الباحث القرآني
﴿ويُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ﴾ بِما نالَهم مِنهم مَنِ الأذى ولَمْ يَكُونُوا قادِرِينَ عَلى دَفْعِهِ، وقِيلَ: المُرادُ يُذْهِبُ غَيْظَهم لِانْتِهاكِ مَحارِمِ اللَّهِ تَعالى والكَفْرِ بِهِ عَزَّ وجَلَّ وتَكْذِيبِ رَسُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ.
ظاهِرُ العَطْفِ أنَّ إذْهابَ الغَيْظِ غَيْرُ شِفاءِ الصُّدُورِ، ووُجِّهَ بِأنَّ الشِّفاءَ بِقَتْلِ الأعْداءِ وخِزْيِهِمْ وإذْهابَ الغَيْظِ بِالنُّصْرَةِ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ، ولِكَوْنِ النُّصْرَةِ مَدارَ القَصْدِ كانَ أثَرُها إذْهابَ الغَيْظِ مِنَ القَلْبِ الَّذِي هو أخَصُّ مِنَ الصَّدْرِ، وقِيلَ: إذْهابُ الغَيْظِ كالتَّأْكِيدِ لِشِفاءِ الصَّدْرِ وفائِدَتُهُ المُبالَغَةُ في جَعْلِهِمْ مَسْرُورِينَ بِما يَمُنُّ اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِمْ مِن تَعْذِيبِهِ أعْداءَهم وإخْزائِهِمْ ونُصْرَتِهِ سُبْحانَهُ لَهم عَلَيْهِمْ، ولَعَلَّ إذْهابَ الغَيْظِ مِنَ القَلْبِ أبْلَغُ مِمّا عُطِفَ عَلَيْهِ فَيَكُونُ ذِكْرُهُ مِن بابِ التَّرَقِّي ولا يَخْلُو عَنْ حُسْنٍ، وقِيلَ: إنَّ شِفاءَ الصُّدُورِ بِمُجَرَّدِ الوَعْدِ بِالفَتْحِ وإذْهابَ الغَيْظِ بِوُقُوعِ الفَتْحِ نَفْسِهِ ولَيْسَ بِشَيْءٍ، وقَدْ أنْجَزَ اللَّهُ تَعالى جَمِيعَ ما وعَدَهم بِهِ عَلى أجْمَلِ ما يَكُونُ، فالآيَةُ مِنَ المُعْجِزاتِ لِما فِيها مِنَ الإخْبارِ بِالغَيْبِ ووُقُوعِ ما أُخْبِرَ عَنْهُ، واسْتُدِلَّ بِها عَلى أنَّ أفْعالَ العِبادِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعالى، وقِيلَ: إنَّ أسْنادَ التَّعْذِيبِ إلَيْهِ سُبْحانَهُ مَجازٌ بِاعْتِبارِ أنَّهُ جَلَّ وعَلا مَكَّنَهم مِنهُ وأقْدَرَهم عَلَيْهِ.
وفِي الحَواشِي الشِّهابِيَّةِ قِيلَ: إنَّ قَوْلَهُ سُبْحانَهُ: ( ﴿بِأيْدِيكُمْ﴾ ) كالصَّرِيحِ بِأنَّ مِثْلَ هَذِهِ الأفْعالِ الَّتِي تَصْلُحُ لِلْبارِي فِعْلٌ لَهُ تَعالى وإنَّما لِلْعَبْدِ الكَسْبُ بِصَرْفِ القُوى والآلاتِ، ولَيْسَ الحَمْلُ عَلى الإسْنادِ المُجازِيِّ بِمُرْضِي عِنْدَ العارِفِ بِأسالِيبِ الكَلامِ، ولا الإلْزامُ بِالِاتِّفاقِ عَلى امْتِناعِ كَتْبِ اللَّهِ تَعالى بِأيْدِيكم وامْتِناعِ كَذِبِ اللَّهِ تَعالى شَأْنُهُ بِألْسِنَةِ الكَفّارِ بِوارِدٍ لِأنَّ مُجَرَّدَ خَلْقِ الفِعْلِ لا يُصَحِّحُ إسْنادَهُ إلى الخالِقِ ما لَمْ يَصْلُحْ مَحَلًّا لَهُ، وامْتِناعُ ما ذُكِرَ لِلِاحْتِرازِ عَنْ شَناعَةِ العِبارَةِ إذْ لا يُقالُ: يا خالِقَ القاذُوراتِ ولا المُقَدِّرُ لِلزِّنا والمُمَكِّنُ مِنهُ، ثُمَّ قالَ: ولا يَخْفى ما فِيهِ فَإنَّهُ تَعالى لا يَصْلُحُ مَحَلًّا لِلْقَتْلِ ولا لِلضَّرْبِ، ونَحْوُهُ مِمّا قُصِدَ بِالإذْلالِ وإنَّما هو خالِقٌ لَهُ، والفِعْلُ لا يُسْنَدُ حَقِيقَةً إلى خالِقِهِ وإنْ كانَ هو الفاعِلَ الحَقِيقِيَّ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُ وبَيْنَ الفاعِلِ اللُّغَوِيِّ إذْ لا يُقالُ: كَتَبَ اللَّهُ تَعالى بِيَدِ زَيْدٍ عَلى أنَّهُ حَقِيقَةٌ بِلا شُبْهَةٍ مَعَ أنَّهُ لا شَناعَةَ فِيهِ لِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ( كَتَبَ اللَّهُ ) فَما ذَكَرَهُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ ا هـ، وأنا أقُولُ: إنَّ مَسْألَةَ خَلْقِ الأفْعالِ قَدْ قَضى العُلَماءُ المُحَقِّقُونَ الوَطَرَ مِنها فَلا حاجَةَ إلى بَسْطِ الكَلامِ فِيها، وقَدْ تَكَلَّمُوا في الآيَةِ بِما تَكَلَّمُوا لَكِنْ بَقِيَ فِيها شَيْءٌ وهو السِّرُّ في نِسْبَةِ التَّعْذِيبِ إلَيْهِ تَعالى وذِكْرِ الأيْدِي ولَمْ يَذْكُرُوهُ، ولَعَلَّ ذَلِكَ في النِّسْبَةِ إرادَةَ المُبالَغَةِ فَإنَّهُ تَعْذِيبُ اللَّهِ تَعالى القَوِيِّ العَزِيزِ وإنْ كانَ بِأيْدِي العِبادِ، وفي ذِكْرِ الأيْدِي إمّا التَّنْصِيصُ عَلى أنَّ ذَلِكَ في الدُّنْيا لا في الآخِرَةِ وإمّا لِتَكُونَ البِشارَةُ بِالتَّعْذِيبِ عَلى الوَجْهِ الأتَمِّ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ شِفاءُ الصُّدُورِ ونَحْوُهُ عَلى الوَجْهِ الأكْمَلِ، إذْ فَرَّقَ بَيْنَ تَعْذِيبِ العَدُوِّ بِيَدِ عَدُوِّهِ وتَعْذِيبِهِ لا بِيَدِهِ، ولَعَمْرِي إنَّ الأوَّلَ أحْلى وأوْقَعُ في النَّفْسِ فافْهَمْ.
ولا يَخْفى ما في الآيَةِ مِنَ الِانْسِجامِ حَيْثُ يَخْرُجُ مِنها بَيْتٌ كامِلٌ مِنَ الشِّعْرِ ﴿ويَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَن يَشاءُ﴾ ابْتِداءُ إخْبارٍ بِأنَّ بَعْضَ هَؤُلاءِ الَّذِينَ أُمِرُوا بِمُقاتَلَتِهِمْ يَتُوبُ مِن كُفْرِهِ فَيَتُوبُ اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ، وقَدْ كانَ كَذَلِكَ حَيْثُ أسْلَمَ مِنهم (p-63)أُناسٌ وحَسُنَ إسْلامُهم، وقَرَأ الأعْرَجُ، وابْنُ أبِي إسْحاقَ، وعِيسى الثَّقَفِيُّ، وعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ ( ويَتُوبَ ) بِالنَّصْبِ ورُوِيَتْ عَنْ أبِي عَمْرٍو، ويَعْقُوبَ أيْضًا، واسْتَشْكَلَها الزَّجّاجُ بِأنَّ تَوْبَةَ اللَّهِ تَعالى عَلى مَن يَشاءُ واقِعَةٌ قاتَلُوا أوْ لَمْ يُقاتِلُوا، والمَنصُوبُ في جَوابِ الأمْرِ مُسَبَّبٌ عَنْهُ، فَلا وجْهَ لِإدْخالِ التَّوْبَةِ في جَوابِهِ، وقالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: إنَّ ذَلِكَ كَقَوْلِكَ: إنْ تَزُرْنِي أُحْسِنْ إلَيْكَ وأعْطِ زَيْدًا كَذا عَلى أنَّ المُسَبَّبَ عَنِ الزِّيارَةِ جَمِيعُ الأمْرَيْنِ لا أنَّ كُلَّ واحِدٍ مُسَبَّبٌ بِالِاسْتِقْلالِ، وقَدْ قالُوا بِنَظِيرِ ذَلِكَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾ ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وما تَأخَّرَ﴾ إلَخْ وفِيهِ تَعَسُّفٌ.
وقالَ بَعْضُهم: إنَّهُ تَعالى لَمّا أمَرَهم بِالمُقاتَلَةِ شَقَّ ذَلِكَ عَلى البَعْضِ، فَإذا قاتَلُوا جَرى قِتالُهم جَرْيَ التَّوْبَةِ مِن تِلْكَ الكَراهِيَةِ فَيَصِيرُ المَعْنى إنْ تُقاتِلُوهم يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ ويَتُبْ عَلَيْكم مِن كَراهَةِ قِتالِهِمْ، ولا يَخْفى أنَّ الظّاهِرَ أنَّ التَّوْبَةَ لِلْكُفّارِ، وذَكَرَ بَعْضُ المُدَقِّقِينَ أنَّ دُخُولَ التَّوْبَةِ في جُمْلَةِ ما أُجِيبَ بِهِ الأمْرُ مِن طَرِيقِ المَعْنى لِأنَّهُ يَكُونُ مَنصُوبًا بِالفاءِ فَهو عَلى عَكْسِ ﴿فَأصَّدَّقَ وأكُنْ﴾ وهو المُسَمّى بِعَطْفِ التَّوَهُّمِ، ووَجْهُهُ أنَّ القِتالَ سَبَبٌ لِغَلِّ شَوْكَتِهِمْ وإزالَةِ نَخْوَتِهِمْ فَيَتَسَبَّبُ لِذَلِكَ لِتَأمُّلِهِمْ ورُجُوعِهِمْ عَنِ الكُفْرِ كَما كانَ مِن أبِي سُفْيانَ، وعِكْرِمَةَ، وغَيْرِهِما، والتَّقْيِيدُ بِالمَشِيئَةِ لِلْإشارَةِ إلى أنَّها السَّبَبُ الأصْلِيُّ وأنَّ الأوَّلَ سَبَبٌ عادِيٌّ ولِلتَّنْبِيهِ إلى أنَّ إفْضاءَ القِتالِ إلى التَّوْبَةِ لَيْسَ كَإفْضائِهِ إلى البَواقِي؛ وزَعَمَ بَعْضُ الأجِلَّةِ أنَّ قِراءَةَ الرَّفْعِ عَلى مُراعاةِ المَعْنى حَيْثُ ذُكِرَ مُضارِعٌ مَرْفُوعٌ بَعْدَ مَجْزُومٍ هو جَوابُ الأمْرِ فَفُهِمَ مِنهُ أنَّ المَعْنى ويَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَن يَشاءُ عَلى تَقْدِيرِ المُقابَلَةِ لِما يَرَوْنَ مِن ثَباتِكم وضَعْفِ حالِهِمْ.
وأمّا عَلى قِراءَةِ النَّصْبِ فَمُراعاةُ اللَّفْظِ إذْ عُطِفَ عَلى المَجْزُومِ مَنصُوبٌ بِتَقْدِيرِ نَصْبِهِ ولَيْسَ بِشَيْءٍ، والحَقُّ أنَّهُ عَلى الرَّفْعِ مُسْتَأْنَفٌ كَما قَدَّمْنا ﴿واللَّهُ عَلِيمٌ﴾ لا تَخْفى عَلَيْهِ خافِيَةٌ ( ﴿حَكِيمٌ﴾ ) لا يَفْعَلُ ولا يَأْمُرُ إلّا بِما فِيهِ حِكْمَةٌ ومَصْلَحَةٌ فامْتَثِلُوا أمْرَهُ عَزَّ وجَلَّ، وإيثارُ إظْهارِ الِاسْمِ الجَلِيلِ عَلى الإضْمارِ لِتَرْبِيَةِ المَهابَةِ وإدْخالِهِ الرَّوْعَةَ.
{"ayah":"وَیُذۡهِبۡ غَیۡظَ قُلُوبِهِمۡۗ وَیَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَىٰ مَن یَشَاۤءُۗ وَٱللَّهُ عَلِیمٌ حَكِیمٌ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق