم يحصل لهم عبودية الموالاة فيه والمعاداة فيه والحب فيه والبغض فيه والعطاء له والمنع له، ولا عبودية بذل الأرواح في جهاد أعدائه ونصرته وعبودية مفارقة الأمر عنده أحوج ما يكون إليهم عبده في مرضاته ما يتحسر إليهم وهو الذي عاب نفسه وملاذ بها بأيديهم قد جنى بمفارقتهم ومشايعتهم وأما من موالاة الحق عليهم، فلولا الأضداد والأسباب التي توجب ذلك لم تحصل هذه الآثار.
وأيضًا فلولا تسليط الشهوة والغضب ودواعيهما على العبد لم تحصل له فضيلة الصبر وجهاد النفس ومنعها من حظوظها وشهواتها محبة لله وإيثارًا لمرضاته وطلبًا للزلفى لديه والقرب منه. وأيضًا فلولا ذلك لم تكن هذه النشأة الإنسانية إنسانية، بل كانت ملكية، فإن الله سبحانه خلق خلقه أطوارًا: فخلق الملائكة عقولًا لا شهوات لها ولا طبيعة تتقاضى منها خلاف ما يراد من مادة نورية لا تقتضي شيئًا من الآثار والطبائع المذمومة، وخلق الحيوانات ذوات شهوات لا عقول لها، وخلق الثقلين - الجن والإنس وركب فيهم العقول والشهوات والطبائع المختلفة لآثار مختلفة بحسب موادها وصورها وتركيبها. وهؤلاءِ هم أهل الامتحان والابتلاءِ، وهم المعرضون للثواب والعقاب ولو شاءَ سبحانه لجعل خلقه على طبيعة واحدة وخلق واحد ولم يفاوت بينهم، لكن ما فعله سبحانه هو محض الحكمة وموجب الربوبية ومقتضى الإلهية، ولو كان الخلق كله طبيعة واحدة ونمطًا واحدًا لوجد الملحد مقالًا وقال: هذا مقتضى الطبيعة، ولو كان فاعلًا بالاختيار لتنوعت أفعاله ومفعولاته ولفعل الشيء وضده والشيء وخلافه. وكذلك لولا شهود هذه الحوادث المشهودة لوجد الملحد أيضًا مقالًا وقال: لو كان لهذا العالم خالقًا مختارًا لوجدت فيه الحوادث على حسب إرادته واختياره، كما روى الحسن أو غيره قال: كان أصحاب محمد ﷺ يقولون: جلَّ ربنا القديم، لم يتغير هذا الخلق لقال الشاك في الله إنه لو كان لهذا العالم خالق لحادثه بينا هو ليل إذ جاءَ نهار وبينا هو نهار إذ جاءَ ليل، بينا هو صحو إذ جاءَ غيم وبينا هو غيم إذ جاءَ صحو، ونحو هذا من الكلام، ولهذا يستدل سبحانه في كتابه بالحوادث تارة وباختلافها تارة، إذ هذا وهذا يستلزم ربوبيته وقدرته واختياره ووقوع الكائنات على وفق مشيئته، فتنوع أفعاله ومفعولاته من أعظم الأدلة على ربوبيته وحكمته وعلمه.
ولهذا سبحانه خلق النوع الإنساني أربعة أقسام:
أحدها لا من ذكر ولا أُنثى وهو خلق أبيهم وأصلهم آدم.
الثاني خلقه من ذكر بلا أُنثى كخلق أمهم حواءَ من ضلع من أضلاع آدم من غير أن تحمل بها أُنثى أو يشتمل عليها بطن.
الثالث خلقه من أُنثى بلا ذكر كخلق المسيح عيسى ابن مريم ﷺ.
الرابع خلق سائر النوع الإنسانى من ذكر وأُنثى، وكل هذا ليدل عباده على كمال قدرته ونفوذ مشيئته وكمال حكمته، وأن الأمر ليس كما يظنه أعداؤه الجاحدون له الكافرون به من أن ذلك أمر طبيعي لم يزل هكذا ولا يزال، وأنه ليس للنوع أب ولا أم وأنه ليس إلا أرحام تدفع وأرض تبلغ وطبيعة تفعل ما يرى ويشاهد، ولم يعلم هؤلاءِ الجهال الضلال أن الطبيعة قوة وصفة فقيرة إلى محلها محتاجة إلى حامل لها، وأنها من أدل الدلائل على وجود أمره في طبعها وخلقها، وأودعها الأجسام وجعل فيها هذه الأسرار العجيبة، فالطبيعة مخلوق من مخلوقاته ومملوك من مماليكه وعبيدة مسخرة لأمره تعالى منقادة لمشيئته، ودلائل الصنعة وإمارات الخلق والحدوث وشواهد الفقر والحاجة شاهدة عليها بأنها مخلوقة مصنوعة، لا تخلق ولا تفعل ولا تتصرف في ذاتها ونفسها، فضلًا عن إسناد الكائنات إليها.
والمقصود أن تنويع المخلوقات واختلافها من لوازم الحكمة والربوبية والملك، وهو أيضًا من موجبات الحمد فله الحمد على ذلك كله أكمل حمد وأتمه أيضًا، فإن مخلوقاته هي موجبات أسمائه وصفاته، فلكل اسم وصفة أثر لا بد من ظهوره فيه واقتضائه له، فيمتنع تعطيل آثار أسمائه وصفاته كما يمتنع تعطيل ذاته عنها، وهذه الآثار لها متعلقات ولوازم يمتنع أن لا توجد كما تقدم التنبيه عليه. وأيضًا فإن تنويع أسباب الحمد أمر مطلوب للرب تعالى محبوب له، فكما تنوعت أسباب الحمد تنوَّع الحمد بتنوُّعها وكثر بكثرتها ومعلوم أنه سبحانه محمود على انتقامه من أهل الإجرام والإساءة، كما هو محمود على إكرامه لأهل العدل والإحسان، فهو محمول على هذا وعلى هذا، مع ما يتبع ذلك من حمده على حلمه وعفوه ومغفرته وترك حقوقه ومسامحة خلقه بها والعفو عن كثير من جنايات العبيد فنبههم باليسير من عقابه وانتقامه على الكثير الذي عفا عنه، وأنه لو عاجلهم بعقوبته وأخذهم بحقه لقضى إليهم أجلهم ولما ترك على ظهرها من دابة، ولكنه سبقت رحمته غضبه وعفوه انتقامه ومغفرته عقابه، فله الحمد على عفوه وانتقامه، وعلى عدله وإحسانه، ولا سبيل إلى تعطيل أسباب حمده ولا بعضها. فليتدبر اللبيب هذا الموضع حق التدبر، وليعطه حقه يطلعه على أبواب عظيمة من أسرار القدر، ويهبط به على رياض منه معشبة وحدائق مونقة. والله الموفق الهادى للصواب.
وأيضًا فإن الله سبحانه نوَّع الأدلة الدالة عليه والتي تعرّف عباده به غاية التنوع، وصرّف الآيات وضرب الأمثال، ليقيم عليهم حجته البالغة ويتم عليهم بذلك نعمته السابغة، ولا يكون لأحد بعد ذلك حجة عليهم سبحانه، بل الحجة كلها له والنعم كلها له والقدرة كلها له فأقام عليهم حجته، ولو شاءَ لسوّى بينهم في الهداية كما قال تعالى:
﴿فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لهَداكم أجْمَعِينَ﴾ [الأنعام: ١٤٩]فأخبر أن له الحجة البالغة، وهي التي بلغت إلى صميم القلب وخالطت العقل واتحدت به فلا يمكن العقل دفعها ولا جحدها، ثم أخبر أنه سبحانه قادر على هداية خلقه كلهم، ولو شاءَ ذلك لفعله لكمال قدرته ونفوذ مشيئته، ولكن حكمته تأْبى ذلك وعدله يأْبى تعذيب أحد وأخذه بلا حجة، فأقام الحجة وصرّفَ الآيات وضرب الأمثال ونوَّع الأدلة، ولو كان الخلق كلهم على طريقة واحدة من الهداية لما حصلت هذه الأُمور ولا تنوعت هذه الأدلة والأمثال، ولا ظهرت عزته سبحانه في انتقامه من أعدائه ونصر أوليائه عليهم، ولا حججه التي أقامها على صدق أنبيائه ورسله ولا كان للناس آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله، وأُخرى كافرة يرونهم مثليهم رأْى العين، ولا كان للخلق آية باقية ما بقيت الدنيا في شأْن موسى وقومه وفرعون وقومه وفلق البحر لهم ودخولهم جميعًا فيه ثم إنجاءَ موسى وقومه ولم يغرق أحد منهم وأغرق فرعون وقومه لم ينج منهم أحد، فهذا التعرف إلى عباده وهذه الآيات وهذه العزة والحكمة لا سبيل إلى تعطيلها ألبتة ولا توجد بدون لوازمها.
وأيضًا فإن حقيقة الملك إنما تتم بالعطاءِ والمنع والإكرام والإهانة والإثابة والعقوبة والغضب والرضا والتولية والعزل وإعزاز من يليق به العز وإذلال من يليق به الذل، قال تعالى:
﴿قُلِ اللهُمّ مالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشَآءُ وتَنزِعُ المُلْكَ مِمّنْ تَشَآءُ وتُعِزّ مَن تَشَآءُ وتُذِلّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إنّكَ عَلىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تُولِجُ اللّيْلَ في النّهارِ وتُولِجُ النّهارَ في اللّيْلِ وتُخْرِجُ الحَيّ مِنَ المَيّتِ وتُخْرِجُ الَمَيّتَ مِنَ الحَيّ وتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسابٍ﴾ [آل عمران: ٢٦-٢٧]، وقال تعالى:
﴿يَسْألُهُ مَن في السَّمَواتِ والأرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هو في شَأْنٍ﴾ [الرحمن: ٢٩]، يغفر ذنبًا ويفرّج كَرْبًا ويكشف غمًا وينصر مظلومًا ويأْخذ ظالمًا ويفك عانيًا ويغنى فقيرًا ويجبر كسيرًا ويشفى مريضًا ويقبل عثرة ويستر عورة ويعز ذليلًا ويذل عزيزًا ويعطي سائلًا ويذهب بدولة ويأْتي بأُخرى ويداول الأيام بين الناس ويرفع أقوامًا ويضع آخرين يسوق المقادير التي قدرها قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف عام إلى مواقيتها فلا يتقدم شيء منها عن وقته ولا يتأخر، بل كل منها قد أحصاه كما أحصاه كتابه وجرى به قلمه ونفذ فيه حكمه وسبق به علمه، فهو المتصرف في الممالك كلها وحده تصرف ملك قادر قاهر عادل رحيم تام الملك لا ينازعه في ملكه منازع ولا يعارضه فيه معارض، فتصرفه في المملكة دائر بين العدل والإحسان والحكمة والمصلحة والرحمة فلا يخرج تصرفه عن ذلك. وفي تفسير الحافظ أبي بكر أحمد بن موسى بن مردويه من حديث الحمانى: حدثنا إسحق بن سليمان عن معاوية بن يحيى عن يونس ابن ميسرة عن أبي إدريس عن أبي الدرداء أنه سئل عن قوله تعالى:
﴿كُلَّ يَوْمِ هو في شَأْن﴾ [الرحمن: ٢٩]، فقال: سئل عنها رسول الله ﷺ فقال: "مِن شَأْنِهِ أنْ يَغْفِرَ ذَنْبًا ويُفَرِّجَ كَرْبًا ويَرْفَعَ قَوْمًا ويَضَعَ آخَرِينَ، وفيه أيضًا من حديث حماد بن سلمة حدثنا الزبير أبو عبد السلام عن أيوب بن عبد الله بن مكرز عن أبيه قال: قال عبد الله بن مسعود: إن ربكم عز وجل ليس عنده ليل ولا نهار، نور السماوات والأرض من نور وجهه. أيامكم عنده ثنتا عشرة ساعة: تعرض عليه أعمالكم بالأمس ثلاث ساعات من أول النهار، فيطلع منها على ما يكره فيغضب فيكون أول من يعلم بغضبه حملة العرش، فتسبح حملة العرش وسراداقات العرش والملائكة المقربون وسائر الملائكة، وينفخ جبريل في القرن فلا يبقى خلق لله في السماوات ولا في الأرض إلا سمعه إلا الثقلين، ويسبحون [ثلاث ساعات] حتى يمتلئ الرحمن رحمة، فتلك ست ساعات ثم يدعو بالأرحام فينظر فيها ثلاث ساعات:
﴿يُصَوّرُكم في الأرْحامِ كَيْفَ يَشَآءُ لاَ إلَهَ إلاّ هو العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ [آل عمران: ٦]،
﴿يَهَبُ لِمَن يشاءُ إناثًا ويَهَبُ لِمَن يَشاءُ الذُّكُورَ﴾ [الشورى: ٤٩]، فتلك تسع ساعات. ثم يدعو بالأرزاق فينظر فيها ثلاث ساعات:
﴿يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشاءُ ويَقْدِرُ﴾ [الإسراء: ٣٠] فتلك اثنتا عشرة ساعة.
ثم قرأ عبد الله:
﴿كُلَّ يومٍ هو في شَأْن﴾ [الرحمن: ٢٩] ثم قال: هذا شأْنكم وشأْن ربكم عز وجل.
وذكره الطبراني في المعجم الكبير من وجه آخر.
وهذا من تمام تصرفه في ملكه سبحانه، فلو قصر تصرفه على وجه واحد ونمط واحد لم يكن تصرفًا تامًا.
والمقصود أن الملك والحمد في حقه متلازمان، فكل ما شمله ملكه وقدرته شمل حمده، فهو محمود في ملكه وله الملك والقدرة مع حمده، فكما يستحيل خروج شيء من الموجودات عن ملكه وقدرته يستحيل خروجها عن حمده وحكمته، ولهذا يحمد سبحانه نفسه عند خلقه وأمره، لينبه عباده على أن مصدر خلقه وأمره عن حمده، فهو محمود على كل ما خلقة وأمر به حمد شكر وعبودية، وحمد ثناءٍ ومدح، ويجمعهما التبارك، فتبارك الله يشمل ذلك كله، ولهذا ذكر هذه الكلمة عقيب قوله:
﴿ألا لَهُ الخَلْقُ والأمْرُ، تَباركَ اللهُ رَبُّ العالَمِينَ﴾ [الأعراف: ٥٤]فالحمد أوسع الصفات وأعم المدائح والطرق إلى العلم به في غاية الكثرة، والسبيل إلى اعتباره في ذرّات العالم وجزئياته وتفاصيل الأمر والنهي واسعة جدًا، لأن جميع أسمائه تبارك وتعالى حمد، وصفاته حمد وأفعاله حمد، وأحكامه حمد، وعدله حمد، وانتقامه من أعدائه حمد، وفضله في إحسانه إلى أوليائه حمد والخلق والأمر إنما قام بحمده ووجد بحمده وظهر بحمده وكان الغاية هي حمده فحمده سبب ذلك وغايته ومظهره وحامله فحمده روح كل شيء، وقيام كل شيء بحمده، وسريان حمده في الموجودات وظهور آثاره فيه أمر مشهود بالأبصار والبصائر: فمن الطرق الدالة على شمول معنى الحمد وانبساطه على جميع المعلومات معرفة أسمائه وصفاته، وإقرار العبد بأن للعالم إلهًا حيًا جامعًا لكل صفة كمال واسم حسن وثناءٍ جميل وفعل كريم وأنه سبحانه له القدرة التامة والمشيئة النافذة والعلم المحيط والسمع الذي وسع الأصوات والبصر الذي أحاط بجميع المبصرات والرحمة التي وسعت جميع المخلوقات والملك الأعلى الذي لا يخرج عنه ذرة من الذرات والغني التام المطلق من جميع الجهات والحكمة البالغة المشهود آثارها في الكائنات والعزة الغالبة بجميع الوجوه والاعتبارات والكلمات التامات النافذات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من جميع البريات، واحد لا شريك له في ربوبيته ولا في إلهيته، ولا شبيه له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، وليس له من يشركه في ذرة من ذرات ملكه، أو يخلفه في تدبير خلقه، أو يحجبه عن داعيه أو مؤمليه أو سائليه، أو يتوسط بينهم وبينه بتلبيس أو فرية أو كذب كما يكون بين الرعايا وبين الملوك، ولو كان كذلك لفسد نظام الوجود وفسد العالم بأسره:
﴿لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إلا الله لَفَسَدَتا﴾ [الأنبياء: ٢٢] فلو كان معه آلهة أُخرى كما يقول أعداؤه المبطلون لوقع من النقص في التدبير وفساد الأمر كله ما لا يثبت معه حالٍ، ولا يصلح عليه وجود.
ومن أعظم نعمه علينا وما استوجب حمد عباده له أن يجعلنا عبيدًا له خاصة ولم يجعلنا ربنا منقسمين بين شركاءَ متشاكسين، ولم يجعلنا عبيدًا لإله نحتته الأفكار، لا يسمع أصواتنا ولا يبصر أفعالنا ولا يعلم أحوالنا ولا يملك لعابديه ضرًا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا، ولا تكلم قط ولا يتكلم ولا يأْمر ولا ينهى، ولا ترفع إليه الأيدي ولا تعرج الملائكة والروح إليه، ولا يصعد إليه الكلم الطيب، ولا يرفع إليه العمل الصالح، وأنه ليس داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا عن يمينه ولا عن يساره ولا خلفه ولا أمامه ولا متصلًا به ولا منفصلًا عنه ولا محاذيًا له ولا مباينًا، ولا هو مستو على عرشه ولا هو فوق عباده، وحظ العرش منه حظ الحشوش والأخلية ولا تنزل الملائكة من عنده بل لا ينزل من عنده شيء ولا يصعد إليه شيء ولا يقرب منه شيء، ولا يحِب ولا يحَب، ولا يلتذ المؤمنون بالنظر إلى وجهه الكريم في دار الثواب، بل ليس له وجه يرى ولا له يد يقبض بها السماوات وأُخرى يقبض بها الأرض، ولا له فعل يقوم به ولا حكمة تقوم به، ولا كلم موسى تكليمًا، ولا تجلى للجبل فجعله دكًا هشيمًا، ولا يجيء يوم القيامة لفصل القضاءِ، ولا ينزل كل ليلة إلى سماءِ الدنيا فيقول لا أسأل عن عبادي غيري، ولا يفرح بتوبة عبده إذا تاب إليه، ويجوز في حكمته تعذيب أنبيائه ورسله وملائكته وأهل طاعته أجمعين من أهل السماوات والأرضين، وتنعيم أعدائه من الكفار به والمحاربين والمكذبين له ولرسله، والكل بالنسبة إليه سواءٌ ولا فرق ألبتة إلا أنه أخبر أنه لا يفعل ذلك، فامتنع للخبر بأنه لا يفعله، لا لأنه في نفسه مناف لحكمته، ومع ذلك فرضاه عين غضبه وغضبه عين رضاه ومحبته كراهته وكراهته محبته، إن هي إلا إرادة محضة ومشيئة صرفة يشاءُ بها لا لحكمة ولا لغاية ولا لأجل مصلحة، ومع ذلك يعذب عباده على ما لم يعملوه ولا قدرة لهم عليه، بل يعذبهم على نفس فعله الذي فعله هو ونسبه إليهم، ويعذبهم إذا لم يفعلوا فعله ويلومهم عليه، يجوز في حكمته أن يعذب رجالًا إذا لم يكونوا نساءَ ونساءً حيث لم يكونوا رجالًا وطوالًا حيث لم يكونوا قصارًا وبالعكس وسودًا إذا لم يكونوا بيضًا وبالعكس، بل تعذيبه لهم على مخالفته هو من هذا الجنس إذ لا قدرة لهم ألبتة على فعل ما أُمروا به ولا ترك ما نهوا عنه. فله الحمد والمنة والثناءُ الحسن الجميل إذ لم يجعلنا عبيدًا لمن هذا شأْنه فنكون مضيعين، ليس لنا رب نقصده، ولا صمد نتوجه إليه ونعبده، ولا إله نعوّل عليه، ولا رب نرجع إليه بل قلوبنا تنادي في طرق الحيرة: من دلنا وجمع علينا ربًا ضائعًا لا هو داخل العالم ولا خارجه، ولا مباين له ولا محاذ له، ولا متصل به ولا منفصل عنه، ولا نزل من عنده شيء ولا يصعد إليه شيء، ولا كلَّم أحدًا ولا يكلمه أحد، ولا ينبغي لأحد أن يذكر صفاته ولايعرفه بها بل يذكرها بلسانه فلا يتكلم بها وبقلبه فلا يعقلها وينبغي له أن يعاقب بالقتل أو بالضرب والحبس من ذكرها أو أخبر عنه بها أو أثبتها له. أو نسبها إلِيه أوْ عرفه بها، بل التوحيد الصرف جحدها وتعطيله عنها ونفى قيامها به واتصافه وما لم تدركه عقولنا من ذلك فالواجب نفيه وجحده وتكفير من أثبته واستحلال دمه وماله أو تبديعه وتضليله وتفسيقه، وكلما كان النفي أبلغ كان التوحيد أتم، فليس كذا وليس كذا أبلغُ في التوحيد من قولنا هو كذا وهو كذا.
فللَّه العظيم أعظم حمد وأتمه وأكمله على ما منَّ به من معرفته وتوحيده والإقرار بصفاته العلى وأسمائه الحسنى، وإقرار قلوبنا بأنه الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة رب العالمين قيوم السماوات والأرضين إله الأولين والآخرين، ولا يزال موصوفًا بصفات الجلال، منعوتًا بنعوت الكمال، منزهًا عن أضدادها من النقائص والتشبيه والمثال.
* (فصل)
الله - عز وجل - هو المحمود المحبوب المعظم ذو الجلال والإكرام على كل ما قدره وخلقه، وعلى كل ما أمر به وشرعه.
ومن كان له نصيب من معرفة أسمائه الحسنى واستقر آثارها في الخلق والأمر، رأى الخلق والأمر منتظمين بها أكمل انتظام، ورأى سريان آثارها فيهما وعلم - بحسب معرفته بها ما يليق بكماله وجلاله أن يفعله وما لا يليق، فاستدل بأسمائه على ما يفعله وما لا يفعله فإنه لا يفعل خلاف موجب حمده وحكمته، وكذلك يعلم ما يليق به أن يأْمر به ويشرعه مما لا يليق به، فيعلم أنه لا يأْمر بخلاف موجب حمده وحكمته. فإذا رأى بعض الأحكام جورًا وظلمًا أو سفهًا وعبثًا ومفسدة أو ما لا يوجب حمدًا وثناءً فليعلم أنه ليس من أحكامه ولا دينه، وأنه بريء منه ورسوله، فإنه إنما أمر بالعدل لا بالظلم وبالمصلحة لا بالمفسدة وبالحكمة لا بالعبث والسفه، وإنما بعث رسوله بالحنيفية السمحة لا بالغلظة والشدة، وبعثه بالرحمة لا بالقسوة، فإنه أرحم الراحمين، ورسوله رحمة مهداة إلى العالمين، ودينه كله رحمة، وهو نبي الرحمة وأُمته الأُمة المرحومة وذلك كله موجب أسمائه الحسنى وصفاته العليا وأًفعاله الحميدة، فلا يخبر عنه إلا بحمده ولا يثنى عليه إلا بأحسن الثناءِ كما لا يسمى إلا بأحسن الأسماءِ.
وقد نبه سبحانه على شمول حمده لخلقه وأمره بأن حمد نفسه في أول الخلق وآخره وعند الأمر والشرع وحمد نفسه على ربوبيته للعالَمين، وحمد نفسه على تفرده بالإلهية وعلى حياته، وحمد نفسه على امتناع اتصافه بما لا يليق بكماله من اتخاذ الولد والشريك وموالاة أحد من خلقه لحاجته إليه، وحمد نفسه على علوه وكبريائه، وحمد نفسه في الأُولى والآخرة، وأخبر عن سريان حمده في العالم العلوى والسفلى، ونبه على هذا كله في كتابه وحمد نفسه عليه، فتنوع حمده وأسباب حمده، وجمعها تارة وفرقها أُخرى ليتعرف إلى عباده ويعرفهم كيف يحمدونه وكيف يثنون عليه، وليتحبب إليهم بذلك ويحبهم إذا عرفوه وأحبوه وحمدوه. قال تعالى:
﴿الحَمْدُ للهِ رَبِّ العالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرّحِيمِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ وقال تعالى:
﴿الحَمْدُ للهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَواتِ والأرْضَ وجَعَلَ الظُّلُماتِ والنُّورِ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ [الأنعام: ١]، وقال تعالى:
﴿الحَمْدُ للهِ الَّذِى أنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الكِتابَ ولَمْ يَجْعَلْ لهُ عِوَجًا قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِن لَدُنْهُ ويُبَشِّرَ المُؤْمِنِين﴾ [الكهف: ١-٢]، وقال:
﴿الحَمْدُ للهِ الَّذِى لَهُ ما فِى السَّمَواتِ وما فِى الأرْضِ ولَهُ الحَمْدُ فِى الآخِرَةِ وهو الحَكِيمُ الخَبِيرِ﴾ [سبأ: ١]، وقال تعالى:
﴿الحَمْدُ للهِ فاطِرِ السَّمَواتِ والأرْضِ جاعِلِ المَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِى أجْنَحَةٍ مَثْنى وثُلاثَ ورُباعَ يَزِيدُ فِى الخَلْقِ ما يَشاءُ إنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [فاطر: ١]، وقال:
﴿وَهُوَ اللهُ لا إلَهَ إلا هو لَهُ الحَمْدُ فِى الأُولى والآخِرَةِ ولَهُ الحُكْمُ وإلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [القصص: ٧٠]، وقال:
﴿هُوَ الحى لا إلَهَ إلا هو فادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينِ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ [غافر: ٦٥]، وقال:
﴿فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وحِينَ تُصْبِحُونَ ولَهُ الحَمْدُ فِى السّمَواتِ والأرْضِ وعَشِيًّا وحِينَ تُظْهِرُونَ﴾ [الروم: ١٧-١٨].
أخبر عن حمد خلقه له بعد فصله بينهم والحكم لأهل طاعته بثوابه وكرامته والحكم لأهل معصيته بعقابه وإهانته
﴿وَقُضِى بَيْنَهم بِالحَقِّ وقِيْلَ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ [الزمر: ٧٥].
وأخبر عن حمد أهل الجنة له وأنهم لم يدخلوها إلا بحمده، كما أن أهل النار لم يدخلوها إلا بحمده، فقال أهل الجنة:
﴿الحَمْدُ للهِ الَّذِى هَدانا لِهَذا وما كُنّا لِنَهْتَدِي لَوْلا أنْ هَدانا الله﴾ [الأعراف: ٤٣]، و
﴿دَعْواهم فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وتَحِيَّتُهم فِيها سلامٌ، وآخِرُ دَعْواهم أن الحَمْدُ لله رَبِّ العالَمِينَ﴾ [يونس: ١٠]، وقال عن أهل النار:
﴿وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أيْنَ شُرَكَآئِيَ الّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ونَزَعْنا مِن كُلّ أُمّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنا هاتُواْ بُرْهانَكم فَعَلِمُواْ أنّ الحَقّ لِلّهِ وضَلّ عَنْهم مّا كانُواْ يَفْتَرُونَ﴾ [القصص: ٧٤-٧٥]، وقال:
﴿فاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأصْحابِ السَّعِيرِ﴾ [الملك: ١١].
وشهدوا على أنفسهم بالكفر والظلم وعلموا أنهم كانوا كاذبين في الدنيا مكذبين بآيات ربهم مشركين به جاحدين لإلهيته مفترين عليه، وهذا اعتراف منهم بعدله فيهم وأخذهم ببعض حقه عليهم وأنه غير ظالم لهم وأنهم إنما دخلوا النار بعدله وحمده وإنما عوقبوا بأفعالهم وبما كانوا قادرين على فعله وتركه، لا كما تقول الجبرية.
وتفصيل هذه الحكمة مما لا سبيل للعقول البشرية إلى الإحاطة به ولا إلى التعبير عنه، ولكن بالجملة فكل صفة عليا واسم حسن وثناءٍ جميل وكل حمد ومدح وتسبيح وتنزيه وتقديس وجلال وإكرام فهو لله عز وجل على أكمل الوجوه وأتمها وأدومها، وجميع ما يوصف به ويذكر به ويخبر عنه فهو محامد له وثناءٌ وتسبيح وتقديس، فسبحانه وبحمده لا يحصى أحد من خلقه ثناءً عليه بل هو كما أثنى على نفسه وفوق ما يثنى عليه خلقه، فله الحمد أولًا وآخرًا حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله ورفيع مجده وعلو جده.
فهذا تنبيه على أحد نوعي حمده، وهو حمد الصفات والأسماء.
والنوع الثاني حمد النعم والآلاءِ، وهذا مشهود للخليقة برها وفاجرها مؤمنها وكافرها، من جزيل مواهبه وسعة عطاياه وكريم أياديه وجميل صنائعه وحسن معاملته لعباده وسعة رحمته لهم وبره ولطفه وحنانه وإجابته لدعوات المضطرين وكشف كربات المكروبين وإغاثة الملهوفين ورحمته للعالمين وابتدائه بالنعم قبل السؤال ومن غير استحقاق بل ابتداءً منه بمجرد فضله وكرمه وإحسانه ودفع المحن والبلايا بعد انعقاد أسبابها وصرفها بعد وقوعها.
ولطفه تعالى في ذلك بإيصاله إلى من أراده بأحسن الألطاف، وتبليغه من ذلك إلى ما لا تبلغه الآمال، وهدايته خاصته وعباده إلى سبل دار السلام، ومدافعته عتهم أحسن الدفاع وحمايتهم عن مراتع الآثام، وحبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم وكرَّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وجعلهم من الراشدين وكتب في قلوبهم الإيمان، وأيدهم بروح منه وسماهم المسلمين قبل أن يخلقهم، وذكرهم قبل أن يذكروه وأعطاهم قبل أن يسألوه وتحبب إليهم بنعمة مع غناه عنهم وتبغضهم إليه بالمعاصي وفقرهم إليه، ومع هذا كله فاتخذ لهم دارًا وأعد لهم فيها من كل ما تشتيهه الأنفس وتلذ الأعين، وملأها من جميع الخيرات وأودعها من النعيم والحبرة والسرور والبهجة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ثم أرسل إليهم الرسل يدعونهم إليها، ثم يسر لهم الأسباب التي توصلهم إليها وأعانهم عليها، ورضي منهم باليسير في هذه المدة القصيرة جدًا بالإضافة إلى بقاءِ دار النعيم، وضمن لهم إن أحسنوا أن يثيبهم بالحسنة عشرًا وإن أساؤوا واستغفروه أن يغفر لهم، ووعدهم أن يمحو ما جنوه من السيئات بما يفعلونه بعدها من الحسنات، وذكرهم بآلائه وتعرف إليهم بأسمائه، وأمرهم بما أمرهم به رحمة منه بهم وإحسانًا لا حاجة منه إليهم، ونهاهم عما نهاهم عنه حماية وصيانة لهم لا بخلًا منه عليهم وخاطبهم بألطف الخطاب وأحلاه ونصحهم بأحسن النصائح ووصاهم بأكمل الوصايا وأمرهم بأشرف الخصال ونهاهم عن أقبح الأقوال والأعمال.
وصرف لهم الآيات وضرب لهم الأمثال ووسع لهم طرق العلم به ومعرفته وفتح لهم أبواب الهداية وعرفهم الأسباب التي تدنيهم من رضاه وتبعدهم عن غضبه، ويخاطبهم بألطف الخطاب ويسميهم بأحسن أسمائهم كقوله:
﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُواْ﴾،
﴿وَتُوبُوا إلى اللهِ جَمِيعًا أيُّها المُؤْمِنُونَ﴾ [النور: ٣١]،
﴿يا عِبادِي الَّذِينَ أسْرَفُوا عَلى أنْفُسِهِمْ﴾ [الزمر: ٥٣]،
﴿قَل لِعِبادِي﴾ [ابراهيم: ٣١]،
﴿وإذا سَألَكَ عِبادِي عَنِّى﴾ [البقرة: ١٨٦]، فيخاطبهم بخطاب الوداد والمحبة والتلطف كقوله:
﴿يَأيّها النّاسُ اعْبُدُواْ رَبّكُمُ الّذِي خَلَقَكم والّذِينَ مِن قَبْلِكم لَعَلّكم تَتّقُونَ الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِراشًا والسّماءَ بِنَآءً وأنزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَأخْرَجَ بِهِ مِنَ الثّمَراتِ رِزْقًا لّكم فَلاَ تَجْعَلُواْ للهِ أندادًا وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٢١-٢٢]،
﴿ياأيّها النّاسُ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكم هَلْ مِن خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكم مّنَ السّمَآءِ والأرْضِ لاَ إلَهَ إلاّ هو فَأنّىَ تُؤْفَكُونَ﴾ [فاطر: ٣]،
﴿ياأيّها النّاسُ إنّ وعْدَ اللهِ حَقّ فَلاَ تَغُرّنّكُمُ الحَياةُ الدّنْيا ولاَ يَغُرّنّكم بِاللهِ الغَرُورُ﴾ [فاطر: ٥]،
﴿ياأيّها الإنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيم الَّذِى خَلَقَكَ فَسَوّاكَ فَعدَلَكَ﴾ [الانفطار: ٦-٧]،
﴿ياأيّها الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللهَ حَقّ تُقاتِهِ ولاَ تَمُوتُنّ إلاّ وأنْتُمْ مّسْلِمُونَ واعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا ولاَ تَفَرّقُواْ واذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكم إذْ كُنْتُمْ أعْدَآءً فَألّفَ بَيْنَ قُلُوبِكم فَأصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إخْوانًا وكُنْتُمْ عَلىَ شَفا حُفْرَةٍ مّنَ النّارِ فَأنقَذَكم مّنْها كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللهُ لَكم آياتِهِ لَعَلّكم تَهْتَدُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٢-١٠٣]،
﴿ياأيّها الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتّخِذُواْ بِطانَةً مّن دُونِكم لاَ يَأْلُونَكم خَبالًا ودّواْ ما عَنِتّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضَآءُ مِن أفْواهِهِمْ وما تُخْفِي صُدُورُهم أكْبَرُ قَدْ بَيّنّا لَكُمُ الاَياتِ إنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [آل عمران: ١١٨] ﴿ياأيّها الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتّخِذُواْ عَدُوّي وعَدُوّكم أوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إلَيْهِمْ بِالمَوَدّةِ وقَدْ كَفَرُواْ بِما جَآءَكم مّنَ الحَقّ يُخْرِجُونَ الرّسُولَ وإيّاكم أن تُؤْمِنُواْ بِاللهِ رَبّكم إن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهادًا في سَبِيلِي وابْتِغَآءَ مَرْضاتِي تُسِرّونَ إلَيْهِمْ بِالمَوَدّةِ وأناْ أعْلَمُ بِمَآ أخْفَيْتُمْ ومَآ أعْلَنتُمْ ومَن يَفْعَلْهُ مِنكم فَقَدْ ضَلّ سَوَآءَ السّبِيلِ﴾ [الممتحنة:١]،
﴿ياأيّها الّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ للهِ ولِلرّسُولِ إذا دَعاكُم لِما يُحْيِيكم واعْلَمُواْ أنّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وقَلْبِهِ وأنّهُ إلَيْهِ تُحْشَرُونَ واتّقُواْ فِتْنَةً لاّ تُصِيبَنّ الّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكم خَآصّةً واعْلَمُواْ أنّ اللهَ شَدِيدُ العِقابِ واذْكُرُواْ إذْ أنتُمْ قَلِيلٌ مّسْتَضْعَفُونَ في الأرْضِ تَخافُونَ أن يَتَخَطّفَكُمُ النّاسُ فَآواكم وأيّدَكُم بِنَصْرِهِ ورَزَقَكم مّنَ الطّيّباتِ لَعَلّكم تَشْكُرُونَ﴾ [الأنفال: ٢٤-٢٦]،
﴿ياأيّها النّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فاسْتَمِعُواْ لَهُ إنّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبابًا ولَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ وإن يَسْلُبْهُمُ الذّبابُ شَيْئًا لاّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنهُ ضَعُفَ الطّالِبُ والمَطْلُوبُ ما قَدَرُواْ اللهَ حَقّ قَدْرِهِ إنّ اللهَ لَقَوِيّ عَزِيزٌ﴾ [الحج: ٧٣-٧٤]،
﴿وَإذا قُلْنا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لاَدَمَ فَسَجَدُواْ إلاّ إبْلِيسَ كانَ مِنَ الجِنّ فَفَسَقَ عَنْ أمْرِ رَبّهِ أفَتَتّخِذُونَهُ وذُرّيّتَهُ أوْلِيَآءَ مِن دُونِي وهم لَكم عَدُوّ بِئْسَ لِلظّالِمِينَ بَدَلًا﴾ [الكهف: ٥٠] فتحت هذا الخطاب: إني عاديت إبليس وطردته من سمائى وباعدته من قربي إذ لم يسجد لأبيكم آدم، ثم أنتم يا بنيه توالونه وذريته من دوني وهم أعداءٌ لكم.
فليتأمل اللبيب مواقع هذا الخطاب وشدة لصوقه بالقلوب والتباسه بالأرواح وأكثر القرآن جاء على هذا النمط من خطابه لعباده بالتودد والتحنن واللطف والنصيحة البالغة، وأعلم سبحانه عباده أنه لا يرضى لهم إلا أكرم الوسائل وأفضل المنازل وأجل العلوم والمعارف.
قال تعالى:
﴿إن تَكْفُرُواْ فَإنّ اللهَ غَنِيّ عَنكم ولاَ يَرْضىَ لِعِبادِهِ الكُفْرَ وإن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ﴾ [الزمر: ٧]، وقال تعالى:
﴿اليَومَ أكْمَلْتُ لَكم دِيْنَكم وأتْمَمْتُ عَلَيْكم نِعْمَتِى ورَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا﴾ [المائدة: ٣]، وقال:
﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ ولا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ﴾ [البقرة: ١٨٥]، وقال:
﴿يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيّنَ لَكم ويَهْدِيَكم سُنَنَ الّذِينَ مِن قَبْلِكم ويَتُوبَ عَلَيْكم واللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ واللهُ يُرِيدُ أن يَتُوبَ عَلَيْكم ويُرِيدُ الّذِينَ يَتّبِعُونَ الشّهَواتِ أن تَمِيلُواْ مَيْلًا عَظِيمًا يُرِيدُ اللهُ أن يُخَفّفَ عَنْكم وخُلِقَ الإنسانُ ضَعِيفًا﴾ [النساء: ٢٦-٢٨].
ويتنصل سبحانه إلى عباده من مواضع الظنة والتهمة التي نسبها إليه من يعرفه حق معرفته ولا قدره حق قدره: من تكليف عباده ما لا يقدرون عليه ولا طاقة لهم بفعله ألبتة، وتعذيبهم إن شكروه وآمنوا به، وخلق السماوات والأرض وما بينهما لا لحكمة ولا لغاية، وأنه لم يخلق خلقه لحاجة منه إليهم، ولا ليتكثر بهم من قلة ولا ليتعزز بهم كما قال:
﴿وَما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلا لِيَعْبُدُونِ ما أُرِيدُ مِنهم مِن رِزقٍ وما أُرِيدُ أنْ يُطْعِمُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦-٥٧]، فأخبر أنه لم يخلق الجن والإنس لحاجة منه إليهم، ولا ليربح عليهم، لكن خلقهم جودًا وإحسانًا ليعبدوه فيربحوا هم عليه كل الأرباح كقوله:
﴿إنْ أحْسَنْتُمْ أحْسَنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ﴾ [الإسراء: ٧]،
﴿وَمَن عَمِلَ صالِحًا فَلأنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ﴾ [الروم: ٤٤]، ولما أمرهم بالوضوءِ وبالغسل من الجنابة الذي يحط عنهم أوزارهم ويدخلون به عليه ويرفع به درجاتهم، قال تعالى:
﴿ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكم مِن حَرَجٍ ولَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكم ولِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكم لَعَلَّكم تَشْكُرُونَ﴾ [المائدة: ٦]، وقال في الأضاحى والهدايا:
﴿لَنْ يَنالَ الله لُحُومُها ولا دِماؤُها ولَكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنكُمْ﴾ [الحج: ٣٧]، وقال عقيب أمرهم بالصدقة ونهيهم عن إخراج الرديء من المال:
﴿وَلاَ تَيَمّمُواْ الخَبِيثَ مِنهُ تُنْفِقُونَ ولَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إلاّ أن تُغْمِضُواْ فِيهِ واعْلَمُواْ أنّ اللهَ غَنِيّ حَمِيدٌ﴾ [البقرة: ٢٦٧].
يقول سبحانه: إني غنى عما تنفقون أن ينالني منه شيء، حميد مستحق المحامد كلها، فإنفاقكم لا يسد منه حاجة ولا يوجب له حمدًا، بل هو الغني بنفسه الحميد بنفسه وأسمائه وصفاته وإنفاقكم إنما نفعه لكم وعائدته عليكم. ومن المتعين على من لم يباشر قلبه حلاوة هذا الخطاب وجلالته ولطف موقعه، وجذبه للقلوب والأرواح ومخالطته لها أن يعالج قلبه بالتقوى، وأن يستفرغ منه المواد الفاسدة التي حالت بينه وبين حظه من ذلك، ويتعرض إلى الأسباب التي يناله بها، من صدق الرغبة واللجإ إلى الله أن يحيى قلبه ويزكيه ويجعل فيه الإيمان والحكمة، فالقلب الميت لا يذوق طعم الإيمان ولا يجد حلاوته ولا يتمتع بالحياة الطيبة لا في الدنيا ولا في الآخرة ومن أراد مطالعة أُصول النعم فليسم سرح الذكر في رياض القرآن، وليتأمل ما عدد الله فيه من نعمه وتعرف بها إلى عباده من أول القرآن إلى آخره حين خلق أهل النار وابتلاهم بإبليس وحزبه وتسليط أعدائهم عليهم وامتحانهم بالشهوات والإرادات والهوى لتعظم النعمة عليهم بمخالفتها ومحاربتها، أعداء الله على أوليائه وعباده أتم نعمة وأكملها في كل ما خلقه من محبوب ومكروه، ونعمة ومحنة وفي كل ما أحدثه في الأرض من وقائعه بأعدائه وإكرامه لأوليائه، وفي كل ما قضاه وقدره، وتفصيل ذلك لا تفى به أقلام الدنيا وأوراقها ولا قوى العباد، وإنما هو التنبيه والإشارة.
ومن استقرئ الأسماء الحسنى وجدها مدائح وثناءً تقصر بلاغات الواصفين عن بلوغ كنهها، وتعجز الأوهام عن الإحاطة بالواحد منها ومع ذلك فالله سبحانه محامد ومدائح وأنواع من الثناء لم تتحرك بها الخواطر ولا هجست في الضمائر ولا لاحت لمتوسم ولا سنحت في فكر.
ففي دعاء أعرف الخلق بربه تعالى وأعلمهم بأسمائه وصفاته ومحامده:
"أسْألُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هو لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ أوْ أنْزَلْتَهُ فِى كِتابِكَ أوْ عَلَّمْتَهُ أحَدًا مِن خَلْقِكَ أوْ اسْتأْثَرْتَ بِهِ في عِلْمِ الغَيْبِ عِنْدَكَ أن تَجْعَلَ القُرْآن رَبِيع قَلْبِى ونُورَ صَدْرِى وجَلاءَ حُزْنِي وذَهابَ هَمِّي وغَمِّي".
وفى الصحيح عنه ﷺ في حديث الشفاعة لما يسجد بين يدي ربه قال: "فَيَفْتَحُ قَلبِى مَن مَحامِدهِ بِشَيْءٍ لا أُحْسِنُهُ الآن"، وكان يقول في سجوده: "أعوذ برضاك من سخطك وبعفوك من عقوبتك أعُوذُ بِكَ مِنكَ، لا أُحْصِي ثَناءً عَلَيْكَ أنْتَ كَما أثْنَيْت عَلى نَفْسِكِ "، فلا يحصى أحد من خلقه ثناءً عليه ألبتة، وله أسماءٌ وأوصاف وحمد وثناءٌ لا يعلمه ملك مقرب ولا نبي مرسل، ونسبة ما يعلم العباد من ذلك إلى ما لا يعلمونه كنقرة عصفور في بحر.
فإن قيل: فكيف تصنعون بما يشاهد من أنواع الابتلاءِ والامتحان والآلام للأطفال والحيوانات ومن هو خارج عن التكليف ومن لا ثواب ولا عقاب عليه؟ وما تقولون في الأسماءِ الدالة على ذلك من المنتقم والقابض والخافض ونحوها؟
قيل: قد تقدم من الكلام في ذلك ما يكفى بعضه لذى الفطرة السليمة والعقل المستقيم وأما من فسدت فطرته وانتكس قلبه وضعفت بصيرة عقله فلو ضرب له من الأمثال ما ضرب فإنه لا يزيده إلا عمى وتحيرًا ونحن نزيد ما تقدم إيضاحًا وبيانًا إذ بسط هذا المقام أولى من اختصاره فنقول: قد علمت أن جميع أسماء الرب سبحانه حسنى وصفاته كمال وأفعاله حكمة ومصلحة، وله كل ثناءٍ وكل حمد ومدحه وكل خير فمنه وله وبيده، والشر ليس إليه بوجه من الوجوه. لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ولا في أسمائه، وإن كان في مفعولاته فهو خير بإضافته إليه وشر بإضافته إلى من صدر عنه ووقع به. فتمسك بهذا الأصل ولا تفارقه في كل دقيق وجليل، وحكمه على كل ما يرد عليك، وحاكم إليه واجعله آخرتك التي ترجع إليها وتعتمد عليها.
واعلم أن لله خصائص في خلقه ورحمة وفضلًا يختص به من يشاءُ، وذلك موجب ربوبيته وإلهيته وحمده وحكمته، فإياك ثم إياك أن تصغى إلى وسوسة شياطين الإنس والجن والنفس الجاهلة الظالمة إنه هلا سوّى بين عباده في تلك الخصائص وقسمها بينهم على السواءِ، فإن هذا عين الجهل والسفه من المعترض به، وقد بينا فيما تقدم أن حكمته تأْبى ذلك وتمنع منه. ولكن اعلم أن الأمر قسمة بين فضله وعدله، فيختص برحمته من يشاء ُ ويقصد بعذابه من يشاءُ وهو المحمود على هذا، فالطيبون من خلقه مخصوصون بفضله ورحمته، والخبيثون مقصودون بعذابه، ولكل واحد قسطه من الحكمة والابتلاءِ والامتحان، وكل مستعمل فيما هو له مهيأ وله مخلوق، وكل ذلك خير ونفع ورحمة للمؤمنين فإنه تعالى خلقهم للخيرات فهم لها عاملين، واستعملهم فيها فلم يدركوا ذلك إلا به ولا استحقوه إلا بما سبق لهم من مشيئته وقسمته، فكذلك لا تضرهم الأدواءُ ولا السموم، بل متى وسوس لهم العدو واغتالهم بشيء من كيده أو مسهم بشيء من طيفة تذكروا فإذا هم مبصرون، وإخوانهم يمدونهم في الغى ثم لا يقصرون وإذا واقعوا في معصية صغيرة أو كبيرة عاد ذلك عليهم رحمة وانقلب في حقهم دواء وبدل حسنة بالتوبة النصوح والحسنات الماحية، لأنه سبحانه عرفهم بنفسه وبفضله وبأن قلوبهم بيده وعصمتهم إليه حيث نقض عزماتهم وقد عزموا أن لا يعصوه، وأراهم عزته في قضائه، وبره وإحسانه في عفوه ومغفرته، وأشهدهم نفوسهم وما فيها من النقص والظلم والجهل، وأشدهم حاجتهم إليه وافتقارهم وذلهم، وأنه إن لم يعف عنهم ويغفر لهم فليس لهم سبيل إلى النجاة أبدًا، فإنهم لما أعطوا من أنفسهم العزم أن لا يعصون وعقدوا عليه قلوبهم ثم عصوه بمشيئته وقدرته، عرفوا بذلك عظيم اقتداره وجميل ستره إياهم وكريم حلمه عنهم وسعة مغفرته لهم برد عفوه وحنانه وعطفه ورأْفته، وأنه حليم ذو أناة لا يعجل ورحيم سبقت رحمته غضبه، وأنهم متى رجعوا إليه بالتوبة وجدوه غفورًا رحيمًا، حليمًا كريمًا، يغفر لهم السيئات ويقيلهم العثرات ويودهم بعد التوبة ويحبهم.
فتضرعوا إليه حينئذ بالدعاء وتوسلوا إليه بذل العبيد وعزا الربوبية فتعرف سبحانه إليهم بحسن إجابته وجميل عطفه وحسن امتنانه في أن ألهمهم دعاءه ويسرهم للتوبة والإنابة وأقبلوا بقلوبهم إليه بعد إعراضها عنه، ولم تمنعه معاصيهم وجناياتهم من عطفه عليهم وبره لهم وإحسانه إليهم فتاب عليهم قبل أن يتوبوا إليه، وأعطاهم قبل أن يسألوه فلما تابوا إليه واستغفروه وأنابوا إليه تعرف إليهم تعرفًا آخر: فعرفهم رحمته وحسن عائدته وسعة مغفرته وكريم عفوه وجميل صفحه وبره وامتنانه وكرمه وشرعه، ومبادرته قبولهم بعد أن كان منهم ما كان من طول الشرور وشدة النفور والإيضاع في طرق معاصيه، وأشهدهم مع ذلك حمده العظيم وبره العميم، وكرمه في أن خلى بينهم وبين المعصية فنالوها بنعمته وإعانته، ثم لم يخل بينهم وبين ما توجبه من الإهلاك والفساد الذي لا يرجى معه صلاح، بل تداركهم بالدواء الشافى فاستخرج منهم داء لو استمر معهم لأفضى إلى الهلاك، ثم تداركهم بروح الرجاء فقذفه في قلوبهم وأخبر أنه عند ظنونهم به، ولو أشهدهم عظم الجناية وقبح المعصية وغضبه ومقته على من عصاه فقط لأورثهم ذلك المرض القاتل أو الداء العضال من اليأْس من روحه والقنوط من رحمته، وكان ذلك عين هلاكهم، ولكن رحمهم قبل البلاء وفي حشو البلاء وبعد البلاء وجعل تلك الآثار التي توجبها معصيته من المحن والبلاء والشدائد رحمة لهم وسببًا إلى علو درجاتهم ونيل الزلفى والكرامة عنده، فأشهدهم بالجناية عزة الربوبية وذل العبودية، ورقاهم بآثارها إلى منازل قربه ونيل كرامته، فهم على كل حال يربحون عليه يتقلبون في كرمه وإحسانه، وكل قضاءٍ يقضيه للمؤمن فهو خير به يسوقه إلى كرامته وثوابه، وكذلك عطاياه الدنيوية نعم منه عليهم، فإذا استرجعها أيضًا منهم وسلبهم إياها انقلبت من عطايا الآخرة ما قيل: إن الله ينعم على عباده بالعطايا الفاخرة، فإذا استرجعها كانت عطايا الآخرة، والرب سبحانه قد تجلى لقلوب المؤمنين العارفين وظهر لها بقدرته وجلاله وكبريائه ومضى مشيئته وعظيم سلطانه وعلو شأْنه وكرمه وبره وإحسانه وسعة مغفرته ورحمته وما ألقاه في قلوبهم من الإيمان بأسمائه وصفاته إلى حيث احتملته القوى البشرية ووراءه مما لا تحتمله قواهم ولا يخطر ببال ولا يدخل في خلد مما لا نسبة لما عرفوه إليه.
فاعلم أن الذين كان قسمهم أنواع المعاصي والفجور، وفنون الكفر والشرك والتقلب في غضبه وسخطه وقلوبهم وأرواحهم شاهدة عليهم بالمعاصي والكفر مقرة بأن له الحجة عليهم وأن حقه قبلهم، ولا يذكر أحد منهم النار إلا وهو شاهد بذلك مقر به معترف اعتراف طائع لا مكره مضطهد، فهذه شهادتهم على أنفسهم وشهادة أوليائه عليهم والمؤمنون يشهدون فيهم بشهادة أخرى لا يشهد بها أعداؤه، ولو شهدوا بها وباؤا بها لكانت رحمته أقرب إليهم من عقوبته، فيشهدون أنهم عبيده وملكه وأنه أوجدهم ليظهر بهم مجده وينفذ فيهم حكمه ويمضى فيهم عدله، ويحق عليهم كلمته ويصدق فيهم وعيده ويبين فيهم سابق علمه، ويعمر بهم ديارهم ومساكنهم التي هي محل عدله وحكمته، وشهد أولياؤه عظيم ملكه وعز سلطانه وصدق رسله وكمال حكمته وتمام نعمته عليهم وقدر ما اختصهم به.
ومن أي شيء حماهم وصانهم، وأي شيء صرف عنهم، وأنه لم يكن لهم إليه وسيلة قبل وجوده يتوسلون بها إليه أن لا يجعلهم من أصحاب الشمال وأن يجعلهم من أصحاب اليميني، وشهدوا له سبحانه بأن ما كان منه إليهم وفيهم مما يقتضيه إتمام كلماته الصدق والعدل قوله وتحقق مقتضى أسمائه فهو محض حقه.
وكل ذلك منه حسن جميل له عليه أتم حمد وأكمله وأفضله، وهو حكم عدل وقضاءٌ فصل، وأنه المحمود على ذلك كله فلا يلحقه منه ظلم ولا جور ولا عبث، بل ذلك عين الحكمة ومحض الحمد وكمال أظهره في حقه وعز أبداه وملك أعلنه ومراد له أنفذه كما فعل بالبدن وضروب الأنعام أتم بها مناسك أوليائه وقرابين عباده، وإن كان ذلك بالنسبة إلى الأنعام هلاكًا وإتلافًا، فأعداؤه الكفار المشركون به الجاحدون أولى أن تكون دماؤهم قرابين أوليائه وضحايا المجاهدين في سبيله، كما قال حسان بن ثابت:
يتطهرون - يرونه قربانهم ∗∗∗ بدماءِ من علقوا من الكفار
وكذلك لما ضحى خالد بن عبد الله القسري بشيخ المعطلة الفرعونية جعد بن درهم، فإن خطبهم في يوم أضحى، فلما أكمل خطبته قال: أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليمًا، ولم يتخذ إبراهيم خليلًا، تعالى عما يقول الجعد علوًا كبيرًا، ثم نزل فذبحه، فكان ضحيته. وذكر ذلك البخاري في كتاب خلق الأفعال، فهذا شهود أوليائه من شأن أعدائه، ولكن أعداؤه في غفلة عن هذا لا يشهدونه ولا يقرون به، ولو شهدوه وأقروا به لأدركهم حنانه ورحمته، ولكن لما حجبوا عن معرفته ومحبته وتوحيده وإثبات أسمائه الحسنى وصفاته العليا ووصفه بما يليق به وتنزيهه عما لا يليق به صاروا أسوأ حالًا من الأنعام وضربوا بالحجاب، وأبعدوا عنه بأقصى البعد وأخرجوا من نوره إلى الظلمات، وغيبت قلوبهم في الجهل به وبكماله وجلاله وعظمته في غابات، ليتم عليهم أمده، وينفذ فيهم حكمه، والله عليم حكيم، والله أعلم.
(فائِدَة)
تأمّل خطاب القُرْآن تَجِد ملكا لَهُ الملك كُله وله الحَمد كُله، أزِمَّة الأُمُور كلها بِيَدِهِ، ومصدرها مِنهُ، ومردها إلَيْهِ، مستويا على سَرِير ملكه، لا تخفى عَلَيْهِ خافية في أقطار مَمْلَكَته، عالما بِما في نفوس عبيده، مطّلعا على أسرارهم وعلانيتهم، مُنْفَردا بتدبير المملكة، يسمع ويرى ويُعْطِي ويمْنَع، ويثيب ويعاقب، ويكرم ويهين، ويخلق ويرزق، ويُمِيت ويحيي، ويقدر ويَقْضِي ويدبّر، الأُمُور نازلة من عِنْده دقيقها وجليلها وصاعدة إلَيْهِ لا تتحرك في ذرّة إلّا بِإذْنِهِ ولا تسْقط ورقة إلّا بِعِلْمِهِ.
فتأمّل كَيفَ تَجدهُ يثني على نَفسه ويمجّد نَفسه ويحمد نَفسه وينْصَح عباده ويدلّهم على ما فِيهِ سعادتهم وفلاحهم ويرغّبهم فِيهِ ويحذّرهم مِمّا فِيهِ هلاكهم ويتعرّف إلَيْهِم بأسمائه وصِفاته ويتححب إلَيْهِم بنعمه وآلائه فيذكّرهم بنعمه عَلَيْهِم ويَأْمُرهم بِما يستوجبون بِهِ تَمامها ويحذّرهم من نقمه ويذكّرهم بِما أعد لَهُم من الكَرامَة إن أطاعوه وما أعد لَهُم ما العقُوبَة إن عصوه ويخبرهم بصنعه في أوليائه وأعدائه وكَيف كانَت عاقِبَة هَؤُلاءِ وهَؤُلاء ويثني على أوليائه بِصالح أعْمالهم وأحسن أوصافهم ويذم أعداءه بسيئ أعْمالهم وقبيح صفاتهم ويضْرب الأمْثال وينوّع الأدلّة والبراهين ويجيب عَن شبه أعدائه أحسن الأجْوِبَة ويصدق الصّادِق ويكذب الكاذِب ويَقُول الحق ويهْدِي السَّبِيل ويَدْعُو إلى دار السَّلام ويذكر أوصافها وحسنها ونَعِيمها ويحذّر من دار البَوار ويذكر عَذابها وقبحها وآلامها ويذكر عباده فَقرهمْ إلَيْهِ وشدّة حاجتهم إلَيْهِ من كل وجه وأنَّهم لا غنى لَهُم عَنهُ طرفَة عين ويذكر غناهُ عَنْهُم وعَن جَمِيع الموجودات، وأنه الغَنِيّ بِنَفسِهِ عَن كل ما سواهُ، وكل ما سواهُ فَقير إلَيْهِ بِنَفسِهِ، وأنه لا ينال أحد ذرة من الخَبَر فَما فَوْقها إلّا بفضله ورَحمته ولا ذرّة من الشَّرّ فَما فَوْقها إلّا بعدله وحكمته، ويشْهد من خطابه عتابه لأحبابه ألطف عتاب، وأنه مَعَ ذَلِك مقيل عثراتهم وغافر زلاتهم ومقيم أعذارهم ومصلح فسادهم، والدافع عَنْهُم والمحامي عَنْهُم والناصر لَهُم، والكَفِيل بمصالحهم، والمنجي لَهُم من كل كرب، والموفي لَهُم بوعده، وأنه وليّهم الَّذِي لا ولي لَهُم سواهُ فَهو مَوْلاهُم الحق ونصيرهم على عدوهم فَنعم المولى ونعم النصير.
فَإذا شهِدت القُلُوب من القُرْآن ملكا عَظِيما رحِيما جوادا جميلا هَذا شَأْنه فَكيف لا تحبّه وتنافس في القرب مِنهُ وتنفق أنفاسها في التودد إلَيْهِ ويكون أحب إلَيْها من كل ما سواهُ ورضاهُ آثر عِنْدها من رضا كل ما سواهُ وكَيف لا تلهج بِذكرِهِ ويصير حبه والشوق إلَيْهِ والأنس بِهِ هو غذائها وقوتها ودواؤها بِحَيْثُ إن فقدت ذَلِك فَسدتْ وهَلَكت ولم تَنْفَع بحياتها.
* [فَصْلٌ: والمُقِرُّونَ بِالرَّبِّ سُبْحانَهُ وتَعالى أنَّهُ صانِعُ العالَمِ نَوْعانِ]
نَوْعٌ يَنْفِي مُبايَنَتَهُ لِخَلْقِهِ، ويَقُولُونَ: لا مُبايِنَ ولا مُحايِثَ، ولا داخِلَ العالَمِ ولا خارِجَهُ، ولا فَوْقَهُ ولا تَحْتَهُ، ولا عَنْ يَمِينِهِ ولا عَنْ يَسارِهِ، ولا خَلْفَهُ ولا أمامَهُ، ولا فِيهِ ولا بائِنَ عَنْهُ.
فَتَضَمَّنَتِ الفاتِحَةُ الرَّدَّ عَلى هَؤُلاءِ مِن وجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: إثْباتُ رُبُوبِيَّتِهِ تَعالى لِلْعالَمِ، فَإنَّ الرُّبُوبِيَّةَ المَحْضَةَ تَقْتَضِي مُبايَنَةَ الرَّبِّ لِلْعالَمِ بِالذّاتِ، كَما بايَنَهم بِالرُّبُوبِيَّةِ، وبِالصِّفاتِ والأفْعالِ، فَمَن لَمْ يُثْبِتْ رَبًّا مُبايِنًا لِلْعالَمِ، فَما أثْبَتَ رَبًّا، فَإنَّهُ إذا نَفى المُبايَنَةَ لَزِمَهُ أحَدُ أمْرَيْنِ، لُزُومًا لا انْفِكاكَ لَهُ عَنْهُ ألْبَتَّةَ: إمّا أنْ يَكُونَ هو نَفْسَ هَذا العالَمِ، وحِينَئِذٍ يَصِحُّ قَوْلُهُ، فَإنَّ العالَمَ لا يُبايِنُ ذاتَهُ ونَفْسَهُ، ومِن هاهُنا دَخَلَ أهْلُ الوَحْدَةِ، وكانُوا مُعَطِّلَةً أوَّلًا، واتِّحادِيَّةً ثانِيًا.
وَإمّا أنْ يَقُولَ: ما ثَمَّ رَبٌّ يَكُونُ مُبايِنًا ولا مُحايِثًا، ولا داخِلًا ولا خارِجًا، كَما قالَتْهُ الدَّهْرِيَّةُ المُعَطِّلَةُ لِلصّانِعِ.
وَأمّا هَذا القَوْلُ الثّالِثُ المُشْتَمِلُ عَلى جَمْعِ النَّقِيضَيْنِ: إثْباتِ رَبٍّ مُغايِرٍ لِلْعالَمِ مَعَ نَفْيِ مُبايَنَتِهِ لِلْعالَمِ، وإثْباتِ خالِقٍ قائِمٍ بِنَفْسِهِ، لا في العالَمِ ولا خارِجَ العالَمِ، ولا فَوْقَ العالَمِ ولا تَحْتَهُ، ولا خَلْفَهُ ولا أمامَهُ، ولا يَمْنَتَهُ ولا يَسْرَتَهُ فَقَوْلٌ لَهُ خَبِيءٌ، والعُقُولُ لا تَتَصَوَّرُهُ حَتّى تُصَدِّقَ بِهِ، فَإذا اسْتَحالَ في العَقْلِ تَصَوُّرُهُ، فاسْتِحالَةُ التَّصْدِيقِ بِهِ أظْهَرُ وأظْهَرُ، وهو مُنْطَبِقٌ عَلى العَدَمِ المَحْضِ، والنَّفْيِ الصِّرْفِ، وصِدْقُهُ عَلَيْهِ أظْهَرُ عِنْدَ العُقُولِ والفِطَرِ مِن صِدْقِهِ عَلى رَبِّ العالَمِينَ.
فَضَعْ هَذا النَّفْيَ وهَذِهِ الألْفاظَ الدّالَّةَ عَلَيْهِ عَلى العَدَمِ المُسْتَحِيلِ، ثُمَّ ضَعْها عَلى الذّاتِ العَلِيَّةِ القائِمَةِ بِنَفْسِها، الَّتِي لَمْ تَحِلَّ في العالَمِ، ولا حَلَّ العالَمُ فِيها، ثُمَّ انْظُرْ أيَّ المَعْلُومِينَ أوْلى بِهِ؟
واسْتَيْقِظْ لِنَفْسِكَ، وقُمْ لِلَّهِ قَوْمَةَ مُفَكِّرٍ في نَفْسِهِ في الخَلْوَةِ في هَذا الأمْرِ، مُتَجَرِّدٍ عَنِ المَقالاتِ وأرْبابِها، وعَنِ الهَوى والحَمِيَّةِ والعَصَبِيَّةِ، صادِقًا في طَلَبِ الهِدايَةِ مِنَ اللَّهِ، فالَلَّهُ أكْرَمُ مِن أنْ يُخَيِّبَ عَبْدًا هَذا شَأْنُهُ، وهَذِهِ المَسْألَةُ لا تَحْتاجُ إلى أكْثَرَ مِن إثْباتِ رَبٍّ قائِمٍ بِنَفْسِهِ، مُبايِنٍ لِخَلْقِهِ، بَلْ هَذا نَفْسُ تَرْجَمَتِها.
* [فَصْلٌ: المُثْبِتُونَ لِلْخالِقِ تَعالى]
ثُمَّ المُثْبِتُونَ لِلْخالِقِ تَعالى نَوْعانِ:
أهْلُ تَوْحِيدٍ، وأهْلُ إشْراكٍ، وأهْلُ الإشْراكِ نَوْعانِ:
أحَدُهُما: أهْلُ الإشْراكِ بِهِ في رُبُوبِيَّتِهِ وإلَهِيَّتِهِ، كالمَجُوسِ ومَن ضاهاهم مِنَ القَدَرِيَّةِ، فَإنَّهم يُثْبِتُونَ مَعَ اللَّهِ خالِقًا آخَرَ، وإنْ لَمْ يَقُولُوا: إنَّهُ مُكافِئٌ لَهُ، والقَدَرِيَّةُ المَجُوسِيَّةُ تُثْبِتُ مَعَ اللَّهِ خالِقِينَ لِلْأفْعالِ، لَيْسَتْ أفْعالُهم مَقْدُورَةً لِلَّهِ، ولا مَخْلُوقَةً لَهُمْ، وهي صادِرَةٌ بِغَيْرِ مَشِيئَتِهِ، ولا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْها، ولا هو الَّذِي جَعَلَ أرْبابَها فاعِلِينَ لَها، بَلْ هُمُ الَّذِينَ جَعَلُوا أنْفُسَهم شائِينَ مُرِيدِينَ فاعِلِينَ.
فَرُبُوبِيَّةُ العالَمِ الكامِلَةُ المُطْلَقَةُ الشّامِلَةُ تُبْطِلُ أقْوالَ هَؤُلاءِ كُلِّهِمْ، لِأنَّها تَقْتَضِي رُبُوبِيَّتَهُ لِجَمِيعِ ما فِيهِ مِنَ الذَّواتِ والصِّفاتِ والحَرَكاتِ والأفْعالِ.
وَحَقِيقَةُ قَوْلِ القَدَرِيَّةِ المَجُوسِيَّةِ: أنَّهُ تَعالى لَيْسَ رَبًّا لِأفْعالِ الحَيَوانِ، ولا تَناوَلَتْها رُبُوبِيَّتُهُ، وكَيْفَ تَتَناوَلُ ما لا يَدْخُلُ تَحْتَ قُدْرَتِهِ ومَشِيئَتِهِ وخَلْقِهِ؟ مَعَ أنَّ في عُمُومِ حَمْدِهِ ما يَقْتَضِي حَمْدَهُ عَلى طاعاتِ خَلْقِهُ، إذْ هو المُعِينُ عَلَيْها والمُوَفِّقُ لَها، وهو الَّذِي شاءَها مِنهم كَما قالَ في غَيْرِ مَوْضِعٍ مِن كِتابِهِ
﴿وَما تَشاءُونَ إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ﴾ [الإنسان: ٣٠] فَهو مَحْمُودٌ عَلى أنْ شاءَها لَهُمْ، وجَعَلَهم فاعِلِيها بِقُدْرَتِهِ ومَشِيئَتِهِ، فَهو المَحْمُودُ عَلَيْها في الحَقِيقَةِ، وعِنْدَهم أنَّهم هُمُ المَحْمُودُونَ عَلَيْها، ولَهُمُ الحَمْدُ عَلى فِعْلِها، ولَيْسَ لِلَّهِ حَمْدٌ عَلى نَفْسِ فاعِلِيَّتِها عِنْدَهُمْ، ولا عَلى ثَوابِهِ وجَزائِهِ عَلَيْها.
أمّا الأوَّلُ: فَلِأنَّ فاعِلِيَّتَها بِهِمْ لا بِهِ، وأمّا الثّانِي: فَلِأنَّ الجَزاءَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ اسْتِحْقاقَ الأُجْرَةِ عَلى المُسْتَأْجِرِ، فَهو مَحْضُ حَقِّهِمْ، الَّذِي عاوَضُوهُ عَلَيْهِ.
وَفِي قَوْلِهِ
﴿وَإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ رَدٌّ ظاهِرٌ عَلَيْهِمْ، إذِ اسْتِعانَتُهم بِهِ إنَّما تَكُونُ عَنْ شَيْءٍ هو بِيَدِهِ وتَحْتَ قُدْرَتِهِ ومَشِيئَتِهِ، فَكَيْفَ يَسْتَعِينُ مَن بِيَدِهِ الفِعْلُ وهو مُوجِدُهُ، إنْ شاءَ أوْجَدَهُ وإنْ شاءَ لَمْ يُوجِدْهُ بِمَن لَيْسَ ذَلِكَ الفِعْلُ بِيَدِهِ، ولا هو داخِلٌ تَحْتَ قُدْرَتِهِ ولا مَشِيئَتِهِ؟
وَفِي قَوْلِهِ
﴿اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ﴾ أيْضًا رَدٌّ عَلَيْهِمْ، فَإنَّ الهِدايَةَ المُطْلَقَةَ التّامَّةَ هي المُسْتَلْزِمَةُ لِحُصُولِ الِاهْتِداءِ، ولَوْلا أنَّها بِيَدِهِ تَعالى دُونَهم لَما سَألُوهُ إيّاها، وهي المُتَضَمِّنَةُ لِلْإرْشادِ والبَيانِ، والتَّوْفِيقِ والإقْدارِ، وجَعْلِهِمْ مُهْتَدِينَ، ولَيْسَ مَطْلُوبُهم مُجَرَّدَ البَيانِ والدِّلالَةِ كَما ظَنَّتْهُ القَدَرِيَّةُ، لِأنَّ هَذا القَدَرَ وحْدَهُ لا يُوجِبُ الهُدى، ولا يُنْجِي مِنَ الرَّدى، وهو حاصِلٌ لِغَيْرِهِمْ مِنَ الكُفّارِ، الَّذِينَ اسْتَحَبُّوا العَمى عَلى الهُدى، واشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالهُدى.
* (فَصْلٌ)
النَّوْعُ الثّانِي: أهْلُ الإشْراكِ بِهِ في إلَهِيَّتِهِ، وهُمُ المُقِرُّونَ بِأنَّهُ وحْدَهُ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ، ومَلِيكُهُ وخالِقُهُ، وأنَّهُ رَبُّهم ورَبُّ آبائِهِمُ الأوَّلِينَ، ورَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ، ورَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ، وهم مَعَ هَذا يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ، ويَعْدِلُونَ بِهِ سِواهُ في المَحَبَّةِ والطّاعَةِ والتَّعْظِيمِ، وهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أنْدادًا، فَهَؤُلاءِ لَمْ يُوَفُّوا "
﴿إيّاكَ نَعْبُدُ﴾ " حَقَّهُ، وإنْ كانَ لَهم نَصِيبٌ مِن " نَعْبُدُكَ " لَكِنْ لَيْسَ لَهم نَصِيبٌ مِن إيّاكَ نَعْبُدُ المُتَضَمِّنِ مَعْنى: لا نَعْبُدُ إلّا إيّاكَ حُبًّا وخَوْفًا ورَجاءً وطاعَةً وتَعْظِيمًا، فَ "
﴿إيّاكَ نَعْبُدُ﴾ " تَحْقِيقٌ لِهَذا التَّوْحِيدِ، وإبْطالٌ لِلشِّرْكِ في الإلَهِيَّةِ، كَما أنَّ " إيّاكَ نَسْتَعِينُ " تَحْقِيقٌ لِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، وإبْطالٌ لِلشِّرْكِ بِهِ فِيها، وكَذَلِكَ قَوْلُهُ
﴿اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾فَإنَّهم أهْلُ التَّوْحِيدِ، وهم أهْلُ تَحْقِيقِ "
﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ " وأهْلُ الإشْراكِ هم أهْلُ الغَضَبِ والضَّلالِ.
* (فصل)
تأمل أسرار كلام الرب تعالى وما تضمنته آيات الكتاب المجيد من الحكمة البالغة الشاهدة بأنه كلام رب العالمين والشاهدة لرسوله بأنه الصادق المصدوق، وهذا كله من مقتضى حكمته وحمده تعالى وهو معنى كونه خلق السماوات والأرض وما بينهما بالحق، ولم يخلق ذلك باطلا بل خلقه خلقا صادرا عن الحق آيلا إلى الحق مشتملا على الحق فالحق سابق لخلقها مقارن له غاية له، ولهذا أتى بالباء الدالة على هذا المعنى دون اللام المفيدة لمعنى الغاية وحدها فالباء مفيدة معنى اشتمال خلقها على الحق السابق والمقارن والغاية فالحق السابق صدور ذلك عن علمه وحكمته فمصدر خلقه تعالى وأمره عن كمال علمه وحكمته، وبكمال هاتين الصفتين يكون المفعول الصادر عن الموصوف بهما حكمه كله ومصلحة وحقا ولهذا قال تعالى:
﴿وَإنَّكَ لَتُلَقّى القُرْآنَ مِن لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ﴾ فأخبر أن مصدر التلقي عن علم المتكلم وحكمته وما كان كذلك كان صدقا وعدلا وهدى وإرشادا.
وكذلك قالت الملائكة لامرأة إبراهيم حين قالت: أألد وأنا عجوز عقيم
﴿قالُوا كَذَلِكِ قالَ رَبُّكِ إنَّهُ هو الحَكِيمُ العَلِيمُ﴾وهذا راجع إلى قوله وخلقه وهو خلق الولد لها على الكبر.
وأما مقارنة الحق لهذه المخلوقات فهو ما اشتملت من الحكم والمصالح والمنافع والآيات الدالة للعباد على الله ووحدانيته وصفاته وصدق رسله وأن لقاءه حق لا ريب فيه ومن نظر في الموجودات ببصيرة قلبه رآها كالأشخاص الشاهدة الناطقة بذلك بل شهادتها أتم من شهادة الخبر المجرد لأنها شهادة حال لا يقبل كذبا فلا يتأمل العاقل المستبصر مخلوقا حق تأمله إلا وجده دالا على فاطره وبارئه وعلى وحدانيته وعلى كمال صفاته وأسمائه وعلى صدق رسله وعلى أن لقاءه حق لا ريب فيه وهذه طريقة القرآن في إرشاده الخلق إلى الاستدلال بأصناف المخلوقات وأحوالها على إثبات الصانع وعلى التوحيد والمعاد والنبوات فمرة يخبر أنه لم يخلق خلقه باطلا ولا عبثا ومرة يخبر أنه خلقهم بالحق ومرة يخبرهم وينبههم على وجوه الاعتبار والاستدلال بها على صدق ما أخبرت به رسله حتى يبين لهم أن الرسل إنما جاؤوهم بما يشاهدون أدلة صدقة وبما لو تأملوه لرأوه مركوزا في فطرهم مستقرا في عقولهم وأن ما يشاهدونه من مخلوقاته شاهد بما أخبرت به رسله عنه من أسمائه وصفاته وتوحيده ولقائه ووجود ملائكته وهذا باب عظيم من أبواب الإيمان إنما يفتحه الله على من سبقت له منه سابقة السعادة وهذا أشرف علم يناله العبد في هذه الدار.
وقد بينت في موضع آخر أن كل حركة تشاهد على اختلاف أنواعها فهي دالة على التوحيد والنبوات والمعاد بطريق سهلة واضحة برهانية وكذلك ذكرت في رسالة إلى بعض الأصحاب بدليل واضح أن الروح مركوز في أصل فطرتها وخلقتها شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وأن الإنسان لو استقصى التفتيش لوجد ذلك مركوزا في نفس روحه وذاته وفطرته فلو تأمل العاقل الروح وحركتها فقط لاستخرج منها الإيمان بالله تعالى وصفاته والشهادة بأنه لا إله إلا هو والإيمان برسله وملائكته ولقائه، وإنما يصدق بهذا من أشرقت شمس الهداية على أفق قلبه وانجابت عنه سحائب غيبه وانكشف عن قلبه حجاب
﴿إنّا وجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وإنّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ﴾ فهنالك يبدو له سر طال عنه اكتتامه ويلوح له صباح هو ليله وظلامه فقف الآن عند كل كلمة من قوله تعالى:
﴿إنَّ في السَّماواتِ والأرْضِ لآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وفي خَلْقِكم وما يَبُثُّ مِن دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ... وتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ثم تأمل وجه كونها آية وعلى ماذا جعلت آية أعلى مطلوب واحد أم مطالب متعددة وكذلك سائر ما في القرآن الكريم من هذا النمط كآخر سورة آل عمران وقوله في سورة الروم:
﴿وَمِن آياتِه﴾ إلى آخرها وقوله في سورة النمل:
﴿الحَمْدُ لِلَّهِ وسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى﴾ إلى آخر الآيات وأضعاف ذلك في القرآن الكريم وكقوله في سورة الذاريات
﴿وَفِي الأرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ وفي أنْفُسِكم أفَلا تُبْصِرُونَ﴾ ﴿وَكَأيِّنْ مِن آيَةٍ في السَّماواتِ والأرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وهم عَنْها مُعْرِضُونَ﴾ فهذا كله من الحق الذي خلقه به السماوات والأرض وما بينهما وهو حق لوجود هذه المخلوقات مسطور في صفحاتها يقرؤه كل موفق كاتب وغير كاتب كما قيل:
تأمل سطور الكائنات فإنها ∗∗∗ من الملأ الأعلى إليك رسائل
وقد خط فيها لو تأملت خطها ∗∗∗ ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وأما الحق الذي هو غاية خلقها فهو غاية تراد من العباد وغاية تراد بهم فالتي تراد منهم أن يعرفوا الله تعالى وصفات كماله عز وجل وأن يعبدوه لا يشركوا به شيئا فيكون هو وحده إلههم ومعبودهم ومطاعهم ومحبوبهم قال تعالى:
﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ ومِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وأنَّ اللَّهَ قَدْ أحاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾فأخبر أنه خلق العالم ليعرف عباده كمال قدرته وإحاطة علمه وذلك يستلزم معرفته ومعرفة أسمائه وصفاته وتوحيده
وقال تعالى:
﴿وَما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلاّ لِيَعْبُدُونِ﴾فهذه الغاية هي المرادة من العباد وهي أن يعرفوا ربهم ويعبدوه وحده.
وأما الغاية المرادة بهم فهي الجزاء بالعدل والفضل والثواب والعقاب قال تعالى:
﴿وَلِلَّهِ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أساءُوا بِما عَمِلُوا ويَجْزِيَ الَّذِينَ أحْسَنُوا بِالحُسْنى﴾وقال تعالى:
﴿إنَّ السّاعَةَ آتِيَةٌ أكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى﴾وقال تعالى:
﴿لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ ولِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أنَّهم كانُوا كاذِبِينَ﴾وقال تعالى:
﴿إنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ في سِتَّةِ أيّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ يُدَبِّرُ الأمْرَ ما مِن شَفِيعٍ إلاّ مِن بَعْدِ إذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكم فاعْبُدُوهُ أفَلا تَذَكَّرُونَ إلَيْهِ مَرْجِعُكم جَمِيعًا وعْدَ اللَّهِ حَقًّا إنَّهُ يَبْدأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ بِالقِسْطِ والَّذِينَ كَفَرُوا لَهم شَرابٌ مِن حَمِيمٍ وعَذابٌ ألِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ﴾فتأمل الآن كيف اشتمل خلق السماوات والأرض وما بينهما على الحق أولا وآخرا ووسطا وأنها خلقت بالحق، وللحق، وشاهدة بالحق.
وقد أنكر تعالى على من زعم خلاف ذلك فقال:
﴿أفَحَسِبْتُمْ أنَّما خَلَقْناكم عَبَثًا وأنَّكم إلَيْنا لا تُرْجَعُونَ﴾ ثم نزه نفسه عن هذا الحسبان المضاد لحكمته وعلمه وحمده فقال
﴿فتعالى الله الملك الحق﴾ وتأمل ما في هذين الاسمين وهما الملك الحق من إبطال هذا الحسبان الذي ظنه أعداؤه إذ هو مناف لكمال ملكه ولكونه الحق إذ الملك الحق هو الذي يكون له الأمر والنهي فيتصرف في خلقه بقوله وأمره وهذا هو الفرق بين الملك والمالك إذ المالك هو المتصرف بفعله والملك هو المتصرف بفعله وأمره والرب تعالى مالك الملك فهو المتصرف بفعله وأمره فمن ظن أنه خلق خلقه عبثا لم يأمرهم ولم ينههم فقد طعن في ملكه ولم يقدره حق قدره كما قال تعالى:
﴿وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إذْ قالُوا ما أنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِن شَيْءٍ﴾ فمن جحد شرع الله وأمره ونهيه وجعل الخلق بمنزلة الأنعام المهملة فقد طعن في ملك الله ولم يقدره حق قدره وكذلك كونه تعالى إله الخلق يقتضي كمال ذاته وصفاته وأسمائه ووقوع أفعاله على أكمل الوجوه وأتمها فكما أن ذاته الحق فقوله الحق ووعده الحق وأمره الحق وأفعاله كلها حق وجزاؤه المستلزم لشرعه ودينه ولليوم الآخر حق فمن أنكر شيئا من ذلك فما وصف الله بأنه الحق المطلق من كل وجه وبكل اعتبار فكونه حقا يستلزم شرعه ودينه وثوابه وعقابه فكيف يظن بالملك الحق أن يخلق خلقه عبثا وأن يتركهم سدى لا يأمرهم ولا ينهاهم ولا يثيبهم ولا يعاقبهم كما قال تعالى:
﴿أيَحْسَبُ الإنْسانُ أنْ يُتْرَكَ سُدىً﴾قال الشافعي رحمه الله: "مهملا لا يؤمر ولا ينهى "
وقال غيره: "لا يجزي بالخير والشر ولا يثاب ولا يعاقب" والقولان متلازمان فالشافعي ذكر سبب الجزاء والثواب والعقاب وهو الأمر والنهي والآخر ذكر غاية الأمر والنهي ذكر سبب الجزاء والثواب والعقاب ثم تأمل قوله تعالى بعد ذلك:
﴿ألَمْ يَكُ نُطْفَةً مِن مَنِيٍّ يُمْنى ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّى﴾فمن لم يتركه وهو نطفة سدى بل قلب النطفة وصرفها حتى صارت أكمل مما هي وهي العلقة ثم قلب العلقة حتى صارت أكمل مما هي حتى خلقها فسوى خلقها فدبرها بتصريفه وحكمته في أطوار كمالاتها حتى انتهى كمالها بشرا سويا فكيف يتركه سدى لا يسوقه إلى غاية كماله الذي خلق له.
فإذا تأمل العاقل البصير أحوال النطفة من مبدئها إلى منتهاها دلته على المعاد والنبوات كما تدله على إثبات الصانع وتوحيده وصفات كماله فكما تدل أحوال النطفة من مبدئها إلى غايتها على كمال قدرة فاطر الإنسان وبارئه، فكذلك تدل على كمال حكمته وعلمه وملكه وأنه الملك الحق المتعالى عن أن يخلقها عبثا ويتركها سدى بعد كمال خلقها.
وتأمل كيف لما زعم أعداؤه الكافرون أنه لم يأمرهم ولم ينههم على ألسنة رسله وأنه لا يبعثهم للثواب والعقاب كيف كان هذا الزعم منهم قولا بأن خلق السماوات والأرض باطل فقال تعالى:
﴿وَما خَلَقْنا السَّماءَ والأرْضَ وما بَيْنَهُما باطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النّارِ﴾فلما ظن أعداؤه أنه لم يرسل إليهم رسولا ولم يجعل لهم أجلا للقائه كان ذلك ظنا منهم أنه خلق خلقه باطلا ولهذا أثنى تعالى على عباده المتفكرين في مخلوقاته بأن أوصلهم فكرهم فيها إلى شهادتهم بأنه تعالى لم يخلقها باطلا وأنهم لما علموا ذلك وشهدوا به علموا أن خلقها يستلزم أمره ونهيه وثوابه وعقابه فذكروا في دعائهم هذين الأمرين فقالوا
﴿رَبَّنا ما خَلَقْتَ هَذا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النّارِ رَبَّنا إنَّكَ مَن تُدْخِلِ النّارَ فَقَدْ أخْزَيْتَهُ وما لِلظّالِمِينَ مِن أنْصارٍ﴾فلما علموا أن خلق السماوات والأرض يستلزم الثواب والعقاب تعوذوا بالله من عقابه، ثم ذكروا الإيمان الذي أوقعهم عليه فكرهم في خلق السماوات والأرض فقالوا
﴿رَبَّنا إنَّنا سَمِعْنا مُنادِيًا يُنادِي لِلإيمانِ أنْ آمِنُوا بِرَبِّكم فَآمَنّا﴾ فكانت ثمرة فكرهم في خلق السماوات والأرض الإقرار به تعالى وبوحدانيته وبدينه وبرسله وبثوابه وعقابه فتوسلوا إليه بإيمانهم الذي هو من أعظم فضله عليهم إلى مغفرة ذنوبهم وتكفير سيئاتهم وإدخالهم مع الإبرار إلى جنته التي وعدهموها وذلك تمام نعمته عليهم فتوسلوا بإنعامه عليهم أولا إلى إنعامه عليهم آخرا وتلك وسيلة بطاعته إلى كرامته وهو إحدى الوسائل إليه وهي الوسيلة التي أمرهم بها في قوله:
﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وابْتَغُوا إلَيْهِ الوَسِيلَةَ﴾ وأخبر عن خاصة عبادهم أنهم يبتغون الوسيلة إليه إذ يقول تعالى:
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أيُّهم أقْرَبُ﴾على أن في هاتين الآيتين أسرارا بديعة ذكرتها في كتاب (التحفة المكية في بيان الملة الإبراهيمية)
فأثمر لهم فكرهم الصحيح في خلق السماوات والأرض أنه لم يخلقها باطلا وأثمر لهم الإيمان بالله ورسوله ودينه وشرعه وثوابه وعقابه والتوسل إليه بطاعته والإيمان به.
وهذا الذي ذكرناه في هذا الفصل قطرة من بحر لا ساحل له فلا تستطله فإنه كنز من كنوز العلم لا يلائم كل نفس، ولا يقبله كل محروم، والله يختص برحمته من يشاء.
* (فصل: في بيان تنازع الناس في الأفضل من الصبر والشكر)
حكى أبو الفرج ابن الجوزي في ذلك ثلاثة أقوال:
أحدها أن الصبر أفضل.
والثاني أن الشكر أفضل.
والثالث أنهما سواء، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه
"لو كان الصبر والشكر بعيرين ما باليت أيهما ركبت"
ونحن نذكر ما احتجت به كل فرقة وما لها وعليها في احتجاجها بعون الله وتوفيقه.
* فصل: قال الصابرون قد أثنى الله سبحانه على الصبر وأهله ومدحه وأمر به وعلق عليه خير الدنيا والآخرة وقد ذكره الله في كتابه في نحو تسعين موضعا وقد تقدم من النصوص والأحاديث فيه وفي فضله ما يدل على أنه أفضل من الشكر ويكفي في فضله قوله "الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر" فذكر ذلك في معرض تفضيل الصبر ورفع درجته على الشكر فإنه ألحق الشاكر بالصابر وشبهه به ورتبة المشبه به أعلى من رتبة المشبه وهذا كقوله:"مدمن الخمر كعابد وثن " ونظائر ذلك قالوا وإذا وازنا بين النصوص الواردة في الصبر والواردة في الشكر وجدنا نصوص الصبر أضعافها ولهذا لما كانت الصلاة والجهاد أفضل الأعمال كانت الأحاديث فيهما في سائر الابواب فلا تجد الأحاديث النبوية في باب أكثر منها في باب الصلاة والجهاد قالوا وأيضا فالصبر يدخل في كل باب بل في كل مسئلة من مسائل الدين ولهذا كان من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد قالوا وأيضا فالله سبحانه وتعالى علق على الشكر الزيادة فقال
﴿وإذ تأذن ربكم لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأزِيدَنَّكُمْ﴾ وعلق على الصبر الجزاء بغير حساب وأيضا فإنه سبحانه أطلق جزاء الشاكرين فقال وسيجزى الله الشاكرين وقيد جزاء الصابرين بالإحسان فقال
﴿ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون﴾ قالوا وقد صح عن النبي أنه قال: يقول الله تعالى:
" كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزى به ".
وفي لفظ:
" كل عمل ابن آدم يضاعف له الحسنة بعشر أمثالها قال الله تعالى إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به" وما ذاك إلا لأنه صبر النفس ومنعها من شهواتها كما في الحديث نفسه يدع شهوته وطعامه وشرابه من أجلي ولهذا قال النبي لمن سأله عن أفضل الأعمال:
" عليك بالصوم فإنه لا عدل له"
ولما كان الصبر حبس النفس عن إجابة داعي الهوى وكان هذا حقيقة الصوم فإنه حبس النفس عن إجابة داعي شهوة الطعام والشراب والجماع فسر الصبر في قوله تعالى
﴿واستعينوا بالصبر والصلاة﴾ أنه الصوم وسمى رمضان شهر الصبر.
وقال بعض السلف الصوم نصف الصبر وذلك أن الصبر حبس النفس عن إجابة داعي الشهوة والغضب فإن النفس تشتهى الشيء لحصول اللذة بإدراكه وتغضب لنفرتها من المؤلم لها والصوم صبر عن مقتضى الشهوة فقط وهي شهوة البطن والفرج دون مقتضى الغضب ولكن من تمام الصوم وكماله صبر النفس عن إجابة داعي الأمرين وقد أشار إلى ذلك النبي في الحديث الصحيح وهو قوله:
"إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يجهل ولا يصخب فإن أحد سابه أو شاتمه فليقل إني صائم " فأرشد إلى تعديل قوى الشهوة والغضب وأن الصائم ينبغي له أن يحتمى من إفسادهما لصومه فهذه تفسد صومه وهذه تحبط أجره كما قال في الحديث الآخر:
"من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ".
قالوا ويكفي في فضل الصبر على الشكر قوله تعالى إنى جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون فجعل فوزهم جزاء صبرهم وقال تعالى والله مع الصابرين لا شيء يعدل معيته لعبده، كما قال بعض العارفين ذهب الصابرون بخير الدنيا والآخرة، لأنهم نالوا معية الله.
وقال تعالى
{واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا)
وهذا يتضمن الحراسة والكلاءة والحفظ للصبر لحكمه
وقد وعد الصابرين بثلاثة أشياء كل واحد خير من الدنيا وما عليها وهي صلواته تعالى عليهم ورحمته لهم وتخصيصهم بالهداية في قوله تعالى أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون وهذا مفهم لحصر الهدى فيهم وأخبر أن الصبر من عزم الأمور في آيتين من كتابه وأمر رسوله أن يتشبه بصبر أولى العزم من الرسل وقد تقدم ذكر ذلك
قالوا وقد دل الدليل على أن الزهد في الدنيا والتقلل منها مهما أمكن من الاستكثار منها والزهد فيها حال الصابر والاستكثار منها حال الشاكر قالوا وقد سئل المسيح صلوات الله وسلامه عليه عن رجلين مرا بكنز فتخطاه أحدهما ولم يلتفت إليه وأخذه الآخر وأنفقه في طاعة الله تعالى أيهما أفضل فقال الذي لم يلتفت إليه وأعرض عنه أفضل عند الله
قالوا ويدل على صحة هذا أن النبي عرضت عليه مفاتيح كنوز الأرض فلم يأخذها وقال بل أجوع يوما وأشبع يوما ولو أخذها لأنفقها في مرضاة الله وطاعته، فآثر مقام الصبر عنها والزهد فيها.
قالوا وقد علم أن الكمال الإنساني في ثلاثة أمور علوم يعرفها وأعمال يعمل بها، وأحوال ترتب له على علومه وأعماله.
وأفضل العلم والعمل والحال العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله والعمل بمرضاته وانجذاب القلب إليه بالحب والخوف والرجاء فهذا أشرف ما في الدنيا وجزاؤه أشرف ما في الآخرة وأجل المقاصد معرفة الله ومحبته والأنس بقربه والشوق إلى لقائه والتنعم بذكره وهذا أجل سعادة الدنيا والآخرة وهذا هو الغاية التي تطلب لذاتها، وإنما يشعر العبد تمام الشعور بأن ذلك عين السعادة إذا انكشف له الغطاء وفارق الدنيا ودخل الآخرة وإلا فهو في الدنيا وإن شعر بذلك بعض الشعور فليس شعوره به كاملا للمعارضات التي عليه والمحن التي امتحن بها وإلا فليست السعادة في الحقيقة سوى ذلك، وكل العلوم والمعارف تبع لهذه المعرفة مرادة لأجلها وتفاوت العلوم في فضلها بحسب إفضائها إلى هذه المعرفة وبعدها فكل علم كان أقرب افضاء إلى العلم بالله وأسمائه وصفاته فهو أعلى مما دونه وكذلك حال القلب فكل حال كان أقرب إلى المقصود الذي خلق له فهو أشرف مما دونه وكذلك الأعمال فكل عمل كان أقرب إلى تحصيل هذا المقصود كان أفضل من غيره ولهذا كانت الصلاة والجهاد من أفضل الأعمال وأفضلها لقرب إفضائها إلى المقصود وهكذا يجب أن يكون فإن كل ما كان الشيء أقرب إلى الغاية كان أفضل من البعيد عنها فالعمل المعد للقلب المهيئ له لمعرفة الله وأسمائه وصفاته ومحبته وخوفه ورجائه أفضل مما ليس كذلك وإذا أشتركت عدة أعمال في هذا الافضاء فأفضلها أقربها إلى هذا المفضى ولهذا اشتركت الطاعات في هذا الإفضاء فكانت مطلوبة لله واشتركت المعاصي في حجب القلب وقطعه عن هذه الغاية فكانت منهيا عنها وتأثير الطاعات والمعاصي بحسب درجاتها
وها هنا أمر ينبغي التفطن له وهو أنه قد يكون العمل المعين أفضل منه في حق غيره فالغنى الذي بلغ له مال كثير ونفسه لا تسمح ببذل شيء منه فصدقته وإيثاره أفضل له من قيام الليل وصيام النهار نافلة والشجاع الشديد الذي يهاب العدو سطوته وقوفه في الصف ساعة وجهاده أعداء الله أفضل من الحج والصوم والصدقة والتطوع والعالم الذي قد عرف السنة والحلال والحرام وطرق الخير والشر مخالطته للناس وتعليمهم ونصحهم في دينهم أفضل من اعتزاله وتفريغ وقته للصلاة وقراءة القرآن والتسبيح وولى الأمر الذي قد نصبه الله للحكم بين عباده جلوسه ساعة للنظر في المظالم وانصاف المظلوم من الظالم واقامة الحدود ونصر المحق وقمع المبطل أفضل من عبادة سنين من غيره ومن غلبت عليه شهوة النساء فصومه له أنفع وأفضل من ذكر غيره وصدقته وتأمل تولية النبي لعمرو بن العاص وخالد بن الوليد وغيرهما من أمرائه وعماله وترك تولية أبي ذر بل قال له:
"إني أراك ضعيفا وانى أحب لك ما أحب لنفسي لا تؤمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم" وأمره وغيره بالصيام وقال:
"عليك بالصوم فانه لا عدل له" وأمر آخر بأن لا يغضب وأمر ثالثا بأن لا يزال لسانه رطبا من ذكر الله ومتى أراد الله بالعبد كمالا وفقه لاستفراغ وسعه فيما هو مستعد له قابل له قد هيئ له فإذا استفرغ وسعه على غيره وفاق الناس فيه كما قيل
ما زال يسبق حتى قال حاسده ∗∗∗ هذا طريق إلى العلياء مختصر
وهذا كالمريض الذي يشكو وجع البطن مثلا إذا استعمل دواء ذلك الداء انتفع به وإذا استعمل دواء وجع الرأس لم يصادف داءه فالشح المطاع مثلا من المهلكات ولا يزيله صيام مائة عام ولا قيام ليلها وكذلك داء اتباع الهوى والاعجاب بالنفس لا يلائمه كثرة قراءة القرآن واستفراغ الوسع في العلم والذكر والزهد وإنما يزيله اخراجه من القلب بضده ولو قيل ايما أفضل الخبز أو الماء لكان الجواب أن هذا في موضعه أفضل وهذا في موضعه أفضل
وإذا عرفت هذه القاعدة فالشكر ببذل المال عمل صالح يحصل به للقلب حال فهو دواء للداء الذي في القلب يمنعه من المقصود وأما الفقير الزاهد فقد استراح من هذا الداء والدواء وتوفرت قوته على استفراغ الوسع في حصول المقصود
ثم أوردوا على أنفسهم سؤالا فقالوا فإن قيل فقد حث الشرع على الأعمال وانفصلوا عنه بأن قالوا الطبيب إذا أثنى على الدواء لم يدل على أن الدواء يراد لعينه ولا أنه أفضل من الشفاء الحأصل به ولكن الأعمال علاج لمرض القلوب ومرض القلوب مما لا يشعر به غالبا فوقع الحث على العمل المقصود وهو شفاء القلب فالفقير الآخذ لصدقتك يستخرج منك داء البخل كالحجام يستخرج منك الدم المهلك
قالوا وإذا عرف هذا عرف أن حال الصابر حال المحافظ على الصحة والقوة وحال الشاكر حال المتداوي بأنواع الأدوية لإزالة مواد السقم فصل قال الشاكرون لقد تعديتم طوركم وفضلتم مقاما غيره أفضل منه وقدمتم الوسيلة على الغاية والمطلوب لغيره على المطلوب لنفسه والعمل الكامل على الأكمل والفاضل على الأفضل ولم تعرفوا للشكر حقه ولا وفيتموه مرتبته وقد قرن تعالى ذكره الذي هو المراد من الخلق بذكره وكلاهما هو المراد بالخلق والأمر والصبر خادم لهما ووسيلة إليهما وعونا عليهما قال تعالى (اذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون)
وقرن سبحانه الشكر بالإيمان وأخبر أنه لا غرض له في عذاب خلقه إن شكروا وآمنوا به فقال ﴿ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكم إنْ شَكَرْتُمْ وآمَنتُمْ﴾ أي أن وفيتم ما خلقتم له وهو الشكر والإيمان فما أصنع بعذابكم.
هذا وأخبر سبحانه أن أهل الشكر هم المخصوصون بمنته عليهم من بين عباده فقال
{وَكَذَلِكَ فَتَنّا بَعْضَهم بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِن بَيْنِنا ألَيْسَ اللَّهُ بِأعْلَمَ بِالشّاكِرِينَ} وقسم الناس إلى شكور وكفور فأبغض الأشياء إليه الكفر وأهله وأحب الأشياء إليه الشكر وأهله قال تعالى في الإنسان
﴿إنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إمّا شاكِرًا وإمّا كَفُورًا﴾وقال نبيه سليمان
﴿هَذا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أأشْكُرُ أمْ أكْفُرُ ومَن شَكَرَ فَإنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ومَن كَفَرَ فَإنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾ وقال تعالى
﴿وَإذْ تَأذَّنَ رَبُّكم لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكم ولَئِنْ كَفَرْتُمْ إنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ﴾ وقال تعالى
﴿إنْ تَكْفُرُوا فَإنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكم ولا يَرْضى لِعِبادِهِ الكُفْرَ وإنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ﴾وهذا كثير في القرآن يقابل سبحانه بين الشكر والكفر فهو ضده قال تعالى
﴿وَما مُحَمَّدٌ إلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أفَإنْ ماتَ أوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أعْقابِكم ومَن يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وسَيَجْزِي اللَّهُ الشّاكِرِينَ﴾ والشاكرون هم الذين ثبتوا على نعمة الإيمان فلم ينقلبوا على أعقابهم وعلق سبحانه المزيد بالشكر والمزيد منه لا نهاية له كما لا نهاية لشكره وقد وقف سبحانه كثيرا من الجزاء على المشيئة كقوله
﴿فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إنْ شاءَ﴾ وقوله في الإجابة
﴿فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إلَيْهِ إنْ شاءَ﴾ وقوله في الرزق
﴿يَرْزُقُ مَن يَشاءُ﴾ وفي المغفرة
﴿يَغْفِرُ لِمَن يَشاءُ﴾ والتوبة
﴿وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَن يَشاءُ﴾ وأطلق جزاء الشكر إطلاقا حيث ذكر كقوله وسنجزى الشاكرين وسيجزى الله الشاكرين ولما عرف عدو الله ابليس قدر مقام الشكر وأنه من أجل المقامات وأعلاها جعل غايته أن يسعى في قطع الناس عنه فقال
﴿ثُمَّ لآتِيَنَّهم مِن بَيْنِ أيْدِيهِمْ ومِن خَلْفِهِمْ وعَنْ أيْمانِهِمْ وعَنْ شَمائِلِهِمْ ولا تَجِدُ أكْثَرَهم شاكِرِينَ﴾ ووصف الله سبحانه الشاكرين بأنهم قليل من عباده فقال تعالى
﴿وَقَلِيلٌ مِن عِبادِيَ الشَّكُورُ﴾.
وذكر الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع رجلا يقول: اللهم اجعلني من الأقلين. فقال ما هذا؟
فقال يا أمير المؤمنين إن الله قال
﴿وما آمن معه إلا قليل﴾، وقال تعالى
﴿وَقَلِيلٌ مِن عِبادِيَ الشَّكُورُ﴾ وقال
﴿إلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ وقَلِيلٌ ما هُمْ﴾فقال عمر صدقت.
وقد أثنى الله سبحانه وتعالى على أول رسول بعثه إلى أهل الأرض بالشكر فقال
﴿ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا﴾وفي تخصيص نوح هاهنا بالذكر وخطاب العباد بأنهم ذريته إشارة إلى الاقتداء به فإنه أبوهم الثاني فإن الله تعالى لم يجعل للخلق بعد الغرق نسلا إلا من ذريته كما قال تعالى
﴿وجعلنا ذريته هم الباقين﴾ فأمر الذرية أن يتشبهوا بأبيهم في الشكر فإنه كان عبدا شكورا
وقد أخبر سبحانه إنما يعبده من شكره فمن لم يشكره لم يكن من أهل عبادته فقال
﴿واشْكُرُوا لِلَّهِ إنْ كُنْتُمْ إيّاهُ تَعْبُدُونَ (١٧٢)﴾وأمر عبده موسى أن يتلقى ما آتاه من النبوة والرسالة والتكليم بالشكر فقال تعالى
﴿يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين﴾وأول وصية وصى الله بها الإنسان بعد ماعقل عنه بالشكر له وللوالدين فقال
﴿ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلى المصير﴾وأخبر أن رضاه في شكره فقال تعالى
﴿وإن تشكروا يرضه لكم﴾وأثنى سبحانه على خليله إبراهيم بشكر نعمه فقال
﴿إنَّ إبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا ولَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ (١٢٠) شاكِرًا لِأنْعُمِهِ اجْتَباهُ وهَداهُ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١)﴾فأخبر عنه سبحانه بأنه أمة أي قدوة يؤتم به في الخير وإنه قانتا لله والقانت هو المطيع المقيم على طاعته والحنيف هو المقبل على الله المعرض عما سواه ثم ختم له بهذه الصفات بأنه شاكر لأنعمه فجعل الشكر غاية خليله.
وأخبر سبحانه أن الشكر هو الغاية من خلقه وأمره بل هو الغاية التي خلق عبيده لأجلها والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والافئدة لعلكم تشكرون
فهذه غاية الخلق وغاية الأمر فقال ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون
ويجوز أن يكون قوله لعلكم تشكرون تعليلا لقضائه لهم بالنصر ولأمره لهم بالتقوى ولهما معا وهو الظاهر فالشكر غاية الخلق والأمر وقد صرح سبحانه بأنه غاية أمره وإرساله الرسول في قوله تعالى
﴿كَما أرْسَلْنا فِيكم رَسُولًا مِنكم يَتْلُو عَلَيْكم آياتِنا ويُزَكِّيكم ويُعَلِّمُكُمُ الكِتابَ والحِكْمَةَ ويُعَلِّمُكم ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥١) فاذْكُرُونِي أذْكُرْكم واشْكُرُوا لِي ولا تَكْفُرُونِ (١٥٢)﴾قالوا فالشكر مراد لنفسه والصبر مراد لغيره والصبر إنما حمد لإفضائه وإيصاله إلى الشكر فهو خادم الشكر وقد ثبت في الصحيحين عن النبي أنه قام حتى تفطرت قدماه فقيل له أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال:
"أفلا أكون عبدا شكورا"
وثبت في المسند والترمذي أن النبي قال لمعاذ:
"والله إني لأحبك فلا تنسى أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعنى على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك".
وقال ابن أبي الدنيا حدثنا إسحاق بن إسماعيل حدثنا أبو معاويه وجعفر بن عون عن هشام بن عروة قال كان من دعاء النبي:
"اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك".
قال وحدثنا محمود بن غيلان حدثنا المؤمل بن إسماعيل حدثنا حماد بن سلمه حدثنا حميد الطويل عن طلق بن حبيب عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله قال:
"أربع من أعطيهن فقد أعطي خير الدنيا والآخرة: قلبا شاكرا ولسانا ذاكرا وبدنا على البلاء صابرا وزوجة لا تبغيه خونا في نفسها ولا في ماله" وذكر أيضا من حديث القاسم بن محمد عن عائشة عن النبي قال:
"ما أنعم الله على عبد نعمة فعلم أنها من عند الله إلا كتب الله له شكرها وما علم الله من عبد ندامة على ذنب إلا غفر الله له قبل أن يستغفره وإن الرجل يشترى الثوب بالدينار فيلبسه فيحمد الله فما يبلغ ركبتيه حتى يغفر له".
وقد ثبت في صحيح مسلم عنه أنه قال:
"إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكله فيحمده عليها ويشرب الشربه فيحمده عليها"
فكان هذا الجزاء العظيم الذي هو أكبر أنواع الجزاء كما قال تعالى ورِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أكْبَرُ في مقابلة شكره بالحمد وذكر ابن أبي الدنيا من حديث عبد الله بن صالح حدثنا أبو زهير يحيى بن عطارد القرشي عن أبيه قال قال رسول الله:
"لا يرزق الله عبدا الشكر فيحرمه الزيادة" لأن الله تعالى يقول
﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأزِيدَنَّكُمْ﴾وقال الحسن البصري:
"إن الله ليمتع بالنعمة ما شاء فإذا لم يشكر عليها قلبها عذابا" ولهذا كانوا يسمون الشكر الحافظ لأنه يحفظ النعم الموجودة والجالب لأنه يجلب النعم المفقودة وذكر ابن أبي الدنيا عن على بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال لرجل من همذان:
"إن النعمة موصولة بالشكر والشكر يتعلق بالمزيد وهما مقرونان في قرن فلن ينقطع المزيد من الله حتى ينقطع الشكر من العبد"
وقال عمر بن عبد العزيز:
"قيدوا نعم الله بشكر الله"
وكان يقول: الشكر قيد النعم.
وقال مطرف بن عبد الله "لأن أعافى فأشكر أحب إلي من أن ابتلى فأصبر"
وقال الحسن "أكثروا من ذكر هذه النعم فإن ذكرها شكر"
وقد أمر الله تعالى نبيه أن يحدث بنعمة ربه فقال
﴿وأما بنعمة ربك فحدث﴾والله تعالى يحب من عبده أن يرى عليه أثر نعمته فإن ذلك شكرها بلسان الحال.
وقال على بن الجعدي سمعت سفيان الثوري يقول إن داود عليه الصلاة والسلام قال الحمد لله حمدا كما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله فأوحى الله إليه يا داود أتعبت الملائكة
وقال شعبة حدثنا المفضل بن فضالة عن أبي رجاء العطاردي قال خرج علينا عمران بن الحصين وعليه مطرف خز لم نره عليه قبل ولا بعد فقال أن رسول الله قال:
"إذا أنعم الله على عبد نعمة يحب أن يرى أثر نعمته على عبده"
وفي صحيفة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي قال:
"كلوا واشربوا وتصدقوا في غير مخيلة ولا سرف فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده".
وذكر شعبة عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن أبيه قال:
"أتيت رسول الله وأنا قشف الهيئة فقال هل لك من مال قال قلت نعم قال من أي المال قلت من كل المال قد آتانى الله من الابل والخيل والرقيق والغنم قال فإذا آتاك الله ما لا فليرى عليك".
وفي بعض المراسيل "إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده في مأكله ومشربه" وروى عبد الله بن يزيد المقري عن أبي معمر عن بكير بن عبد الله رفعه:
"من أعطي خيرا فرؤي عليه سمي حبيب الله محدثا بنعمة الله، ومن أعطي خيرا ولم ير عليه سمي بغيض الله معاديا لنعمة الله"
وقال الفضيل بن عياض "كان يقال من عرف نعمة الله بقلبه وحمده بلسانه لم يستتم ذلك حتى يرى الزيادة، لقول الله تعالى
﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأزِيدَنَّكُمْ﴾وقال "من شُكْر النعمة أن يحدث بها.
وقد قال تعالى:
"يا ابن آدم إذا كنت تتقلب في نعمتي وأنت تتقلب في معصيتي فاحذرني لأصرعك بين معاصي يا ابن آدم اتقني ونم حيث شئت".
وقال الشعبي الشكر نصف الإيمان واليقين الإيمان كله وقال أبو قلابة لا تضركم دنيا شكرتموها
وقال الحسن إذا أنعم الله على قوم سألهم الشكر فإذا شكروه كان قادرا على أن يزيدهم وإذا كفروه كان قادرا على أن يبعث نعمته عليهم عذابا وقد ذم الله سبحانه الكنود وهو الذي لا يشكر نعمه
قال الحسن
﴿إنَّ الإنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ﴾ يعد المصائب وينسى النعم
وقد أخبر النبي إن النساء أكثر أهل النار بهذا السبب قال:
"لو أحسنت إلى إحداههن الدهر ثم رأت منك شيئا قالت ما رأيت منك خيرا قط"
فإذا كان هذا بترك شكر نعمة الزوج وهي في الحقيقة من الله فكيف بمن ترك شكر نعمة الله
يا أيها الظالم في فعله ∗∗∗ والظلم مردود على من ظلم
إلى متى أنت وحتى متى ∗∗∗ تشكو المصيبات وتنسى النعم
ذكر ابن أبي الدنيا من حديث أبي عبد الرحمن السلمي عن الشعبي عن النعمان بن بشير قال قال رسول الله:
"التحدث بالنعمة شكر، وتركها كفر، ومن لا يشكر القليل لا يشكر الكثير، ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله، والجماعة بركة والفرقة عذاب"
وقال مطرف بن عبد الله "نظرت في العافية والشكر فوجدت فيهما خير الدنيا والآخرة، ولأن أعافى أعافى فأشكر أحب إلي من أن أبتلى فأصبر"
ورأى بكر بن عبد الله المزني حمالا عليه حمله وهو يقول الحمد الله أستغفر الله.
قال فانتظرته حتى وضع ما على ظهره، وقلت له: أما تحسن غير هذا؟
قال بلى أحسن خيرا كثيرا أقرأ كتاب الله غير أن العبد بين نعمة وذنب فأحمد الله على نعمه السابغة، وأستغفره لذنوبي.
فقلت الحمال أفقه من بكر.
وذكر الترمذي من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال:
"خرج رسول الله على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها فسكتوا فقال قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن ردا منكم كنت كلما أتيت على قوله
﴿فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ﴾ قالوا لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد"
وقال مشعر لما قيل لآل داود
﴿اعْمَلُوا آلَ داوُودَ شُكْرًا﴾لم يأت على القوم ساعة إلا وفيهم مصل
وقال عون بن عبد الله قال بعض الفقهاء إني رأيت في أمري لم أر خيرا إلا شر معه إلا المعافاة والشكر، فرب شاكر في بلائه، ورُب معافى غير شاكر، فإذا سألتم الله فاسألوهما جميعا.
وقال أبو معاوية: لبس عمر بن الخطاب قميصا فلما بلغ ترقوته قال الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي وأتجمل به في حياتي ثم مد يديه فنظر شيئا يزيد على يديه فقطعه ثم أنشأ يحدث قال سمعت رسول الله يقول:
"من لبس ثوبا أحسبه جديدا فقال حين يبلغ ترقوته أو قال قبل أن يبلغ ركبتيه مثل ذلك ثم عمد إلى ثوبه الخلق فكسا به مسكينا لم يزل في جوار الله وفي ذمة الله وفي كنف الله حيا وميتا ما بقي من ذلك الثوب سلك".
وقال عون بن عبد الله لبس رجل قميصا جديدا فحمد الله فغفر له فقال رجل ارجع حتى أشتري قميصا فألبسه وأحمد الله.
وقال شريح ما أصيب عبد بمصيبة إلا كان لله عليه فيها ثلاث نعم ألا تكون كانت في دينه، وألا تكون أعظم مما كانت وأنها لا بد كائنة فقد كانت.
وقال عبد الله بن عمر بن عبد العزيز ما قلب عمر بن عبد العزيز بصره إلى نعمة أنعم الله بها عليه إلا قال اللهم إني أعوذ بك أن أبدل نعمتك كفرا وأن أكفرها بعد أن عرفتها وأن أنساها ولا أثنى بها
وقال روح بن القاسم تنسك رجل فقال لا آكل الخبيص لا أقوم بشكره فقال الحسن هذا أحمق وهل يقوم بشكر الماء البارد
وفي بعض الآثار الإلهية يقول الله عز وجل:
"ابن آدم خيرى إليك نازل وشرك إلى صاعد أتحبب إليك بالنعم وتتبغض إلى بالمعاصي ولا يزال ملك كريم قد عرج إلى منك بعمل قبيح".
قال ابن أبي الدنيا حدثني أبو على قال كنت أسمع جارا لي يقول في الليل:
"يا إلهي خيرك على نازل وشري إليك صاعد كم من ملك كريم قد صعد إليك مني بعمل قبيح وأنت مع غناك عني تتحبب إلى بالنعم وأنا مع فقري إليك وفاقتي أتمقت إليك بالمعاصي وأنت في ذلك تجبرني وتسترني وترزقني وكان أبو المغيرة إذا قيل له كيف أصبحت يا أبا محمد أصبحنا مغرقين في النعم عاجزين عن الشكر يتحبب الينا ربنا وهو غني عنا ونتمقت إليه ونحن إليه محتاجون.
وقال عبد الله بن ثعلبة إلهي من كرمك أنك تطاع ولا تعصى، ومن حلمك أنك تعصى وكأنك لا ترى، وأي زمن لم يعصك فيه سكان أرضك وأنت بالخير عواد.
وكان معاوية بن قرة إذا لبس ثوبا جديدا قال: بسم الله والحمد لله.
وقال أنس بن مالك ما من عبد توكل بعبادة الله إلا عزم الله السماوات والأرض تعبر رزقه فجعله في أيدي بني آدم يعملونه حتى يدفع عنه إليه فإن العبد قبله أوجب عليه الشكر وأن أباه وجد الغني الحميد عبادا فقراء يأخذون رزقه ويشكرون له".
وقال يونس بن عبيد:
"قال رجل لأبي تميمة كيف أصبحت قال أصبحت بين نعمتين لا أدري أيتهما أفضل ذنوب سترها الله فلا يستطيع أن يعيرني بها أحد ومودة قذفها الله في قلوب العباد لا يبلغها عملي".
وروى ابن أبي الدنيا عن سعيد المقبري عن أبيه عن عبد الله بن سلام أن موسى عليه السلام قال:
"يارب ما الشكر الذي ينبغي لك؟
قال لا يزال لسانك رطبا من ذكري"
وروى سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال دعا رجل من الأنصار من أهل قباء النبي فانطلقنا معه فلما طعم وغسل يديه قال الحمد لله الذي يطعم ولا يطعم من علينا فهدانا وأطعمنا وسقانا وكل بلاء حسن أبلانا الحمد لله غير مودع ربى ولا مكافأ ولا مكفور ولا مستغنى عنه الحمد لله الذي أطعم من الطعام وسقى من الشراب وكسى من العرى وهدى من الضلالة وبصر من العمى وفضل على كثير من خلقه تفضيلا الحمد لله رب العالمين.
وفي مسند الحسن بن الصلاح من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله:
"ما أنعم الله على عبد نعمة في أهل ولا مال أو ولد فيقول ما شاء الله لا قوة إلا بالله فيرى فيه آفة دون الموت"
ويذكر عن عائشة رضي الله عنها أن النبي دخل عليها فرآى كسرة ملقاة فمسحها وقال "يا عائشة أحسني جوار نعم الله فإنها فلما نفرت عن أهل بيت فكادت أن ترجع إليهم"
ذكره ابن أبي الدنيا.
وقال الإمام أحمد حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا صالح عن أبي عمران الجوني عن أبي الخلد قال قرأت في مسألة داود أنه قال:
"يا رب كيف لي أن أشكر وأنا لا أصل إلى شكرك إلا بنعمك"
قال فأتاه الوحي:
"يا داود أليس تعلم أن الذي بك من النعم مني قال بلى يا رب قال فإني نرضى بذلك منك شكرا".
وقال عبد الله بن أحمد حدثنا أبو موسى الأنصاري حدثنا أبو الوليد عن سعيد ابن عبد العزيز قال كان من دعاء داود سبحان مستخرج الشكر بالعطاء ومستخرج الدعاء بالبلاء
وقال الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية حدثني الأعمش عن المنهال عن عبد الله بن الحارث قال أوحى الله إلى داود أحبني وأحب عبادتى وحببني إلى عبادي قال يا رب هذا حبك وحب عبادتك فكيف أحببك إلى عبادك قال تذكرني عندهم فإنهم لا يذكرون مني إلا الحسن فجل جلال ربنا وتبارك اسمه وتعالى جده وتقدست أسماؤه وجل ثناؤه ولا إله غيره
وقال أحمد حدثنا عبد الرزاق بن عمران قال سمعت وهبا يقول وجدت في كتاب آل داود بعزتي أن من اعتصم بي فإن كادته السماوات بمن فيهن والأرضون بمن فيهن فإني أجعل له من بين ذلك مخرجا ومن لم يعتصم بي فإني أقطع يديه من أسباب السماء وأخسف به من تحت قدميه الأرض فأجعله في الهواء ثم أكله إلى نفسه كفي بي لعبدي ما لا إذا كان عبدي في طاعتي أعطيته قبل أن يسألني وأجبته قبل أن يدعونى وإني أعلم بحاجته التي ترفق به من نفسه.
وقال أحمد حدثنا يسار حدثنا حفص حدثنا ثابت قال كان داود عليه السلام قد جزأ ساعات الليل والنهار على أهله فلم يكن ساعة من ليل أو نهار إلا وإنسان من آل داود قائم يصلى فيها قال فعمهم تبارك وتعالى في هذه الآية
﴿اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْرًا وقَلِيلٌ مِن عِبادِيَ الشَّكُورُ﴾قال أحمد وحدثنا جابر بن زيد عن المغيرة بن عيينة قال داود يا رب هل بات أحد من خلقك الليلة أطول ذكرا لك مني فأوحى الله إليه نعم الضفدع وأنزل الله عليه
﴿اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْرًا وقَلِيلٌ مِن عِبادِيَ الشَّكُورُ﴾ قال يا رب كيف أطيق شكرك وأنت الذي تنعم على ثم ترزقني على النعمة الشكر ثم تزيدني نعمة بعد نعمة فالنعم منك والشكر منك فكيف أطيق شكرك قال الآن عرفتني يا داود قال أحمد وحدثنا عبد الرحمن حدثنا الربيع بن صبيح عن الحسن قال نبي الله داود:
" إلهي لو أن لكل شعرة مني لسانين يسبحانك الليل والنهار والدهر ما وفيت حق نعمة واحدة".
وذكر ابن أبي الدنيا عن أبي عمران الجوني عن أبي الخلد قال قال موسى يا رب كيف لي أن أشكرك وأصغر نعمة وضعتها عندي من نعمك لا يجازى بها عملي كله قال فأتاه الوحي يا موسى الآن شكرتني
قال بكر بن عبد الله ما قال عبد قط الحمد لله إلا وجبت عليه نعمة بقوله الحمد لله فجزاء تلك النعمة أن يقول الحمد لله فجاءت نعمة أخرى فلا تنفد نعم الله
وقال الحسن سمع نبي الله رجلا يقول الحمد لله بالإسلام فقال انك لتحمد الله على نعمة عظيمة وقال خالد بن معدان سمعت عبد الملك بن مروان يقول:
"ما قال عبد كلمة أحب إلى الله وأبلغ في الشكر عنده من أن يقول الحمد لله الذي أنعم علينا وهدانا للإسلام".
وقال سليمان التيمى أن الله سبحانه أنعم على عبده على قدره وكلفهم الشكر على قدرتهم وكان الحسن إذا ابتدأ حديثه يقول الحمد لله اللهم ربنا لك الحمد بما خلقتنا ورزقتنا وهديتنا وعلمتنا وأنقذتنا وفرجت عنا لك الحمد بالإسلام والقرآن ولك الحمد بالأهل والمال والمعافاة كبت عدونا وبسطت رزقنا وأظهرت أمننا وجمعت فرقتنا وأحسنت معافاتنا ومن كل ما سألناك ربنا أعطيتنا فلك الحمد على ذلك حمدا كثيرا لك الحمد بكل نعمة أنعمت بها علينا في قديم أو حديث أو سر أو علانية أو خاصة أو عامة أو حي أو ميت أو شاهد أو غائب لك الحمد حتى ترضى ولك الحمد إذا رضيت
وقال الحسن قال موسى يا رب كيف يستطيع ابن آدم أن يؤدي شكر ما صنعت إليه خلقته بيدك ونفخت فيه من روحك وأسكنته جنتك وأمرت الملائكة فسجدوا له فقال يا موسى علم أن ذلك مني فحمدني عليه فكان ذلك شكر ما صنعت إليه وقال سعد بن مسعود الثقفي إنما سمى نوح عبدا شكورا لأنه لم يلبس جديدا ولم يأكل طعاما إلا حمد الله وكان على بن أبي طالب إذا خرج من الخلاء مسح بطنه بيده وقال يا لها من نعمة لو يعلم العباد شكرها
وقال مخلد بن الحسين كان يقال الشكر ترك المعاصي
وقال أبو حازم كان نعمة لا تقرب من الله فهى بلية وقال سليمان ذكر النعم يورث الحب لله وقال حماد بن زيد حدثنا ليث عن أبي بردة قال قدمت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام فقال لي ألا تدخل بيتا دخله النبي ونطعمك سويقا وتمرا ثم قال أن الله إذا جمع الناس غدا ذكرهم بما أنعم عليهم فيقول العبد ما آية ذلك فيقول آية ذلك انك كنت في كربة كذا وكذا قد دعوتنى فكشفتها وآية ذلك أنك كنت في سفر كذا وكذا فاستصحبتنى فصحبتك قال يذكره حتى يذكر فيقول آية ذلك أنك خطبت فلانة بنت فلان وخطبها معك خطاب فزوجتك ورددتهم يقف عبده بين يديه فيعدد عليه نعمه فبكى ثم بكى ثم قال إني لأرجو الله أن لا يقعد الله عبدا بين يديه فيعذبه
وروى ليث بن أبي سليم عن عثمان عن ابن سيرين عن أنس بن مالك قال قال رسول الله:
"يؤتى بالنعم يوم القيامة والحسنات والسيئات فيقول الله عز وجل لنعمة من نعمه خذى حقك من حسناته فما تترك له من حسنة إلا ذهبت بها".
وقال بكر بن عبد الله المزني ينزل بالعبد الأمر فيدعو الله فيصرف عنه فيأتيه الشيطان فيضعف شكره يقول أن الأمر كان أيسر مما تذهب إليه قال أو لا يقول العبد كان الأمر أشد مما أذهب إليه ولكن الله صرفه عني وذكر ابن أبي الدنيا عن صدقة بن يسار قال بينا داود عليه السلام في محرابه إذ مرت به ذره فنظر إليها وفكر في خلقها وعجب منها وقال ما يعبؤ الله بهذه فأنطقها الله فقالت يا داود أتعجبك نفسك فو الذي نفسي بيده لأنا على ما آتانى الله من فضله أشكر منك على ما آتاك الله من فضله
وقال أيوب أن من أعظم نعمة الله على عبده أن يكون مأمونا على ماجاء به النبي وقال سفيان الثوري كان يقال ليس بفقيه من لم يعد البلاء نعمة والرخاء معصيبة وقال زازان مما يجب لله على ذى النعمة بحق نعمته أن لا يتوصل بها إلى معصية قال ابن أبي الدنيا أنشدنى محمود الوراق:
إذا كان شكرى نعمة الله نعمة ∗∗∗ فكيف وقوع الشكر إلا بفضله
على له في مثلها يجب الشكر ∗∗∗ إذا مس بالسراء عم سرورها
وان طالت الايام واتصل العمر ∗∗∗ وما منهما إلا له فيه منة
وان مس بالضراء أعقبها الأجر ∗∗∗ تضيق بها الاوهام والبر والبحر
وقد روى الدراوردي عن عمرو بن أبي عمرو عن سعيد المقبرى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله يعني قال الله عز وجل:
"إن المؤمن عندي بمنزلة كل خير يحمدنى وأنا أنزع نفسه من بين جنبيه" ومر محمد بن المنكدر بشاب يغامز امرأة فقال يا فتى ما هذا جزاء نعم الله عليك وقال حماد بن سلمة عن ثابت قال قال أبو العاليه إني لأرجو أن لا يهلك عبد بين اثنتين نعمة يحمد الله عليها وذنب يستغفر منه
وكتب ابن السماك إلى محمد بن الحسن حين ولى القضاء بالرقة أما بعد فلتكن التقوى من بالك على كل حال وخف الله من كل نعمة أنعم بها عليك من قلة الشكر عليها مع المعصية بها فإن في النعم حجة وفيها تبعة فأما الحجة بها فالمعصية بها وأما التبعة فيها فقلة للشكر عليها فعفى الله عنك كلما ضيعت من شكر أو ركبت من ذنب أو قصرت من حق ومر الربيع بن أبي رأشد برجل به زمانة فجلس يحمد الله ويبكى قيل له ما يبكيك قال ذكرت أهل الجنة وأهل النار فشبهت أهل الجنة بأهل العافية وأهل النار بأهل البلاء فذلك الذي أبكانى
وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي:
"إذا أحب أحدكم أن يرى قدر نعمة الله عليه فلينظر إلي من تحته ولا ينظر إلي من فوقه" قال عبد الله بن المبارك أخبرني يحيى بن عبد الله قال سمعت أبي هريرة فذكره
وقال ابن المبارك حدثنا يزيد بن إبراهيم عن الحسن قال قال أبو الدرداء من لم يعرف نعمة الله عليه إلا في مطعمه ومشربه فقد قل عمله وحضر عذابه قال ابن المبارك أخبرنا مالك بن أنس عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس رضى الله قال سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه سلم على رجل فرد عليه السلام فقال عمر للرجل كيف أنت قال الرجل أحمد إليك الله قال هذا أردت منك قال ابن المبارك وأخبرنا مسعود عن علقمة بن مرقد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال لعلنا نلتقى في اليوم مرارا يسأل بعضنا عن بعض ولم يرد بذلك إلا ليحمد الله عز وجل وقال مجاهد في قوله تعالى
﴿وَأسْبَغَ عَلَيْكم نِعَمَهُ ظاهِرَةً وباطِنَةً﴾ قال لا إله إلا الله
وقال ابن عيينة ما أنعم الله على العباد نعمة أفضل من أن عرفهم لا إله إلا الله قال وأن لا إله إلا الله لهم في الآخرة كالماء في الدنيا وقال بعض السلف في خطبته يوم عيد أصبحتم زهرا وأصبح الناس غبرا أصبح الناس ينسجون وأنتم تلبسون وأصبح الناس يعطون وأنتم تأخذون وأصبح الناس ينتجون وأنتم تركبون وأصبح الناس يزرعون وأنتم تأكلون فبكى وأبكاهم
وقال عبد الله بن قرط الأزدي وكان من الصحابة على المنبر وكان يوم أضحى ورأى على الناس ألوان الثياب يا لها من نعمة ما أشبعها ومن كرامة ما أظهرها ما زال عن قوم شيئا أشد من نعمة لا يستطيعون ردها وإنما تثبت النعمة بشكر المنعم عليه للمنعم
وقال سلمان الفارسى رضي الله عنه أن رجلا بسط له من الدنيا فانتزع ما في يديه فجعل يحمد الله ويثنى عليه حتى لم يكن له فراش إلا بارية قال فجعل يحمد الله ويثنى عليه حتى لم يكن له فراش إلا بارية قال فجعل يحمد الله ويثني عليه وبسط لآخر من الدنيا فقال لصاحب البارية أرأيتك أنت على ما تحمد الله قال أحمده على ما لو أعطيت به ما أعطى الخلق لم أعطهم إياه قال وما ذاك قال أرأيتك بصرك أرأيتك لسانك أرأيتك يديك أرايتك رجليك وجاء رجل إلى يونس بن عبيد يشكو ضيق حاله فقال له يونس أيسرك ببصرك هذه مائة ألف درهم قال الرجل لا قال فبيديك مائه ألف قال لا فبرجليك مائة الف قال لا قال فذكره نعم الله عليه فقال يونس أرى عندك مئين الألوف وأنت تشكو الحاجة وكان ابو الدرداء يقول الصحة الملك
وقال جعفر بن محمد رضي الله عنه فقد أبي بغلة له فقال إن ردها الله عليَّ لأحمدنه بمحامد يرضاها فما لبث أن أتى بسرجها ولجامها فركبها فلما استوى عليها وضم إليه ثيابه رفع رأسه إلى السماء فقال الحمد لله لم يزد عليها.
فقيل له في ذلك فقال هل تركت وأبقيت شيئا جعلت الحمد كله لله.
وروى ابن أبي الدنيا من حديث سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة عن أبيه عن جده قال:
"بعث رسول الله بعثا من الأنصار وقال أن سلمهم الله وغنمهم فإن لله على في ذلك شكرا قال فلم يلبثوا أن غنموا وسلموا فقال بعض أصحابه سمعناك تقول أن سلمهم الله وغنمهم فإن لله على في ذلك شكرا قال قد فعلت اللهم لك الحمد شكرا ولك المن فضلا".
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال محمد بن المنكدر لأبي حازم يا أبا حازم ما أكثر من يلقانى فيدعو لي بالخير ما أعرفهم وما صنعت إليهم خيرا قط فقال أبو حازم لا تظن أن ذلك من قبلك ولكن انظر إلى الذي ذلك من قبله فاشكره وقرأ أبو عبد الرحمن
﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا﴾وقال علي بن الجعد حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون حدثني من أصدقه أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان يقول في دعائه "أسألك تمام النعمة في الأشياء كلها، والشكر لك عليها حتى ترضى، وبعد الرضا، والخيرة في جميع ما تكون فيه الخيرة، بجميع ميسر الأمور كلها، لا معسورها يا كريم.
وقال الحسن ما أنعم الله على عبد نعمة فقال الحمد لله إلا كان ما أعطى أكثر مما أخذ.
قال ابن أبي الدنيا وبلغني عن سفيان بن عيينة أنه قال هذا خطأ لا يكون فعل العبد أفضل من فعل الله ثم قال وقال بعض أهل العلم إنما تفسير هذا أن الرجل إذا أنعم الله عليه نعمة وهو ممن يجب عليه أن يحمده عرفه ما صنع به فيشكر الله كما ينبغي له أن يشكره فكان الحمد له أفضل
قلت لا يلزم الحسن ما ذكر عن ابن عيينة فإن قوله الحمد لله نعمة من نعم الله والنعمة التي حمد الله عليها أيضا نعمة من نعم الله وبعض النعم أجل من بعض فنعمة الشكر أجل من نعمة المال والجاه والولد والزوجة ونحوها والله أعلم وهذا لا يستلزم أن يكون فعل العبد أفضل من فعل الله وأن دل على أن فعل العبد للشكر قد يكون أفضل من بعض مفعول الله وفعل العبد هو مفعول الله ولا ريب أن بعض مفعولاته أفضل من بعض
وقال بعض أهل العلم لنعم الله علينا فيما زوى عنا من الدنيا أفضل من نعمه علينا فيما بسط لنا منها وذلك أن الله لم يرض لنبيه الدنيا فإن أكون فيما رضى الله لنبيه وأحب له أحب إلي من أن أكون فيما كره له وسخطه
وقال ابن أبي الدنيا بلغني عن بعض العلماء أنه قال ينبغي للعالم أن يحمد الله على ما زوى عنه من شهوات الدنيا كما يحمده على ما أعطاه وأين يقع ما أعطاه الله والحساب يأتي عليه إلى ما عافاه الله ولم يبتله به فيشغل قلبه ويتعب جوارحه فيشكر الله على سكون قلبه وجمع همه
وحدث عن ابن أبي الحوارى قال جلس فضيل بن عياض وسفيان بن عيينة ليلة إلى الصباح يتذاكران النعم فجعل سفيان يقول أنعم الله علينا في كذا وكذا أنعم الله علينا في كذا فعل بنا كذا وحدثنا عبد الله بن داود عن سفيان في قوله
﴿سَنَسْتَدْرِجُهم مِن حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ﴾قال يسبغ عليهم النعم ويمنعهم الشكر وقال غير سفيان كلما أحدثوا ذنبا أحدث لهم نعمة وسئل ثابت البنانى عن الاستدراج فقال ذلك مكر الله بالعباد المضيعين وقال يونس في تفسيرها أن العبد إذا كانت له عند الله منزلة فحفظها وبقى عليها ثم شكر الله بما أعطاه أعطاه أشرف منها وإذا هو ضيع الشكر استدرجه الله وكان تضييعه الشكر استدراجا وقال أبو حازم نعمة الله فيما زوى عني من الدنيا أعظم من نعمته فيما أعطاني منها إني رأيته أعطاها أقواما فهلكوا وكل نعمة لا تقرب من الله فهى بلية وإذا رأيت الله يتابع عليك نعمه وأنت تعصيه فاحذره
وذكر كاتب الليث عن هقل عن الأوزاعي أنه وعظهم فقال في موعظته أيها الناس تقووا بهذه النعم التي أصبحتم فيها على الهرب من نار الله الموقدة التي تتطلع على الأفئدة فإنكم في دار الثوى فيها قليل وأنتم فيها مرجون خلائف من بعد القرون الذين استقبلوا من الدنيا أنفعها وزهرتها فهم كانوا أطول منكم أعمارا وأمد أجساما وأعظم آثارا فقطعوا الجبال وجابوا الصخور ونقبوا في البلاد مؤيدين ببطش شديد وأجسام كالعماد فما لبثت الايام والليالي أن طوت مددهم وعفت آثارهم وأخوت منازلهم وأنست ذكرهم فما تحس منهم من أحد ولا تسمع لهم ركزا كانوا يلهون آمنين لبيات قوم غافلين أو لصباح قوم نادمين ثم إنكم قد علمتم الذي نزل بساحتهم بياتا من عقوبة الله فأصبح كثير منهم في دارهم جاثمين وأصبح الباقون ينظرون في آثارهم نقمة وزوال نعمة ومساكن خاويه فيها آية للذين يخافون العذاب الاليم وعبرة لمن يخشى وأصبحتم من بعدهم في أجل منقوص ودنيا مقبوضه وزمان قد ولى عفوه وذهب رخاؤه فلم يبق منه إلا حماة شر وصبابة كدر وأهاويل عبر وعقوبات غير وإرسال فتن وتتابع زلازل ورذلة خلف بهم ظهر الفساد في البر والبحر ولا تكونوا أشباها لمن خدعه الامل وغره طول الاجل وتبلغ بطول الأماني نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن وعى انذاره وعقل بشره فمهد لنفسه
وكان يقال الشكر ترك المعصية
وقال ابن المبارك قال سفيان ليس بفقيه فمن لم يعد البلاء نعمه والرخاء مصيبة وكان مروان بن الحكم إذا ذكر الإسلام قال بنعمة ربى وصلت إليه لا بما قدمت يدى ولا بإرادتي إني كنت خاطئا
وكم من مدخل لو مت فيه ∗∗∗ لكنت فيه نكالا في العشيرة
وقيت السوء والمكروه فيه ∗∗∗ وظفرت بنعمة منه كبيرة
وكم من نعمة لله تمسى ∗∗∗ وتصبح في العيان وفي السريرة
ودعى عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى قوم على ريبة فانطلق ليأخذهم فتفرقوا قبل أن يبلغهم فأعتق رقبة شكرا لله أن لا يكون جرى على يديه خزى مسلم قال يزيد بن هرون أخبرنا أصبغ بن يزيد أن نوحا عليه السلام كان إذا خرج من الخلاء قال الحمد لله الذي أذاقني لذته وأبقى منفته في جسدي وأذهب عني أذاه فسمى عبدا شكورا.
وقال ابن أبي الدنيا حدثني العباس بن جعفر عن الحارث بن شبل قال حدثتنا أم النعمان أن عائشة حدثتها عن النبي أنه لم يقم عن خلاء قط إلا قاله وقال رجل لأبي حازم ما شكر العينين يا أبا حازم قال أن رأيت بهما خيرا أعلنته وأن رأيت بهما شرا سترته قال فما شكر الاذنين قال أن سمعت بهما خيرا وعيته وأن سمعت بهما شرا دفعته قال فما شكر اليدين قال لا تأخذ بهما ما ليس لهما ولا تمنع حقا لله هو فيهما قال فما شكر البطن قال أن يكون أسفله طعاما وأعلاه علما قال فما شكر الفرج قال قال الله
﴿والَّذِينَ هم لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إلاَّ عَلى أزْواجِهِمْ أوْ ما مَلَكَتْ أيْمانُهم فَإنَّهم غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى وراءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ العادُونَ﴾قال فما شكر الرجلين قال أن علمت ميتا تغبطه استعملت بهما عمله وأن مقته رغبت عن عمله وأنت شاكر لله
وأما من شكر بلسانه ولم يشكر بجميع أعضائه فمثله كمثل رجل له كساء فأخذ بطرفه ولم يلبسه فما ينفعه ذلك من الحر والبرد والثلج والمطر
وذكر عبد الله بن المبارك أن النجاشي أرسل ذات يوم إلى جعفر وأصحابه فدخلوا عليه وهو في بيت عليه خلقان جالس على التراب قال جعفر فأشفقنا منه حين رأيناه على تلك الحال فلما رأى ما في وجوهنا قال إني أبشركم بما يسركم إنه جاءنى من نحو أرضكم عين لي فأخبرني أن الله قد نصر نبيه وأهلك عدوه وأسر فلان وفلان وقتل فلان وفلان التقوا بواد يقال له بدر كثير الاراك كأنى أنظر إليه كنت أرعى به لسيدى رجل من بني ضمرة فقال له جعفر ما بالك جالسا على التراب ليس تحتك بساط وعليك هذه الاخلاق قال إنا نجد فيما أنزل الله على عيسى عليه السلام أن حقا على عباد الله أن يحدثوا لله تواضعا عندما أحدث الله لهم من نعمه فلما أحدث الله لي نصر نبيه أحدثت لله هذا التواضع
وقال حبيب بن عبيد ما ابتلى الله عبدا ببلاء إلا كان له عليه فيه نعمة ألا يكون أشد منه وقال عبد الملك بن إسحاق ما من الناس إلا مبتلى بعافية لينظر كيف شكره أو بلية لينظر كيف صبره
وقال سفيان الثوري لقد أنعم الله على عبد في حاجة أكثر من تضرعه إليه فيها وكان رسول الله إذا جاءه أمر يسره خر لله ساجدا شكرا له عز وجل ذكره أحمد وقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه:
"خرج علينا النبي فتوجه نحو صدقته فدخل فاستقبل القبلة فخر ساجدا فأطال السجود فقلت يا رسول الله سجدت سجدة حسبت أن يكون الله قد قبض نفسك فيها فقال أن جبريل أتانى فبشرني أن الله عز وجل يقول لك من صلى عليك صليت عليه ومن سلم عليك سلمت عليه فسجدت لله شكرا" ذكره أحمد
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال خرجنا مع النبي من مكة نريد المدينة فلما كنا قريبا من عزور نزل ثم رفع يديه ودعا الله ساعة ثم خر ساجدا فمكث طويلا ثم قام فرفع يديه ساعة ثم خر ساجدا فعله ثلاثا وقال إني سألت ربى وشفعت لأمتي فأعطاني ثلث أمتي فخررت ساجدا شكرا لربي ثم رفعت رأسى فسألت ربى لأمتي فأعطاني ثلث أمتي فخررت ساجدا لربي ثم رفعت رأسى فسألت ربى ربى فأعطاني الثلث الآخر فخررت ساجدا لربي رواه أبو داود
وذكر محمد بن إسحاق في كتاب الفتوح قال لما جاء المبشر يوم بدر بقتل أبي جهل استحلفه رسول الله ثلاثة أيمان بالله الذي لا إله إلا هو لقد رأيته قتيلا فحلف له فخر رسول الله ساجدا.
وذكر سعيد بن منصور أن أبي بكر الصديق رضي الله عنه سجد حين جاءه قتل مسيلمة وذكر أحمد أن عليا رضي الله عنه سجد حين وجد ذا الثدية في الخوارج وسجد كعب بن مالك في عهد النبي لما بشر بتوبة الله عليه والقصة في الصحيحين
فإن قيل فنعم الله دائما مستمرة على العبد فما الذي اقتضى تخصيص النعمة الحادثة بالشكر دون الدائمة وقد تكون المستدامة أعظم؟
قيل الجواب من وجوه:
أحدها أن النعمة المتجددة تذكر بالمستدامة والإنسان موكل بالأدنى
الثاني أن هذه النعمة المتجددة تستدعي عبودية مجددة وكان أسهلها على الإنسان وأحبها إلى الله السجود شكرا له
الثالث أن المتجددة لها وقع في النفوس والقلوب بها أعلق ولهذا يهنى بها ويعزى بفقدها
الرابع أن حدوث النعم توجب فرح النفس وانبساطها وكثيرا ما يجر ذلك إلى الأشر والبطر والسجود ذل لله وعبودية وخضوع فإذا تلقى به نعمته لسروره وفرح النفس وانبساطها فكان جديرا بدوام تلك النعمة وإذا تلقاها بالفرح الذي لا يحبه الله والاشر والبطر كما يفعله الجهال عندما يحدث الله لهم من النعم كانت سريعة الزوال وشيكة الانتقال وانقلبت نقمة وعادت استدراجا وقد تقدم أمر النجاشي فإن الله إذا احدث لعبده نعمة أحب أن يحدث لها تواضعا وقال العلاء بن المغيرة بشرت الحسن بموت الحجاج وهو مختف فخر لله ساجدا.
* (فصل)
ومن دقيق نعم الله على العبد التي لا يكاد يفطن لها أنه يغلق عليه بابه فيرسل الله إليه من يطرق عليه الباب يسأله شيئا من القوت ليعرفه نعمته عليه.
وقال سلام بن أبي مطيع دخلت على مريض أعوده فإذا هو يئن
فقلت له أذكر المطروحين على الطريق أذكر الذين لا مأوى لهم ولا لهم من يخدمهم قال ثم دخلت عليه بعد ذلك فسمعته يقول لنفسه اذكري المطروحين في الطريق اذكري من لا مأوى له ولا له من يخدمه
وقال عبد الله بن أبي نوح قال لي رجل على بعض السواحل كم عاملته تبارك اسمه بما يكره فعاملك بما تحب؟
قلت ما أحصى ذلك كثرة قال فهل قصدت إليه في أمر كربك فخذلك؟
قلت لا والله ولكنه أحسن إلى وأعاننى قال فهل سألته شيئا فلم يعطكه؟
قلت وهل منعني شيئا سألته ما سألته شيئا قط إلا أعطاني ولا استعنت به إلا أعاننى قال أرأيت لو أن بعض بني آدم فعل بك بعض هذه الخلال ما كان جزاؤه عندك قلت ما كنت أقدر له مكافأة ولا جزاء قال فربك أحق وأحرى أن تدأب نفسك له في أداء شكره وهو المحسن قديما وحديثا إليك والله لشكره أيسر من مكافأة عباده إنه تبارك وتعالى رضى من العباد بالحمد شكرا وقال سفيان الثوري ما كان الله لينعم على عبد في الدنيا فيفضحه في الآخرة ويحق على المنعم أن يتم النعمة على من أنعم عليه
وقال ابن أبي الحوارى قلت لأبي معاوية ما أعظم النعمة علينا في التوحيد نسأل الله أن لا يسلبنا إياه قال يحق على المنعم أن يتم النعمة على من أنعم عليه والله أكرم من أن ينعم بنعمة إلا أتمها ويستعمل بعمل إلا قبله
وقال ابن أبي الحوارى قالت لي امرأة أنا في بيتى قد شغل قلبى قلت وما هو قالت أريد أن أعرف نعم الله على في طرفة عين أو أعرف تقصيرى عن شكر النعمة على في طرفة عين قلت تريدين ما لا تهتدى إليه عقولنا
وقال ابن زيد إنه ليكون في المجلس الرجل الواحد يحمد الله عز وجل فيقضى لذلك المجلس حوائجهم كلهم
قال وفي بعض الكتب التي أنزلها الله تعالى أنه قال:
"سروا عبدي المؤمن فكان لا يأتيه شيء إلا قال الحمد لله ما شاء الله قال روعوا عبدي المؤمن فكان لا يطلع عليه طليعة من طلائع المكروه إلا قال الحمد لله الحمد لله فقال الله تبارك وتعالى أن عبدي يحمدنى حين روعته كما يحمدنى حين سررته أدخلوا عبدي دار عزى كما يحمدنى على كل حالاته".
وقال وهب عبد الله عابد خمسين عاما فأوحى الله إليه إني قد غفرت لك قال أي رب وما تغفر لي ولم أذنب فأذن الله لعرق في عنقه يضرب عليه فلم ينم ولم يصل ثم سكن فنام ثم أتاه ملك فشكا إليه فقال ما لقيت من ضربان العرق فقال الملك أن ربك يقول أن عبادتك خمسين سنة تعدل سكون العرق
وذكر ابن أبي الدنيا أن داود قال يارب أخبرني ما أدنى نعمك على فأوحى الله إليه يا داود تنفس فتنفس قال هذا أدنى نعمى عليك
* فصل: وبهذا يتبين معنى الحديث الذي رواه أبو داود من حديث زيد ابن ثابت وابن عباس "إن الله لو عذب اهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو عير ظالم لهم ولو رحمهم لكانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم" والحديث الذي في الصحيح "لن ينجي أحدا منكم عمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدنى الله برحمة منه وفضل فإن أعمال العبد لا توافي نعمة من نعم الله عليه".أما قول بعض الفقهاء أن من حلف أن يحمد الله بأفضل أنواع الحمد كان بر يمينه أن يقول الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده
فهذا ليس بحديث عن رسول الله ولا عن أحد من الصحابة وإنما هو إسرائيلى عن آدم وأصح منه الحمد لله غير مكفي ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا ولا يمكن حمد العبد وشكره أن يوافي نعمة من نعم الله فضلا عن موافاته جميع نعمه ولا يكون فعل العبد وحمده مكافئا للمزيد ولكن يحمل على وجه يصح وهو أن الذي يستحقه الله سبحانه من الحمد حمدا يكون موافيا لنعمه ومكافئا لمزيده وأن لم يقدر العبد أن يأتي به كما إذا قال الحمد لله ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد وعدد الرمال والتراب والحصى والقطر وعدد أنفاس الخلائق وعدد ما خلق الله وما هو خالق فهذا أخبار عما يستحقه من الحمد لا عما يقع من العبد من الحمد.
* (فصل)
وقال أبو المليح قال موسى يا رب ما أفضل الشكر؟
قال أن تشكرني على كل حال وقال بكر بن عبد الله قلت لأخ لي أوصنى فقال ما أدرى ما أقول غير أنه ينبغي لهذا العبد أن لا يفتر من الحمد والاستغفار فإن ابن آدم بين نعمة وذنب ولا تصلح النعمة إلا بالحمد والشكر ولا يصلح الذنب إلا بالتوبة والاستغفار فأوسعنى علما ما شئت
وقال عبد العزيز بن أبي داود رأيت في يد محمد بن واسع قرحة فكأنه رأى ما شق على منها فقال لي أتدرى ماذا لله على في هذه القرحة من نعمة حين لم يجعلها في حدقتى ولا طرف لساني ولا على طرف ذكرتى فهانت على قرحته
وروى الجريري عن أبي الورد عن الحلاج عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله أتى على رجل وهو يقول:
" اللهم إني أسألك تمام النعمة فقال ابن آدم هل تدرى ما تمام النعمة قال يارسول الله دعوت دعوة أرجو بها الخير فقال أن تمام النعمة فوز من النار ودخول في الجنة".
وقال سهم بن سلمة حدثت أن الرجل إذا ذكر اسم الله على أول طعامه وحمده على آخره لم يسأل عن نعيم ذلك الطعام
* (فصل)
ويدل على فضل الشكر على الصبر أن الله سبحانه يحب أن يسأل العافية وما يسأل شيئا أحب إليه من العافية كما في المسند عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قام أبو بكر رضي الله عنه على المنبر ثم قال:
"سلوا الله العافية فإنه لم يعط عبدا بعد اليقين خيرا من العافية".
وفي حديث آخر إن الناس لم يعطوا في هذه الدنيا شيئا أفضل من العفو والعافية فسلوهما الله عز وجل وقال لعمه العباس يا عم أكثر من الدعاء بالعافية وفي الترمذي قلت يا رسول الله علمني شيئا أسأله الله قال سل الله العافية فمكثت أياما ثم جئت فقلت علمني شيئا أسأله الله فقال لي يا عباس يا عم رسول الله سل الله العافية في الدنيا والآخرة وقال في دعائه يوم الطائف أن لم يكن بك على غضب فلا أبالي غير أن عافيتك أوسع لي فلاذ بعافيته كما استعاذ بها في قوله أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك
وفي حديث آخر "سلوا الله العفو والعافية والمعافاة" وهذا السؤال يتضمن العفو عما مضى والعافية في الحال والمعافاة في المستقبل بدوام العافية واستمرارها وكان عبد الأعلى التيمى يقول أكثروا من سؤال الله العافية فإن المبتلى وأن اشتد بلاؤه ليس بأحق بالدعاء من المعافي الذي لا يأمن البلاء وما المبتلون اليوم إلا من أهل العافية بالأمس وما المبتلون بعد اليوم إلا من أهل العافية اليوم ولو كان البلاء يجر إلى خير ما كنا من رجال البلاء إنه رب بلاء قد أجهد في الدنيا وأخزى في الآخرة فما يؤمن من أطال المقام على معصية الله أن يكون قد بقي له في بقية عمره من البلاء ما يجهده في الدنيا ويفضحه في الآخرة ثم يقول بعد ذلك الحمد لله الذي إن نعد نعمه لا نحصيها وإن ندأب له عملا لا نجزيها وإن نعمر فيها لا نيليها ومر رسول الله برجل يسأل الله الصبر فقال لقد سألت البلاء فاسأل العافية وفي صحيح مسلم أنه عاد رجلا قد هفت أي هزل فصار مثل الفرخ فقال هل كنت تدعو الله بشيء أو تسأله إياه قال نعم كنت أقول اللهم ما كنت معاقبني به في الآخرة فعجله لي في الدنيا فقال رسول الله سبحانه لا تطيقه ولا تستطيعه أفلا قلت اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار فدعا الله له فشفاه وفي الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال دعاء حفظته من رسول الله لا أدعه:
"اللهم اجعلني أعظم شكرك وأكثر ذكرك وأتبع نصيحتك وأحفظ وصيتك".
وقال شيبان كان الحسن إذا جلس مجلسا يقول لك الحمد بالإسلام ولك الحمد بالقرآن ولك الحمد بالأهل والمال بسطت رزقنا وأظهرت أمننا وأحسنت معافاتنا ومن كل ما سألناك أعطيتنا فلك الحمد كثيرا كما تنعم كثيرا أعطيت خيرا كثيرا وصرفت شرا كثيرا فلوجهك الجليل الباقي الدايم الحمد.
وكان بعض السلف يقول اللهم ما أصبح بنا من نعمة أو عافية أو كرامة في دين أو دنيا جرت علينا فيما مضى وهي جارية علينا فيما بقي فإنها منك وحدك لا شريك لك فلك الحمد بذلك علينا ولك المن ولك الفضل ولك الحمد عدد ما أنعمت به علينا وعلى جميع خلقك لا إله إلا أنت.
وقال مجاهد إذا كان ابن عمر في سفر فطلع الفجر رفع صوته ونادى سمع سامع بحمد الله ونعمه وحسن بلائه علينا ثلاثا اللهم صاحبنا فأفضل علينا عائذ بالله من النار ولا حول ولا قوة إلا بالله ثلاثا
وذكر الإمام أحمد أن الله سبحانه أوحى إلى موسى بن عمران عليه السلام يا موسى كن يقظان مرتادا لنفسك أخدانا وكل خدن لا يواتيك على مسرتى فلا تصحبه فإنه عدو لك وهو يقسى قلبك وأكثر من ذكري حتى تستوجب الشكر وتستكمل المزيد
وقال الحسن خلق الله آدم حين خلقه فأخرج أهل الجنة من صفحته اليمني وأخرج أهل النار من صفحته اليسرى فدبوا على وجه الأرض منهم الأعمى والأصم والمبتلى فقال آدم يا رب إلا سويت بين ولدي قال يا آدم إني أريد أن أشكر
وفي السنن عنه من قال حين يصبح:
"اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك فلك الحمد ولك الشكر إلا أدى شكر ذلك اليوم ومن قال ذلك حين يمسى فقد أدى شكر ليلته" ويذكر عن النبي من ابتلى فصبر وأعطى فشكر وظلم فغفر وظلم فاستغفر أولئك لهم الامن وهم مهتدون ويذكر عنه أنه أوصى رجلا بثلاث فقال أكثر من ذكر الموت يشغلك عما سواه وعليك بالدعاء فإنك لا تدرى متى يستجاب لك وعليك بالشكر فإن الشكر زيادة
ويذكر عنه أنه كان إذا أكل قال:
"الحمد لله الذي أطعمني وسقانى وهدانى وكل بلاء حسن أبلانى الحمد لله الرازق ذى القوة المتين اللهم لا تنزع منا صالحا أعطيتنا ولا صالحا رزقتنا واجعلنا لك من الشاكرين"
ويذكر عنه أنه إذا أكل قال:
"الحمد لله الذي أطعم وسقى وسوغه وجعل له مخرجا" وكان عروة بن الزبير إذا أتى بطعام لم يزل مخمرا حتى يقول هذه الكلمات:
"الحمد لله الذي هدانا وأطعمنا وسقانا ونعمنا الله أكبر اللهم ألفتنا نعمتك ونحن بكل شر فأصبحنا وأمسينا بخير نسألك تمامها وشكرها لا خير إلا خيرك ولا إله غيرك إله الصالحين ورب العالمين الحمد لله لا إله إلا الله ما شاء الله لا قوة إلا بالله اللهم بارك لنا فيما رزقتنا وقنا عذاب النار".
وقال وهب بن منبه رءوس النعم ثلاثة فأولها نعمة الإسلام التي لا تتم نعمه إلا بها
والثانية نعمة العافية التي لا تطيب الحياة إلا بها
والثالثة نعمة الغنى التي لا يتم العيش إلا به
وقدم سعيد الجريري من الحج فجعل يقول:
"أنعم الله علينا في سفرنا بكذا وكذا ثم قال تعداد النعم من الشكر" ومر وهب بمبتلى أعمى مجذوم مقعد عريان به وضح وهو يقول "الحمد لله على نعمه فقال رجل كان مع وهب أي شيء بقي عليك من النعمة تحمد الله عليها فقال له المبتلى ارم ببصرك إلى أهل المدينة فانظر إلى كثرة أهلها أفلا أحمد الله أنه ليس فيها أحد يعرفه غيرى".
ويذكر عن النبي أنه قال:
"إذا أنعم الله على عبد نعمة فحمده عندها فقد أدى شكرها"
وذكر على بن أبي طالب رضي الله عنه أن بختنصر أتى بدانيال فأمر به فحبس في جب وأضرى أسدين ثم خلى بينهما وبينه ثم فتح عليه بعد خمسة أيام فوجده قائما يصلى والأسدان في ناحية الجب لم يعرضا له فقال له ما قلت حين دفع عليك قال قلت الحمد لله الذي لا ينسى من ذكره والحمد الله الذي لا يخيب من رجاه، والحمد لله الذي لا يكل من توكل عليه إلى غيره والحمد لله الذي هو ثقتنا حين تنقطع عنا الحيل والحمد لله الذي هو رجاؤنا حين يسوء ظننا بأعمالنا والحمد لله الذي يكشف عنا ضرنا بعد كربتنا والحمد لله الذي يجزي بالإحسان إحسانا، والحمد لله الذي يجزي بالصبر نجاة.
ويذكر عنه أنه كان إذا نظر في المرآة قال:
"الحمد لله الذي أحسن خلْقي وخلُقي وزان مني ما شان من غيري"
وقال ابن سيرين:
"كان ابن عمر يكثر النظر في المرآة وتكون معه في الاسفار فقلت له ولم قال أنظر فما كان في وجهى زين فهو في وجه غيرى شين أحمد الله عليه" وسئل أبو بكر بن أبي مريم ما تمام النعمة قال أن تضع رجلا على الصراط ورجلا في الجنة
وقال بكر بن عبد الله: يا ابن آدم إن أردت أن تعرف قدر ما أنعم الله عليك فغمض عينيك
وقال مقاتل في قوله
﴿وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة﴾قال أما الظاهرة فالإسلام وأما الباطنة فستره عليكم بالمعاصي
وقال ابن شوذب قال عبد الله يعني ابن مسعود رضي الله عنه "إن لله على أهل النار منة لو شاء أن يعذبهم بأشد من النار لعذبهم"
وقال أبو سليمان الدارانى جلساء الرحمن يوم القيامة من جعل فيه خصالا الكرم والسخاء والحلم والرأفة والرحمة والشكر والبر والصبر وقال أبو هريرة رضي الله عنه من رأى صاحب بلاء فقال الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به وفضلني عليك وعلى جميع خلقه تفضيلا فقد أدى شكر تلك النعمة وقال عبد الله بن وهب سمعت عبد الرحمن بن زيد يقول الشكر يأخذ بجذم الحمد وأصله وفرعه قال ينظر في نعم الله في بدنه وسمعه وبصره ويديه ورجليه وغير ذلك ليس من هذا شيء إلا فيه نعمه من الله حق على العبد أن يعمل في النعمة التي هي في بدنه لله في طاعته ونعمة أخرى في الرزق وحق عليه أن يعمل لله فيما أنعم عليه به من الرزق بطاعته فمن عمل بهذا كان قد أخذ يجذم الشكر وأصله وفرعه
وقال كعب:
"ما أنعم الله على عبد من نعمة في الدنيا فشكرها لله وتواضع بها لله إلا أعطاه الله نفعها في الدنيا ورفع له بها درجة في الأخرى وما أنعم الله على عبد نعمة في الدنيا فلم يشكرها لله ولم يتواضع بها إلا منعه الله نفعها في الدنيا وفتح له طبقات من النار يعذبه إن شاء أو يتجاوز عنه".
وقال الحسن من لا يرى لله عليه نعمة إلا في مطعم أو مشرب أو لباس فقد قصر علمه وحضر عذابه
وقال الحسن يوما لبكر المزني هات يا أبا عبد الله دعوات لإخوانك فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي ثم قال والله ما أدرى أي النعمتين أفضل على وعليكم أنعمة المسلك أم نعمة المخرج إذا أخرجه منا قال الحسن إنها لمن نعمة الطعام
وقالت عائشة رضي الله عنها ما من عبد يشرب الماء القراح فيدخل بغير أذى ويخرج الاذى إلا وجب عليه الشكر قال الحسن يالها من نعمة تدخل كل لذة وتخرج مسرخا لقد كان ملك من ملوك هذه القرية يرى الغلام من غلمانه يأتي الحب فيكتال منه ثم يجرجر قائما فيقول يا ليتنى مثلك ما يشرب حتى يقطع عنه العطش فإذا شرب كان له في تلك الشربة موتات يا لها من نعمة
وكتب بعض العلماء إلى أخ له أما بعد فقد أصبح بنا من نعم الله ما لا نحصيه مع كثرة ما نعصيه فما يدرى أيهما نشكر أجميل ما يسر أم قبيح ما ستر وقيل للحسن ها هنا رجل لا يجالس الناس فجاء إليه فسأله عن ذلك فقال إني أمسى وأصبح بين ذنب ونعمة فرأيت أن أشغل نفسي عن الناس بالاستغفار من الذنب والشكر لله على النعمة فقال له الحسن أنت عندي يا عبد الله أفقه من الحسن فالزم ما أنت عليه
وقال ابن المبارك سمعت عليا بن صالح يقول في قوله تعالى
﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ﴾قال أي من طاعتي.
والتحقيق أن الزيادة من النعم وطاعته من أجل نعمه.
وذكر أبن أبي الدنيا أن محارب بن دثار كان يقوم بالليل ويرفع صوته أحيانا أنا الصغير الذي ربيته فلك الحمد، وأنا الضعيف الذي قويته فلك الحمد وأنا الفقير الذي أغنيته فلك الحمد وأنا الصعلوك الذي مولته فلك الحمد وأنا العزب الذي زوجته فلك الحمد وأنا الساغب الذي أشبعته فلك الحمد وأنا العارى الذي كسوته فلك الحمد وأنا المسافر الذي صاحبته فلك الحمد وأنا الغائب الذي رددته فلك الحمد وأنا الراجل الذي حملته فلك الحمد وأنا المريض الذي شفيته فلك الحمد وأنا السائل الذي أعطيته فلك الحمد وأنا الداعي الذي أجبته فلك الحمد ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا.
وكان بعض الخطباء يقول في خطبته اختط لك الأنف فأقامه وأتمه فأحسن تمامه ثم أدار منك الحدقة فجعلها بجفون مطبقه وبأشفار معلقه ونقلك من طبقة إلى طبقه وحنن عليك قلب الوالدين برقة ومقة فنعمه عليك مورقة وأياديه بك محدقة
وكان بعض العلماء يقول في قوله تعالى
﴿وَإنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها﴾سبحان من لم يجعل لحد معرفة نعمه إلا العلم بالتقصير عن معرفتها، كما لم يجعل لحد إدراكه أكثر من العلم أنه لا يدرك فجعل معرفة نعمه بالتقصير عن معرفتها شكرا، كما شكر علم العالمين أنهم لا يدركونه فجعله إيمانا علما منه أن العباد لا يتجاوزون ذلك
وقال عبد الله بن المبارك أخبرنا مثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال سمعت رسول الله يقول خصلتان من كانتا فيه كتبه الله صابرا شاكرا ومن لم يكونا فيه لم يكتبه الله صابرا شاكرا من نظر في دينه إلي من هو فوقه فاقتدى به، ومن نظر في دنياه إلي من هو دونه.
فحمد الله على ما فضله به عليه كتبه الله صابرا شاكرا ومن نظر في دينه إلي من هو دونه ونظر في دنياه إلي من هو فوقه فأسف على ما فاته منه لم يكتبه الله صابرا شاكرا.
وبهذا الإسناد عن عبد الله ابن عمرو موقوفا عليه أربع خصال من كن فيه بني الله له بيتا في الجنة من كان عصمة أمره لا إله إلا الله وإذا أصابته مصيبه قال إنا لله وإنا إليه راجعون وإذا أعطى شيئا قال الحمد لله وإذا أذنب قال استغفر الله
وقال ابن المبارك عن شبل عن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى
﴿إنَّهُ كانَ عَبْدًا شَكُورًا﴾قال لم يأكل شيئا إلا حمد الله عليه ولم يشرب شرابا قط إلا حمد الله عليه ولم يبطش بشيء قط إلا حمد الله عليه فأثنى الله عليه إنه كان عبدا شكورا وقال محمد بن كعب كان نوح إذا أكل قال الحمد لله وإذا شرب قال الحمد لله وإذا لبس قال الحمد لله وإذا ركب قال الحمد لله فسماه الله عبدا شكورا
وقال ابن أبي الدنيا بلغني عن بعض الحكماء قال لو لم يعذب الله على معصيته لكان ينبغي أن لا يعصى لشكر نعمته.
* (فصل)
ولله تبارك وتعالى على عبده نوعان من الحقوق لا ينفك عنهما:
أحدهما أمره ونهيه اللذين هما محض حقه عليه.
والثاني شكر نعمه التي أنعم بها عليه فهو سبحانه يطالبه بشكر نعمه وبالقيام بأمره فمشهد الواجب عليه لا يزال يشهده تقصيره وتفريطه وأنه محتاج إلى عفو الله ومغفرته فإن لم يداركه بذلك هلك وكلما كان أفقه في دين الله كان شهوده للواجب عليه أتم وشهوده لتقصيره أعظم وليس الدين بمجرد ترك المحرمات الظاهرة بل بالقيام مع ذلك بالأوامر المحبوبة لله وأكثر الديانين لا يعبأون منها إلا بما شاركهم فيه عموم الناس.
وأما الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحه لله ورسوله وعباده ونصرة الله ورسوله ودينه وكتابه فهذه الواجبات لا تخطر ببالهم فضلا عن أن يريدوا فعلها وفضلا عن أن يفعلوها وأقل الناس دينا وأمقتهم إلى الله من ترك هذه الواجبات وإن زهد في الدنيا جميعها وقل أن ترى منهم من يحمر وجهه ويمعره لله ويغضب لحرماته ويبذل عرضه في نصرة دينه وأصحاب الكبائر أحسن حالا عند الله من هؤلاء وقد ذكر أبو عمر وغيره أن الله تعالى أمر ملكا من الملائكة أن يخسف بقرية فقال يا رب أن فيهم فلانا العابد الزاهد قال به فابدأ وأسمعنى صوته إنه لم يتمعر وجهه في يوم قط.
* (فصل)
وأما شهود النعمة فإنه لا يدع له رؤية حسنة من حسناته أصلا ولو عمل أعمال الثقلين فإن نعم الله سبحانه أكثر من أعماله وأدنى نعمه من نعمه تستنفذ عمله فينبغي للعبد ألا يزال ينظر في حق الله عليه
قال الإمام أحمد حدثنا حجاج حدثنا جرير بن حازم عن وهب قال بلغني أن نبي الله موسى عليه السلام مر برجل يدعو ويتضرع فقال يا رب ارحمه فإني قد رحمته فأوحى الله إليه لو دعانى حتى تنقطع قواه ما استجبت له حتى ينظر في حقى عليه
فمشاهدة العبد النعمه والواجب لا تدع له حسنة يراها ولا يزال مزريا على نفسه ذاما لها وما اقربه من الرحمه إذا أعطى هذين المشهدين حقهما والله المستعان.
* (فصل: في الحكم بين الفريقين والفصل بين الطائفتين)
فنقول كل أمرين طلبت الموازنة بينهما ومعرفة الراجح منهما على المرجوح فإن ذلك لا يمكن إلا بعد معرفة كل منهما وقد ذكرنا حقيقة الصبر وأقسامه وأنواعه ونذكر حقيقة الشكر وماهيته
قال في الصحاح الشكر الثناء على المحسن بما أولاكه من المعروف
يقال شكرته وشكرت له واللام أفصح وقوله تعالى
﴿لا نُرِيدُ مِنكم جَزاءً ولا شُكُورًا﴾يحتمل أن يكون مصدرا كالقعود وأن يكون جميعا كالبرود والكفور والشكران خلاف الكفران وتشكرت له مثل شكرت له والشكور من الدواب ما يكفيه العلف القليل واشتكرت السماء اشتد وقع مطرها واشتكر الضرع امتلأ لبنا تقول منه شكرت الناقة بالكسر تشكر شكرا فهى شكرة وشكرت الشجرة تشكر شكرا إذا خرج منها الشكير وهو ما ينبت حول الشجرة من أصلها
فتأمل هذا الاشتقاق وطابق بينه وبين الشكر المأمور به وبين الشكر الذي هو جزاء الرب الشكور كيف تجد في الجميع معنى الزيادة والنماء ويقال أيضا دابة شكور إذا أظهرت من السمن فوق ما تعطى من العلف
وشكر العبد يدور على ثلاثة أركان لا يكون شكورا إلا بمجموعها أحدها اعترافه بنعمة الله عليه والثاني الثناء عليه بها والثالث الاستعانة بها على مرضاته
وأما قول الناس في الشكر فقالت طائفة هو الاعتراف بنعمه المنعم على وجه الخضوع وقيل الشكر هو الثناء على المحسن بذكر إحسانه إليه فشكر العبد ثناؤه عليه بذكر إحسانه إليه وقيل شكر النعمة مشاهدة المنة وحفظ الحرمة والقيام بالحدمة وقيل شكر النعمة أن ترى نفسك فيها طفيليا وقيل الشكر معرفه العجز عن الشكر ويقال الشكر على الشكر أتم من الشكر وذلك أن ترى شكرك بتوفيقه وذلك التوفيق من أجل النعم عليك تشكر على الشكر ثم تشكره على الشكر إلا ترى نفسك للنعمه أهلا وقيل الشكر استفراغ الطاقه في الطاعه وقيل الشاكر الذي يشكر على الموجود والشكور الذي يشكر على المفقود وقيل الشاكر الذي يشكر على الرفد والشكور الذي يشكر على الرد وقيل الشاكر الذي يشكر على النفع والشكور الذي يشكر على المنع وقيل الشاكر الذي يشكر على العطاء والشكور الذي يشكر على البلاء
وقال الجنيد كنت بين يدى السرى ألعب وأنا ابن سبع سنين وبيننا جماعة يتكلمون في الشكر فقال لي ياغلام ما الشكر فقلت ألا تعصى الله بنعمه فقال يوشك أن يكون حظك من الله لسانك فلا أزال أبكى على هذه الكلمة التي قالها السرى وقال الشبلي الشكر رؤية المنعم لا رؤية النعم وهذا ليس بجيد بل من تمام الشكر أن تشهد النعمة من المنعم وقيل الشكر قيد الموجود وصيد المفقود وقال أبو عثمان شكر العامة على المطعم والملبس وشكر الخواص على ما يرد على قلوبهم من المعانى
وحبس السلطان رجلا فأرسل إليه صاحبه أشكر الله فضرب فارسل إليه أشكر الله فجيء بمحبوس مجوسى مبطون فقيد وجعل حلقة من قيده في رجله وحلقة في الرجل المذكور فكان المجوسى يقوم بالليل مرات فيحتاج الرجل أن يقف على راسه حتى يفرغ فكتب إليه صاحبه أشكر الله فقال له إلى متى تقول أشكر الله وأي بلاء فوق هذا؟
فقال ولو وضع الزنار الذي في وسطه في وسطك كما وضع القيد الذي في رجله في رجلك ماذا كنت تصنع فاشكر الله ودخل رجل على سهل ابن عبد الله فقال اللص دخل داري وأخذ متاعى فقال أشكر الله فلو دخل اللص قلبك وهو الشيطان وافسد عليك التوحيد ماذا كنت تصنع؟
وقيل الشكر التلذذ بثنائه على ما لم يستوجبه من عطائه وقيل إذا قصرت يدك عن المكافأة فليطل لسانك بالشكر وقيل أربعة لا ثمرة لهم مشاورة الاصم ووضع النعمة عند من لا يشكرها والبذر في السباح والسراج في الشمس
والشكر يتعلق بالقلب واللسان والجوارح فالقلب للمعرفة والمحبة واللسان للثناء والحمد والجوارح لاستعمالها في طاعة المشكور وكفها عن معاصيه وقال الشاعر
أفادتكم النعماء مني ثلاثة ∗∗∗ يدى ولساني والضمير المحجبا
والشكر أخص بالافعال والحمد أخص بالأقوال وسبب الحمد أعم من سبب الشكر ومتعلق الشكر وما به الشكر أعم مما به الحمد فما يحمد الرب تعالى عليه أعم مما يشكر عليه فانه يحمد على أسمائه وصفاته وأفعاله ونعمه ويشكر على نعمه وما يحمد به أخص مما يشكر به فانه يشكر بالقلب واللسان والجوارح ويحمد بالقلب واللسان
* فصل: إذا عرف هذا فكل من الصبر والشكر داخل في حقيقة الآخر لا يمكن وجوده إلا به وإنما يعبر عن أحدهما باسمه الخاص به باعتبار الاغلب عليه والأظهر منه وإلا فحقيقة الشكر إنما يلتئم من الصبر والإرادة والفعل فإن الشكر هو العمل بطاعة الله وترك معصيته والصبر أصل ذلك فالصبر على الطاعة وعن المعصية هو عين الشكر وإذا كان الصبر مأمورا به فأداؤه هو الشكرفإن قيل فهذا يفهم منه اتحاد الصبر والشكر وإنهما اسمان لمسمى واحد وهذا محال عقلا ولغة وعرفا وقد فرق الله سبحانه بينهما؟
قيل بل هما معنيان متغايران وإنما بينا تلازمهما وافتقار كل واحد منهما في وجود ماهيته إلى الآخر ومتى تجرد الشكر عن الصبر بطل كونه شكرا وإذا تجرد الشكر عن الصبر بطل كونه صبرا أما الأول فظاهر وأما الثاني إذا تجرد عن الشكر كان كافورا ومنافاة الكفور للصبر أعظم من منافاة السخوط
فإن قيل بل ها هنا قسم آخر وهو أن لا يكون كفورا ولا شكورا بل صابرا على مضض وكراهة شديدة فلم يأت بحقيقة الشكر ولم يخرج عن ماهية الصبر قيل: كلامنا في الصبر المأمور به الذي هو طاعة لا في الصبر الذي هو تجلد كصبر البهائم وصبر الطاعة لا يأتي به إلا شاكر ولكن اندرج شكره في صبره فكان الحكم للصبر كما اندرج صبر الشكور في شكره فكان الحكم للشكر فمقامات الإيمان لا تعدم بالتنقل فيها بل تندرج وينطوى الادنى في الاعلى كما يندرج الإيمان في الإحسان وكما يندرج الصبر في مقامات الرضا لا أن الصبر يزول ويندرج الرضا في التفويض ويندرج الخوف والرجاء في الحب لا أنهما يزولان فالمقدور الواحد يتعلق به الشكر والصبر سواء كان محبوبا أو مكروها فالفقر مثلا يتعلق به الصبر وهو أخص به لما فيه من الكراهة ويتعلق به الشكر لما فيه من النعمة فمن غلب شهود نعمته وتلذذ به واستراح واطمأن إليه عده نعمة يشكر عليها ومن غلب شهود ما فيه من الابتلاء والضيق والحاجة عده بلية يصبر عليها وعكسه الغنى
على أن الله سبحانه ابتلى العباد بالنعم كما ابتلاهم بالمصائب وعد ذلك كله ابتلاء فقال
﴿وَنَبْلُوكم بِالشَّرِّ والخَيْرِ فِتْنَةً﴾ وقال
﴿فَأمّا الإنْسانُ إذا ما ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأكْرَمَهُ ونَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أكْرَمَنِ وأمّا إذا ما ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أهانَنِ﴾وقال إنا جعلنا ما على الأرض زينا لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا وقال
﴿الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ والحَياةَ لِيَبْلُوَكم أيُّكم أحْسَنُ عَمَلًا﴾ وقال وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة ايام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا فأخبر سبحانه أنه خلق العالم العلوي والسفلى وقدر أجل الخلق وخلق ما على الأرض للابتلاء والاختبار وهذا الابتلاء إنما هو ابتلاء صبر العباد وشكرهم في الخير والشر والسراء والضراء فالابتلاء من النعم من الغنى والعافية والجاه والقدرة وتأتي الأسباب أعظم الابتلائين والصبر على طاعة الله أشق الصبرين كما قال الصحابة رضي الله عنهم ابتلينا بالضراء فصبرنا وابتلينا بالسراء فلم نصبر والنعمة بالفقر والمرض وقبض الدنيا وأسبابها وأذى الخلق قد يكون أعظم النعمتين وفرض الشكر عليها أوجب من الشكر على أضدادها فالرب تعالى يبتلي بنعمه وينعم بابتلائه غير أن الصبر والشكر حالتان لازمتان للعبد في أمر الرب ونهيه وقضائه وقدره لا يستغنى عنهما طرفة عين والسؤال عن أيهما أفضل كالسؤال عن الحس والحركة أيهما أفضل وعن الطعام والشراب أيهما أفضل وعن خوف العبد ورجائه أيهما أفضل فالمأمور لا يؤدى إلا بصبر وشكر والمحظور لا يترك إلا بصبر وشكر وأما المقدور الذي يقدر على العبد من المصائب فمتى صبر عليه اندرج شكره في صبره كما يندرج صبر الشاكر في شكره
ومما يوضح هذا أن الله سبحانه امتحن العبد بنفسه وهواه وأوجب عليه جهادهما في الله فهو في كل وقت في مجاهدة نفسه حتى تأتي بالشكر المأمور به ويصبر عن الهوى المنهي عن طاعته فلا ينفك العبد عنهما غنيا كان أو فقيرا معافى أو مبتلى وهذه هي مسألة الغني الشاكر والفقير الصابر أيهما أفضل وللناس فيها ثلاثة أقوال
وهي التي حكاها أبو الفرج ابن الجوزي وغيره في عموم الصبر والشكر أيهما أفضل وقد احتجت كل فرقة بحجج وأدلة على قولها
والتحقيق أن يقال أفضلهما أتقاهما لله تعالى فإن فرض استوائهما في التقوى استويا في الفضل فإن الله سبحانه لم يفضل بالفقر والغنى كما لم يفضل بالعافية والبلاء وإنما فضل بالتقوى كما قال تعالى
﴿إنَّ أكْرَمَكم عِنْدَ اللَّهِ أتْقاكُمْ﴾وقد قال لا فضل لعربي على عجمي ولا فضل لعجمي على عربي إلا بالتقوى الناس من آدم وآدم من تراب والتقوى مبنيه على أصلين الصبر والشكر وكل من الغني والفقير لا بد له منهما فمن كان صبره وشكره أتم كان أفضل
فإن قيل فإذا كان صبر الفقير أتم وشكر الغني أتم فأيهما أفضل؟
قيل أتقاهما لله في وظيفته ومقتضى حاله ولا يصح التفضيل بغير هذا ألبتة فإن الغنى قد يكون أتقى لله في شكره من الفقير في صبره وقد يكون الفقير أتقى لله في صبره من الغنى في شكره فلا يصح أن يقال هذا بغناه أفضل ولا هذا بفقره أفضل ولا يصح أن يقال هذا بالشكر أفضل من هذا بالصبر ولا بالعكس لأنهما مطيتان للإيمان لا بد منهما بل الواجب أن يقال أقومهما بالواجب والمندوب هو الأفضل فإن التفضيل تابع لهذين الأمرين كما قال تعالى في الأثر الإلهي:
"ما تقرب إلى عبدي بمثل مداومة ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه" فأي الرجلين كان أقوم بالواجبات وأكثر نوافل كان أفضل
فإن قيل: فقد ثبت عن النبي أنه قال
" يدخل فقراء أمتي الجنة قبل أغنيائهم بنصف يوم وذلك خمسمائة عام" قيل هذا لا يدل على فضلهم على الأغنياء في الدرجة وعلو المنزلة وأن سبقوهم بالدخول فقد يتأخر الغنى والسلطان العادل في الدخول لحسابه فإذا دخل كانت درجته أعلى ومنزلته أرفع كسبق الفقير القفل في المضائق وغيرها ويتأخر صاحب الاحمال بعده فإن قيل فقد قال النبي للفقراء لما شكوا إليه زيادة عمل الأغنياء عليهم بالعتق والصدقه:
"ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه أدركتم به من سبقكم" فدلهم على التسبيح والتحميد والتكبير عقب كل صلاة فلما سمع الأغنياء ذلك عملوا به فذكروا ذلك للنبي فقال:
"ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء" وهذا يدل على ترجيح حال الغنى الشاكر قيل هذا حجة للقول الذي نصرناه وهو أن أفضلهما أكثرهما نوافل فإن استويا استويا وها هنا قد ساوى الأغنياء الفقراء في أعمالهم المفروضه والنافلة وزادوا عليهم بنوافل العتق والصدقه وفضلوهم بذلك فساووهم في صبرهم على الجهاد والأذى في الله والصبر على المقدور وزادوا عليهم بالشكر بنوافل المال فلو كان للفقراء بصبرهم نوافل تزيد على نوافل الأغنياء لفضلوهم بها فإن قيل: إن النبي عرضت عليه مفاتيح كنوز الدنيا فردها وقال: "بل اشبع يوما وأجوع يوما"
وقال هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنهما قالت:
"خرج رسول الله من الدنيا ولم يشبع من خبز البر ومات ودرعه مرهونه عند يهودى على طعام أخذه لأهله".
وقال الإمام أحمد حدثنا وكيع حدثنا الأعمش عن عبادة بن القعقاع عن أبي زرعه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله:
"اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا "
وقال الإمام أحمد حدثنا إسماعيل بن محمد حدثنا عباد بن عباد حدثنا مجالد بن سعيد عن الشعبي عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت دخلت على امرأة من الأنصار فرأت فراش النبي عباءة مثنيه فرجعت إلى منزلها فبعثت إلى بفراش حشوه الصوف فدخل على رسول الله فقال:
"ما هذا؟ فقلت فلانه الأنصاريه دخلت على فرأت فراشك فبعثت إلى بهذا فقال رديه فلم أرده وأعجبني أن يكون في بيتى حتى قال لي ذلك ثلاث مرات فقال ياعائشة رديه فوالله لو شئت لأجرى الله معى جبال الذهب والفضه فرددته" ولم يكن الله سبحانه ليختار لرسوله إلا الأفضل هذا مع أنه لو أخذ الدنيا لأنفقها كلها في مرضاة الله ولكان شكره بها فوق شكر جميع العالمين
قيل احتج بحال رسول الله كل واحدة من الطائفتين والتحقيق أن الله سبحانه وتعالى جمع له بين المقامين كليهما على أتم الوجوه وكان سيد الأغنياء الشاكرين وسيد الفقراء الصابرين فحصل له من الصبر على الفقراء ما لم يحصل لأحد سواه ومن الشكر على الغنى ما لم يحصل لغنى سواه ومن تأمل سيرته وجد الأمر كذلك فكان أصبر الخلق في مواطن الصبر وأشكر الخلق في مواطن الشكر وربه تعالى كمل له مراتب الكمال فجعله في أعلى رتب الأغنياء الشاكرين وفي أعلى مراتب الفقراء الصابرين قال تعالى
﴿وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأغْنى﴾ وأجمع المفسرون أن العائل هو الفقير يقال عال الرجل يعيل إذا افتقر وأعال يعيل إذا صار ذا عيال مثل لبن وأثمر وأثرى إذا صار ذا لبن وثمر وثروة وعال يعول إذا جار ومنه قوله تعالى
﴿ذلك أدنى أن لا تعولوا﴾وقيل المعنى ألا تكثر عيالكم والقول هو الأول لوجوه
أحدها: أنه لا يعرف في اللغة عال يعول إذا كثر عياله وإنما المعروف في ذلك عال يعيل وأما عال يعول فهو بمعنى الجور ليس إلا هذا الذي ذكره أهل اللغة قاطبة
الثاني: أنه سبحانه قابل ذلك بالعدل الذي نقلهم عند خوفهم من فقده إلى الواحدة والتسرى بما شاءوا من ملك أيمانهم ولا يحسن هنا التعليل بعدم العيال
يوضحه الوجه الثالث أنه سبحانه نقلهم عند الخوف من عدم القسط في نكاح اليتامى إلي من سواهن من النساء لئلا يقعوا في ظلم أزواجهم اليتامى وجوز لهم نكاح الواحدة وما فوقها إلى الأربع ثم نقلهم عند خوف الجور وعدم العدل في القسمة إلى الواحدة أو النوع الذي لا قسمة عليهم في الاستمتاع بهنوهن الإماء فانتظمت الآية ببيان الجائز من نكاح اليتامى والبوالغ والأولى من ذينك القسمين عند خوف العدل فما لكثرة العيال مدخل ها هنا ألبتة
يوضحه الوجه الرابع: إنه لو كان المحذور كثرة العيال لما نقلهم إلى ما شاءوا من كثرة الاماء بلا عدد فإن العيال كما يكونون من الزوجات يكونون من الإماء ولا فرق فإنه لم ينقلهم إلى اماء الاستخدام بل إلى إماء الاستفراش
يوضحه الوجه الخامس: أن كثرة العيال ليس أمرا محذورا مكروها للرب تعالى كيف وخير هذه الأمة أكثرها نساء وقد قال النبي: "تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم" فأمر بنكاح الولود ليحصل منها ما يكاثر به الأمم يوم القيامة
والمقصود أنه سبحانه جعل نبيه غنيا شاكرا بعد إن كان فقيرا صابرا فلا تحتج به طائفة لحالها إلا كان للطائفة الأخرى أن تحتج به أيضا لحالها فإن قيل فقد كان عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه من الشاكرين وقد قال الإمام أحمد في مسنده حدثنا عبد الصمد حدثنا عمارة عن ثابت عن أنس رضي الله عنه قال بينما عائشة في بيتها سمعت صوتا في المدينة فقالت ما هذا فقالوا عير لعبد الرحمن قدمت من الشام تحمل من كل شيء قال وقد كانت سبعمائة بعير فارتجت المدينة من الصوت فقالت عائشة سمعت رسول الله يقول:
"رأيت عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوا" فبلغ ذلك عبد الرحمن فقال إن استطعت لأدخلنها قائما فجعلها بأحمالها وأقتابها كلها في سبيل الله
قيل قد قال الإمام أحمد هذا الحديث كذب منكر قالوا أو عمارة يروى أحاديث مناكير وقال أبو حاتم الرازي عمارة بن زإذان لا يحتج به
قال أبو الفرج وقد روى الجراح بن منهال بإسناده عن عبد الرحمن بن عوف أن النبي قال له:
"يا ابن عوف إنك من الأغنياء وإنك لا تدخل الجنة إلا زحفا فأقرض ربك يطلق قدميك" قال أبو عبد الرحمن النسائي هذا حديث موضوع والجراح متروك الحديث وقال يحيى ليس حديث الجراح بشيء
وقال ابن المدينى لا يكتب حديثه
وقال ابن حبان كان يكذب وقال الدارقطنى متروك
فإن قيل فما تصنعون بالحديث الذي رواه البيهقي من حديث أحمد بن على بن إسماعيل بن محمد حدثنا سليمان بن عبد الرحمن أخبرني خالد بن يزيد بن أبي مالك عن أبيه عن عطاء بن أبي رباح عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن رسول الله أنه قال:
"يا ابن عوف إنك من الأغنياء ولن تدخل الجنة إلا زحفا فأقرض الله يطلق قدميك" قال وما الذي أقرض يا رسول الله قال تتبرأ مما أمسيت فيه قال أمن كله أجمع يا رسول الله قال نعم فخرج وهو يهتم بذلك فأتاه جبريل فقال مر ابن عوف فليضف الضيف وليطعم المساكين وليبدأ بمن يعول وليعط السائل فإذا فعل ذلك كان تزكية ما هو فيه".
قيل هذا حديث باطل لا يصح عن رسول الله فإن أحد رواته خالد بن يزيد بن أبي مالك قال الإمام أحمد ليس بشيء
وقال ابن معين واه وقال النسائي غير ثقة وقال الدارقطنى ضعيف وقال يحيى بن معين لم يرض أن يكذب على أبيه حتى كذب على الصحابة
فإن قيل فما تصنعون بالحديث الذي قاله الإمام أحمد حدثنا الهذيل بن ميمون عن مطرح بن يزيد عن عبيد الله بن زحر عن على بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة قال قال رسول الله:
"دخلت الجنة فسمعت خشفة بين يدى قلت ما هذا قال بلال فمضيت فإذا أكثر أهل الجنة فقراء المهاجرين وذرارى المسلمين ولم ار فيها أحدا أقل من الأغنياء والنساء قيل لي أما الأغنياء فهم في الباب يحاسبون ويمحصون وأما النساء فألهاهن الاحمران الذهب والحرير ثم خرجنا من أحد أبواب الجنة الثمانية فلما كنت عند الباب أتيت بكفة فوضعت فيها ووضعت أمتي في كفة فرجحت بها ثم أتى بأبي بكر فوضع في كفة وجئ بجميع أمتي فوضعوا في كفة فرجح أبو بكر ثم اتى بعمر فوضع في كفة ووضع أمتي في كفة فرجح عمر وعرضت على أمتي رجلا رجلا فجعلوا يمرون واستبطأت عبد الرحمن ابن عوف ثم جاء بعد الاياس فقلت عبد الرحمن فقال بأبي وأمى يا رسول الله والذي بعثك بالحق ما خلصت إليك حتى ظننت إني لا أصل إليك إلا بعد المشيبات قلت وما ذاك قال من كثرة مالى أحاسب فأمحص".
قيل هذا حديث لا يحتج بإسناده وقد أدخله أبو الفرج هو والذي قبله في كتاب الموضوعات وقال أما عبيد بن زحر فقال يحيى ليس بشيء وعلى بن يزيد متروك
وقال ابن حبان عبيد الله يروي الموضوعات عن الاثبات وإذا روى عن على بن يزيد أتى بالطامات وإذا اجتمع في إسناد خبر عبيد الله بن زحر وعلى بن يزيد والقاسم ابن عبد الرحمن لم يكن متن ذلك الخبر إلا مما عملته أيديهم
قال أبو الفرج وبمثل هذا الحديث الباطل يتعلق جملة المتزهدين ويرون أن المال مانع من السبق إلى الخير ويقولون إذا كان ابن عوف يدخل الجنة زحفا لأجل ماله كفى ذلك في ذم المال والحديث لا يصح وحاشا عبد الرحمن المشهود له بالجنة أن يمنعه ماله من السبق لان جمع المال مباح وإنما المذموم كسبه من غير وجهه ومنع الحق الواجب فيه وعبد الرحمن منزه عن الحالين وقد خلف طلحة ثلاثمائة حمل من الذهب وخلف الزبير وغيره ولو علموا أن ذلك مذموم لأخرجوا الكل وكم قاص يتسوف بمثل هذا الحديث يحث على الفقر ويذم الغنى فلله در العلماء الذين يعرفون الصحيح ويفهمون الأصول اهـ
قلت وقد بالغ في رد هذا الحديث وتجاوز الحد في إدخاله في الأحاديث الموضوعة المختلقة على رسول الله وكأنه استعظم احتباس عبد الرحمن بن عوف وهو أحد السابقين الأولين المشهود لهم عن السبق إليها ودخول الجنة حبوا ورأى ذلك مناقضا لسبقه ومنزلته التي أعدها الله له في الجنة وهذا وهم منه رحمه الله
وهب أنه وجد السبيل إلى الطعن في هذين الخبرين أفيجد سبيلا إلى القدح في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال:
"يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل أغنيائهم بنصف يوم وهو خمسمائة عام "
قال الترمذي حديث حسن صحيح.
وفى حديث ابن عمر الذي رواه مسلم في صحيحه عن النبي:
"إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة بأربعين خريفا"
وفى مسند الإمام أحمد عنه عن النبي:
"هل تدرون أول من يدخل الجنة قالوا الله ورسوله أعلم قال فقراء المهاجرين الذين يتقى بهم المكاره يموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء".
وفى جامع الترمذي من حديث جابر رضي الله عنه عن النبي أنه قال:
"يدخل فقراء أمتي الجنة قبل الأغنياء بأربعين خريفا" فهذا الحديث وأمثاله صحيح صريح في سبق فقراء الصحابة إلى الجنة لأغنيائهم وهم في السبق متفاوتون فمنهم من يسبق خمسمائة عام ومنهم من يسبق بأربعين عاما ولا يقدح ذلك في منزلة المتأخرين في الدخول فإنهم قد يكونون أرفع منزلة ممن سبقهم إلى الدخول وأن تأخروا بعدهم للحساب فإن الإمام العادل يوقف للحساب ويسبقه من لم يل شيئا من أمور المسلمين إلى الجنة فإذا دخل الإمام العادل بعده كانت منزلته أعلى من منزلة الفقير بل يكون أقرب الناس من الله منزلة كما في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه عن النبي قال:
"المقسطون عند الله يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا" وفي الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي:
"أن أحب الناس إلى الله يوم القيامة واقربهم منه مجلسا امام عادل وأبغض الناس إلى الله يوم القيامة وأشدهم عذابا امام جائر" فالإمام العادل والغنى قد يتأخر دخول كل منهم للحساب ويكون بعد الدخول ارفع منزلة من الفقير السابق ولا يلزم من احتباس عبد الرحمن بن عوف لكثرة ماله حتى يحاسبه عليه ثم يلحق برسول الله وأصحابه غضاضة عليه ولا نقص من مرتبته ولا يضاد ذلك سبقه وكونه مشهودا له بالجنة وأما حديث دخوله الجنة زحفا فالأمر كما قال فيه الإمام أحمد رحمه الله إنه كذب منكر وكما قال النسائي إنه موضوع ومقامات عبد الرحمن وجهاده ونفقاته العظيمة وصدقاته تقتضى دخوله مع المارين كالبرق أو كالطرف أو كأجاويد الخيل ولا يدعه يدخلها زحفا.
* (فصل)
والله سبحانه كما هو خالق الخلق فهو خالق ما به غناهم وفقرهم.
فخلق الغنى والفقر ليبتلي بهما عباده أيهم أحسن عملا وجعلهما سببا للطاعة والمعصية والثواب والعقاب قال تعالى
﴿وَنَبْلُوكم بِالشَّرِّ والخَيْرِ فِتْنَةً وإلَيْنا تُرْجَعُونَ﴾قال ابن عباس رضي الله عنهما بالشدة والرخاء والصحة والسقم والغنى والفقر والحلال والحرام وكلها بلاء
وقال ابن يزيد نبلوكم بما تحبون وما تكرهون لننظر كيف صبركم وشكركم فبما تحبون وما تكرهون وقال الكلبى بالشر بالفقر والبلاء والخير بالمال والولد فأخبر سبحانه أن الغنى والفقر مطيتا الابتلاء والامتحان وقال تعالى
﴿فَأمّا الإنْسانُ إذا ما ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأكْرَمَهُ ونَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أكْرَمَنِ وأمّا إذا ما ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أهانَنِ كَلاَّ﴾فأخبر سبحانه أنه يبتلي عبده بإكرامه له وبتنعيمه له وبسط الرزق عليه كما يبتليه بتضييق الرزق وتقديره عليه وأن كليهما ابتلاء منه وامتحان ثم أنكر سبحانه على من زعم أن بسط الرزق وتوسعته إكرام من الله لعبده وأن تضييقه عليه اهانة منه له فقال كلا أي ليس الأمر كما يقول الإنسان بل قد أبتلى بنعمتي وأنعم ببلائى
وإذا تأملت ألفاظ الآية وجدت هذا المعنى يلوح على صفحاتها ظاهرا للمتأمل وقال تعالى وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم وقال تعالى
﴿إنّا جَعَلْنا ما عَلى الأرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهم أيُّهم أحْسَنُ عَمَلًا﴾ فأخبر سبحانه أنه زين الأرض بما عليها من المال وغيره للابتلاء والامتحان كما أخبر أنه خلق الموت والحياة لذلك وخلق السماوات والأرض لهذا الابتلاء أيضا فهذه ثلاثة مواضع في القرآن يخبر فيها سبحانه أنه خلق العالم العلوي والسفلي وما بينهما وأجل العالم وأجل أهله وأسباب معائشهم التي جعلها زينة للأرض من الذهب والفضة والمساكن والملابس والمراكب والزروع والثمار والحيوان والنساء والبنين وغير ذلك كل ذلك خلقه للابتلاء والامتحان ليختبر خلقه أيهم أطوع له وارضى فهو الأحسن عملا
وهذا هو الحق الذي خلق به وله السماوات والأرض وما بينهما وغايته الثواب والعقاب وفواته وتعطيله هو العبث الذي نزه نفسه عنه وأخبر أنه يتعالى عنه وأن ملكه الحق وتفرده بالإلهية وحده وبربوبية كل شيء ينفى هذا الظن الباطل والحساب الكاذب كما قال تعالى
﴿أفَحَسِبْتُمْ أنَّما خَلَقْناكم عَبَثًا وأنَّكم إلَيْنا لا تُرْجَعُونَ فَتَعالى اللَّهُ المَلِكُ الحَقُّ لا إلَهَ إلّا هو رَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ﴾فنزه سبحانه نفسه عن ذلك كما نزهها عن الشريك والولد والصاحبة وسائر العيوب والنقائص من السنة والنوم واللغوب والحاجة واكتراثه بحفظ السماوات والأرض وتقدم الشفعاء بين يديه بدون إذنه كما يظنه أعداؤه المشركون يخرجون عن علمه جزئيات العالم أو شيئا منها فكما أن كماله المقدس وكمال أسمائه وصفاته يأبى ذلك ويمنع منه فكذلك يبطل خلقه لعباده عبثا وتركهم سدى لا يأمرهم ولا ينهاهم ولا يردهم إليه فيثيب محسنهم بإحسانه ومسيئهم باساءته ويعرف المبطلون منهم إنهم كانوا كاذبين ويشهدهم أن رسله وأتباعهم كانوا أولى بالصدق والحق منهم فمن أنكر ذلك فقد انكر إلهيته وربوبيته وملكه الحق وذلك عين الجحود والكفر به سبحانه كما قال المؤمن لصاحبه الذي حاوره في المعاد وأنكره
﴿أكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرابٍ ثُمَّ مِن نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوّاكَ رَجُلًا﴾ فأخبر أن إنكاره للمعاد كفر بذات الرب سبحانه وقال تعالى وأن تعجب فعجب قولهم أإذا كنا ترابا إنا لفى خلق جديد أولئك الذين كفروا بربهم وذلك أن إنكار المعادي يتضمن إنكار قدرة الرب وعلمه وحكمته وملكه الحق وربوبيته والهيته كما أن تكذيب رسله وجحد رسالتهم يتضمن ذلك أيضا فمن كذب رسله وجحد المعاد فقد أنكر ربوبيته سبحانه ونفى أن يكون رب العالمين
والمقصود أنه سبحانه وتعالى خلق الغنى والفقر مطيتين للابتلاء والامتحان ولم ينزل المال لمجرد الاستمتاع به كما في المسند عنه قال: يقول الله تعالى:
"إنا نزلنا المال لاقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ولو كان لابن آدم واد من مال لابتغى إليه ثانيا، ولو كان له ثان لابتغى له ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب "
فأخبر سبحانه إنه أنزل المال ليستعان به على إقامة حقه بالصلاة واقامة حق عباده بالزكاة لا للاستمتاع والتلذذ كما تأكل الأنعام فإذا زاد المال عن ذلك أو خرج عن هذين المقصودين فإن الغرض والحكمة التي أنزل لها كان التراب أولى به فرجع هو والجوف الذي امتلأ به بما خلق له من الإيمان والعلم والحكمة فانه خلق لان يكون وعاء لمعرفة ربه وخالقه والإيمان به ومحبته وذكره وانزل عليه من المال ما يستعين به على ذلك فعطل الجاهل بالله وبأمر الله وبتوحيد الله وبأسمائه وصفاته جوفه عما خلق له وملأه بمحبة المال الفانى الذاهب الذي هو ذاهب عن صاحبه أو بالعكس وجمعه والاستكثار منه ومع ذلك فلم يمتلئ بل ازداد فقرا وحرصا إلى أن امتلأ جوفه بالتراب الذي خلق منه فرجع إلى مادته الترابية التي خلق منها هو وماله ولم تتكمل مادته بامتلاء جوفه من العلم والإيمان الذي بهما كماله وفلاحه وسعادته في معاشه ومعاده فالمال إن لم ينفع صاحبه ضره ولا بد وكذلك العلم والملك والقدرة كل ذلك إن لم ينفعه ضره فإن هذه الأمور وسائل لمقاصد يتوسل بها إليها في الخير والشر فإن عطلت عن التوسل بها إلى المقاصد والغايات المحمودة توسل بها إلى أضدادها.
فأربح الناس من جعلها وسائل إلى الله والدار الآخرة وذلك الذي ينفعه في معاشه ومعاده، وأخسر الناس من توسل بها إلى هواه ونيل شهواته وأغراضه العاجلة فخسر الدنيا والآخرة، فهذا لم يجعل الوسائل مقاصد ولو جعلها كذلك لكان خاسرا لكنه جعلها وسائل إلى ضد ما جعلت له فهو بمثابة من توسل بأسباب اللذة إلى أعظم الآلام أدوائها.
فالأقسام أربعة لا خامس لها أحدها معطل الأسباب معرض عنها
الثاني مكب عليها واقف مع جمعها وتحصيلها
الثالث متوصل بها إلى ما يضره ولا ينفعه في معاشه ومعاده فهؤلاء الثلاثة في الخسران
الرابع متوصل بها إلى ما ينفعه في معاشه ومعاده وهو الرابح قال تعالى
﴿مَن كانَ يُرِيدُ الحَياةَ الدُّنْيا وزِينَتَها نُوَفِّ إلَيْهِمْ أعْمالَهم فِيها وهم فِيها لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهم في الآخِرَةِ إلّا النّارُ وحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾وقد أشكل فهم هذه الآية على كثير من الناس حيث فهموا منها أن من كان له إرادة في الدنيا وزينتها فله هذا الوعيد ثم اختلفوا في معناها فقالت طائفة منهم ابن عباس من كان يريد تعجيل الدنيا فلا يؤمن بالبعث ولا بالثواب ولا بالعقاب قالوا والآية في الكفار خاصة على قول ابن عباس.
وقال قتادة من كانت الدنيا همه وسدمه ونيته وطلبه جازاه الله في الدنيا بحسناته ثم يفضي إلى الآخرة وليس له حسنة يجازى بها.
وأما المؤمن فيجزى في الدنيا بحسناته ويثاب عليها في الآخرة
قال هؤلاء فالآية في الكفار بدليل قوله
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهم في الآخِرَةِ إلّا النّارُ وحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ قالوا المؤمن من يريد الدنيا والآخرة فأما من كانت إرادته مقصورة على الدنيا فليس بمؤمن
وقال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية أبي صالح عنه نزلت في أهل القبلة.
قال مجاهد هم أهل الرياء.
وقال الضحاك من عمل صالحا من أهل الإيمان من غير تقوى عجل له ثواب عمله في الدنيا.
واختار الفراء هذا القول وقال من أراد بعمله من أهل القبلة ثواب الدنيا عجل له ثوابه ولم يبخس.
وهذا القول أرجح، ومعنى الآية على هذا من كان يريد بعمله الحياة الدنيا وزينتها وهذا لا يكون مؤمنا ألبتة فإن العاصي والفاسق ولو بالغا في المعصية والفسق فإنما يحملهما على أن يعملا أعمال البر لله فيريدان بأعمال البر وجه الله وإن عملا بمعصيته.
فأما من لم يرد بعمله وجه الله وإنما أراد به الدنيا وزينتها فهذا لا يدخل في دائرة أهل الإيمان، وهذا هو الذي فهمه معاوية من الآية واستشهد بها على حديث أبي هريرة الذي رواه مسلم في صحيحه في الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة القارئ الذي قرأ القرآن ليقال فلان قارئ، والمتصدق الذي أنفق أمواله ليقال فلان جواد، والغازي الذي قتل في الجهاد ليقال هو جريء.
وكما أن خيار خلق الله هم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون فشرار الخلق من تشبه بهم وليس منهم فمن تشبه بأهل الصدق والإخلاص وهو مراءٍ كمن تشبه بالأنبياء وهو كاذب.
وقال ابن أبي الدنيا حدثني محمد بن ادريس قال أخبرني عبد الحميد بن صالح حدثنا قطن بن الحباب عن عبد الوارث عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله:
"إذا كان يوم القيامة صارت أمتي ثلاث فرق فرقة يعبدون الله عز وجل للدنيا وفرقة يعبدون رياء وسمعة وفرقة يعبدونه لوجهه ولداره فيقول للذين كانوا يعبدونه للدنيا بعزتي وجلالي ومكانى ما أردتم بعبادتى فيقولون بعزتك وجلالك ومكانك الدنيا فيقول إني لم أقبل من ذلك شيئا إذهبوا بهم إلى النار ويقول للذين كانوا يعبدون رياء وسمعة بعزتي وجلالي ومكانى ما أردتم بعبادتى فيقولون بعزتك وجلالك ومكانك رياء وسمعة فيقول إني لم أقبل من ذلك شيئا إذهبوا بهم إلى النار ويقول للذين كانوا يعبدونه لوجهه وداره بعزتي وجلالي ومكانى ما أردتم بعبادتى فيقولون بعزتك وجلالك وجهك ودارك فيقول صدقتم إذهبوا بهم إلى الجنة" هذا حديث غنى عن الإسناد والقرآن والسنة شاهدان بصدقه ويدل على صحة هذا القول في الآية قوله تعالى
﴿نُوَفِّ إلَيْهِمْ أعْمالَهم فِيها﴾ وذلك على أنها في قوم لهم أعمال لم يريدوا بها وجه الله وإنما أرادوا بها الدنيا ولها عملوا فوفاهم الله ثواب أعمالهم فيها من غير بخس وأفضوا إلى الآخرة بغير عمل يستحقون عليه الثواب وهذا لا يقع ممن يؤمن بالآخرة إلا كما يقع منه كبائر الأعمال وقوعا عارضا يتوب منه ويراجع التوحيد
وقال ابن الأنباري فعلى هذا القول المعنى في قوم من أهل الإسلام يعملون العمل الحسن لتستقيم به دنياهم غير متفكرين في الآخرة وما ينقلبون إليه فهؤلاء يجعل لهم جزاء حسناتهم في الدنيا فإذا جاءت الآخرة كان جزاؤهم عليها النار إذا لم يريدوا بها وجه الله ولم يقصدوا التماس ثوابه وأجره
ثم أورد صاحب هذا القول على أنفسهم سؤالا قالوا فإن قيل الآية الثانية على هذا القول توجب تخليد المؤمن المريد بعمله الدنيا في النار؟
وأجابوا عنه بأن ظاهر الآية يدل على أن من راءى بعمله ولم يلتمس به ثواب الآخرة بل كانت نيته الدنيا فإن الله يبطل إيمانه عند الموافاة فلا يوافى ربه بالإيمان قالوا ويدل عليه قوله
﴿وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ وهذا يتناول أصل الإيمان وفروعه.
وأجابت فرقة أخرى بأن الآية لا تقتضى الخلود الأبدي في النار وإنما تقتضى أن الذي يستحقونه في الآخرة النار وأنهم ليس لهم عمل صالح يرجون به النجاة فإذا كان مع أحدهم عمود التوحيد فإنه يخرج به من النار مع من يخرج من أصحاب الكبائر الموحدين وهذا هو جواب ابن الأنباري وغيره
والآية بحمد الله لا إشكال فيها والله سبحانه ذكر جزاء من يريد بعمله الحياة الدنيا وزينتها وهو النار وأخبر بحبوط عمله وبطلانه فإذا أحبط ما ينجو به وبطل لم يبق معه ما ينجيه فإن كان معه إيمان لم يرد به الدنيا وزينتها بل أراد الله به والدار الآخرة لم يدخل هذا الإيمان في العمل الذي حبط وبطل وأنجاه إيمانه من الخلود في النار وإن دخلها بحبوط عمله الذي به النجاة المطلقة والإيمان إيمانان إيمان يمنع من دخول النار وهو الإيمان الباعث على أن تكون الأعمال لله يبتغي بها وجهه وثوابه وإيمان يمنع الخلود في النار وإن كان مع المرائي شيء منه وإلا كان من أهل الخلود فالآية لها حكم نظائرها من آيات الوعيد والله الموفق وذلك قوله
﴿مَن كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ في حَرْثِهِ ومَن كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنها وما لَهُ في الآخِرَةِ مِن نَصِيبٍ﴾ومنه قوله
﴿مَن كانَ يُرِيدُ العاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَن نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُومًا مَدْحُورًا﴾فهذه ثلاث مواضع من القرآن يشبه بعضها بعضا ويصدق بعضها بعضا وتجتمع على معنى واحد وهو أن من كانت الدنيا مراده ولها يعمل في غاية سعيه لم يكن له في الآخرة نصيب ومن كانت الآخرة مراده ولها عمل وهي غاية سعيه فهى له
بقى أن يقال: فما حكم من يريد الدنيا والآخرة فانه داخل تحت حكم الإرادتين فبأيهما يلحق قيل من ها هنا نشأ الإشكال وظن من ظن من المفسرين أن الآية في حق الكافر فانه هو الذي يريد الدنيا دون الآخرة وهذا غير لازم طردا ولا عكسا فإن بعض الكفار قد يريد الآخرة وبعض المسلمين قد لا يكون مراده إلا الدنيا والله تعالى قد علق السعادة بإرادة الآخرة والشقاوة بإرادة الدنيا فإذا تجردت الإرادتان تجرد موجبهما ومقتضاهما وأن اجتمعتا فحكم اجتماعهما حكم اجتماع البر والفجور والطاعة والمعصية والإيمان والشرك في العبد وقد قال تعالى لخير الخلق بعد الرسل
﴿مِنكم مَن يُرِيدُ الدُّنْيا ومِنكم مَن يُرِيدُ الآخِرَة﴾ وهذا خطاب للذين شهدوا معه الوقعة ولم يكن فيهم منافق ولهذا قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ما شعرت أن أحد أصحاب رسول الله يريد الدنيا حتى كان يوم أحد ونزلت هذه الآية.
والذين أريدوا في هذه الآية هم الذين أخلوا مركزهم الذي أمرهم رسول الله بحفظه وهم من خيار المسلمين ولكن هذه إرادة عارضة حملتهم على ترك المركز والاقبال على كسب الغنائم بخلاف من كان مراده بعمله الدنيا وعاجلها فهذه الإرادة لون وإرادة هؤلاء لون
وها هنا أمر يجب التنبيه له وهو أنه لا يمكن إرادة الدنيا وعاجلها بأعمال البر دون الآخرة مع الإيمان بالله ورسوله ولقائه أبدا فإن الإيمان بالله والدار الآخرة يستلزم إرادة العبد لرحمة الله والدار الآخرة بأعماله فحيث كان مراده بها الدنيا فهذا لا يجامع الإيمان أبدا وأن جامع الإقرار والعلم فالإيمان وراء ذلك والإقرار والمعرفة حاصلان لمن شهد الله سبحانه له بالكفر مع هذه المعرفة كفرعون وثمود واليهود الذين شاهدوا رسول الله وعرفوه كما عرفوا أبناءهم وهم من أكفر الخلق بإرادة الدنيا وعاجلها بالأعمال قد تجامع هذه المعرفة والعلم ولكن الإيمان الذي هو وراء ذلك لا بد أن يريد صاحبه بأعماله الله والدار الآخرة والله المستعان.
* (فصل)
والمقصود أنه سبحانه جعل الغنى والفقر ابتلاءا وامتحانا للشكر والصبر، والصدق والكذب والإخلاص والشرك
قال تعالى
﴿لِيَبْلُوَكم في ما آتاكُمْ﴾ وقال تعالى
﴿الم أحَسِبَ النّاسُ أنْ يُتْرَكُوا أنْ يَقُولُوا آمَنّا وهم لا يُفْتَنُونَ ولَقَدْ فَتَنّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا ولَيَعْلَمَنَّ الكاذِبِينَ﴾ وقال تعالى
﴿إنَّما أمْوالُكم وأوْلادُكم فِتْنَةٌ واللَّهُ عِنْدَهُ أجْرٌ عَظِيمٌ﴾ فجعل الدنيا عرضا عاجلا ومتاع غرور وجعل الآخرة دار جزاء وثواب وحف الدنيا بالشهوات وزينها بها كما قال تعالى
﴿زُيِّنَ لِلنّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ والبَنِينَ والقَناطِيرِ المُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ والفِضَّةِ والخَيْلِ المُسَوَّمَةِ والأنْعامِ والحَرْثِ ذَلِكَ مَتاعُ الحَياةِ الدُّنْيا واللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ المَآبِ﴾فأخبر سبحانه أن هذا الذي زين به الدنيا من ملاذها وشهواتها وما هو غاية أماني طلابها ومؤثريها على الآخرة وهو سبعة أشياء النساء اللاتى هن أعظم زينتها وشهواتها وأعظمها فتنة والبنين الذين بهم كمال الرجل وفخره وكرمه وعزه والذهب والفضة اللذين هما مادة الشهوات على اختلاف أجناسها وأنواعها والخيل المسومة التي هي عز أصحابها وفخرهم وحصونهم وآلة قهرهم لأعدائهم في طلبهم وهربهم والأنعام التي منها ركوبهم وطعامهم ولباسهم وأثاثهم وأمتعتهم وغير ذلك من مصالحهم والحرث الذي هو مادة قوتهم وقوت أنعامهم ودوابهم وفاكهتهم وأدويتهم وغير ذلك
ثم أخبر سبحانه أن ذلك كله متاع الحياة الدنيا ثم شوق عباده إلى متاع الآخرة وأعلمهم أنه خير من هذا المتاع وأبقى فقال
﴿قُلْ أؤُنَبِّئُكم بِخَيْرٍ مِن ذَلِكم لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ خالِدِينَ فِيها وأزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ ورِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ واللَّهُ بَصِيرٌ بِالعِبادِ﴾ثم ذكر سبحانه من يستحق هذا المتاع ومن هم أهله الذين هم أولى به فقال
﴿الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إنَّنا آمَنّا فاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وقِنا عَذابَ النّارِ الصّابِرِينَ والصّادِقِينَ والقانِتِينَ والمُنْفِقِينَ والمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحارِ﴾ فأخبر سبحانه أن ما أعد لأوليائه المتقين من متاع الآخرة خير من متاع الدنيا وهو نوعان ثواب يتمتعون به وأكبر منه وهو رضوإنه عليهم قال تعالى
﴿اعْلَمُوا أنَّما الحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ ولَهْوٌ وزِينَةٌ وتَفاخُرٌ بَيْنَكم وتَكاثُرٌ في الأمْوالِ والأوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أعْجَبَ الكُفّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطامًا﴾ فأخبر سبحانه عن حقيقة الدنيا بما جعله مشاهدا لأولي البصائر وإنها لعب ولهب تلهو بها النفوس وتلعب بها الأبدان واللعب واللهو لا حقيقة لهما وأنهما مشغلة للنفس مضيعة للوقت يقطع بها الجاهلون فيذهب ضائعا في غير شيء ثم أخبر أنها زينة زينت للعيون وللنفوس فأخذت بالعيون والنفوس استحسانا ومحبة ولو باشرت القلوب معرفة حقيقتها ومآلها ومصيرها لأبغضتها ولآثرت عليها الآخرة ولما آثرتها على الآجل الدائم الذي هو خير وأبقى
قال الإمام حدثنا وكيع حدثنا المسعودي عن عمرو بن مرة عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله رضي الله عنه عن النبي قال:
"مالي وللدنيا إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قال في ظل شجرة في يوم صائف ثم راح وتركها".
وفى جامع الترمذي من حديث سهل بن سعد قال قال رسول الله لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء قال الترمذي حديث صحيح.
وفى صحيح مسلم من حديث المستورد بن شداد قال رسول الله:
"ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع وأشار بالسبابة".
وفى الترمذي من حديثه قال:
"كنت مع الركب الذين وقفوا مع رسول الله على السخلة الميتة فقال رسول الله أترون هذه هانت على أهلها حتى ألقوها قالوا ومن هوانها ألقوها يا رسول الله قال فالدنيا أهون على الله من هذه على أهلها" وفي الترمذي أيضا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله:
"الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالما أو متعلما" والحديثان حسنان قال الإمام أحمد حدثنا هيثم بن خارجة أنبأنا إسماعيل بن عياش بن عبد الله بن دينار النهرانى قال قال عيسى عليه السلام للحواريين بحق أقول لكم إن حلاوة الدنيا مرارة الآخرة وإن مرارة الدنيا حلاوة الآخرة وأن عباد الله ليسوا بالمتنعمين بحق أقول لكم إن شركم عملا عالم يحب الدنيا ويؤثرها على الآخرة إنه لو يستطيع جعل الناس كلهم في عمله مثله.
وقال أحمد حدثنا يحيى بن إسحاق قال أخبرني سعيد بن عبد العزيز عن مكحول قال قال عيسى ابن مريم عليه السلام يا معشر الحواريين أيكم يستطيع أن يبني على موج البحر دارا قالوا يا روح الله ومن يقدر على ذلك قال إياكم والدنيا فلا تتخذوها قرارا.
وفى كتاب الزهد لأحمد أن عيسى ابن مريم عليه السلام كان يقول بحق أقول لكم أن أكل الخبز وشرب الماء العذب ونوما على المزابل مع الكلاب كثير لمن يريد أن يرث الفردوس
وفى المسند عنه:
"إن الله ضرب طعام ابن آدم مثلا للدنيا وأن قزحه وملحه فلينظر إلى ماذا يصير".
* فصل: ثم أخبر سبحانه وتعالى عنها إنها يفاخر بعضنا بعضا بها فيطلبها ليفخر بها على صاحبه وهذا حال كل من طلب شيئا للمفاخرة من مال أو جاه أو قوة أو علم أو زهد والمفاخرة نوعان مذمومة ومحمودة فالمذمومة مفاخرة أهل الدنيا بها والمحمودة أن يطلب المفاخرة في الآخرة فهذه من جنس المنافسة المأمور بها وهي أن الرجل ينفس على غيره بالشيء ويغار أن يناله دونه ويأنف من ذلك ويحمى أنفه له يقال نفست عليه الشيء أنفسه نفاسة إذا ضننت به ولم تحب أن يصير إليه دونك والتنافس تفاعل من ذلك كأن كل واحد من المتنافسين يريد أن يسبق صاحبه إليه وحقيقة المنافسة الرغبة التامة والمبادرة والمسابقة إلى الشيء النفيس.* (فصل)
ثم أخبر تعالى عنها أنها تكاثر في الأموال والأولاد فيحب كل واحد أن يكاثر بني جنسه في ذلك ويفرح بأن يرى نفسه أكثر من غيره
مالا وولدا وأن يقال فيه ذلك وهذا من أعظم ما يلهي النفوس عن الله والدار الآخرة كما قال تعالى
﴿ألْهاكُمُ التَّكاثُرُ حَتّى زُرْتُمُ المَقابِرَ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾والتكاثر في كل شيء فكل من شغله وألهاه التكاثر بأمر من الأمور عن الله والدار الآخرة فهو داخل في حكم هذه الآية فمن الناس من يلهيه التكاثر بالمال ومنهم من يلهيه التكاثر بالجاه أو بالعلم فيجمعه تكاثرا وتفاخرا وهذا أسوأ حالا عند الله ممن يكاثر بالمال والجاه فإنه جعل أسباب الآخرة للدنيا وصاحب المال والجاه استعمل أسباب الدنيا لها وكاثر بأسبابها
* فصل: ثم أخبر سبحانه عن مصير الدنيا وحقيقتها وأنها بمنزلة غيث أعجب الكفار نباته والصحيح إن شاء الله أن الكفار هم الكفار بالله وذلك عرف القرآن حيث ذكروا بهذا النعت في كل موضع ولو أراد الزراع لذكرهم باسمهم الذي يعرفون به كما ذكرهم به في قوله يعجب الزراع وإنما خص الكفار به لأنهم أشد اعجابا بالدنيا فإنها دارهم التي لها يعملون ويكدحون فهم أشد اعجابا بزينتها وما فيها من المؤمنينثم ذكر سبحانه عاقبة هذا النبات وهو اصفراره ويبسه وهذا آخر الدنيا ومصيرها ولو ملكها العبد من أولها إلى آخرها فنهايتها ذلك فإذا كانت الآخرة انقلبت الدنيا واستحالت إلى عذاب شديد أو مغفرة من الله وحسن ثوابه وجزائه كما قال على بن أبي طالب الدنيا دار صدق لمن صدقها ودار عافية لمن فهم عفها ومطلب نجح لمن سالم فيها مساجد أنبياء الله ومهبط وحيه ومصلى ملائكته ومتجر أوليائه فيها اكتسبوا الرحمة وربحوا فيها العافية فمن ذا يذمها وقد آذنت بنيها ونعت نفسها وأهلها فتمثلت ببلائها وشوقت بسرورها إلى السرور تخويفا وتحذيرا وترغيبا فذمها قوم غداة الندامة وحمدها آخرون ذكرتهم فذكروا ووعظتهم فاتعظوا فيا أيها الذام للدنيا المغتر بتغريرها متى استذمت إليك بل متى غرتك أبمنازل آبائك في الثرى أم بمضاجع أمهاتك في البلاء كم رأيت موروثا كم عللت بكفيك عليلا كم مرضت مريضا بيديك تبتغى له الشفاء وتستوصف له الأطباء ثم لم تنفعه شفاعتك ولم تسعفه طلبتك مثلت لك الدنيا غداة مصرعه مصرعك ومضجعه مضجعك ثم التفت إلى المقابر فقال يا أهل الغربة ويا أهل التربة أما الدور فسكنت وأما الأموال فقسمت وأما الأزواج فنكحت فهذا خبر ما عندنا فهاتوا خبر ما عندكم ثم التفت الينا فقال أما لو أذن لهم لأخبروكم أن خير الزاد التقوى
فالدنيا في الحقيقة لا تذم وإنما يتوجه الذم إلى فعل العبد فيها وهي قنطرة أو معبر إلى الجنة أو إلى النار ولكن لما غلبت عليها الشهوات والحظوظ والغفلة والإعراض عن الله والدار الآخرة فصار هذا هو الغالب على أهلها وما فيها وهو الغالب على اسمها صار لها اسم الذم عند الإطلاق وإلا فهى مبني الآخرة ومزرعتها ومنها زاد الجنة وفيها اكتسبت النفوس الإيمان ومعرفة الله ومحبته وذكره ابتغاء مرضاته وخير عيش ناله أهل الجنة في الجنة إنما كان بما زرعوه فيها وكفى بها مدحا وفضلا لأولياء الله فيها من قرة العيون وسرور القلوب وبهجة النفوس ولذة الارواح والنعيم الذي لا يشبهه نعيم بذكره ومعرفته ومحبته وعبادته والتوكل عليه والإنابة إليه والإنس به والفرح بقربه والتذلل له ولذة مناجاته والاقبال عليه والاشتغال به عمن سواه وفيها كلامه ووحيه وهداه وروحه الذي ألقاه من أمره فأخبر به من شاء من عباده ولهذا فضل ابن عقيل وغيره هذا على نعيم الجنة وقالوا هذا حق الله عليهم وذاك حظهم ونعيمهم وحقه أفضل من حقهم قالوا والإيمان والطاعة أفضل من جزائه والتحقيق أنه لا يصح التفضيل بين أمرين في دارين مختلفين ولو أمكن اجتماعهما في دار واحدة لأمكن طلب التفضيل والإيمان والطاعة في هذه الدار أفضل ما فيها ودخول الجنة والنظر إلى وجه الله جل جلاله وسماع كلامه والفوز برضاه أفضل ما في الآخرة فهذا أفضل ما في هذه الدار وهذا أفضل ما في الدار الأخرى ولا يصح أن يقال فأي الأمرين أفضل فهذا أفضل الأسباب وهذا أفضل الغايات وبالله التوفيق.
* (فصل)
ولما وصف سبحانه حقيقة الدنيا وبين غايتها ونهايتها وانقلابها في الآخرة إلى عذاب شديد ومغفرة من الله وثواب أمر عباده بالمسابقة والمبادرة إلى ما هو خير وأبقى وأن يؤثروه على الفانى المنقطع المشوب بالانكاد والتنغيص ثم أخبر أن ذلك فضله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم وقال تعالى
﴿واضْرِبْ لَهم مَثَلَ الحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الأرْضِ فَأصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّياحُ وكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا﴾ثم ذكر سبحانه أن المال والبنين زينة الحياة الدنيا وأن الباقيات الصالحات وهي الأعمال والأقوال الصالحة التي يبقى ثوابها ويدوم جزاؤها خير ما يؤمله العبد ويرجو ثوابه وقال تعالى
﴿إنَّما مَثَلُ الحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الأرْضِ مِمّا يَأْكُلُ النّاسُ والأنْعامُ حَتّى إذا أخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَها وازَّيَّنَتْ وظَنَّ أهْلُها أنَّهم قادِرُونَ عَلَيْها أتاها أمْرُنا لَيْلًا أوْ نَهارًا فَجَعَلْناها حَصِيدًا كَأنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ولما أخبر عباده عن آفات هذه الدار دعا عباده إلى دار السلام التي سلمت من التغير والاستحالة والزوال والفناء وعم عباده بالدعوة إليها عدلا وخص من شاء بالهداية إلى طريقها فضلا
وأخبر سبحانه أن الأموال والأولاد لا تقرب الخلق إليه وإنما يقربهم إليه تقوى الله ومعاملته فيهم وحذر سبحانه عباده أن تلهيهم أموالهم وأولادهم عن ذكره وأخبر أن من ذلك فعل فهو الخاسر حقيقة لا من قل ماله وولده في الدنيا ونهى نبيه أن يمد عينيه إلى ما متع به أهل الدنيا فيها فتنة لهم واختبارا وأخبر أن رزقه الذي أعده له في الآخرة خير وأبقى من هذا الذي متعوا به
وأخبر سبحانه إنه آتاه السبع المثاني والقرآن العظيم وذلك خير وأفضل مما متع به أهل الدنيا في دنياهم وجعل ما آتاه مانعا له من مد عينيه إلى ذلك فهذا العطاء في الدنيا وما ادخر له من رزق الآخرة خير مما متع به أهل الدنيا فلا تمدن عينيك
* فصل: وإذا عرف أن الغنى والفقر والبلاء والعافية فتنة وابتلاء من الله لعبده تمتحن بها صبره وشكره علم أن الصبر والشكر مطيتان للإيمان لا يحمل إلا عليهما ولا بد لكل مؤمن منهما وكل منهما في موضعه أفضل فالصبر في مواطن الصبر أفضل والشكر في مواضع الشكر أفضل هذا إن صح مفارقة كل واحد منهما للآخر وأما إذا كان الصبر جزء مسمى الشكر والشكر جزء مسمى الصبر وكل منهما حقيقة مركبة من الأمرين معا كما تقدم بيانه فالتفضيل بينهما لا يصح إلا إذا جرد أحدهما عن الآخر وذلك فرض ذهنى يقدره الذهن ولا يوجد في الخارج ولكن يصح على وجه وهو أن العبد قد يغلب صبره على شكره الذي هو قدر زائد على مجرد الصبر من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة فلا يبقى فيه اتساع لغير صبر النفس على ما هو فيه لقوة الوارد وضيق المحل فتنصرف قواه كلها إلى كف النفس وحبسها لله وقد يغلب شكره بالأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة على قوة كفه لنفسه وحبسها لله فتكون قوة إرادته وعمله أقوى من قوة امتناعه وحبس نفسهواعتبر هذا بشخصين أحدهما حاكم على نفسه متمكن من حبسها عن الشهوات قليل التشكى للمصيبات وذلك جل عمله وآخر كثير الإعطاء لفعل الخير القاصر والمتعدى سمح النفس ببذل المعروف وآخر ضعيف النفس عن قوة الصبر فللنفس قوتان قوة الصبر والكف وامساك النفس وقوة البذل وفعل الخير والاقدام على فعل ما تكمل به وكمالها باجتماع هاتين القوتين فيها والناس في ذلك أربع طبقات فأعلاهم من اجتمعت له القوتان وسفلتهم من عدم القوتين، ومنهم من قوة صبره أكمل من قوة فعله وبذله ومنهم من هو بالعكس في ذلك، فإذا فضل الشكر على الصبر فإما أن يكون باعتبار ترجيح مقام على مقام.
وأما أن يكون باعتبار تجريد كل من الأمرين عن الآخر وقطع النظر عن اعتباره وتمام إيضاح هذا بمسالة الغنى الشاكر والفقير الصابر فلنذكر لها بابا يخصها ويكشف عن الصواب فيها.