الباحث القرآني
قال تعالى: ﴿قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ ويُخْزِهِمْ ويَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ ويَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ويُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ويَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَن يَشاءُ واللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: ١٤ ـ ١٥].
أرادَ اللهُ بذِكْرِ العذابِ في الآيةِ: ﴿يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ﴾ عندَ المواجَهةِ بالقتالِ، مِن القتلِ والتشريدِ والخوفِ والرُّعْبِ وهَجْرِ الولَدِ والأهلِ والأرضِ، وليس المرادُ بذلك تعذيبَهم عندَ القُدْرةِ عليهم بالأَسْرِ، وذلك أنّ تعذيبَ الأسيرِ محرَّمٌ.
الرَّحْمةُ بالأَسْرى وعدَمُ تعذيبِهِمْ:
والأصلُ: أنّه لا يجوزُ تعذيبُ الأسيرِ ولو كان قبلَ أسْرِهِ عدوًّا مُثخِنًا مُصِيبًا في المُسلِمينَ، لأنّ جوازَ ضَرْبِهِ كيفَما اتَّفَقَ عندَ اللِّقاءِ، وفي ساحةِ القتالِ ـ شيءٌ، وحُكْمَ التعامُلِ معه بعدَ أسْرِه ـ شيءٌ آخَرُ، على ما تقدَّمَ ذِكرُهُ عندَ قولِه تعالى: ﴿سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْناقِ واضْرِبُوا مِنهُمْ كُلَّ بَنانٍ ﴾ [الأنفال: ١٢].
وقرَنَ اللهُ الإحسانَ إلى الأسيرِ بإطعامِ المِسْكِينِ واليتيمِ مِن المُسلِمينَ، كما قال تعالى: ﴿ويُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِينًا ويَتِيمًا وأَسِيرًا إنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزاءً ولا شُكُورًا ﴾ [الإنسان: ٨ ـ ٩]، وقد قال أبو عُبَيْدٍ: «أثْنى اللهُ على مَن أحسَنَ إلى أسِيرِ المُشْرِكينَ»[[أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (١١ /٣٩٦).]]، لأنّ اللهَ يَجعَلُ في النفوسِ أجرًا ولو كانتْ كافرةً، وقد كان النبيُّ ﷺ يأمُرُ بإطعامِ الأَسْرى وكِسْوَتِهم، ففي السِّيَرِ: أنّ ثُمامَةَ بنَ أُثالٍ الحَنَفِيَّ قد أُسِرَ، فأَمَرَ النبيُّ ﷺ بالإحسانِ إليه، ثمَّ رجَعَ ﷺ إلى أهلِهِ، فقال: (اجْمَعُوا ما كانَ عِنْدَكُمْ مِن طَعامٍ، فابْعَثُوا بِهِ إلَيْهِ)، وأمَرَ بلِقْحَتِهِ أنْ يُغدى عليه بها ويُراحَ[[«سيرة ابن هشام» (٢ /٦٣٨).]].
وقد كَسا عمَّه العبّاسَ بقميصٍ لمّا وجَدَهُ عاريًا، كما في «الصَّحيحِ»، مِن حديثِ جابرٍ[[أخرجه البخاري (٣٠٠٨).]]، وبوَّبَ البخاريُّ عليه بابًا سمّاه: «باب الكِسْوَةِ للأُسارى»، وقد كسا النبيُّ ﷺ ابنةَ حاتمٍ الطائيِّ وأطلَقَها[[«سيرة ابن هشام» (٢ /٥٧٩).]].
ولم يثبُتْ أنّ النبيَّ ﷺ أو أحدًا مِن خلفائِهِ وأصحابِهِ عَذَّبَ أسيرًا لفِعْلٍ فعَلَهُ قبلَ أسْرِه، معَ كثرةِ الأَسْرى وتمرُّدِ قومِهم وشِدَّةِ كُفْرِهم وعنادِهم، ويُروى عنه ﷺ قولُهُ: (اسْتَوْصُوا بِالأُسارى خَيْرًا) [[أخرجه الطبراني في «المعجم الصغير» (٤٠٩).]]، ولذا قال مالكٌ لمّا سُئِلَ عن تعذيبِ الأسيرِ؟ قال: ما سَمِعْتُ بذلك[[«التاج والإكليل، شرح مختصر خليل» (٣ /٣٥٣).]].
وإنّما الثابتُ عن بعضِ الصحابةِ مَسُّ قِلَّةٍ منهم، لاستظهارِ شيءٍ عظيمٍ يُبطِنونَهُ، كما يأتي بيانُ ذلك بشروطِه.
وقد كان النبيُّ ﷺ يحذِّرُ مِن تعذيبِهم، وقد صحَّ في مسلمٍ، مِن حديثِ عُرْوةَ بنِ الزُّبَيْرِ، قال: مَرَّ هِشامُ بْنُ حَكِيمِ بْنِ حِزامٍ عَلى أُناسٍ مِنَ الأَنْباطِ بِالشّامِ، قَدْ أُقِيمُوا فِي الشَّمْسِ، فَقالَ: ما شَأْنُهُمْ؟ قالُوا: حُبِسُوا فِي الجِزْيَةِ، فَقالَ هِشامٌ: أشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: (إنَّ اللهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النّاسَ فِي الدُّنْيا)[[أخرجه مسلم (٢٦١٣).]].
ورأى الرسولُ أُسارى بني قُرَيْظةَ في حَرِّ الشَّمْسِ، فقال: (أحْسِنُوا إسارَهُمْ، وقَيِّلُوهُمْ، وأَسْقُوهُمْ حَتّى يُبْرِدُوا، لا تَجْمَعُوا عَلَيْهِمْ حَرَّ الشَّمْسِ وحَرَّ السِّلاحِ)[[«مغازي الواقدي» (٢ /٥١٤).]].
ولمّا فتَحَ رسولُ اللهِ ﷺ القَمُوصَ حِصْنَ ابنِ أبي الحُقَيْقِ، ثمَّ مَرَّ بلالٌ بصَفِيَّةَ بنتِ حُيَيٍّ ومعَها ابنةُ عمٍّ لها، على قَتْلى يهودَ، قال النبيُّ لبلالٍ: (أنُزِعَتِ الرَّحْمَةُ مِن قَلْبِكَ حِينَ تَمُرُّ بِالمَرْأَتَيْنِ عَلى قَتْلاهُما؟!)، رواهُ ابنُ إسحاقَ عن والدِه إسحاقَ بنِ يَسارٍ[[«شرح الزرقاني على المواهب اللدنية» (٣ /٢٧٣).]].
حُكْمُ تعذيبِ الأسيرِ لإظهارِ أمرٍ:
وإذا كان لدى الأسيرِ أمرٌ يُخْفيهِ يَنتَفِعُ منه المُسلِمونَ، فهل لهم تعذيبُهُ؟:
قد اختُلِفَ في ذلك، والأظهَرُ جوازُ تعذيبِهِ بشروطٍ ثلاثةٍ:
الشـرطُ الأوَّلُ: أنْ يَغلِبَ على الظنِّ وجودُ أمرٍ لَدَيْهِ، ولا يكونَ ذلك مِن الشكِّ المجرَّدِ والظنِّ القليلِ، وهذا يُعرَفُ بحسَبِ حالِ الأسيرِ، فالجنودُ يَختلِفونَ عن القادةِ الكِبارِ، وعَوامُّهم يَختلِفونَ عن أُمَناءِ أسْرارِهم، ولا يجوزُ تعذيبُ الواحدِ منهم بالظنِّ والتوهُّمِ المجرَّدِ لاستظهارِ ما يُخْفيهِ، فذلك محرَّمٌ.
الشـرطُ الـثـاني: أن يكونَ ما يُخْفِيهِ يَنفَعُ المُسلِمينَ لو أظهَرَهُ، وليس ممّا يُخفيهِ ونَفْعُهُ قليلٌ لا يتعلَّقُ بنُصْرةِ المؤمِنينَ، ولا يَحفَظُ دِماءَهم، ولا يَصُونُ أعراضَهم.
ولا يخلو أسيرٌ مِن سِرٍّ يُخْفِيهِ، ولم يعذِّبِ النبيُّ ﷺ ولا أصحابُهُ مِن بَعْدِهِ أسيرًا على كلِّ ما يُخْفيهِ، لأنّه ما كلُّ سرٍّ يُعذَّبُ عليه، ويُستَباحُ بمِثْلِهِ المحرَّمُ، فليس كلُّ مَن جازَ قتلُه جازَ تعذيبُه، فاللهُ أجازَ أكْلَ لحمِ بهيمةِ الأنعامِ والطُّيورِ وغيرِها بقَتْلِها، وحرَّمَ تعذيبَها وشَدَّدَ في ذلك، فحِلُّ القتلِ لا يَعني حِلَّ التعذيبِ، وقد منَعَ مالكٌ مِن قتلِ الأسيرِ في وسطِهِ بسهمٍ أو رُمْحٍ، وإنّما يكونُ بضربِ الرِّقابِ، أعجَلَ له وأحسَنَ في قِتْلَتِه، ولهذا قيل لمالكٍ: أيُضرَبُ وسَطُهُ؟ فقال: «قال اللهُ: ﴿فَضَرْبَ الرِّقابِ﴾ [محمد: ٤]، لا خيرَ في العبَثِ»[[«التاج والإكليل، شرح مختصر خليل» (٣ /٣٥٣).]]، فسمّاهُ عبَثًا.
الشرطُ الثـالثُ: ألاَّ يَطُولَ التعذيبُ عن حَدِّهِ الذي يُناسِبُ حالَ الأسيرِ وما يُخْفيهِ، ولا يجوزُ ربطُ انقطاعِهِ ببيانِ ما يَغلِبُ على الظنِّ أنّه يُخْفيهِ، فقد يَدفَعُ التعذيبُ الأسيرَ إلى الإقرارِ بما لم يَفعَلْ، ويقولُ على نَفْسِهِ الكذبَ لِيَرتفِعَ عنه العذابُ، فيَأثَمُ مَن عذَّبَهُ مِن جهتَيْنِ: مِن جهةِ تعذيبِه، ومِن جهةِ حَمْلِهِ على أن يَقولَ غيرَ الحقِّ، فيُؤخَذَ به.
وقد روى مسلمٌ في «صحيحِه»، عن أنسٍ، أنّ رسولَ اللهِ ﷺ شاوَرَ حِينَ بَلَغَهُ إقْبالُ أبِي سُفْيانَ، قالَ: فَتَكَلَّمَ أبُو بَكْرٍ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ عُمَرُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَقامَ سَعْدُ بْنُ عُبادَةَ، فَقالَ: إيّانا تُرِيدُ يا رَسُولَ اللهِ؟ والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أمَرْتَنا أنْ نُخِيضَها البَحْرَ لَأَخَضْناها، ولَوْ أمَرْتَنا أنْ نَضْرِبَ أكْبادَها إلى بَرْكِ الغِمادِ لَفَعَلْنا، قالَ: فَنَدَبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ النّاسَ، فانْطَلَقُوا حَتّى نَزَلُوا بَدْرًا، ووَرَدَتْ عَلَيْهِمْ رَوايا قُرَيْشٍ، وفِيهِمْ غُلامٌ أسْوَدُ لِبَنِي الحَجّاجِ، فَأَخَذُوهُ، فَكانَ أصْحابُ رَسُولِ اللهِ ﷺ يَسْأَلُونَهُ عَنْ أبِي سُفْيانَ وأَصْحابِهِ، فَيَقُولُ: ما لِي عِلْمٌ بِأَبِي سُفْيانَ، ولَكِنْ هَذا أبُو جَهْلٍ، وعُتْبَةُ، وشَيْبَةُ، وأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، فَإذا قالَ ذَلِكَ ضَرَبُوهُ، فَقالَ: نَعَمْ، أنا أُخْبِرُكُمْ، هَذا أبُو سُفْيانَ، فَإذا تَرَكُوهُ فَسَأَلُوهُ، فَقالَ: ما لِي بِأَبِي سُفْيانَ عِلْمٌ، ولَكِنْ هَذا أبُو جَهْلٍ، وعُتْبَةُ، وشَيْبَةُ، وأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، فِي النّاسِ، فَإذا قالَ هَذا أيْضًا ضَرَبُوهُ، ورَسُولُ اللهِ ﷺ قائِمٌ يُصَلِّي، فَلَمّا رَأى ذَلِكَ انْصَرَفَ، قالَ: (والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتَضْرِبُوهُ إذا صَدَقَكُمْ، وتَتْرُكُوهُ إذا كَذَبَكُمْ)[[أخرجه مسلم (١٧٧٩).]].
وقد رواهُ ابنُ إسحاقَ، عن يَزِيدَ بنِ رُومانَ، عن عُرْوةَ[[«سيرة ابن هشام» (١ /٦١٦).]].
وهذا ظاهرٌ في أنّ النبيَّ ﷺ إنّما أنكَرَ عليهم طُولَ الضَّرْبِ طويلًا، كأنّهم يُريدونَ منه الإقرارَ ولو بالكَذِبِ، فإنّ الأسيرَ إذا ظَنَّ أنْ لا سلامةَ إلاَّ بكَذِبِهِ كَذَبَ، وبظاهرِهِ يُؤخَذُ جوازُ الضَّرْبِ بالشروطِ السابقةِ.
وقد بوَّب أبو داودَ على حديثِ أنَسٍ لمّا أخرَجَهُ[[«سنن أبي داود» (٢٦٨١).]]: (بابٌ في الأسيرِ يُنالُ منه ويُضرَبُ ويُقرَّرُ)، ومنه أخَذَ الجوازَ جماعةٌ، كالخطّابيِّ[[«معالم السنن» (٢ /٢٨٦).]]، والنوويِّ[[«شرح النووي على مسلم» (١٢ /١٢٦).]]، وغيرِهما.
وقد رَوى البيهقيُّ، مِن حديثِ ابنِ عمرَ، في قصَّةِ فتحِ خَيْبَرَ: «فَصالَحُوهُ عَلى أنْ يُجْلَوْا مِنها، ولَهُمْ ما حَمَلَتْ رِكابُهُمْ، ولِرَسُولِ اللهِ ﷺ الصَّفْراءُ والبَيْضاءُ، ويَخْرُجُونَ مِنها، واشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ ألاَّ يَكْتُمُوا ولا يُغَيِّبُوا شَيْئًا، فَإنْ فَعَلُوا، فَلا ذِمَّةَ لَهُمْ ولا عَهْدَ، فَغَيَّبُوا مَسْكًا فِيهِ مالٌ وحُلِيٌّ لِحُيَيِّ بْنِ أخْطَبَ كانَ احْتَمَلَهُ مَعَهُ إلى خَيْبَرَ حِينَ أُجْلِيَتِ النَّضِيرُ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لِعَمِّ حُيَيٍّ: (ما فَعَلَ مَسْكُ حُيَيٍّ الَّذِي جاءَ بِهِ مِنَ النَّضِيرِ؟)، فَقالَ: أذْهَبَتْهُ النَّفَقاتُ والحُرُوبُ، فقال: «العَهْدُ قَرِيبٌ، والمالُ أكْثَرُ مِن ذَلِكَ»، فَدَفَعَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ إلى الزُّبَيْرِ، فَمَسَّهُ بِعَذابٍ، وقَدْ كانَ حُيَيٌّ قَبْلَ ذَلِكَ دَخَلَ خَرِبَةً، فَقالَ: (قَدْ رَأَيْتُ حُيَيًّا يَطُوفُ فِي خَرِبَةٍ هاهُنا)، فَذَهَبُوا وطافُوا، فَوَجَدُوا المَسْكَ فِي الخَرِبَةِ»[[أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (٩ /١٣٧).]].
وأصلُهُ عندَ أبي داودَ[[أخرجه أبو داود (٣٠٠٦).]]، وليس فيه: «مَسَّهُ بعذابٍ»، وعزاهُ بعضُهم إلى البخاريِّ، وليس كذلك، وإنّما الذي فيه طَرَفُهُ.
وفي هذا الحديثِ أنّه وقعَتِ القرينةُ، وغلَب الظنُّ على الكتمانِ، والمالُ كثيرٌ لا قليلٌ، تَقْوى به شوكةُ المُسلِمينَ، وسَلْبُهُ يَكسِرُ شَوْكةَ عدوِّهم، وقد ذكَرَ بعضُ أهلِ السِّيَرِ كالواقديِّ أنّ كَنْزَ آلِ أبي الحُقَيْقِ عظيمٌ، فقد كان الحُلِيُّ في أوَّلِ الأمرِ في مَسْكِ حَمَلٍ، فلمّا كَثُرَ جعَلُوهُ في مَسْكِ ثَوْرٍ، ثمَّ في مَسْكِ جمَلٍ، وكان ذلك الحُلِيُّ يكونُ عندَ الأكابرِ مِن آلِ أبي الحُقَيْقِ، وكانوا يُعِيرونَهُ العرَبَ[[«مغازي الواقدي» (٢ /٦٧١).]].
ولمّا انتَفَتْ قرينةُ نَفادِهِ وإهلاكِه، غلَبَ على الظنِّ كِتمانُهُمْ له، فمَسَّهم الزُّبَيْرُ بشيءٍ مِن العذابِ.
مِن مَقاصِدِ الجهادِ: علوُّ المؤمِنِينَ، وإذهابُ غَيْظِ قلوبِهم:
قولُه تعالى: ﴿ويَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ويُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ﴾.
في هذه الآيةِ: دليلٌ على اعتبارِ انتصارِ المؤمنينَ لأنفُسِهم وتَشَفِّيهم مِن عَدُوِّهم، وأنّ ما في قلوبِهم مِن غيظٍ، وما في نفوسِهم مِن ألمٍ: لهم أن يَنتَصِروا له، لكنَّه يكونُ تابعًا لا أصلًا في ابتداءِ قتالٍ، لأنّ القتالَ لمجرَّدِ التَّشفِّي للنفسِ وإذهابِ الغيظِ مِن القلبِ قتالٌ لغيرِ اللهِ، وهو مِن الحَمِيَّةِ الجاهليَّةِ، ويُستَثنى مِن ذلك انتقامُ وليِّ الدَّمِ مِن القاتلِ، في تفصيلٍ محلُّه كتبُ القِصاصِ.
والمرادُ بالآيةِ: أنّ اللهَ جعَلَ مرَضَ النفوسِ مِن عدوِّ اللهِ وعدوِّها، وغَيْظَ القلوبِ عليه ـ بابًا جائزًا لاستعمالِ قُوَّةٍ أشَدَّ، وإنزالِ بأسٍ أعظَمَ فيهم، وجوازِ دعوةِ الإمامِ الجندَ والجيشَ للانتصارِ للهِ ودينِهِ، ثُمَّ لذلك، وذلك أنّ نفوسَ المؤمنينَ للهِ، فهي تابِعةٌ في حميَّتِها لدِينِه، ولكنَّها لا تَستقِلُّ عنه، وهو يستقلُّ عنها عندَ مُخالفةِ النفوسِ له، فما كلُّ ما تُريدُهُ النَّفْسُ: حقًّا، فقد تَهْوى الباطِلَ وهي مؤمِنةٌ.
وأصلُ القتالِ لإعلاءِ كلمةِ اللهِ، ولكنْ مَن أدرَكَتْهُ الحميَّةُ مِن عدوِّ اللهِ وعدوِّهِ حينَما يَجرَحُهُ أو يَقتُلُ ولَدَهُ أو والِدَه، فيَشتَدُّ عزمُهُ لقتالِ العدوِّ والإثخانِ فيه، فذلك ليس بمذمومٍ، لأنّه ليس إنشاءً للقتالِ، بل تقويةً له، فقد جعَلَ اللهُ أصلَ إنشاءِ القتالِ له في قولِه: ﴿وقاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ [البقرة: ١٩٣]، وفي الحديثِ: (مَن قاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُلْيا، فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ عزّ وجل)[[أخرجه البخاري (١٢٣)، ومسلم (١٩٠٤).]].
ويدلُّ ذلك على أنّ المُسلِمينَ إنِ اختَلَفوا في مسألةٍ تَحتَمِلُ قولَيْنِ مُتساويَيْنِ في الشرعِ: أنّ لهم أن يُرجِّحوا ما تَشْفى به نفوسُهم، ويَذهَبُ به غيظُ قلوبِهم، كاختلافِهم في تعيينِ المصلحةِ مِن قتلِ الأَسْرى وفي قلوبِ المُسلِمينَ على عدوِّهم غيظٌ، فلهم ترجيحُ قتلِهم على فِدائِهم، تحقيقًا لِمَصْلَحةٍ اعتبَرها اللهُ، وهي ذَهابُ الغيظِ وشِفاءُ النفْسِ.
ولو لم يكُنْ ذلك معتبَرًا في الشريعةِ، لم يذكُرْهُ اللهُ في الآيةِ ممتنًّا به على المؤمنينَ، ولكنَّه يكونُ في موضِعِهِ تابعًا لا متبوعًا، واللهُ أعلَمُ.
{"ayahs_start":14,"ayahs":["قَـٰتِلُوهُمۡ یُعَذِّبۡهُمُ ٱللَّهُ بِأَیۡدِیكُمۡ وَیُخۡزِهِمۡ وَیَنصُرۡكُمۡ عَلَیۡهِمۡ وَیَشۡفِ صُدُورَ قَوۡمࣲ مُّؤۡمِنِینَ","وَیُذۡهِبۡ غَیۡظَ قُلُوبِهِمۡۗ وَیَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَىٰ مَن یَشَاۤءُۗ وَٱللَّهُ عَلِیمٌ حَكِیمٌ"],"ayah":"وَیُذۡهِبۡ غَیۡظَ قُلُوبِهِمۡۗ وَیَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَىٰ مَن یَشَاۤءُۗ وَٱللَّهُ عَلِیمٌ حَكِیمٌ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق