الباحث القرآني

قال تعالى: ﴿فَأَوْفُوا الكَيْلَ والمِيزانَ ولا تَبْخَسُوا النّاسَ أشْياءَهُمْ ولا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إصْلاحِها ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ۝ ولا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَن آمَنَ بِهِ وتَبْغُونَها عِوَجًا﴾ [الأعراف: ٨٥ ـ ٨٦]. في هذه الآيةِ: بيانٌ لِعِظَمِ حُرْمةِ أموالِ الناسِ، حيثُ أرسَلَ اللهُ شُعَيْبًا إلى قومِهِ لأجلِ ذلك، وقد وقَعَ قومُ شُعَيْبٍ في تطفيفِ المِكْيالِ والمِيزانِ، وفي ذلك أكلٌ لأموالِ الناسِ بالباطلِ، حيثُ تكونُ الزيادةُ والنقصانُ بغيرِ حقٍّ. وممّا وقَعُوا فيه مِن أكلِ أموالِ الناسِ بالباطلِ: أخذُ العُشُورِ مِن أموالِ الناسِ، فيَقِفُونَ في الطُّرُقاتِ ويأخُذونَ مِن كلِّ صاحبِ مالٍ عُشْرَ مالِه أو نحوَهُ بغيرِ حقٍّ، ويحذِّرونَ في طُرُقاتِهم مِن شُعَيْبٍ، ويتَّهمُونَهُ بالكذبِ، لِيَنْفِرَ الناسُ منه، كما قال في هذه الآيةِ: ﴿ولا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾. المكوسُ والضرائبُ: ويدخُلُ في حُكْمِ ما فعَلَهُ قومُ شعيبٍ: المُكُوسُ المأخوذةُ على التُّجّارِ وأهلِ الأموالِ، والمكوسُ هي الأموالُ المضروبةُ على الأموالِ بلا حقٍّ، وهي عظيمةٌ دَلَّ الدليلُ على كونِها أعظَمَ مِن الزِّنى، ولمّا رجَمَ النبيُّ ﷺ امرأةً في الزِّنى، قال: (لَقَدْ تابَتْ تَوْبَةً لَوْ تابَها صاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ) [[أخرجه مسلم (١٦٩٥).]]. وإنّما كانتِ المكوسُ أعظَمَ مِن الزِّنى مع عظَمةِ الزِّنى وكونِهِ مِن المُوبِقاتِ، لأنّ المكوسَ تتضمَّنُ حقَّ المخلوقِينَ مع حقِّ اللهِ، ولكونِها إفسادًا في الأرضِ، وهي مِن جنسِ المحارَبةِ وإن لم يكنْ فيها قطعُ طريقٍ، وهذا قد يكونُ أعظَمَ وأشَدَّ ممّا لو كان معه قطعُ طريقٍ، لأنّ قطعَ الطريقِ يُتَّقى بالسَّيْرِ نهارًا وبرُفْقةٍ، ويفعَلُهُ الناسُ خُفْيةً مع علمٍ بتحريمِه، وأمّا المكوسُ، فتُؤخَذُ مع إظهارِ حِلِّها وكَوْنِها حقًّا لآخِذِها، وهذا محادَّةٌ للهِ أعظَمُ مِن عِصْيانِهِ مع الإقرارِ بالمعصيةِ، وارتكابُ الصغائرِ مع تشريعِها ونسبتِها للهِ أعظَمُ مِن ارتكابِ الكبائرِ غيرَ الشِّركِ مع الإقرارِ بأنّها عِصْيانٌ للهِ. وتعدَّدَتْ أسماءُ العُشُورِ، فتسمّى الخَراجَ والجَماركَ والمُكُوسَ والإتاوةَ والرسومَ. أنواعُ الضرائِب والعشورِ: والعُشُورُ التي تُؤخَذُ مِن المُسلِمينَ، ويُسمّى بعضُها اليومَ ضرائبَ، على نوعَيْنِ: الـنـوعُ الأوَّلُ: أموالٌ يَضرِبُها الحُكّامُ والسلاطينُ على التُّجّارِ وأصحابِ الأموالِ المُسلِمينَ بلا شيءٍ يُقابِلُها مِن عملٍ، فلا يَحمِلونَ لهم متاعَهم، ولا يَحْمُونَهُ لهم، فتلك العُشُورُ والضرائبُ محرَّمةٌ بلا خلافٍ، وهي مِن جنسِ ما كان يفعلُهُ قومُ شُعَيْبٍ، كمَن يأخُذُ نِسْبةً على كلِّ المبيعاتِ وعلى التِّجاراتِ والمدَّخَراتِ والمملوكاتِ، وما يُؤخَذُ على أشخاصِ العاملينَ، فكلُّه عشورٌ محرَّمةٌ. النوعُ الثاني: الأموالُ التي تُؤخَذُ على التجارةِ وأصحابِ المالِ والعمّالِ مقابِلَ عملٍ يُقدِّمُهُ السُّلْطانُ والحاكمُ ونظامُهُ لهم، وذلك بحَمْلِ متاعِهِمْ وحمايتِهِ مِن قُطّاعِ الطريقِ: فإنْ كانتْ تلك الخِدْمةُ التي تُقدَّمُ لأصحابِ الأموالِ مِن بيتِ المالِ، وفي المالِ العامِّ قُدْرةٌ على إعانةِ الناسِ وحِفْظِ مالِهِمْ ورعايتِهِ، فذلك حقٌّ لهم لا يُؤخَذُ عليه عِوَضٌ. وإنْ كان في بيتِ المالِ عَجْزٌ وضَعْفٌ، فيجوزُ أخذُ مالٍ على التجاراتِ والمالِ بمِقْدارِ ما يُقدَّمُ عليه مِن عملٍ وجهدٍ، كتحميلِهِ وحفظِهِ وتخزينِه، ويكونُ بالعدلِ المقدَّرِ، لا بما يزيدُ عن ذلك، لأنّ الدُّوَلَ لا تأذَنُ أنْ يقومَ الناسُ بحِفْظِ أمْنِهم في الطُّرُقاتِ والأسواقِ والمَتاجِرِ فتَضْعُفَ هَيْبةُ السُّلْطانِ، ولا يقومُ ذلك إلاَّ بأخذِ ما يُقابِلُهُ، وهذا كلُّه مشروطٌ جوازُهُ بشرطَيْنِ: الأوَّلُ: أن يكونَ مقابِلَ عملٍ يُقدَّمُ لصاحبِ المالِ والتاجرِ. الثاني: أن يكونَ بمِقْدارِ ذلك العملِ لا يَزيدُ عليه، فلا يكونَ في المأخوذِ على صاحبِ المالِ غَبْنٌ، كمَن يُعبِّدُ للناسِ الجُسُورَ والطُّرُقاتِ والمصالحَ العامَّةَ، ويُفسِدُها مرورُ الناسِ عليها ويجبُ رعايتُها، فيُؤخَذُ منهم قَدْرُ رعايتِها. أخذُ الضرائبِ من غيرِ المسلمين: ويجوزُ أخذُ العُشُورِ والضرائبِ على أموالِ غيرِ المُسلِمينَ، وبهذا عَمِلَ عمرُ وأقَرَّهُ الصحابةُ على ذلك، والكافرُ إمّا أنْ يكونَ حربيًّا، فالأصلُ في مالِه الحِلُّ، وإمّا أن يكونَ ذمِّيًّا، فيجوزُ أخذُ الجِزْيةِ منه، وأخذُ الجِزْيةِ منه دليلٌ على أنّه في أنفُسِهم وأموالِهم حقٌّ للمُسلِمينَ، يُقدِّرُهُ حاكمٌ عالمٌ عادلٌ على ما أقامَ العدلَ فيهم مِن غيرِ ظُلْمِهم. وقد صحَّ عن ابنِ عمرَ: «أنّ عمرَ بنَ الخَطّابِ كان يَأْخُذُ مِنَ النَّبَطِ مِنَ الحِنْطَةِ والزَّيْتِ نِصْفَ العُشْرِ، يُرِيدُ بِذَلِكَ أنْ يَكْثُرَ الحَمْلُ إلى المَدِينَةِ، ويَأْخُذُ مِنَ القِطْنِيَّةِ العُشْرَ»، رواهُ مالكٌ[[أخرجه مالك في «الموطأ» (عبد الباقي) (١ /٢٨١).]]. وأخرَجَ مالكٌ أيضًا في «الموطَّأِ»، عن ابنِ شهابٍ، عن السائبِ بنِ يزيدَ، أنّه قال: «كُنْتُ غُلامًا عامِلًا مَعَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَلى سُوقِ المَدِينَةِ فِي زَمانِ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ، فَكُنّا نَأْخُذُ مِنَ النَّبَطِ العُشْرَ»[[أخرجه مالك في «الموطأ» (١ /٢٨١).]]. والأحاديثُ المرفوعةُ فيها لا تصحُّ، وأعلى شيءٍ صحيحٍ في جوازِ أخذِ العشورِ مِن غيرِ المُسلِمينَ عن عُمَرَ وأقَرَّهُ الصحابةُ، ويُروى عندَ أبي داودَ، مِن حديثِ حربِ بنِ عبيدِ اللهِ، عن جدِّه أبي أُمِّه، عن أبيهِ، قال: قال رسولُ الله ﷺ: (إنَّما العُشُورُ عَلى اليَهُودِ والنَّصارى، ولَيْسَ عَلى المُسْلِمِينَ عُشُورٌ) [[أخرجه أبو داود (٣٠٤٦).]]، ولا يصحُّ. ولا يُحفَظُ لعمرَ مخالِفٌ مِن الصحابةِ في جوازِ ذلك، وقد رَوى عبدُ الرزّاقِ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، عن عمرِو بنِ شعيبٍ: «كَتَبَ أهْلُ مَنبِجَ ومَن وراءَ بَحْرِ عَدَنَ إلى عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ يَعْرِضُونَ عَلَيْهِ أنْ يَدْخُلُوا بِتِجارَتِهِمْ أرْضَ العَرَبِ ولَهُمُ العُشُورُ مِنها، فَشاوَرَ عُمَرُ فِي ذَلِكَ أصْحابَ النَّبِيِّ ﷺ، وأَجْمَعُوا عَلى ذَلِكَ، فَهُوَ أوَّلُ مَن أخَذَ مِنهُمُ العُشُورَ»[[أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (١٠١١٨ و١٩٢٨٠).]]. ولمّا فتَحَ النبيُّ ﷺ خَيْبَرَ، أبْقى رَقَبةَ الأرضِ بأَيْدِي يهودَ، نظيرَ خَراجٍ يُؤدُّونَهُ إلى المُسلِمينَ، ومِثْلَ ذلك فعَلَ عمرُ في سَوادِ العراقِ. وإنّما كانتِ العشورُ والجِزْيةُ على الكفّارِ، لأنّه ليس عليهم في مالِهم زكاةٌ ولا صَدَقةٌ كالمُسْلِمينَ، في نقودِهِمْ ومَواشِيهِمْ ونَخِيلِهم، كما قال مالكٌ: «لَيْسَ عَلى أهْلِ الذِّمَّةِ ولا عَلى المَجُوسِ فِي نَخِيلِهِمْ، ولا كُرُومِهِمْ، ولا زُرُوعِهِمْ، ولا مَواشِيهِمْ: صَدَقَةٌ، لأَنَّ الصَّدَقَةَ إنَّما وُضِعَتْ عَلى المُسْلِمِينَ، تَطْهِيرًا لَهُمْ، ورَدًّا عَلى فُقَرائِهِمْ»[[«موطأ مالك» (١ /٢٧٩).]]. ولم يكنْ عمرُ يأخُذُ العشورَ على المُسلِمينَ، كما قالهُ ابنُ عمرَ لمّا سُئِلَ عن ذلك: هَلْ عَلِمْتَ عُمَرَ أخَذَ العُشْرَ مِنَ المُسْلِمِينَ؟ فَقالَ: لا، لَمْ أعْلَمْهُ[[أخرجه أبو عبيد في «الأموال» (١٦٤٤).]]. وقد كان عمرُ يأخُذُ مِن المُسلِمينَ زكاةً، ومِن الذمِّيِّينَ عُشُورًا، كما جاء عن أنسِ بنِ سيرينَ، قال: «بَعَثَنِي أنَسُ بْنُ مالِكٍ رضي الله عنه عَلى العُشُورِ، فَقُلْتُ: تَبْعَثُنِي عَلى العُشُورِ مِن بَيْنِ غِلْمَتِكَ؟ فَقالَ: ألا تَرْضى أنْ أجْعَلَكَ عَلى ما جَعَلَنِي عَلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ رضي الله عنه؟! أمَرَنِي أنْ آخُذَ مِنَ المُسْلِمِينَ رُبُعَ العُشْرِ، ومِن أهْلِ الذِّمَّةِ نِصْفَ العُشْرِ، ومِمَّنْ لا ذِمَّةَ لَهُ العُشْرَ»[[أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (٩ /٢١٠).]]. أخذُ خَراجِ الأرضِ مع الزكاةِ: وإذا كان المسلِمُ يَنتفِعُ بأرضِ الخراجِ، فقد اختلَفَ الفقهاءُ في جوازِ أخذِ خراجٍ عليه مع الزكاةِ على قولَيْنِ: وجمهورُ العلماءِ: على جوازِ اجتماعِ الخراجِ والزكاةِ في مالِ المسلمِ المُنتفِعِ مِن الأرضِ الخَراجِيَّةِ، وذلك أنّهم يَجعلونَها في حُكْمِ كِراءِ الأرضِ، فعليه دفعُ حقِّها إلى أهلِها، وأهلُها بيتُ المالِ، كما لو اكتَرى أرضًا مِن أحدٍ، فلا يَمنَعُ الكِراءُ الزكاةَ، ولا الزكاةُ الكِراءَ. أخذُ المالِ مِن الناسِ عند إفلاسِ بيتِ المالِ: وأجازَ بعضُ الفقهاءِ: أنْ يأخُذَ السُّلْطانُ المالَ مِن المُسلِمينَ عندَ خُلُوِّ بيتِ المالِ مِن المالِ، فيأخُذُ بما يَحفَظُ قِوامَ الدَّوْلةِ ويَحمي ثُغُورَها وداخِلَتَها، ولا يَظلِمُ ولا يَبغي ولا يَغبِنُ أحدًا في الأخذِ منه، والأظهَرُ: أنّه لا يجوزُ للسُّلْطانِ أن يأخُذَ مِن أموالِ الناسِ شيئًا عندَ خلوِّ بيتِ المالِ مِن المالِ، إلاَّ بعدَما يَسْتَنْفِقُهُمْ ويَسْتَعْطِيهِمْ، فيَستحِثُّ التُّجّارَ وأهلَ الجِدَةِ على الإنفاقِ عندَ الحاجاتِ العامَّةِ، فإنْ أنفَقُوا واكتفى بيتُ المالِ، لم يَجُزْ له أنْ يأخُذَ ما زادَ على ذلك، وإنْ أنفَقُوا ولم يَكْفِ، جازَ له أن يأخُذَ بقَدْرِ العَوَزِ والحاجةِ، وقد صحَّ عن عمرَ بنِ الخطّابِ رضي الله عنه، أنّه قال: «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِن أمْرِي ما اسْتَدْبَرْتُ، لَأَخَذْتُ فُضُولَ الأَغْنِياءِ، فَقَسَمْتُها فِي فُقَراءِ المُهاجِرِينَ»[[أخرجه ابن زنجويه في «الأموال» (١٣٦٤).]]. ولا يَحِلُّ بغيرِ الضروراتِ ولا ما زادَ عن الحاجةِ، فإنّه لا يَحِلُّ مالُ امرئٍ مسلمٍ إلاَّ بطِيبِ نفسٍ منه، ثمَّ إنّ النبيَّ ﷺ قد مَرَّتْ به شدائدُ وبالمُسلِمينَ فاقاتٌ وحاجاتٌ، ومِثْلُ ذلك في الخُلَفاءِ، فما كانوا يأخُذونَ أموالَ الناسِ كَرْهًا، بل كانوا يَستَحِثُّونَهُمْ ليُنفِقُوا فيُنفِقونَ ويَكْتفُون. ولو أخَذَ الحاكمُ زكاةَ الأغنياءِ واستحَثَّهُمْ على الصَّدَقةِ، لم يَحتَجِ المُسلِمونَ غالبًا لغيرِ ذلك، فإنّ أكثَرَ الفقرِ في الدولِ يكونُ بسببِ أمرَيْنِ: إمّا بضَعْفِ جِبايةِ الصَّدَقةِ المشروعةِ مِن الأغنياءِ، أو بسُوءِ قِسْمَتِها على الفقراءِ بعدَ جَمْعِها. ولو أقامَ الحُكّامُ الدُّوَلَ على ما أمَرَ اللهُ، لم يَحتاجُوا في الغالبِ إلى سَدِّ بيتِ المالِ بغيرِ المالِ المشروعِ، فقد جعَلَ اللهُ لبيتِ المالِ مَوارِدَ، منها الزكاةُ والصَّدَقةُ والغنيمةُ والفَيْءُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب