﴿وَذَا ٱلنُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَـٰضِبࣰا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقۡدِرَ عَلَیۡهِ فَنَادَىٰ فِی ٱلظُّلُمَـٰتِ أَن لَّاۤ إِلَـٰهَ إِلَّاۤ أَنتَ سُبۡحَـٰنَكَ إِنِّی كُنتُ مِنَ ٱلظَّـٰلِمِینَ﴾ [الأنبياء ٨٧]
قَوْلُهُ تَعالى:
﴿وَذا النُّونِ إذْ ذَهَبَ مُغاضِبًا فَظَنَّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى في الظُّلُماتِ أنْ لا إلَهَ إلّا أنْتَ سُبْحانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ﴾ ﴿فاسْتَجَبْنا لَهُ ونَجَّيْناهُ مِنَ الغَمِّ وكَذَلِكَ نُنْجِي المُؤْمِنِينَ﴾ .
أيْ: واذْكُرْ ذا النُّونِ. والنُّونُ: الحُوتُ. ”وَذا“ بِمَعْنى صاحِبٍ. فَقَوْلُهُ: وذا النُّونِ مَعْناهُ: صاحِبُ الحُوتِ. كَما صَرَّحَ اللَّهُ بِذَلِكَ في ”القَلَمِ“ في قَوْلِهِ:
﴿وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الحُوتِ﴾ الآيَةَ
[القلم: ٤٨] . وإنَّما أضافَهُ إلى الحُوتِ لِأنَّهُ التَقَمَهُ كَما قالَ تَعالى:
﴿فالتَقَمَهُ الحُوتُ وهو مُلِيمٌ﴾ [الصافات: ١٤٢] .
وَقَوْلُهُ:
﴿فَظَنَّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ [الأنبياء: ٨٧] فِيهِ وجْهانِ مِنَ التَّفْسِيرِ لا يَكْذِّبُ أحَدُهُما الآخَرَ:
الأوَّلُ: أنَّ المَعْنى لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ أيْ: لَنْ نُضَيِّقَ عَلَيْهِ في بَطْنِ الحُوتِ. ومِن إطْلاقِ ”قَدَرَ“ بِمَعْنى ”ضَيَّقَ“ في القُرْآنِ قَوْلُهُ تَعالى:
﴿اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشاءُ ويَقْدِرُ﴾ [الرعد: ٢٦] أيْ: ويُضَيِّقُ الرِّزْقَ عَلى مَن يَشاءُ، وقَوْلِهِ تَعالى:
﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمّا آتاهُ اللَّهُ﴾ الآيَةَ
[الطلاق: ٧] . فَقَوْلُهُ:
﴿وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ﴾ [الطلاق: ٧] أيْ: ومَن ضُيِّقَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ.
الوَجْهُ الثّانِي: أنَّ مَعْنى لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ
[الأنبياء: ٨٧] لَنْ نَقْضِيَ عَلَيْهِ ذَلِكَ. وعَلَيْهِ فَهو مِنَ القَدَرِ والقَضاءِ. ”وَقَدَرَ“ بِالتَّخْفِيفِ تَأْتِي بِمَعْنى ”قَدَّرَ“ المُضَعَّفَةِ: ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى:
﴿فالتَقى الماءُ عَلى أمْرٍ قَدْ قُدِرَ﴾ [القمر: ١٢] أيْ: قَدَّرَهُ اللَّهُ. ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ - وأنْشَدَهُ ثَعْلَبٌ شاهِدًا لِذَلِكَ -:
فَلَيْسَتْ عَشِياتُ الحِمى بِرَواجِعٍ لَنا أبَدًا ما أوْرَقَ السَّلِمُ النَّضِرُ
وَلا عائِدٌ ذاكَ الزَّمانُ الَّذِي مَضى ∗∗∗ تَبارَكْتَ ما تَقْدِرُ يَقَعُ لَكَ الشُّكْرُ
والعَرَبُ تَقُولُ: قَدَرَ اللَّهُ لَكَ الخَيْرَ يَقْدِرُهُ قَدْرًا، كَضَرَبَ يَضْرِبُ، ونَصَرَ يَنْصُرُ، بِمَعْنى قَدَّرَهُ لَكَ تَقْدِيرًا. ومِنهُ عَلى أصَحِّ القَوْلَيْنِ ”لَيْلَةُ القَدْرِ“؛ لِأنَّ اللَّهَ يُقَدِّرُ فِيها الأشْياءَ. كَما قالَ تَعالى:
﴿فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أمْرٍ حَكِيمٍ﴾ [الدخان: ٤] والقَدَرُ بِالفَتْحِ، والقَدْرُ بِالسُّكُونِ: ما يُقَدِّرُهُ اللَّهُ مِنَ القَضاءِ. ومِنهُ قَوْلُ هُدْبَةَ بْنِ الخَشْرَمِ:
ألا يا لَقَوْمِي لِلنَّوائِبِ والقَدَرِ ∗∗∗ ولِلْأمْرِ يَأْتِي المَرْءُ مِن حَيْثُ لا يَدْرِي
أمّا قَوْلُ مَن قالَ: إنَّ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ
[الأنبياء: ٨٧] مِنَ القُدْرَةِ فَهو قَوْلٌ باطِلٌ بِلا شَكٍّ؛ لِأنَّ نَبِيَّ اللَّهِ يُونُسَ لا يَشُكُّ في قُدْرَةِ اللَّهِ عَلى كُلِّ شَيْءٍ، كَما لا يَخْفى.
وَقَوْلُهُ في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: مُغاضِبًا أيْ: في حالِ كَوْنِهِ مُغاضِبًا لِقَوْمِهِ. ومَعْنى المُفاعَلَةِ فِيهِ: أنَّهُ أغْضَبَهم بِمُفارَقَتِهِ وتَخَوُّفِهِمْ حُلُولَ العَذابِ بِهِمْ، وأغْضَبُوهُ حِينَ دَعاهم إلى اللَّهِ مُدَّةً فَلَمْ يُجِيبُوهُ، فَأوْعَدَهم بِالعَذابِ. ثُمَّ خَرَجَ مِن بَيْنِهِمْ عَلى عادَةِ الأنْبِياءِ عِنْدَ نُزُولِ العَذابِ قَبْلَ أنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لَهُ في الخُرُوجِ. قالَهُ أبُو حَيّانَ في البَحْرِ. وقالَ أيْضًا: وقِيلَ مَعْنى ”مُغاضِبًا“ غَضْبانُ، وهو مِنَ المُفاعَلَةِ الَّتِي لا تَقْتَضِي اشْتِراكًا نَحْوَ عاقَبْتُ اللِّصَّ، وسافَرْتُ. اهـ.
واعْلَمْ أنَّ قَوْلَ مَن قالَ مُغاضِبًا أيْ: مُغاضِبًا لِرَبِّهِ كَما رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وبِهِ قالَ الحَسَنُ، والشَّعْبِيُّ، وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، واخْتارَهُ الطَّبَرِيُّ، والقُتْبِيُّ، واسْتَحْسَنَهُ المَهْدَوِيُّ - يَجِبُ حَمْلُهُ عَلى مَعْنى القَوْلِ الأوَّلِ، أيْ: مُغاضِبًا مِن أجْلِ رَبِّهِ. قالَ القُرْطُبِيُّ بَعْدَ أنْ ذَكَرَ هَذا القَوْلَ عَمَّنْ ذَكَرْنا: وقالَ النَّحّاسُ: ورُبَّما أنْكَرَ هَذا مَن لا يَعْرِفُ اللُّغَةَ، وهو قَوْلٌ صَحِيحٌ، والمَعْنى: مُغاضِبًا مِن أجْلِ رَبِّهِ كَما تَقُولُ: غَضِبْتُ لَكَ أيْ: مِن أجْلِكَ، والمُؤْمِنُ يَغْضَبُ لِلَّهِ عَزَّ وجَلَّ إذا عُصِيَ. انْتَهى مِنهُ. والمَعْنى عَلى ما ذَكَرَ: مُغاضِبًا قَوْمَهُ مِن أجْلِ رَبِّهِ، أيْ: مِن أجْلِ كُفْرِهِمْ بِهِ وعِصْيانِهِمْ لَهُ. وغَيْرُ هَذا لا يَصِحُّ في الآيَةِ.
وَقَوْلُهُ تَعالى:
﴿فَنادى في الظُّلُماتِ﴾ . أيْ: ظُلْمَةِ البَحْرِ، وظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وظُلْمَةِ بَطْنِ الحُوتِ. ”وَأنْ“ في قَوْلِهِ:
﴿أنْ لا إلَهَ إلّا أنْتَ﴾ [الأنبياء: ٨٧] مُفَسِّرَةٌ، وقَدْ أوْضَحْنا فِيما تَقَدَّمَ مَعْنى ”أنْ لا إلَهَ“، ومَعْنى ”سُبْحانَكَ“، ومَعْنى الظُّلْمِ، فَأغْنى ذَلِكَ عَنْ إعادَتِهِ هُنا.
وَقَوْلُهُ:
﴿فاسْتَجَبْنا لَهُ﴾ أيْ: أجَبْناهُ ونَجَّيْناهُ مِنَ الغَمِّ الَّذِي هو فِيهِ في بَطْنِ الحُوتِ، وإطْلاقُ ”اسْتَجابَ“ بِمَعْنى أجابَ مَعْرُوفٌ في اللُّغَةِ، ومِنهُ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ سَعْدٍ الغَنَوِيِّ:
وَداعٍ دَعا يا مَن يُجِيبُ إلى النَّدى ∗∗∗ فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذاكَ مُجِيبُ
وَما ذَكَرَهُ اللَّهُ - جَلَّ وعَلا - في هَذِهِ الآيَةِ مِن نِداءِ نَبِيِّهِ يُونُسَ في تِلْكَ الظُّلُماتِ هَذا النِّداءَ العَظِيمَ، وأنَّ اللَّهَ اسْتَجابَ لَهُ ونَجّاهُ مِنَ الغَمِّ - أوْضَحَهُ في غَيْرِ هَذا المَوْضِعِ.
وَبَيَّنَ في بَعْضِ المَواضِعِ أنَّهُ لَوْ لَمْ يُسَبِّحْ هَذا التَّسْبِيحَ العَظِيمَ لَلَبِثَ في بَطْنِ الحُوتِ إلى يَوْمِ البَعْثِ ولَمْ يَخْرُجْ مِنهُ. وبَيَّنَ في بَعْضِها أنَّهُ طَرَحَهُ بِالعَراءِ وهو سَقِيمٌ.
وَبَيَّنَ في بَعْضِها أنَّهُ خَرَجَ بِغَيْرِ إذْنٍ كَخُرُوجِ العَبْدِ الآبِقِ، وأنَّهُمُ اقْتَرَعُوا عَلى مَن يُلْقى في البَحْرِ فَوَقَعَتِ القُرْعَةُ عَلى يُونُسَ أنَّهُ هو الَّذِي يُلْقى فِيهِ.
وَبَيَّنَ في بَعْضِها أنَّ اللَّهَ تَدارَكَهُ بِرَحْمَتِهِ. ولَوْ لَمْ يَتَدارَكْهُ بِها لِنُبِذَ بِالعَراءِ في حالِ كَوْنِهِ مَذْمُومًا، ولَكِنَّهُ تَدارَكَهُ بِها فَنُبِذَ غَيْرَ مَذْمُومٍ، قالَ تَعالى في ”الصّافّاتِ“:
﴿وَإنَّ يُونُسَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ﴾ ﴿إذْ أبَقَ إلى الفُلْكِ المَشْحُونِ﴾ ﴿فَساهَمَ فَكانَ مِنَ المُدْحَضِينَ﴾ ﴿فالتَقَمَهُ الحُوتُ وهو مُلِيمٌ﴾ ﴿فَلَوْلا أنَّهُ كانَ مِنَ المُسَبِّحِينَ﴾ ﴿لَلَبِثَ في بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ ﴿فَنَبَذْناهُ بِالعَراءِ وهو سَقِيمٌ﴾ ﴿وَأنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِن يَقْطِينٍ﴾ ﴿وَأرْسَلْناهُ إلى مِائَةِ ألْفٍ أوْ يَزِيدُونَ﴾ ﴿فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهم إلى حِينٍ﴾ الآيَةَ
[الصافات: ١٣٩ - ١٤٨] . فَقَوْلُهُ في آياتِ ”الصّافّاتِ“ المَذْكُورَةِ:
﴿إذْ أبَقَ﴾ [الصافات: ١٤٠] أيْ: حِينَ أبَقَ، وهو مِن قَوْلِ العَرَبِ: عَبْدٌ آبِقٌ؛ لِأنَّ يُونُسَ خَرَجَ قَبْلَ أنْ يَأْذَنَ لَهُ رَبُّهُ، ولِذَلِكَ أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الإباقِ واسْتِحْقاقِ المَلامَةِ في قَوْلِهِ:
﴿وَهُوَ مُلِيمٌ﴾ [الصافات: ١٤٢] لِأنَّ المُلِيمَ اسْمُ فاعِلِ ”ألامَ“ إذا فَعَلَ ما يَسْتَوْجِبُ المَلامَ. وقَوْلِهِ: فَساهَمَ أيْ: قارَعَ، بِمَعْنى أنَّهُ وضَعَ مَعَ أصْحابِ السَّفِينَةِ سِهامَ القُرْعَةِ لِيَخْرُجَ سَهْمُ مَن يُلْقى في البَحْرِ. وقَوْلِهِ:
﴿فَكانَ مِنَ المُدْحَضِينَ﴾ أيِ المَغْلُوبِينَ في القُرْعَةِ؛ لِأنَّهُ خَرَجَ لَهُ السَّهْمُ الَّذِي يُلْقى صاحِبُهُ في البَحْرِ، ومِن ذَلِكَ قَوْلُ الشّاعِرِ:
قَتَلْنا المُدْحَضِينَ بِكُلِّ فَجٍّ ∗∗∗ فَقَدْ قَرَّتْ بِقَتْلِهِمُ العُيُونُ
وَقَوْلُهُ: فَنَبَذْناهُ أيْ: طَرَحْناهُ، بِأنْ أمَرْنا الحُوتَ أنْ يُلْقِيَهُ بِالسّاحِلِ. والعَراءُ: الصَّحْراءُ. وقَوْلُ مَن قالَ: العَراءُ: الفَضاءُ أوِ المُتَّسَعُ مِنَ الأرْضِ، أوِ المَكانُ الخالِي، أوْ وجْهُ الأرْضِ - راجِعٌ إلى ذَلِكَ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ وهو رَجُلٌ مِن خُزاعَةَ:
وَرَفَعْتُ رِجْلًا لا أخافُ عِثارَها ∗∗∗ ونَبَذْتُ بِالبَلَدِ العَراءِ ثِيابِي
وَشَجَرَةُ اليَقْطِينِ: هي الدُّبّاءُ. وقَوْلِهِ:
﴿وَهُوَ سَقِيمٌ﴾ أيْ: مَرِيضٌ لِما أصابَهُ مِنِ التِقامِ الحُوتِ إيّاهُ، وقالَ تَعالى في ”القَلَمِ“:
﴿وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الحُوتِ إذْ نادى وهو مَكْظُومٌ﴾ ﴿لَوْلا أنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِن رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالعَراءِ وهو مَذْمُومٌ﴾ ﴿فاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصّالِحِينَ﴾ [القلم: ٤٨ - ٥٠] فَقَوْلُهُ في آيَةِ ”القَلَمِ“ هَذِهِ: إذْ نادى
[القلم: ٤٨] أيْ: نادى أنْ لا إلَهَ إلّا أنْتَ سُبْحانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ، وقَوْلِهِ:
﴿وَهُوَ مَكْظُومٌ﴾ [الأنعام: ٤٨] أيْ: مَمْلُوءٌ غَمًّا، كَما قالَ تَعالى:
﴿وَنَجَّيْناهُ مِنَ الغَمِّ﴾ [الأنبياء: ٨٨] وهو قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ ومُجاهِدٍ. وعَنْ عَطاءٍ وأبِي مالِكٍ مَكْظُومٌ: مَمْلُوءٌ كَرْبًا، قالَ الماوَرْدِيُّ: والفَرْقُ بَيْنَ الغَمِّ والكَرْبِ أنَّ الغَمَّ في القَلْبِ، والكَرْبَ في الأنْفاسِ. وقِيلَ مَكْظُومٌ مَحْبُوسٌ. والكَظْمُ: الحَبْسُ. ومِنهُ قَوْلُهم: كَظَمَ غَيْظَهُ، أيْ: حَبَسَ غَضَبَهُ، قالَهُ ابْنُ بَحْرٍ. وقِيلَ: المَكْظُومُ المَأْخُوذُ بِكَظْمِهِ، وهو مَجْرى النَّفَسِ، قالَهُ المُبَرِّدُ. انْتَهى مِنَ القُرْطُبِيِّ.
وَآيَةُ ”القَلَمِ“ المَذْكُورَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّ نَبِيَّ اللَّهِ يُونُسَ - عَلَيْهِ وعَلى نَبِيِّنا الصَّلاةُ والسَّلامُ - عَجَّلَ بِالذَّهابِ ومُغاضَبَةِ قَوْمِهِ، ولَمْ يَصْبِرِ الصَّبْرَ اللّازِمَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ مُخاطِبًا نَبِيَّنا ﷺ فِيها:
﴿فاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ولا تَكُنْ كَصاحِبِ الحُوتِ﴾ الآيَةَ
[القلم: ٤٨] . فَإنَّ أمْرَهُ لِنَبِيِّنا ﷺ بِالصَّبْرِ ونَهْيَهُ إيّاهُ أنْ يَكُونَ كَصاحِبِ الحُوتِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ صاحِبَ الحُوتِ لَمْ يَصْبِرْ كَما يَنْبَغِي. وقِصَّةُ يُونُسَ وسَبَبُ ذَهابِهِ ومُغاضَبَتِهِ قَوْمَهُ مَشْهُورَةٌ مَذْكُورَةٌ في كُتُبِ التَّفْسِيرِ. وقَدْ بَيَّنَ تَعالى في سُورَةِ ”يُونُسَ“ أنَّ قَوْمَ يُونُسَ آمَنُوا فَنَفَعَهم إيمانُهم دُونَ غَيْرِهِمْ مِن سائِرِ القُرى الَّتِي بُعِثَتْ إلَيْهِمُ الرُّسُلُ، وذَلِكَ في قَوْلِهِ:
﴿فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إيمانُها إلّا قَوْمَ يُونُسَ لَمّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهم عَذابَ الخِزْيِ في الحَياةَ الدُّنْيا ومَتَّعْناهم إلى حِينٍ﴾ [يونس: ٩٨] .
وَقَوْلِهِ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ:
﴿وَكَذَلِكَ نُنْجِي المُؤْمِنِينَ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ ما مِن مُؤْمِنٍ يُصِيبُهُ الكَرْبُ والغَمُّ فَيَبْتَهِلُ إلى اللَّهِ داعِيًا بِإخْلاصٍ إلّا نَجّاهُ اللَّهُ مِن ذَلِكَ الغَمِّ، ولا سِيَّما إذا دَعا بِدُعاءِ يُونُسَ هَذا. وقَدْ جاءَ في حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ أبِي وقّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:
«أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ في دُعاءِ يُونُسَ المَذْكُورِ: ”لَمْ يَدْعُ بِهِ مُسْلِمٌ رَبَّهُ في شَيْءٍ قَطُّ إلّا اسْتَجابَ لَهُ“» رَواهُ أحْمَدُ، والتِّرْمِذِيُّ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ جَرِيرٍ، وغَيْرُهم. والآيَةُ الكَرِيمَةُ شاهِدَةٌ لِهَذا الحَدِيثِ شَهادَةً قَوِيَّةً كَما تَرى؛ لِأنَّهُ لَمّا ذَكَرَ أنَّهُ أنْجى يُونُسَ شَبَّهَ بِذَلِكَ إنْجاءَهُ المُؤْمِنِينَ. وقَوْلِهِ
﴿نُنْجِي المُؤْمِنِينَ﴾ صِيغَةٌ عامَّةٌ في كُلِّ مُؤْمِنٍ كَما تَرى. وقَرَأ عامَّةُ القُرّاءِ السَّبْعَةِ غَيْرَ ابْنِ عامِرٍ وشُعْبَةَ عَنْ عاصِمٍ
﴿وَكَذَلِكَ نُنْجِي المُؤْمِنِينَ﴾ بِنُونَيْنِ أُولاهُما مَضْمُومَةٌ، والثّانِيَةُ ساكِنَةٌ بَعْدَها جِيمٌ مَكْسُورَةٌ مُخَفِّفَةٌ فَياءٌ ساكِنَةٌ، وهو مُضارِعُ ”أنْجى“ الرُّباعِيِّ عَلى صِيغَةِ أفْعَلَ، والنُّونُ الأُولى دالَّةٌ عَلى العَظَمَةِ، وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ وشُعْبَةُ عَنْ عاصِمٍ ”وَكَذَلِكَ نُجِّي المُؤْمِنِينَ“ بِنُونٍ واحِدَةٍ مَضْمُومَةٍ بَعْدَها جِيمٌ مَكْسُورَةٌ مُشَدَّدَةٌ فَياءٌ ساكِنَةٌ. وهو عَلى هَذِهِ القِراءَةِ بِصِيغَةِ فِعْلٍ ماضٍ مَبْنِيٍّ لِلْمَفْعُولِ مَن نَجّى المُضَعَّفَةِ عَلى وزْنِ ”فَعَّلَ“ بِالتَّضْعِيفِ. وفي كِلْتا القِراءَتَيْنِ إشْكالٌ مَعْرُوفٌ. أمّا قِراءَةُ الجُمْهُورِ فَهي مِن جِهَةِ القَواعِدِ العَرَبِيَّةِ واضِحَةٌ لا إشْكالَ فِيها، ولَكِنْ فِيها إشْكالٌ مِن جِهَةٍ أُخْرى، وهي: أنَّ هَذا الحَرْفَ إنَّما كَتَبَهُ الصَّحابَةُ في المَصاحِفِ العُثْمانِيَّةِ بِنُونٍ واحِدَةٍ، فَيُقالُ: كَيْفَ تُقْرَأُ بِنُونَيْنِ وهي في المَصاحِفِ بِنُونٍ واحِدَةٍ ؟ وأمّا عَلى قِراءَةِ ابْنِ عامِرٍ وشُعْبَةَ بِالإشْكالِ مِن جِهَةِ القَواعِدِ العَرَبِيَّةِ؛ لِأنَّ نَجّى عَلى قِراءَتِهِما بِصِيغَةِ ماضٍ مَبْنِيٍّ لِلْمَفْعُولِ، فالقِياسُ رَفْعُ المُؤْمِنِينَ بَعْدَهُ عَلى أنَّهُ نائِبُ الفاعِلِ، وكَذَلِكَ القِياسُ فَتْحُ ياءِ ”نَجّى“ لا إسْكانُها.
وَأجابَ العُلَماءُ عَنْ هَذا بِأجْوِبَةٍ، مِنها ما ذَكَرَهُ بَعْضُ الأئِمَّةِ، وأشارَ إلَيْهِ ابْنُ هِشامٍ في بابِ الإدْغامِ مِن تَوْضِيحِهِ أنَّ الأصْلَ في قِراءَةِ ابْنِ عامِرٍ وشُعْبَةَ ”نُنَجِّي“ بِفَتْحِ النُّونِ الثّانِيَةِ مُضارِعُ نَجّى مُضَعَّفًا، فَحُذِفَتِ النُّونُ الثّانِيَةُ تَخْفِيفًا. أوْ نُنْجِي بِسُكُونِها مُضارِعُ ”أنْجى“ وأُدْغِمَتِ النُّونُ في الجِيمِ لِاشْتِراكِهِما في الجَهْرِ، والِانْفِتاحِ، والتَّوَسُّطِ بَيْنَ القُوَّةِ والضَّعْفِ، كَما أُدْغِمَتْ في ”إجّاصَةِ وإجّانَةِ“ بِتَشْدِيدِ الجِيمِ فِيهِما، والأصْلُ ”إنْجاصَةٌ وإنْجانَةٌ“ فَأُدْغِمَتِ النُّونُ فِيهِما. والإجّاصَةُ: واحِدَةُ الإجّاصِ، قالَ في القامُوسِ: الإجّاصُ بِالكَسْرِ مُشَدَّدًا: ثَمَرٌ مَعْرُوفٌ، دَخِيلٌ لِأنَّ الجِيمَ والصّادَ لا يَجْتَمِعانِ في كَلِمَةٍ، الواحِدَةُ بِهاءٍ. ولا تَقُلْ إنْجاصٌ، أوْ لُغَيَّةٌ. ا هـ. والإجّانَةُ واحِدَةُ الأجاجِينِ. قالَ في التَّصْرِيحِ: وهي بِفَتْحِ الهَمْزَةِ وكَسْرِها. قالَ صاحِبُ الفَصِيحِ: قَصْرِيَّةٌ يُعْجَنُ فِيها ويُغْسَلُ فِيها. ويُقالُ: إنْجانَةٌ كَما يُقالُ إنْجاصَةٌ، وهي لُغَةٌ يَمانِيَةٌ فِيهِما أنْكَرَها الأكْثَرُونَ. ا هـ. فَهَذانِ وجْهانِ في تَوْجِيهِ قِراءَةِ ابْنِ عامِرٍ وشُعْبَةَ، وعَلَيْهِما فَلَفْظَةُ ”المُؤْمِنِينَ“ مَفْعُولٌ بِهِ لِـ ”نُنَجِّي“ .
وَمِن أجْوِبَةِ العُلَماءِ عَنْ قِراءَةِ ابْنِ عامِرٍ وشُعْبَةَ: أنَّ ”نُجِّيَ“ عَلى قِراءَتِهِما فِعْلُ ماضٍ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ، والنّائِبُ عَنِ الفاعِلِ ضَمِيرُ المَصْدَرِ، أيْ: نَجّى هو، أيِ الإنْجاءُ، وعَلى هَذا الوَجْهِ فالآيَةُ كَقِراءَةِ مَن قَرَأ لِيُجْزى قَوْمًا الآيَةَ
[الجاثية: ١٤] بِبِناءِ ”يُجْزى“ لِلْمَفْعُولِ، والنّائِبُ ضَمِيرُ المَصْدَرِ، أيْ: لِيَجْزِيَ هو، أيِ الجَزاءَ ونِيابَةُ المَصْدَرِ عَنِ الفاعِلِ في حالِ كَوْنِ الفِعْلِ مُتَعَدِّيًا لِلْمَفْعُولِ تَرِدُ بِقِلَّةٍ، كَما أشارَ لَهُ في الخُلاصَةِ بِقَوْلِهِ:
وَقابِلْ مِن ظُرُوفٍ أوْ مِن مَصْدَرِ ∗∗∗ أوْ حَرْفِ جَرٍّ بِنِيابَةٍ حَرِي
وَلا يَنُوبُ بَعْضُ هَذا إنْ وُجِدْ ∗∗∗ في اللَّفْظِ مَفْعُولٌ بِهِ وقَدْ يَرِدْ
وَمَحَلُّ الشّاهِدِ مِنهُ قَوْلُهُ: ”وَقَدْ يَرِدُ“ ومِمَّنْ قالَ بِجَوازِ ذَلِكَ الأخْفَشُ والكُوفِيُّونَ وأبُو عُبَيْدٍ. ومِن أمْثِلَةِ ذَلِكَ في كَلامِ العَرَبِ قَوْلُ جَرِيرٍ يَهْجُو أُمَّ الفَرَزْدَقِ:
وَلَوْ ولَدَتْ قُفَيْرَةُ جَرْوَ كَلْبٍ ∗∗∗ لَسُبَّ بِذَلِكَ الجَرْوِ الكِلابا
٦٩ يَعْنِي لَسُبَّ هو، أيْ: السَّبُّ. وقَوْلُ الرّاجِزِ:
لَمْ يَعْنِ بِالعَلْياءِ إلّا سَيِّدًا ∗∗∗ ولا شَفى ذا الغَيِّ إلّا ذُو هُدى
وَأمّا إسْكانُ ياءِ ”نُجِّي“ عَلى هَذا القَوْلِ فَهو عَلى لُغَةِ مَن يَقُولُ مِنَ العَرَبِ: رَضِي، وبَقِي بِإسْكانِ الياءِ تَخْفِيفًا. ومِنهُ قِراءَةُ الحَسَنِ وذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا
[البقرة: ٢٧٨] بِإسْكانِ ياءِ ”بَقِيَ“ ومِن شَواهِدِ تِلْكَ اللُّغَةِ قَوْلُ الشّاعِرِ:
خَمَّرَ الشَّيْبُ لُمَّتِي تَخْمِيرًا ∗∗∗ وحَدا بِي إلى القُبُورِ البَعِيرا
لَيْتَ شِعْرِي إذِ القِيامَةُ قامَتْ ∗∗∗ ودُعِي بِالحِسابِ أيْنَ المَصِيرا
وَأمّا الجَوابُ عَنْ قِراءَةِ الجُمْهُورِ فالظّاهِرُ فِيهِ أنَّ الصَّحابَةَ حَذَفُوا النُّونَ في المَصاحِفِ؛ لِتُمْكِنَ مُوافَقَةُ قِراءَةِ ابْنِ عامِرٍ وشُعْبَةَ لِلْمَصاحِفِ لِخَفائِها، أمّا قِراءَةُ الجُمْهُورِ فَوَجْهُها ظاهِرٌ ولا إشْكالَ فِيها، فَغايَةُ الأمْرِ أنَّهم حَذَفُوا حَرْفًا مِنَ الكَلِمَةِ لِمَصْلَحَةٍ مَعَ تَواتُرِ الرِّوايَةِ لَفْظًا بِذِكْرِ الحَرْفِ المَحْذُوفِ، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.