الباحث القرآني

قَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿وَإلى مَدْيَنَ أخاهم شُعَيْبًا قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكم مِن إلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكم بَيِّنَةٌ مِن رَبِّكم فَأوفُوا الكَيْلَ والمِيزانَ ولا تَبْخَسُوا الناسَ أشْياءَهم ولا تُفْسِدُوا في الأرْضِ بَعْدَ إصْلاحِها ذَلِكم خَيْرٌ لَكم إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ ﴿وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وتَصُدُّونَ عن سَبِيلِ اللهِ مَن آمَنَ بِهِ وتَبْغُونَها عِوَجًا واذْكُرُوا إذْ كُنْتُمْ قَلِيلا فَكَثَّرَكم وانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ المُفْسِدِينَ﴾ قِيلَ في "مَدْيَنَ"؛ إنَّهُ اسْمُ بَلَدٍ؛ وقُطْرٍ؛ وقِيلَ: اسْمُ قَبِيلَةٍ؛ وقِيلَ: هم مِن ولَدِ (p-٦١٠)مَدْيَنَ بْنِ إبْراهِيمَ الخَلِيلِ - عَلَيْهِ السَلامُ -؛ ورُوِيَ أنَّ لُوطًا - عَلَيْهِ السَلامُ - هو جَدُّ شُعَيْبٍ لِأُمِّهِ؛ وقالَ مَكِّيٌّ: كانَ زَوْجَ بِنْتِ لُوطٍ؛ ومَن رَأى "مَدْيَنَ"؛ اِسْمَ رَجُلٍ؛ لَمْ يَصْرِفْهُ؛ لِأنَّهُ مَعْرِفَةُ أعْجَمِيٌّ؛ ومَن رَآهُ اسْمًا لِلْقَبِيلَةِ؛ أوِ الأرْضِ؛ فَهو أحْرى ألّا يُصْرَفَ. وقَوْلُهُ: ﴿ "أخاهُمْ"؛﴾ مَنصُوبٌ بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿ "أرْسَلْنا"؛﴾ [الأعراف: ٩٤] في أوَّلِ القَصَصِ؛ وهَذا يُؤَيِّدُ أنَّ "لُوطًا"؛ بِهِ انْتَصَبَ؛ وأنَّ اللَفْظَ مُسْتَمِرٌّ؛ وهَذِهِ الأُخُوَّةُ في القَرابَةِ؛ وقَدْ تَقَدَّمَ القَوْلُ في "غَيْرُهُ"؛ و"غَيْرَهُ"؛ والبَيِّنَةُ إشارَةٌ إلى مُعْجِزَتِهِ؛ وإنْ كُنّا نَحْنُ لَمْ يُنَصَّ لَنا عَلَيْها. وقَرَأ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ: "قَدْ جاءَتْكم آيَةٌ مِن رَبِّكُمْ"؛ مَكانَ "بَيِّنَةٌ". وقَوْلُهُ: ﴿فَأوفُوا الكَيْلَ﴾ ؛ أمْرٌ لَهم بِالِاسْتِقامَةِ في الإعْطاءِ؛ وهو - بِالمَعْنى - في الأخْذِ والإعْطاءِ؛ وكانَتْ هَذِهِ المَعْصِيَةُ قَدْ فَشَتْ فِيهِمْ في ذَلِكَ الزَمَنِ؛ وفَحُشَتْ مَعَ كُفْرِهِمُ الَّذِي نالَتْهُمُ الرَجْفَةُ بِسَبَبِهِ؛ و﴿ "تَبْخَسُوا"؛﴾ مَعْناهُ: تَظْلِمُوا؛ ومِنهُ قَوْلُهُمْ: "تَحْسَبُها حَمْقاءَ وهي باخِسٌ"؛ أيْ: ظالِمَةٌ خادِعَةٌ؛ و"أشْياءَهُمْ"؛ يُرِيدُ أمْوالَهُمْ؛ وأمْتِعَتَهُمْ؛ مِمّا يُكالُ؛ أو يُوزَنُ. وقَوْلُهُ تَعالى ﴿ "وَلا تُفْسِدُوا"؛﴾ لَفْظٌ عامٌّ لِدَقِيقِ الفَسادِ وجَلِيلِهِ؛ وكَذَلِكَ الإصْلاحُ عامٌّ؛ والمُفَسِّرُونَ نَصُّوا عَلى أنَّ الإشارَةَ إلى الكُفْرِ بِالفَسادِ؛ وإلى النُبُوّاتِ والشَرائِعِ بِالإصْلاحِ؛ وقَوْلُهُ: ﴿ذَلِكم خَيْرٌ لَكُمْ﴾ ؛ أيْ: نافِعٌ عِنْدَ اللهِ تَعالى ؛ مُكْسِبٌ فَوْزَهُ ورِضْوانَهُ تَعالى ؛ بِشَرْطِ الإيمانِ والتَوْحِيدِ؛ وإلّا فَلا يَنْفَعُ عَمَلٌ دُونَ إيمانٍ. وقَوْلُهُ تَعالى ﴿وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ﴾ ؛ اَلْآيَةَ؛ قالَ السُدِّيُّ: هَذا نَهْيٌ عَنِ العَشّارِينَ؛ والمُتَقَبِّلِينَ؛ ونَحْوِهِ؛ مِن أخْذِ أمْوالِ الناسِ بِالباطِلِ؛ و"اَلصِّراطُ": اَلطَّرِيقُ؛ (p-٦١١)وَذَلِكَ أنَّهم كانُوا يُكْثِرُونَ مِن هَذا؛ لِأنَّهُ مِن قَبِيلِ: بَخْسِهِمْ؛ ونَقْصِهِمُ الكَيْلَ والوَزْنَ؛ وقالَ أبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عنهُ -: هو نَهْيٌ عَنِ السَلْبِ؛ وقَطْعِ الطَرِيقِ؛ وكانَ ذَلِكَ مِن فِعْلِهِمْ؛ ورَوى في ذَلِكَ حَدِيثًا عَنِ النَبِيِّ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وما تَقَدَّمَ قَبْلُ مِنَ النَهْيِ في شَأْنِ المالِ في المَوازِينِ؛ والأكْيالِ؛ والبَخْسُ يُؤَيِّدُ هَذَيْنِ القَوْلَيْنِ؛ ويُشْبِهُهُما؛ وفي هَذا كُلِّهِ تَوَعُّدٌ لِلنّاسِ إنْ لَمْ يَتْرُكُوا أمْوالَهم. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ ؛ وقَتادَةُ ؛ ومُجاهِدٌ ؛ والسُدِّيُّ أيْضًا: قَوْلُهُ تَعالى ﴿ "وَلا تَقْعُدُوا"؛﴾ نَهْيٌ لَهم عَمّا كانُوا يَفْعَلُونَهُ مِن رَدِّ الناسِ عن شُعَيْبٍ؛ فَيَتَوَعَّدُونَ مَن أرادَ المَجِيءَ إلَيْهِ؛ ويَصُدُّونَهُ؛ ويَقُولُونَ: إنَّهُ كَذّابٌ؛ فَلا تَذْهَبْ إلَيْهِ؛ عَلى نَحْوِ ما كانَتْ قُرَيْشٌ تَفْعَلُهُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وما بَعْدَ هَذا مِن ألْفاظِ الآيَةِ يُشْبِهُ هَذا القَوْلَ. وقَوْلُهُ تَعالى ﴿وَتَصُدُّونَ عن سَبِيلِ اللهِ مَن آمَنَ﴾ ؛ اَلْآيَةَ؛ المَعْنى: وتَفْتِنُونَ مَن آمَنَ؛ وتَصُدُّونَهُ عن طَرِيقِ الهُدى؛ وسَبِيلِ اللهِ تَعالى المُفْضِيَةِ إلى رَحْمَتِهِ؛ والضَمِيرُ في "بِهِ"؛ يُحْتَمَلُ أنْ يَعُودَ عَلى اسْمِ اللهِ - تَبارَكَ وتَعالى -؛ وأنْ يَعُودَ عَلى شُعَيْبٍ؛ في قَوْلِ مَن رَأى القُعُودَ عَلى الطُرُقِ؛ لِلرَّدِّ عن شُعَيْبٍ - عَلَيْهِ السَلامُ -؛ وأنْ يَعُودَ عَلى السَبِيلِ في لُغَةِ مَن يُذَكِّرُ "اَلسَّبِيلُ". وتَقَدَّمَ القَوْلُ في مِثْلِ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وَتَبْغُونَها عِوَجًا﴾ ؛ في صَدْرِ السُورَةِ؛ وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ ؛ والزَجّاجُ: كَسْرُ العَيْنِ في المَعانِي؛ وفَتْحُها في الأجْرامِ. ثُمَّ عَدَّدَ عَلَيْهِمْ نِعَمَ اللهِ - تَبارَكَ وتَعالى -؛ وأنَّهُ كَثَّرَهم بَعْدَ قِلَّةِ عَدَدٍ؛ وقِيلَ: أغْناهم بَعْدَ فَقْرٍ؛ فالمَعْنى - عَلى هَذا -: "إذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا قَدْرُكُمْ"؛ ثُمَّ حَذَّرَهم ومَثَّلَ لَهم بِمَنِ امْتُحِنَ مِنَ الأُمَمِ السابِقَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب