قال تعالى: ﴿ياأَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتّى تَسْتَأْنِسُوا وتُسَلِّمُوا عَلى أهْلِها ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَإنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أحَدًا فَلا تَدْخُلُوها حَتّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وإنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فارْجِعُوا هُوَ أزْكى لَكُمْ واللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ [النور: ٢٧ ـ ٢٨].
نَهى اللهُ عن دخولِ البيوتِ إلاَّ بإذنِ أهلِها، فإنّ لها حُرْمةً وعَوْرةً لا يجوزُ الاطِّلاعُ عليها، حتى وإنْ غلَبَ على ظنِّ الإنسانِ الإذنُ له، أو أنّه لا يَرى شيئًا يَكْرَهُهُ أهلُها لكونِهم أهلَ احتشامٍ دائمٍ، فهذا لا يجوزُ، كما أنّه لا يجوزُ له أن ينظُرَ مِن ثَقْبِ بابٍ، أو مِن فوقِ سُورٍ بحُجَّةِ أنّ أهلَهُ أهلُ احتشامٍ دائمٍ، لأنّ الحُكْمَ تعلَّقَ بالفعلِ ولو لم تُوجَدِ العِلَّةُ.
وفي قولِهِ تعالى: ﴿غَيْرَ بُيُوتِكُمْ﴾ دَلالةٌ على أنّ بيتَ الإنسانِ لا يجبُ عليه الاستئذانُ ممَّن فيه، بل يدخُلُهُ بلا استئذانٍ ممَّن فيه، وهذا ظاهرُ قولِهِ تعالى: ﴿فَإذا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلى أنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِن عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً﴾ [النور: ٦١].
وقولُه تعالى: ﴿حَتّى تَسْتَأْنِسُوا﴾: الاستئناسُ، يعني: الاستئذانَ مِن أهلِها، وقد قرَأَها ابنُ مسعودٍ وابنُ عبّاسٍ وأُبَيٌّ وسعيدُ بنُ جُبَيْرٍ: (حَتّى تَسْتَأْذِنُوا)[[«تفسير الطبري» (١٧ /٢٤١)، و«تفسير القرطبي» (١٥ /١٨٨).]]، وسُمِّيَ الاستئذانُ استئناسًا، لأنّه يُؤنِسُ صاحبَ الدارِ ويُبعِدُ عنه الوَحْشةَ والوجَلَ والخَوْفَ.
حُكْمُ الاستئذانِ عندَ دخولِ البيوتِ وصِفَتُهُ وعددُهُ:
وتحريمُ دخولِ البيوتِ إلاَّ بالاستئذانِ دليلٌ على وجوبِ الاستئذانِ، لأنّ المحرَّمَ الذي لا يُستحَلُّ إلاَّ بشرطٍ، فذلك الشرطُ واجبٌ له.
والاستئذانُ شُرِعَ لحُرْمةِ الدُّورِ وحُرْمةِ أهلِها، فلا يجوزُ دخولُها بدونِه، وقد رَوى البخاريُّ ومسلمٌ، عن سهلِ بنِ سعدٍ، قال: اطَّلَعَ رَجُلٌ مِن جُحْرٍ فِي حُجَرِ النَّبِيِّ ﷺ ومَعَ النَّبِيِّ ﷺ مِدْرًى يَحُكُّ بِهِ رَأْسَهُ، فَقالَ: (لَوْ أعْلَمُ أنَّكَ تَنْظُرُ، لَطَعَنْتُ بِهِ فِي عَيْنِكَ، إنَّما جُعِلَ الاِسْتِئْذانُ مِن أجْلِ البَصَرِ)[[أخرجه البخاري (٦٢٤١)، ومسلم (٢١٥٦).]].
وأمّا صِفَةُ الاستئذانِ عندَ إرادةِ دخولِ البيوتِ، فتكونُ بإيصالِ صوتِ الداخلِ إلى أهلِها مِن غيرِ أن يدخُلَ فيها، ولا أن يَقِفَ وسَطَ أبوابِها، بل يتنحّى عنها يمينًا أو شمالًا، حتى لا يَرى مَن فيها، كما روى أبو داودَ، مِن حديثِ عبدِ اللهِ بنِ بُسْرٍ، قال: كان رسولُ اللهِ ﷺ إذا أتى بابَ قَوْمٍ، لَمْ يَسْتَقْبِلِ البابَ مِن تِلْقاءِ وجْهِهِ، ولَكِنْ مِن رُكْنِهِ الأَيْمَنِ أوِ الأَيْسَرِ، ويَقُولُ: (السَّلامُ عَلَيْكُمْ، السَّلامُ عَلَيْكُمْ)، وذَلِكَ أنَّ الدُّورَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْها يَوْمَئِذٍ سُتُورٌ[[أخرجه أبو داود (٥١٨٦).]].
ويكونُ ذلك بطلبِ الإذنِ بالدخولِ، كقولِه: (أأدخُلُ)، أو رفعِ الصوتِ بالنحنحةِ، ويدخُلُ في ذلك كلُّ صوتٍ أو كلامٍ مُشعِرٍ بوجودِ مُستأذِنٍ للدخولِ، لاختلافِ أعرافِ أهلِ البُلْدانِ في ذلك.
ويكونُ الاستئذانُ ثلاثًا لا أكثَرَ مِن ذلك، حتى لا يكونَ مؤذِيًا لهم، فقد يكونُ أهلُ البيتِ نيامًا أو في شُغْلٍ، وفي «الصحيحَيْنِ»، مِن حديثِ أبي سعيدٍ، قال ﷺ: (إذا اسْتَأْذَنَ أحَدُكُمْ ثَلاثًا، فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، فَلْيَرْجِعْ) [[أخرجه البخاري (٦٢٤٥)، ومسلم (٢١٥٣).]]، وأمّا إطالةُ الاستئذانِ فوقَ ثلاثٍ، فلا يجوزُ إلاَّ مِن ضرورةٍ، كنذيرِ القومِ، وصاحِبِ النازلةِ المستجيرِ منها.
ورخَّص مالكٌ في الزيادةِ في الاستئذانِ فوقَ ثلاثٍ لمَن عَلِمَ أنّه لم يُسمَعْ، فلا يَرى بأسًا أن يَزِيدَ إذا استيقَنَ أنّه لم يُسمَعْ.
ويَلحَقُ بالاستئذانِ ثلاثًا الاتصالُ عبرَ وسائلِ الاتصالِ، فيكونُ ثلاثًا لا يُجاوِزُها، لأنّ الاتصالَ في حُكْمِ الاستئذانِ لا يكونُ فوقَ ثلاثٍ.
ويسقُطُ الاستئذانُ للدخولِ لِمَن دُعِيَ، فجاء مُجِيبًا في الزمانِ والمكانِ الذي دُعِيَ فيه، وقد رَوى أبو الأحوصِ، عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ، قال: «إذا دُعِيتَ، فهو إذْنُك، فسَلِّمْ ثمَّ ادخُلْ»[[أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (٢٥٨٢٨).]].
وقولُه تعالى: ﴿وتُسَلِّمُوا عَلى أهْلِها﴾ فيه مشروعيَّةُ السلامِ عندَ دخولِ البيوتِ، إشعارًا لهم بالأمانِ والطُّمَأْنِينةِ مِن الداخلِ عليهم، وقد تقدَّمَ الكلامُ على حُكْمِ بَذْلِ السلامِ وأحوالِهِ وفضلِهِ ومَراتبِه عندَ قولِهِ تعالى: ﴿وإذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنها﴾ [النساء: ٨٦].
السلامُ عندَ دخولِ البيوتِ وصِفَتُهُ وعددُهُ:
ويُشرَعُ السلامُ عندَ دخولِ البيوتِ، ويكونُ ثلاثًا بما يُسمِعُ به أهلَ البيتِ، ما لم يكنْ داخلًا على واحدٍ بعينِهِ ليس في الدارِ غيرُهُ فيكفي مرةً واحدةً، وفي «الصحيحِ»، مِن حديثِ أنسٍ رضي الله عنه: «أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كانَ إذا سَلَّمَ، سَلَّمَ ثَلاثًا، وإذا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ، أعادَها ثَلاثًا»[[أخرجه البخاري (٦٢٤٤).]].
وقد زار رسولُ اللهِ ﷺ سعدَ بنَ عُبادةَ، فقال: (السَّلامُ عَلَيْكُمْ)، فلم يَرُدُّوا، ثمَّ قال رسولُ اللهِ ﷺ: (السَّلامُ عَلَيْكُمْ)، فلم يَرُدُّوا، ثمَّ قال رسولُ اللهِ ﷺ: (السَّلامُ عَلَيْكُمْ)، فانصرَفَ رسولُ اللهِ ﷺ، فلمّا فقَدَ سعدٌ تسليمَهُ، عرَفَ أنّه قد انصرَفَ، فخرَجَ سعدٌ في أثرِهِ حتى أدرَكَهُ، فقال: وعليكم السَّلامُ يا رَسُولَ اللهِ، إنّما أرَدْنا أن نَستكثِرَ مِن تسليمِكَ، وقد واللهِ سَمِعْنا، فانصرَفَ رسولُ اللهِ ﷺ مع سَعْدٍ حتى دخَلَ بيتَه[[أخرجه أحمد (٣ /٤٢١)، وأبو داود (٥١٨٥)، والنسائي في «السنن الكبرى» (١٠٠٨٤).]].
ولا يكفي الاستئذانُ عن السلامِ، وقد كان السلفُ يَعُدُّونَ السلامَ مِفْتاحَ الدخولِ، والسلامُ قد ينوبُ عن الاستئذانِ، ولكنَّ الاستئذانَ لا ينوبُ عن السلامِ، فقد رَوى عطاءٌ، قال: «سمعتُ أبا هريرةَ يقولُ: إذا قال: أأدخُلُ؟ ولم يُسلِّمْ، فقل: لا، حتى تأتيَ بالمِفْتاحِ، قلتُ: السلامُ؟ قال: نَعَمْ»، رواهُ البخاريُّ في «الأدبِ»[[أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (١٠٨٣).]].
ورَوى صالحٌ البغدادي، قال: «بَعَثَنِي أهْلِي إلى سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ بِهَدِيَّةٍ، فانْتَهَيْتُ إلى البابِ وهُوَ يَتَوَضَّأُ، فَقُلْتُ: أدْخُلُ؟ فَسَكَتَ، ثَلاثًا، قالَ: قُلِ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ، قالَ: فَدَخَلْتُ، فَقالَ: لَمْ أرَكَ تَهْتَدِي إلى السُّنَّةِ، فَعَلَّمْتُكَ»، رواهُ ابنُ أبي شَيْبةَ[[أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (٢٥٨٣٠).]].
وأمّا إنْ كان صاحبُ الدارِ قريبًا يَسمَعُ أولَ كلامِ الداخلِ، فيُشرَعُ تقديمُ السلامِ على الاستئذانِ، لأنّ السلامَ هنا أخَذَ حُكْمَ اللقاءِ، فقد رَوى أحمد وأهلُ «السنن»، مِن حديثِ رِبْعِيٍّ، قال: حدَّثَنا رجلٌ مِن بَني عامرٍ: أنَّهُ اسْتَأْذَنَ عَلى النَّبِيِّ ﷺ وهُوَ فِي بَيْتٍ، فَقالَ: ألِجُ؟ فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ لِخادِمِهِ: (اخْرُجْ إلى هَذا، فَعَلِّمْهُ الاِسْتِئْذانَ، فَقُلْ لَهُ: قُلِ السَّلامُ عَلَيْكُمْ، أأَدْخُلُ؟)، فَسَمِعَهُ الرَّجُلُ، فَقالَ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ، أأَدْخُلُ؟ فَأَذِنَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ فَدَخَلَ[[أخرجه أحمد (٥ /٣٦٨)، وأبو داود (٥١٧٧)، والنسائي في «السنن الكبرى» (١٠٠٧٥).]].
{"ayahs_start":27,"ayahs":["یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَدۡخُلُوا۟ بُیُوتًا غَیۡرَ بُیُوتِكُمۡ حَتَّىٰ تَسۡتَأۡنِسُوا۟ وَتُسَلِّمُوا۟ عَلَىٰۤ أَهۡلِهَاۚ ذَ ٰلِكُمۡ خَیۡرࣱ لَّكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ","فَإِن لَّمۡ تَجِدُوا۟ فِیهَاۤ أَحَدࣰا فَلَا تَدۡخُلُوهَا حَتَّىٰ یُؤۡذَنَ لَكُمۡۖ وَإِن قِیلَ لَكُمُ ٱرۡجِعُوا۟ فَٱرۡجِعُوا۟ۖ هُوَ أَزۡكَىٰ لَكُمۡۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ عَلِیمࣱ"],"ayah":"فَإِن لَّمۡ تَجِدُوا۟ فِیهَاۤ أَحَدࣰا فَلَا تَدۡخُلُوهَا حَتَّىٰ یُؤۡذَنَ لَكُمۡۖ وَإِن قِیلَ لَكُمُ ٱرۡجِعُوا۟ فَٱرۡجِعُوا۟ۖ هُوَ أَزۡكَىٰ لَكُمۡۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ عَلِیمࣱ"}