الباحث القرآني

﴿وإلى مَدْيَنَ أخاهم شُعَيْبًا قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكم مِن إلَهٍ غَيْرُهُ﴾ . قالَ الفَرّاءُ: مَدْيَنَ اسْمُ بَلَدٍ وقُطْرٍ، وأنْشَدَ: ؎رُهْبانُ مَدْيَنَ لَوْ رَأوْكِ تَنَزَّلُوا فَعَلى هَذا التَّقْدِيرِ وإلى أهْلِ مَدْيَنَ، وقِيلَ: اسْمُ قَبِيلَةٍ سُمِّيَتْ بِاسْمِ أبِيها مَدْيَنَ بْنِ إبْراهِيمَ قالَهُ مُقاتِلٌ وأبُو سُلَيْمانَ الدِّمَشْقِيُّ، وشُعَيْبٌ قِيلَ: هو ابْنُ بِنْتِ لُوطٍ، وقِيلَ: زَوْجُ بِنْتِهِ، وهَذِهِ مُناسَبَةٌ بَيْنَ قِصَّتِهِ وقِصَّةِ لُوطٍ، وشُعَيْبٌ اسْمٌ عَرَبِيٌّ، تَصْغِيرُ شَعْبٍ أوْ شِعْبٍ، والجُمْهُورُ عَلى أنَّ مَدْيَنَ أعْجَمِيٌّ فَإنْ كانَ عَرَبِيًّا احْتَمَلَ أنْ يَكُونَ فَعْيَلًا مِن مَدْيَنَ بِالمَكانِ أقامَ بِهِ، وهو بِناءٌ نادِرٌ، وقِيلَ: مُهْمَلٌ أوْ مَفْعَلًا مِن دانَ، فَتَصْحِيحُهُ شاذٌّ كَمَرْيَمَ ومِكْوَرَةٍ ومِطْيَبَةٍ وهو مَمْنُوعُ الصَّرْفِ عَلى كُلِّ حالٍ سَواءٌ كانَ اسْمَ أرْضٍ أوِ اسْمَ قَبِيلَةٍ أعْجَمِيًّا أمْ عَرَبِيًّا، واخْتَلَفُوا في نَسَبِ شُعَيْبٍ، فَقالَ عَطاءٌ وابْنُ إسْحاقَ وغَيْرُهُما: هو شُعَيْبُ بْنُ مِيكِيلَ بْنِ يَشْجُرَ بْنِ مَدْيَنَ بْنِ إبْراهِيمَ، واسْمُهُ بِالسُّرْيانِيَّةِ بَيْرُوتُ، وقالَ الشَّرْقِيُّ بْنُ القُطامِيِّ: شُعَيْبُ بْنُ عَنْقاءَ بْنِ ثُوَيْبِ بْنِ مَدْيَنَ بْنِ إبْراهِيمَ، وقالَ أبُو القاسِمِ إسْماعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الفَضْلِ بْنِ عَلِيِّ الطَّلْحِيُّ الأصْبَهانِيُّ في كِتابِ الإيضاحِ في التَّفْسِيرِ مِن تَأْلِيفِهِ: هو شُعَيْبُ بْنُ ثُوَيْبِ بْنِ مَدْيَنَ بْنِ إبْراهِيمَ، وقِيلَ: شُعَيْبُ بْنُ جَذْيِ بْنِ سِجْنِ بْنِ اللّامِ بْنِ يَعْقُوبَ، وكَذا قالَ ابْنُ سَمْعانَ إلّا أنَّهُ جَعَلَ مَكانَ اللّامِ لاوى، ولا يُعْرَفُ في أوْلادِ يَعْقُوبَ اللّامُ فَلَعَلَّهُ تَصْحِيفٌ مِن لاوِي، وقِيلَ: شُعَيْبُ بْنُ صَفْوانَ بْنِ عَنْقاءَ بْنِ ثُوَيْبِ بْنِ مَدْيَنَ بْنِ إبْراهِيمَ، وقالَ الشَّرِيفُ النَّسّابَةُ الجَوّانِيُّ - وهو المُنْتَهى إلَيْهِ في هَذا العِلْمِ -: هو شُعَيْبُ بْنُ حُبَيْشِ بْنِ وائِلِ بْنِ مالِكِ بْنِ حَرامِ بْنِ جُذامِ واسْمُهُ عامِرٌ أخُو نَجْمٍ وهُما ولَدا الحارِثِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ أُدَدَ بْنِ زَيْدِ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ عُرَيْبِ بْنِ زَيْدِ بْنِ كَهْلانَ بْنِ سَبَأِ بْنِ يَشْحُبَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطانَ بْنِ عابِرٍ وهو هُودٌ عَلَيْهِ السَّلامُ فَبَيْنَهُ وبَيْنَ هُودٍ في هَذا النَّسَبِ الأخِيرِ ثَمانِيَةَ عَشَرَ أبًا وبَيْنَهُما في بَعْضِ النَّسَبِ المَذْكُورِ سَبْعَةُ آباءٍ لِأنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ أنَّهُ شُعَيْبُ بْنُ ثُوَيْبِ بْنِ مَدْيَنَ بْنِ إبْراهِيمَ، وإبْراهِيمُ هو ابْنُ تارِحِ بْنِ ناحُورَ بْنِ سارُوغَ بْنِ أزَغُو بْنِ فالِغِ بْنِ عابِرٍ وهو هُودٌ عَلَيْهِ السَّلامُ، وكانَ يُقالُ لِشُعَيْبٍ: خَطِيبُ الأنْبِياءِ لِحُسْنِ مُراجَعَتِهِ قَوْمَهُ، قالَ قَتادَةُ: أُرْسِلَ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً إلى مَدْيَنَ ومَرَّةً إلى أصْحابِ الأيْكَةِ وتَعَلَّقَ إلى مَدْيَنَ، وانْتَصَبَ (أخاهم) بِأرْسَلْنا وهَذا يُقَوِّي قَوْلَ مَن نَصَبَ لُوطًا بِأرْسَلْنا وجَعَلَهُ مَعْطُوفًا عَلى الأنْبِياءِ قَبْلَهُ. ﴿قَدْ جاءَتْكم بَيِّنَةٌ مِن رَبِّكُمْ﴾ قَرَأ الحَسَنُ (آيَةٌ مِن رَبِّكم) وهَذا دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ جاءَ بِالمُعْجِزَةِ إذْ كُلُّ نَبِيٍّ لا بُدَّ لَهُ مِن مُعْجِزَةٍ تَدُلُّ عَلى صِدْقِهِ، لَكِنَّهُ لَمْ يُعَيِّنَ هُنا ما المُعْجِزَةُ ولا مِن أيِّ نَوْعٍ هي كَما أنَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ مُعْجِزاتٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا لَمْ تُعَيَّنْ في القُرْآنِ، وقالَ قَوْمٌ: كانَ شُعَيْبٌ نَبِيًّا ولَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ، والبَيِّنَةُ هُنا المَوْعِظَةُ وأنْكَرَ الزَّجّاجُ هَذا القَوْلَ، وقالَ: لا تُقْبَلُ نُبُوَّةٌ بِغَيْرِ مُعْجِزَةٍ، ومِن مُعْجِزاتِهِ أنَّهُ دَفَعَ إلى مُوسى عَصاهُ وتِلْكَ العَصا صارَتْ تِنِّينًا، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ومِن مُعْجِزاتِ شُعَيْبٍ ما رُوِيَ مِن مُحارَبَةِ عَصا مُوسى التِّنِّينَ حِينَ دَفَعَ إلَيْهِ غَنَمَهُ، ووِلادَةُ الغَنَمِ الدُّرْعِ خاصَّةً حِينَ وعَدَهُ أنْ يَكُونَ لَهُ الدُّرْعُ مِن أوْلادِها، ووُقُوعُ عَصا آدَمَ عَلى يَدِهِ في المَرّاتِ السَّبْعِ وغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ؛ لِأنَّ هَذِهِ كُلَّها كانَتْ قَبْلَ أنْ يُسْتَنْبَأ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، فَكانَتْ مُعْجِزاتٍ لِشُعَيْبٍ، وقالَ الزَّجّاجُ: وأيْضًا قالَ لِمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ هَذِهِ الأغْنامُ تَلِدُ أوْلادًا فِيها سَوادٌ وبَياضٌ وقَدْ وهَبْتُها لَكَ، فَكانَ الأمْرُ كَما أخْبَرَ عَنْهُ، وهَذِهِ الأحْوالُ كُلُّها كانَتْ مُعْجِزَةً لِشُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلامُ لِأنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ في ذَلِكَ الوَقْتِ ما ادَّعى الرِّسالَةَ انْتَهى. وما قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مُتَّبِعًا فِيهِ الزَّجّاجَ هو قَوْلُ المُعْتَزِلَةِ، وذَلِكَ أنَّ الإرْهاصَ وهو ظُهُورُ المُعْجِزَةِ عَلى (p-٣٣٧)يَدِ مَن سَيَصِيرُ نَبِيًّا ورَسُولًا بَعْدَ ذَلِكَ مُخْتَلَفٌ في جَوازِهِ، فالمُعْتَزِلَةُ تَقُولُ: هو غَيْرُ جائِزٍ فَلِذَلِكَ جَعَلُوا هَذِهِ المُعْجِزاتِ لِشُعَيْبٍ وأهْلُ السُّنَّةِ يَقُولُونَ بِجَوازِهِ، فَهي إرْهاصٌ لِمُوسى بِالنُّبُوَّةِ قَبْلَ الوَحْيِ إلَيْهِ، والحُجَجُ لِلْمَذْهَبَيْنِ مَذْكُورَةٌ في أُصُولِ الدِّينِ. ﴿فَأوْفُوا الكَيْلَ والمِيزانَ ولا تَبْخَسُوا النّاسَ أشْياءَهُمْ﴾ أمَرَهم أوَّلًا بِشَيْءٍ خاصٍّ، وهو إيفاءُ الكَيْلِ والمِيزانِ ثُمَّ نَهاهم عَنْ شَيْءٍ عامٍّ، وهو قَوْلُهُ (أشْياءَهم) و(الكَيْلُ) مَصْدَرٌ كُنِيَ بِهِ عَنِ الآلَةِ الَّتِي يُكالُ بِها كَقَوْلِهِ في هُودٍ (المِكْيالَ والمِيزانَ) فَطابَقَ قَوْلَهُ (والمِيزانَ) أوْ هو باقٍ عَلى المَصْدَرِيَّةِ، وأُرِيدَ بِالمِيزانِ المَصْدَرُ كالمِيعادِ لا الآلَةُ فَتَطابَقا، أوْ أخَذَ المِيزانَ عَلى حَذْفِ مُضافٍ أيْ ووَزْنُ المِيزانِ والكَيْلُ عَلى إرادَةِ المِكْيالِ فَتَطابَقا، والبَخْسُ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ في قَوْلِهِ ﴿ولا يَبْخَسْ مِنهُ شَيْئًا﴾ [البقرة: ٢٨٢] و(أشْياءَهم) عامٌّ في كُلِّ شَيْءٍ لَهم، وقِيلَ: أمْوالَهم، وقالَ التِّبْرِيزِيُّ: حُقُوقَهم وفي إضافَةِ الأشْياءِ إلى النّاسِ دَلِيلٌ عَلى مِلْكِهِمْ إيّاها خِلافًا لِلْإباحِيَّةِ الزَّنادِقَةِ كانُوا يَبْخَسُونَ النّاسَ في مُبايَعاتِهِمْ، وكانُوا ماكِسِينَ لا يَدَعُونَ شَيْئًا إلّا مَكَسُوهُ، ومِنهُ قِيلَ لِلْمَكْسِ البَخْسِ، ورُوِيَ أنَّهم كانُوا إذا دَخَلَ الغَرِيبُ بَلَدَهم أخَذُوا دَراهِمَهُ الجِيادَ وقالُوا هي زُيُوفٌ فَقَطَّعُوها قِطَعًا، ثُمَّ أخَذُوها بِنُقْصانٍ ظاهِرٍ وأعْطَوْهُ بَدَلَها زُيُوفًا، وكانَتْ هَذِهِ المَعْصِيَةُ قَدْ فَشَتْ فِيهِمْ في ذَلِكَ الزَّمانِ مَعَ كُفْرِهِمُ الَّذِي نالَتْهُمُ الرَّجْفَةُ بِسَبَبِهِ. ﴿ولا تُفْسِدُوا في الأرْضِ بَعْدَ إصْلاحِها﴾ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الجُمْلَةِ قَرِيبًا في هَذِهِ السُّورَةِ. ﴿ذَلِكم خَيْرٌ لَكم إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ الإشارَةُ إلى إيفاءِ الكَيْلِ والمِيزانِ وتَرْكِ البَخْسِ والإفْسادِ، و(خَيْرٌ) أفْعَلُ التَّفْضِيلِ أيْ مِنَ التَّطْفِيفِ والبَخْسِ والإفْسادِ لِأنَّ خَيْرِيَّةَ هَذِهِ لَكم عاجِلَةٌ جِدًّا مُنْقَضِيَةٌ عَنْ قَرِيبٍ مِنكم إذْ يَقْطَعُ النّاسُ مُعامَلَتَكم ويَحْذَرُونَكم فَإذا أوْفَيْتُمْ وتَرَكْتُمُ البَخْسَ والإفْسادَ جَمُلَتْ سِيرَتُكم وحَسُنَتِ الأُحْدُوثَةُ عَنْكم وقَصَدَكُمُ النّاسُ بِالتِّجاراتِ والمَكاسِبِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أخْيَرُ مِمّا كُنْتُمْ تَفْعَلُونَ لِدَيْمُومَةِ التِّجارَةِ والأرْباحِ بِالعَدْلِ في المُعامَلاتِ والتَّحَلِّي بِالأماناتِ، وقِيلَ: (ذَلِكم) إشارَةٌ إلى الإيمانِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكم مِن إلَهٍ غَيْرُهُ﴾ وإلى تَرْكِ البَخْسِ في الكَيْلِ والمِيزانِ، وقِيلَ: (خَيْرٌ) هُنا لَيْسَتْ عَلى بابِها مِنَ التَّفْضِيلِ ولِذَلِكَ فَسَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ بِقَوْلِهِ أيْ ذاكَ نافِعٌ عِنْدَ اللَّهِ مُكْسِبٌ فَوْزَهُ ورِضْوانَهُ، وظاهِرُ قَوْلِهِ: ﴿إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ أنَّهم كانُوا كافِرِينَ وعَلى ذَلِكَ يَدُلُّ صَدْرُ الآيَةِ وآخِرُ القِصَّةِ فَمَعْنى ذَلِكَ أنَّهُ لا يَكُونُ ذَلِكَ لَكم خَيْرًا ونافِعًا عِنْدَ اللَّهِ إلّا بِشَرْطِ الإيمانِ والتَّوْحِيدِ وإلّا فَلا يَنْفَعُ عَمَلٌ دُونَ إيمانٍ، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ ﴿إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ إنْ كُنْتُمْ مُصَدِّقِينَ لِي في قَوْلِي ﴿ذَلِكم خَيْرٌ لَكُمْ﴾ .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب