قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ﴾ ذَكَرَ أهْلُ التَّفْسِيرِ أنَّ سَبَبَ نُزُولِها «أنَّ امْرَأةً مِنَ الأنْصارِ جاءَتْ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقالَتْ: يا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي أكُونُ في بَيْتِي عَلى حالٍ لا أُحِبُّ أنْ يَرانِي عَلَيْها أحَدٌ، فَلا يَزالُ يَدْخُلُ عَلَيَّ رَجُلٌ مِن أهْلِي، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ؛ فَقالَ أبُو بَكْرٍ بَعْدَ نُزُولِها: يا رَسُولَ اللَّهِ، أفَرَأيْتَ الخاناتِ والمَساكِنَ الَّتِي لَيْسَ فِيها ساكِنٌ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ: ﴿لَيْسَ عَلَيْكم جُناحٌ أنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ. .﴾ الآيَةُ.» ومَعْنى قَوْلِهِ: ﴿لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ﴾ (p-٢٨)أيْ: بُيُوتًا لَيْسَتْ لَكم. واخْتَلَفَ القُرّاءُ في باءِ البُيُوتِ، فَقَرَأ بَعْضُهم بِضَمِّها، وبَعْضُهم بِكَسْرِها. وقَدْ بَيَّنّا ذَلِكَ في (البَقَرَةِ: ١٨٩ .
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿حَتّى تَسْتَأْنِسُوا﴾ قالَ الفَرّاءُ: في الكَلامِ تَقْدِيمٌ وتَأْخِيرٌ، تَقْدِيرُهُ: حَتّى تُسَلِّمُوا وتَسْتَأْنِسُوا. قالَ الزَّجّاجُ: و﴿تَسْتَأْنِسُوا﴾ في اللُّغَةِ، بِمَعْنى تَسْتَأْذِنُوا، وكَذَلِكَ هو في التَّفْسِيرِ، والِاسْتِئْذانُ: الِاسْتِعْلامُ، تَقُولُ: آذَنْتُهُ بِكَذا، أيْ: أعْلَمْتُهُ وآنَسْتُ مِنهُ كَذا، أيْ: عَلِمْتُ مِنهُ، ومِثْلُهُ: ﴿فَإنْ آنَسْتُمْ مِنهم رُشْدًا﴾ [النِّساءِ: ٦] أيْ: عَلِمْتُمْ. فَمَعْنى الآيَةِ: حَتّى تَسْتَعْلِمُوا، يُرِيدُ أهْلَها أنْ تَدْخُلُوا، أمْ لا قالَ المُفَسِّرُونَ: وصِفَةُ الِاسْتِعْلامِ أنْ تَقُولَ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ، أأدْخُلُ؟ ولا يَجُوزُ أنْ تَدْخُلَ بَيْتَ غَيْرِكَ إلّا بِالِاسْتِئْذانِ، لِهَذِهِ الآيَةِ، ﴿ذَلِكم خَيْرٌ لَكُمْ﴾ مِن أنْ تَدْخُلُوا بِغَيْرِ إذْنٍ ﴿لَعَلَّكم تَذَكَّرُونَ﴾ أنَّ الِاسْتِئْذانَ خَيْرٌ فَتَأْخُذُونَ بِهِ، قالَ عَطاءُ: قُلْتُ لِابْنِ عَبّاسٍ: أسْتَأْذِنُ عَلى أُمِّي وأُخْتِي ونَحْنُ في بَيْتٍ واحِدٍ؟ قالَ: أيَسُرُّكَ أنْ تَرى مِنهُنَّ عَوْرَةً؟ قُلْتُ: لا، قالَ: فاسْتَأْذِنْ.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أحَدًا﴾ أيْ: إنْ وجَدْتُمُوها خالِيَةً ﴿فَلا تَدْخُلُوها حَتّى يُؤْذَنَ لَكم وإنْ قِيلَ لَكم ارْجِعُوا فارْجِعُوا﴾ أيْ: إنْ رَدُّوكم فَلا تَقِفُوا عَلى أبْوابِهِمْ وتُلازِمُوها، ﴿هُوَ أزْكى لَكُمْ﴾ يَعْنِي: الرُّجُوعُ خَيْرٌ لَكم وأفْضَلُ ﴿واللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ﴾ مِنَ الدُّخُولِ بِإذْنٍ وغَيْرِ إذَنٍ ﴿عَلِيمٌ﴾
(p-٢٩)* فَصْلٌ
وَهَلْ هَذِهِ الآيَةُ مَنسُوخَةٌ، أمْ لا؟ فِيها قَوْلانِ.
أحَدُهُما: أنَّ حُكْمَها عامٌّ في جَمِيعِ البُيُوتِ، ثُمَّ نُسِخَتْ مِنها البُيُوتُ الَّتِي لَيْسَ لَها أهْلٌ يَسْتَأْذِنُونَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكم جُناحٌ أنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ﴾، هَذا مَرْوِيٌّ عَنِ الحَسَنِ، وعِكْرِمَةَ.
والثّانِي: أنَّ الآيَتَيْنِ مَحْكَمَتانِ، فالِاسْتِئْذانُ شَرْطٌ في الأُولى إذا كانَ لِلدّارِ أهْلٌ، والثّانِيَةُ ورَدَتْ في بُيُوتٍ لا ساكِنَ لَها، والإذْنُ لا يُتَصَوَّرُ مِن غَيْرِ آذِنٍ، فَإذا بَطُلَ الِاسْتِئْذانُ، لَمْ تَكُنِ البُيُوتُ الخالِيَةُ داخِلَةً في الأُولى، وهَذا أصَحُّ.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ﴾ فِيها خَمْسَةُ أقْوالٍ.
أحَدُها: أنَّها الخاناتُ والبُيُوتُ المُبَيَّنَةُ لِلسّابِلَةِ لِيَأْوُوا إلَيْها، ويُؤْوُوا أمْتِعَتَهم قالَهُ قَتادَةُ.
والثّانِي: أنَّها البُيُوتُ الخَرِبَةُ، والمَتاعُ: قَضاءُ الحاجَةِ فِيها مِنَ الغائِطِ والبَوْلِ، قالَهُ عَطاءٌ.
والثّالِثُ: أنَّها بُيُوتُ مَكَّةَ، قالَهُ مُحَمَّدٌ بْنُ الحَنَفِيَّةِ.
والرّابِعُ: حَوانِيتُ التُّجّارِ الَّتِي بِالأسْواقِ، قالَهُ ابْنُ زَيْدٍ.
والخامِسُ: أنَّها جَمِيعُ البُيُوتِ الَّتِي لا ساكِنَ لَها، لِأنَّ الِاسْتِئْذانَ إنَّما جُعِلَ لِأجْلِ السّاكِنِ، قالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ.
فَيَخْرُجُ في مَعْنى " المَتاعِ " ثَلاثَةُ أقْوالٍ.
(p-٣٠)أحَدُهُما: الأمْتِعَةُ الَّتِي تُباعُ وتُشْتَرى. والثّانِي: إلْقاءُ الأذى مِنَ الغائِطِ والبَوْلِ. والثّالِثُ: الِانْتِفاعُ بِالبُيُوتِ لِاتِّقاءِ الحَرِّ والبَرْدِ.
{"ayahs_start":27,"ayahs":["یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَدۡخُلُوا۟ بُیُوتًا غَیۡرَ بُیُوتِكُمۡ حَتَّىٰ تَسۡتَأۡنِسُوا۟ وَتُسَلِّمُوا۟ عَلَىٰۤ أَهۡلِهَاۚ ذَ ٰلِكُمۡ خَیۡرࣱ لَّكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ","فَإِن لَّمۡ تَجِدُوا۟ فِیهَاۤ أَحَدࣰا فَلَا تَدۡخُلُوهَا حَتَّىٰ یُؤۡذَنَ لَكُمۡۖ وَإِن قِیلَ لَكُمُ ٱرۡجِعُوا۟ فَٱرۡجِعُوا۟ۖ هُوَ أَزۡكَىٰ لَكُمۡۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ عَلِیمࣱ","لَّیۡسَ عَلَیۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَدۡخُلُوا۟ بُیُوتًا غَیۡرَ مَسۡكُونَةࣲ فِیهَا مَتَـٰعࣱ لَّكُمۡۚ وَٱللَّهُ یَعۡلَمُ مَا تُبۡدُونَ وَمَا تَكۡتُمُونَ"],"ayah":"فَإِن لَّمۡ تَجِدُوا۟ فِیهَاۤ أَحَدࣰا فَلَا تَدۡخُلُوهَا حَتَّىٰ یُؤۡذَنَ لَكُمۡۖ وَإِن قِیلَ لَكُمُ ٱرۡجِعُوا۟ فَٱرۡجِعُوا۟ۖ هُوَ أَزۡكَىٰ لَكُمۡۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ عَلِیمࣱ"}