الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿قالُوا إنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أخٌ لَهُ مِن قَبْلُ فَأسَرَّها يُوسُفُ في نَفْسِهِ ولَمْ يُبْدِها لَهم قالَ أنْتُمْ شَرٌّ مَكانًا واللهُ أعْلَمُ بِما تَصِفُونَ﴾ الضَمِيرُ في "قالُوا" لِإخْوَةِ يُوسُفَ، والأخِ الَّذِي أشارُوا إلَيْهِ هو يُوسُفُ، ونَكَّرُوهُ تَحْقِيرًا لِلْأمْرِ؛ إذْ كانَ مِمّا لا عِلْمَ لِلْحاضِرِينَ بِهِ، ثُمَّ ألْصَقُوهُ بِبِنْيامِينَ إذْ كانَ شَقِيقَهُ. ويَحْتَمِلُ قَوْلُهُمْ: ﴿إنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أخٌ لَهُ مِن قَبْلُ﴾ تَأْوِيلَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّهم حَقَّقُوا السَرِقَةَ في جانِبِ بِنْيامِينَ ويُوسُفَ عَلَيْهِما السَلامُ بِحَسَبَ ظاهِرِ الحُكْمِ، فَكَأنَّهم قالُوا: إنْ كانَ قَدْ سَرَقَ فَغَيْرُ بِدَعٍ مِنَ ابْنِي راحِيلَ؛ لِأنَّ أخاهُ يُوسُفَ كانَ قَدْ سَرَقَ، فَهَذا مِنَ الإخْوَةِ إنْحاءٌ عَلى ابْنِي راحِيلَ: يُوسُفَ وبِنْيامِينَ. والوَجْهُ الآخَرُ الَّذِي يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهم يَتَضَمَّنُ أنَّ السَرِقَةَ في جانِبِ يُوسُفَ وبِنْيامِينَ مَظْنُونَةٌ، كَأنَّهم قالُوا: إنْ كانَ هَذا الَّذِي رُمِيَ بِهِ بِنْيامِينُ حَقًّا في نَفْسِهِ فالَّذِي رُمِيَ بِهِ يُوسُفُ قَبْلَ حَقٌّ إذا، وكَأنَّ قِصَّةَ يُوسُفَ والظَنَّ بِهِ قَوِيٌّ عِنْدَهم أقْوى مِمّا ظَهَرَ في جِهَةِ بِنْيامِينَ. وقالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: "التَقْدِيرُ: فَقَدْ قِيلَ عن يُوسُفَ إنَّهُ سَرَقَ"، ونَحْوُ هَذا مِنَ القَوْلِ الَّذِي لا يَنْطَبِقُ مَعْناهُ عَلى لَفْظِ الآيَةِ. (p-١٢٦)وَهَذِهِ الأقْوالُ مِنهم عَلَيْهِمُ السَلامُ إنَّما كانَتْ بِحَسْبَ الظاهِرِ ومُوجِبِ الحُكْمِ في النازِلِينَ، فَلَمْ يَعْنُوا في غَيْبَةٍ لِيُوسُفَ، وإنَّما قَصَدُوا الإخْبارَ بِأمْرٍ جَرى لِتَزُولَ بَعْضُ المَعَرَّةِ عنهم ويَخْتَصُّ بِها هَذانِ الشَقِيقانِ. وأمّا ما رُوِيَ في سَرِقَةِ يُوسُفَ فَثَلاثَةُ وُجُوهٍ: الجُمْهُورُ مِنها عَلى أنَّ عَمَّتَهُ كانَتْ رَبَّتْهُ، فَلَمّا شَبَّ أرادَ يَعْقُوبُ أخْذَهُ مِنها، فَوُلِعَتْ بِهِ وأشْفَقَتْ مِن فِراقِهِ، فَأخَذَتْ مِنطَقَةَ إسْحاقَ -وَكانَتْ مُتَوارَثَةً عِنْدَهُمْ- فَنَطَّقَتْهُ بِها مِن تَحْتِ ثِيابِهِ، ثُمَّ صاحَتْ وقالَتْ: إنِّي قَدْ فَقَدْتُ المِنطَقَةَ ويُوسُفُ قَدْ خَرَجَ بِها، فَفُتَّشَ فَوُجِدَتْ عِنْدَهُ، فاسْتَرَقَّتْهُ -حَسْبَما كانَ في شَرْعِهِمْ- وبَقِيَ عِنْدَها حَتّى ماتَتْ فَصارَ عِنْدَ أبِيهِ، وقالَ ابْنُ إدْرِيسَ عن أبِيهِ: إنَّما أكَلَ بَنُو يَعْقُوبَ طَعامًا فَأخَذَ يُوسُفُ عَرْقًا فَخَبَّأهُ فَرَمَوْهُ لِذَلِكَ بِالسَرِقَةِ، وقالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وقَتادَةُ: إنَّما أمَرَتْهُ أُمُّهُ أنْ يَسْرِقَ صَنَمًا لِأبِيها، فَسَرَقَهُ وكَسَرَهُ، وكانَ ذَلِكَ -مِنها ومِنهُ- تَغْيِيرًا لِلْمُنْكِرِ، وفي كِتابِ الزَجّاجِ أنَّهُ كانَ صَنَمٌ ذَهَبٌ. والضَمِيرُ في قَوْلِهِ: ﴿فَأسَرَّها﴾ عائِدٌ يُرادُ بِهِ الحَزّازَةُ الَّتِي حَدَثَتْ في نَفْسِ يُوسُفَ مِن قَوْلِهِمْ، والكَلامُ يَتَضَمَّنُها، وهَذا كَما تَضَمَّنَ الكَلامُ الضَمِيرَ الَّذِي في قَوْلِ حاتِمٍ: ؎ لَعَمْرُكَ ما يُغْنِي الثَراءُ عَنِ الفَتى ∗∗∗ إذا حَشْرَجَتْ يَوْمًا وضاقَ بِها الصَدْرُ وهَذا كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ثُمَّ إنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِن بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وصَبَرُوا إنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النحل: ١١٠] فَهو مُرادٌ بِها الحالَةُ المُتَحَصِّلَةُ مِن هَذِهِ الأفْعالِ المَذْكُورَةِ في الآيَةِ. وقالَ قَوْمٌ: أسَرَّ المُجازاةَ، وقالَ قَوْمٌ: أسَرَّ الحُجَّةَ. وما قَدَّمْناهُ ألْيَقُ. وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ: "فَأسَرَّهُ يُوسُفُ " بِضَمِيرِ تَذْكِيرٍ. (p-١٢٧)وَقَوْلُهُ: ﴿أنْتُمْ شَرٌّ مَكانًا﴾ الآيَةُ. الظاهِرُ مِنهُ أنَّهُ قالَها إفْصاحًا، فَكَأنَّهُ أسَرَّ لَهم كَراهِيَةَ مَقالَتِهِمْ ثُمَّ وبَّخَهم بِقَوْلِهِ: ﴿أنْتُمْ شَرٌّ مَكانًا﴾ أيْ لِسُوءِ أفْعالِكُمْ، واللهُ يَعْلَمُ إنْ كانَ ما وصَفْتُمُوهُ حَقًّا، وفي اللَفْظِ إشارَةٌ إلى تَكْذِيبِهِمْ، ومِمّا يُقَوِّي هَذا عِنْدِي أنَّهم تَرَكُوا الشَفاعَةَ بِأنْفُسِهِمْ وعَدَلُوا إلى الشَفاعَةِ بِالشَيْخِ عَلَيْهِ السَلامُ، وقالَتْ فِرْقَةٌ -وَهُوَ ظاهِرُ كَلامِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما-: لَمْ يَقُلْ يُوسُفُ هَذا الكَلامَ إلّا في نَفْسِهِ، وإنَّما هو تَفْسِيرٌ لِلَّذِي أسَرَّ في نَفْسِهِ، أيْ: هَذِهِ المَقالَةُ هي الَّتِي أسَرَّ، فَكَأنَّ المُرادَ: قالَ في نَفْسِهِ: "أنْتُمْ". وذَكَرَ الطَبَرِيُّ هُنا قَصَصًا اخْتِصارُهُ أنَّهُ لَمّا اسْتُخْرِجَتِ السِقايَةُ مِن رَحْلِ بِنْيامِينَ قالَ إخْوَتُهُ: يا بَنِي راحِيلَ، ألا يَزالُ البَلاءُ يَنالَنا مِن جِهَتِكُمْ؟! فَقالَ بِنْيامِينُ: بَلْ بَنُو راحِيلَ يَنالَهُمُ البَلاءُ مِنكُمْ: ذَهَبْتُمْ بِأخِي فَأهْلَكْتُمُوهُ، ووَضَعَ هَذا الصُواعَ في رَحْلِي الَّذِي وضَعَ الدَراهِمَ في رِحالِكُمْ، فَقالُوا: لا تَذْكُرَ الدَراهِمَ وإلّا أُخِذْنا بِها، ثُمَّ دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ فَأخَذَ الصُواعَ فَنَقَرَهُ فَطَنَّ، فَقالَ: إنَّهُ يُخْبِرُ أنَّكم ذَهَبْتُمْ بِأخٍ لَكم فَبِعْتُمُوهُ، فَسَجَدَ بِنْيامِينُ وقالَ: أيُّها العَزِيزُ، سَلْ صُواعَكَ هَذا يُخْبِرُكَ بِالحَقِّ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ونَحْوُ هَذا مِنَ القَصَصِ الَّذِي آثَرْنا اخْتِصارَهُ، ورُوِيَ أنْ رُوبِيلَ غَضِبَ ووَقَفَ شَعْرُهُ حَتّى خَرَجَ مِن ثِيابِهِ، فَأمَرَ يُوسُفُ بُنَيًّا لَهُ فَمَسَّهُ فَسَكَنَ غَضَبُهُ، فَقالَ رُوبِيلُ: لَقَدْ مَسَّنِي أحَدٌ مِن ولَدِ يَعْقُوبَ، ثُمَّ إنَّهم تَشاوَرُوا في مُحارَبَةِ يُوسُفَ -وَكانُوا أهْلَ قُوَّةٍ لا يُدانُونَ في ذَلِكَ- فَلَمّا أحَسَّ يُوسُفُ بِذَلِكَ قامَ إلى رُوبِيلَ فَلَبَّبَهُ وصَرَعَهُ، فَرَأوا مِن قُوَّتِهِ ما اسْتَعْظَمُوهُ عِنْدَ ذَلِكَ، وقالُوا: أيُّها العَزِيزُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب