الباحث القرآني

القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [٢٧ - ٢٨] ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكم حَتّى تَسْتَأْنِسُوا وتُسَلِّمُوا عَلى أهْلِها ذَلِكم خَيْرٌ لَكم لَعَلَّكم تَذَكَّرُونَ﴾ ﴿فَإنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أحَدًا فَلا تَدْخُلُوها حَتّى يُؤْذَنَ لَكم وإنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فارْجِعُوا هو أزْكى لَكم واللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ [النور: ٢٨] . ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكم حَتّى تَسْتَأْنِسُوا﴾ أيْ: تَسْتَعْلِمُوا وتَسْتَكْشِفُوا الحالَ. هَلْ يُرادُ دُخُولُكم أمْ لا ؟ مِنَ (الِاسْتِئْناسِ ) وهو الِاسْتِعْلامُ. مِن (آنَسَ الشَّيْءَ ) إذا أبْصَرَهُ ظاهِرًا مَكْشُوفًا. أوِ المَعْنى: حَتّى يُؤْذَنَ لَكم فَتَسْتَأْنِسُوا. مِنَ (الِاسْتِئْناسِ ) الَّذِي هو خِلافُ الِاسْتِيحاشِ. لِما أنَّ المُسْتَأْذِنَ مُسْتَوْحَشٌ مِن خَفاءِ الحالِ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ عَبَّرَ بِالشَّيْءِ عَمّا هو لازِمٌ لَهُ، مَجازًا أوِ اسْتِعارَةً. وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ مِنَ (الإنْسِ ) والمَعْنى: حَتّى تَعْلَمُوا هَلْ فِيها إنْسانٌ ؟ ﴿وتُسَلِّمُوا عَلى أهْلِها﴾ أيْ: لِيُؤَمِّنَهم عَمّا يُوحِشُهم: ﴿ذَلِكُمْ﴾ أيِ: الِاسْتِئْذانُ والتَّسْلِيمُ: ﴿خَيْرٌ لَكُمْ﴾ أيْ: مِنَ الدُّخُولِ بَغْتَةً: ﴿لَعَلَّكم تَذَكَّرُونَ﴾ أيْ: فَتَتَّعِظُوا وتَعْمَلُوا بِمُوجِبِهِ. ﴿فَإنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أحَدًا﴾ [النور: ٢٨] أيْ: مِنَ الآذِنِينَ: ﴿فَلا تَدْخُلُوها حَتّى يُؤْذَنَ لَكُمْ﴾ [النور: ٢٨] أيْ: واصْبِرُوا حَتّى تَجِدُوا مَن يَأْذَنُ لَكم. ويُحْتَمَلُ: فَإنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أحَدًا مِن أهْلِها، ولَكم فِيها حاجَةٌ، فَلا تَدْخُلُوها إلّا بِإذْنِ أهْلِها. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وذَلِكَ لِأنَّ الِاسْتِئْذانَ لَمْ يُشَرَّعْ لِئَلّا يَطَّلِعَ الدّاخِلُ عَلى عَوْرَةٍ، ولا تَسْبِقَ عَيْنُهُ إلى ما لا يَحِلُّ النَّظَرُ إلَيْهِ فَقَطْ، وإنَّما شُرِعَ لِئَلّا يُوقَفَ عَلى الأحْوالِ الَّتِي يَطْوِيها النّاسُ في العادَةِ عَنْ غَيْرِهِمْ، ويَتَحَفَّظُونَ مِنَ اطِّلاعِ أحَدٍ عَلَيْها، ولِأنَّهُ تَصَرُّفٌ في مِلْكِ غَيْرِكَ. فَلا بُدَّ مِن أنْ يَكُونَ بِرِضاهُ، وإلّا أشْبَهَ الغَصْبَ والتَّغَلُّبَ. انْتَهى. (p-٤٥٠٢)﴿وإنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فارْجِعُوا﴾ [النور: ٢٨] أيْ: إنْ أُمِرْتُمْ مِن جِهَةِ أهْلِ البَيْتِ بِالرُّجُوعِ، سَواءً كانَ الأمْرُ مِمَّنْ يَمْلِكُ الإذْنَ أوْ لا، كالنِّساءِ والوَلَدانِ، فارْجِعُوا ولا تُلِحُّوا بِتَكْرِيرِ الِاسْتِئْذانِ، لِأنَّ هَذا مِمّا يَجْلِبُ الكَراهَةَ في قُلُوبِ النّاسِ، ولِذا قالَ تَعالى: ﴿هُوَ﴾ [النور: ٢٨] أيِ: الرُّجُوعُ: ﴿أزْكى لَكُمْ﴾ [النور: ٢٨] أيْ: أطْهَرُ مِمّا لا يَخْلُو عَنْهُ الإلْحاحُ والوُقُوفُ عَلى الأبْوابِ، مِن دَنَسِ الدَّناءَةِ. وأنْمى لِمَحَبَّتِكم. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وإذا نَهى عَنْ ذَلِكَ لِأدائِهِ إلى الكَراهَةِ، وجَبَ الِانْتِهاءُ عَنْ كُلِّ ما يُؤَدِّي إلَيْها مِن قَرْعِ البابِ بِعُنْفٍ، والتَّصْيِيحِ بِصاحِبِ الدّارِ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِمّا يَدْخُلُ في عاداتِ مَن لَمْ يَتَهَذَّبْ مِن أكْثَرِ النّاسِ. لَطِيفَةٌ: قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: قالَ قَتادَةُ: قالَ بَعْضُ المُهاجِرِينَ: لَقَدْ طَلَبْتُ عُمْرِي كُلَّهُ هَذِهِ الآيَةَ فَما أدْرَكْتُها: أنْ أسْتَأْذِنَ عَلى بَعْضِ إخْوانِي، فَيَقُولُ لِي: ارْجِعْ. فَأرْجِعُ وأنا مُغْتَبِطٌ. انْتَهى ﴿واللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ [النور: ٢٨] أيْ: فَيَجْزِيكم عَلى نِيَّتِكُمُ الحَسَنَةِ، في الزِّيارَةِ، أوِ المَكْرِ والخِيانَةِ بِأهْلِ المَزُورِ أوْ مالِهِ. تَنْبِيهٌ: قالَ السُّيُوطِيُّ في (الإكْلِيلِ "): في هَذِهِ الآيَةِ وُجُوبُ الِاسْتِئْذانِ عِنْدَ دُخُولِ بَيْتِ الغَيْرِ، ووُجُوبُ الرُّجُوعِ إذا لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، وتَحْرِيمُ الدُّخُولِ إذا لَمْ يَكُنْ فِيها أحَدٌ. ويُسْتَفادُ مِن هَذا تَحْرِيمُ دُخُولِ مِلْكِ الغَيْرِ، والكَوْنُ فِيهِ، وشَغْلُهُ بِغَيْرِ إذْنِ صاحِبِهِ فَيَدْخُلُ تَحْتَهُ مِنَ المَسائِلِ والفُرُوعِ ما لا يُحْصى. واسْتَدَلَّ بِالآيَةِ الأكْثَرُ عَلى الجَمْعِ بَيْنَ الِاسْتِئْذانِ والسَّلامِ. والأقَلُّ عَلى تَقْدِيمِ الِاسْتِئْذانِ عَلى السَّلامِ بِتَقْدِيمِهِ في الآيَةِ. وأجابَ الأكْثَرُونَ، بِأنَّ الواوَ لا تُفِيدُ تَرْتِيبًا، واسْتَدَلَّ بِها مَن قالَ: لَهُ الزِّيادَةُ في الِاسْتِئْذانِ عَلى ثَلاثٍ، حَتّى يُؤْذَنَ لَهُ أوْ يُصَرَّحَ بِالمَنعِ، وفُهِمَ مِنَ الآيَةِ أنَّ الرَّجُلَ لا يَسْتَأْذِنُ عِنْدَ دُخُولِ بَيْتِهِ عَلى امْرَأتِهِ. انْتَهى. (p-٤٥٠٣)وقالَ ابْنُ كَثِيرٍ: لِيُعْلَمَ أنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُسْتَأْذِنِ عَلى أهْلِ المَنزِلِ ألّا يَقِفَ تِلْقاءَ البابِ بِوَجْهِهِ، ولَكِنْ لِيَكُنِ البابُ عَنْ يَمِينِهِ أوْ يَسارِهِ، وفي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنَّهُ قالَ: ««لَوْ أنَّ امْرَأً اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إذْنٍ، فَحَذَقْتَهُ بِحَصاةٍ، فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ، ما كانَ عَلَيْكَ مِن جُناحٍ»» وأخْرَجَ الجَماعَةُ «عَنْ جابِرٍ قالَ: أتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ في دَيْنٍ كانَ عَلى أبِي. فَدَقَقْتُ البابَ، فَقالَ: «مَن ذا» فَقُلْتُ: أنا قالَ: «أنا، أنا» كَأنَّهُ كَرِهَهُ» . وإنَّما كَرِهَهُ، لِأنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ لا يُعَرِّفُ صاحِبَها، حَتّى يُفْصِحَ بِاسْمِهِ أوْ كُنْيَتِهِ الَّتِي هو مَشْهُورٌ بِها. وإلّا فَكَلُّ أحَدٍ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ بِأنا فَلا يَحْصُلُ بِهِ المَقْصُودُ الِاسْتِئْذانُ، الَّذِي هو الِاسْتِئْناسُ المَأْمُورُ بِهِ في الآيَةِ. وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قالَ: عَلَيْكُمُ الإذْنَ عَلى أُمَّهاتِكم. وعَنْ طاوُسٍ قالَ: ما مِنَ امْرَأةٍ أكْرَهُ إلَيَّ أنْ أرى عَوْرَتَها مِن ذاتِ مَحْرَمٍ. وكانَ يُشَدِّدُ النَّكِيرَ في ذَلِكَ. وقالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِعَطاءٍ: أيَسْتَأْذِنُ الرَّجُلُ عَلى امْرَأتِهِ ؟ قالَ: لا. قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وهَذا مَحْمُولٌ عَلى عَدَمِ الوُجُوبِ، وإلّا فالأوْلى أنْ يُعْلِمَها بِدُخُولِهِ، ولا يُفاجِئَها بِهِ، لِاحْتِمالِ أنْ تَكُونَ عَلى هَيْئَةٍ لا تُحِبُّ أنْ يَراها عَلَيْها. وعَنْ زَيْنَبَ امْرَأةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قالَتْ: كانَ عَبْدُ اللَّهِ إذا جاءَ مِن حاجَةٍ، فانْتَهى إلى البابِ، تَنَحْنَحَ وبَزَقَ كَراهَةَ أنْ يَهْجُمَ مِنّا عَلى أمْرٍ يَكْرَهُهُ. ولِهَذا جاءَ في الصَّحِيحِ«عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؛ أنَّهُ نَهى أنْ يَطْرُقَ الرَّجُلُ أهْلَهُ طُرُوقًا» . (p-٤٥٠٤)ثُمَّ بَيَّنَ تَعالى ما رَخَّصَ فِيهِ عَدَمَ الِاسْتِئْذانِ، بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ:
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب