الباحث القرآني

قال تعالى: ﴿قالُوا إنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أخٌ لَهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ ولَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أنْتُمْ شَرٌّ مَكانًا واللَّهُ أعْلَمُ بِما تَصِفُونَ ۝﴾ [يوسف: ٧٧]. تكلَّمَ إخوةُ يوسُفَ بالسُّوءِ في يوسُفَ مع تقادُمِ العهدِ وبُعْدِه، مع ما فعَلُوهُ به مِن تغييبٍ، وما لَحِقَهُ بعدَ ذلك مِن استعبادٍ ومُراودةٍ على فتنةٍ، ثمَّ سَجْنِهِ وطُولِ مُكْثِهِ فيه، ومع ذلك كلِّه لم يَنتصِرْ يوسُفُ لنفسِهِ منهم. انتصارُ الحاكِمِ للهِ ولِنَفْسِهِ: وفي هذا: أنّه ينبغي لمَن كان عملُهُ للهِ ويقومُ بأمرِ اللهِ في الناسِ: أنْ يَغِيبَ انتصارُهُ لنفسِه، لأنّه إنْ كان الانتصارُ لنفسِهِ في كلِّ ما فاتَ مِن حقِّه، غابَ معه العدلُ، والقائمُ للهِ قد باعَ نفسَهُ له، فلا يَليقُ بمَن باعَ نفسَهُ للهِ أنْ يَنتصِرَ لها، فإنّها ليستْ له. وهكذا ينبغي لأصحابِ الولاياتِ ـ وخاصَّةً الكُبْرى ـ ألاَّ يَنتصِرُوا لأنفُسِهم، لأنّ مَنِ اتَّسَعَ أمرُهُ في الناسِ وسُلْطانُه، نالَ الناسُ منه ووقَعُوا فيه، لكثرةِ الجُهّالِ والظَّلَمَةِ، وربَّما تكلَّمَ فيه بعضُ الناسِ بحقٍّ، فإنِ انتصَرَ لنفسِهِ في كلِّ مَظلِمةٍ مِن فعلٍ وقولٍ، انشغَلَ بالانتِصارِ لنفسِهِ عن الانتصارِ لأمَّتِه، وعاشَ لنفسِهِ ولم يَعِشْ لأُمَّتِه، وقد وقَعَ أقوامٌ مِن الجَهَلةِ والمُنافِقينَ والظَّلَمةِ في النبيِّ ﷺ وهم تحتَ سُلْطانِه، فلم يَنتصِرْ لنفسِه، كما وقَعَ فيه جماعةٌ مِن جَهَلةِ الأعرابِ، وذو الخُوَيْصِرَةِ، وبعضُ المُنافِقينَ كعبدِ اللهِ بنِ أُبَيٍّ وغيرِه. والوقوعُ في الحاكِمِ وعِرْضِهِ ممَّن تحتَ سُلْطانِه ليس على حالةٍ واحدةٍ، وإنّما هو على حالتَيْنِ: الحالةُ الأُولى: إنْ وقَعَ أحدٌ في شخصِهِ مجرَّدًا، فأساء إليه أمامَهُ أو خلفَهُ، فلا ينبغي أن ينتصِرَ الحاكمُ والسُّلْطانُ لنفسِه، وإنّما يعفو أو يَتغافَلُ، كما كان الأنبياءُ والنبيُّ ﷺ يفعلُ، لأنّ الانتصارَ في مِثْلِ هذه الأشياءِ تتَّسِعُ دائرتُهُ، لكثرةِ أشخاصِ الناسِ وانفرادِ الحاكِمِ بشخصِه. الحالةُ الـثانيةُ: أن يكونَ الوقوعُ فيه لا لِذاتِه، وإنّما لِما يَدْعُو إليه مِن دِينِ اللهِ وحُكْمِهِ وبيانِ شرعِه، فإنّ هذا يتحوَّلُ مِن الكلامِ في نفسِ الحاكمِ إلى الكلامِ في شريعتِهِ ودِينِهِ وعدلِه، وقد كان النبيُّ ﷺ يُفرِّقُ بينَ مَن يقَعُ في ذاتِهِ وبينَ مَن يقعُ في دِينِه، وبينَ مَن يقعُ في ذاتِهِ وبينَ مَن يقعُ في ذاتِه وهو يُريدُ دِينَه، وفي «الصحيحِ»، مِن حديثِ عائشةَ، قالتْ: «واللهِ، ما انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ فِي شَيْءٍ يُؤْتى إلَيْهِ قَطُّ، حَتّى تُنْتَهَكَ حُرُماتُ اللهِ، فَيَنْتَقِمُ لِلَّهِ»[[أخرجه البخاري (٦٧٨٦).]]. فإنْ كان الذي وقَعَ في دِينِهِ وشريعتِهِ وعدلِ اللهِ الذي يقومُ به في الناسِ ـ لم يَجهَرْ بذلك في الناسِ، ولم يَدْعُ الناسَ إلى قولِه ـ: فيُترَكُ كما ترَكَ النبيُّ ﷺ ذا الخُوَيْصِرَةِ وجَهَلةَ الأعرابِ حينَما قالوا ذلك أمامَهُ. وإنْ كان وقوعُهُ في دِينِهِ وشريعتِهِ وعدلِ اللهِ الذي يقومُ به في الناسِ ـ علانيَةً ويَدْعُو الناسَ إلى قولِهِ ـ: فذاك يَبغي فتنةً في دِينِ الناسِ وإبعادًا لهم عن دِينِهم، ومِن هذا قَتْلُ النبيِّ ﷺ لبعضِ مَن وقَعَ فيه ويُؤذِيهِ يبغي دِينَهُ وشريعتَهُ وصَدَّ الناسِ عن اتِّباعِه، كما فعَلَ بكعبِ بنِ الأَشْرَفِ وأمثالِه.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب