الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَذا النُّونِ﴾ يَعْنِي: يُونُسَ بْنَ مَتّى. والنُّونُ: السَّمَكَةُ، أُضِيفَ إلَيْها لِابْتِلاعِها إيّاهُ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إذْ ذَهَبَ مُغاضِبًا﴾ قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: المُغاضَبَةُ: مُفاعَلَةٌ، وأكْثَرُ المُفاعَلَةِ مِنِ اثْنَيْنِ، كالمُناظَرَةِ والمُجادَلَةِ والمُخاصَمَةِ، ورُبَّما تَكُونُ مِن واحِدٍ، كَقَوْلِكَ: سافَرْتُ وشارَفْتُ الأمْرَ، وهي هاهُنا مِن هَذا البابِ. وقَرَأ أبُو المُتَوَكِّلِ، وأبُو الجَوْزاءِ، وعاصِمٌ الجَحْدَرِيُّ، وابْنُ السَّمَيْفَعِ: ( مُغْضَبًا ) بِإسْكانِ الغَيْنِ وفَتْحِ الضّادِ مِن غَيْرِ ألِفٍ. واخْتَلَفُوا في مُغاضَبَتِهِ لِمَن كانَتْ عَلى قَوْلَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّهُ غَضِبَ عَلى قَوْمِهِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ والضَّحّاكُ. وفي سَبَبِ غَضَبِهِ عَلَيْهِمْ ثَلاثَةُ أقْوالٍ: أحَدُها: أنَّ اللَّهَ تَعالى أوْحى إلى نَبِيٍّ يُقالُ لَهُ: شَعْيا: أنِ ائْتِ فُلانًا المَلِكَ، فَقُلْ لَهُ: يَبْعَثُ نَبِيًّا أمِينًا إلى بَنِي إسْرائِيلَ، وكانَ قَدْ غَزا بَنِي إسْرائِيلَ مَلِكٌ وسَبى مِنهُمُ الكَثِيرَ، فَأرادَ النَّبِيُّ والمَلِكُ أنْ يَبْعَثا يُونُسَ إلى ذَلِكَ المَلِكِ لِيُكَلِّمَهُ حَتّى يُرْسِلَهم، فَقالَ يُونُسُ لِشَعْيا: هَلْ أمَرَكَ اللَّهُ بِإخْراجِي ؟ قالَ: لا. قالَ: فَهَلْ سَمّانِي لَكَ ؟ قالَ: لا. قالَ: فَهاهُنا غَيْرِي مِنَ الأنْبِياءِ، فَألَحُّوا عَلَيْهِ فَخَرَجَ مُغاضِبًا لِلنَّبِيِّ والمَلِكِ ولِقَوْمِهِ، هَذا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. وقَدْ زِدْناهُ شَرْحًا في ( يُونُسَ: ٩٨ ) . والثّانِي: أنَّهُ عانى مِن قَوْمِهِ أمْرًا صَعْبًا مِنَ الأذى والتَّكْذِيبِ، فَخَرَجَ عَنْهم قَبْلَ أنْ يُؤْمِنُوا ضَجَرًا، وما ظَنَّ أنَّ هَذا الفِعْلَ يُوجِبُ عَلَيْهِ ما جَرى مِنَ العُقُوبَةِ، ذَكَرَهُ ابْنُ الأنْبارِيِّ. وقَدْ رُوِيَ عَنْ وهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قالَ: لَمّا حُمِلَتْ عَلَيْهِ أثْقالُ النُّبُوَّةِ، ضاقَ بِها ذَرْعًا ولَمْ يَصْبِرْ، (p-٣٨٢)فَقَذَفَها مِن يَدِهِ وخَرَجَ هارِبًا. والثّالِثُ: أنَّهُ لَمّا أوْعَدَهُمُ العَذابَ فَتابُوا ورِفِعَ عَنْهم، قِيلَ لَهُ: ارْجِعْ إلَيْهِمْ، فَقالَ: كَيْفَ أرْجِعُ فَيَجِدُونِي كاذِبًا ؟ فانْصَرَفَ مُغاضِبًا لِقَوْمِهِ عاتِبًا عَلى رَبِّهِ. وقَدْ ذَكَرْنا هَذا في ( يُونُسَ: ٩٨ ) . والثّانِي: أنَّهُ خَرَجَ مُغاضِبًا لِرَبِّهِ، قالَهُ الحَسَنُ، وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، والشَّعْبِيُّ، وعُرْوَةُ. وقالَ أبُو بَكْرٍ النَّقّاشُ: المَعْنى: مُغاضِبًا مِن أجْلِ رَبِّهِ، وإنَّما غَضِبَ لِأجْلِ تَمَرُّدِهِمْ وعِصْيانِهِمْ. وقالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: كانَ مَغِيظًا عَلَيْهِمْ لِطُولِ ما عاناهُ مِن تَكْذِيبِهِمْ، مُشْتَهِيًا أنْ يَنْزِلَ العَذابُ بِهِمْ، فَعاقَبَهُ اللَّهُ عَلى كَراهِيَتِهِ العَفْوَ عَنْ قَوْمِهِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَظَنَّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ وقَرَأ يَعْقُوبُ: ( يُقَدَّرَ ) بِضَمِّ الياءِ وتَشْدِيدِ الدّالِ وفَتْحِها. وقَرَأ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وأبُو الجَوْزاءِ، وابْنُ أبِي لَيْلى: ( يُقْدَرَ ) بِياءٍ مَرْفُوعَةٍ مَعَ سُكُونِ القافِ وتَخْفِيفِ الدّالِ وفَتْحِها. وقَرَأ أبُو عِمْرانَ الجَوْنِيُّ: ( يَقْدِرَ ) بِياءٍ مَفْتُوحَةٍ وسُكُونِ القافِ وكَسْرِ الدّالِ خَفِيفَةً. وقَرَأ الزُّهْرِيُّ، وابْنُ يَعْمُرَ، وحُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ: ( نُقَدِّرَ ) بِنُونٍ مَرْفُوعَةٍ وفَتْحِ القافِ وكَسْرِ الدّالِ وتَشْدِيدِها. ثُمَّ فِيهِ ثَلاثَةُ أقْوالٍ: أحَدُها: أنْ لَنْ نَقْضِيَ عَلَيْهِ بِالعُقُوبَةِ، رَواهُ العَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وبِهِ قالَ مُجاهِدٌ، وقَتادَةُ، والضَّحّاكُ. قالَ الفَرّاءُ: مَعْنى الآيَةِ: فَظَنَّ أنْ لَنْ نُقَدِّرَ عَلَيْهِ ما قَدَّرْنا مِنَ العُقُوبَةِ، والعَرَبُ تَقُولُ: قَدَرَ بِمَعْنى: قَدَّرَ، قالَ أبُو صَخْرٍ: ؎ ولا عائِدًا ذاكَ الزَّمانُ الَّذِي مَضى تَبارَكْتَ ما تَقْدِرْ يَكُنْ ولَكَ الشُّكْرُ أرادَ: ما تُقَدِّرْ، وهَذا مَذْهَبُ الزَّجّاجِ. (p-٣٨٣) والثّانِي: فَظَنَّ أنْ لَنْ نُضَيِّقَ عَلَيْهِ، قالَهُ عَطاءٌ. قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: يُقالُ: فُلانٌ مُقَدَّرٌ عَلَيْهِ، ومُقَتَّرٌ عَلَيْهِ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ﴾ [ الفَجْرَ: ١٦ ]؛ أيْ: ضَيَّقَ عَلَيْهِ فِيهِ. قالَ النِّقاشُ: والمَعْنى: فَظَنَّ أنْ لَنْ يُضَيِّقَ عَلَيْهِ الخُرُوجَ، فَكَأنَّهُ ظَنَّ أنَّ اللَّهَ قَدْ وسَّعَ لَهُ، إنْ شاءَ أنْ يُقِيمَ، وإنْ شاءَ أنْ يَخْرُجَ، ولَمْ يُؤْذَنْ لَهُ في الخُرُوجِ. والثّالِثُ: أنَّ المَعْنى: فَظَنَّ أنَّهُ يُعْجِزُ رَبَّهُ فَلا يَقْدِرُ عَلَيْهِ ! رَواهُ عَوْفٌ عَنِ الحَسَنِ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ وسُلَيْمانُ التَّيْمِيُّ: المَعْنى: أفَظَنَّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ؛ فَعَلى هَذا الوَجْهِ يَكُونُ اسْتِفْهامًا قَدْ حُذِفَتْ ألِفُهُ، وهَذا الوَجْهُ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ مِنَ القُدْرَةِ، ولا يُتَصَوَّرُ إلّا مَعَ تَقْدِيرِ الِاسْتِفْهامِ، ولا أعْلَمَ لَهُ وجْهًا إلّا أنْ يَكُونَ اسْتِفْهامَ إنْكارٍ، تَقْدِيرُهُ: ما ظَنَّ عَجْزَنا، فَأيْنَ يَهْرُبُ مِنّا ؟ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَنادى في الظُّلُماتِ﴾ فِيها ثَلاثَةُ أقْوالٍ: أحَدُها: أنَّها ظُلْمَةُ البَحْرِ، وظُلْمَةُ بَطْنِ الحُوتِ، وظُلْمَةُ اللَّيْلِ، قالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وقَتادَةُ، والأكْثَرُونَ. والثّانِي: أنَّ حُوتًا جاءَ فابْتَلَعَ الحُوتَ الَّذِي هو في بَطْنِهِ، فَنادى في ظُلْمَةِ حُوتٍ، ثُمَّ في ظُلْمَةِ حُوتٍ، ثُمَّ في ظُلْمَةِ البَحْرِ، قالَهُ سالِمُ بْنُ أبِي الجَعْدِ. والثّالِثُ: أنَّها ظُلْمَةُ الماءِ، وظُلْمَةُ مِعى السَّمَكَةِ، وظُلْمَةُ بَطْنِها، قالَهُ ابْنُ السّائِبِ. وقَدْ رَوى سَعْدُ بْنُ أبِي وقّاصٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنَّهُ قالَ: " «إنِّي لَأعْلَمُ كَلِمَةً لا يَقُولُها مَكْرُوبٌ إلّا فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ، كَلِمَةَ أخِي يُونُسَ: فَنادى في الظُّلُماتِ أنْ لا إلَهَ إلّا أنْتَ سُبْحانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ "» . قالَ الحَسَنُ: وهَذا اعْتِرافٌ [ مِن ] يُونُسَ بِذَنْبِهِ وتَوْبَةٌ مِن خَطِيئَتِهِ. (p-٣٨٤) قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فاسْتَجَبْنا لَهُ﴾؛ أيْ: أجَبْناهُ، ﴿وَنَجَّيْناهُ مِنَ الغَمِّ﴾؛ أيْ: مِنَ الظُّلُماتِ، ﴿وَكَذَلِكَ نُنْجِي المُؤْمِنِينَ﴾ إذا دَعُونا. ورَوى أبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ أنَّهُ قَرَأ: ( نُجِّي المُؤْمِنِينَ ) بِنُونٍ واحِدَةٍ مُشَدَّدَةِ الجِيمِ. قالَ الزَّجّاجُ: وهَذا لَحْنٌ لا وجْهَ لَهُ. وقالَ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ: غَلِطَ الرّاوِي عَنْ عاصِمٍ، ويَدُلُّ عَلى هَذا إسْكانُهُ الياءَ مِن ( نُجِّي ) ونَصْبُ ( المُؤْمِنِينَ )، ولَوْ كانَ عَلى ما لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ ما سَكَّنَ الياءَ، ولَرَفَعَ ( المُؤْمِنِينَ ) .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب