﴿ٱلطَّلَـٰقُ مَرَّتَانِۖ فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِیحُۢ بِإِحۡسَـٰنࣲۗ وَلَا یَحِلُّ لَكُمۡ أَن تَأۡخُذُوا۟ مِمَّاۤ ءَاتَیۡتُمُوهُنَّ شَیۡـًٔا إِلَّاۤ أَن یَخَافَاۤ أَلَّا یُقِیمَا حُدُودَ ٱللَّهِۖ فَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا یُقِیمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَیۡهِمَا فِیمَا ٱفۡتَدَتۡ بِهِۦۗ تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَعۡتَدُوهَاۚ وَمَن یَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ﴾ [البقرة ٢٢٩]
قَوْلُهُ تَعالى:
﴿(الطَّلاقُ مَرَّتانِ)﴾ ظاهِرُ هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ أنَّ الطَّلاقَ كُلَّهُ مُنْحَصِرٌ في المَرَّتَيْنِ، ولَكِنَّهُ تَعالى بَيَّنَ أنَّ المُنْحَصِرَ في المَرَّتَيْنِ هو الطَّلاقُ الَّذِي تُمْلَكُ بَعْدَهُ الرَّجْعَةُ لا مُطْلَقًا، وذَلِكَ بِذِكْرِهِ الطَّلْقَةَ الثّالِثَةُ الَّتِي لا تَحِلُّ بَعْدَها المُراجَعَةُ إلّا بَعْدَ زَوْجٍ، وهي المَذْكُورَةُ في قَوْلِهِ:
﴿فَإنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ﴾ الآيَةَ
[البقرة: ٢٣٠]، وعَلى هَذا القَوْلِ فَقَوْلُهُ:
﴿أوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسانٍ﴾ [البقرة: ٢٢٩] يَعْنِي بِهِ عَدَمَ الرَّجْعَةِ.
وَقالَ بَعْضُ العُلَماءِ: الطَّلْقَةُ الثّالِثَةُ هي المَذْكُورَةُ في قَوْلِهِ تَعالى:
﴿أوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسانٍ﴾ ورُوِيَ هَذا مَرْفُوعًا إلَيْهِ ﷺ .
* * *
* تَنْبِيهٌذَكَرَ بَعْضُ العُلَماءِ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ الكَرِيمَةَ الَّتِي هي قَوْلُهُ تَعالى:
﴿الطَّلاقُ مَرَّتانِ﴾ يُؤْخَذُ مِنها وُقُوعُ الطَّلاقِ الثَّلاثِ في لَفْظٍ واحِدٍ، وأشارَ البُخارِيُّ بِقَوْلِهِ: " بابُ مَن جَوَّزَ الطَّلاقَ الثَّلاثَ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعالى:
﴿(الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسانٍ)﴾ .
والظّاهِرُ أنَّ وجْهَ الدَّلالَةِ المُرادَ عِنْدَ البُخارِيِّ هو ما قالَهُ الكِرْمانِيُّ مِن أنَّهُ تَعالى لَمّا قالَ:
﴿الطَّلاقُ مَرَّتانِ﴾ [البقرة: ٢٢٩] عَلِمْنا أنَّ إحْدى المَرَّتَيْنِ جَمَعَ فِيها بَيْنَ تَطْلِيقَتَيْنِ، وإذا جازَ جَمْعُ التَّطْلِيقَتَيْنِ دَفْعَةً، جازَ جَمْعُ الثَّلاثِ، ورَدَّ ابْنُ حَجَرٍ هَذا بِأنَّهُ قِياسٌ مَعَ وُجُودِ الفارِقِ، وجَعَلَ الآيَةَ دَلِيلًا لِنَقِيضِ ذَلِكَ.
قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ: الظّاهِرُ أنَّ الِاسْتِدْلالَ بِالآيَةِ غَيْرُ ناهِضٍ؛ لِأنَّهُ لَيْسَ المُرادُ حَصْرَ الطَّلاقِ كُلَّهُ في المَرَّتَيْنِ حَتّى يَلْزَمَ الجَمْعُ بَيْنَ اثْنَتَيْنِ في إحْدى التَّطْلِيقَتَيِنِ كَما ذَكَرَ، بَلِ المُرادُ بِالطَّلاقِ المَحْصُورِ هو خُصُوصُ الطَّلاقِ الَّذِي تُمْلَكُ بَعْدَهُ الرَّجْعَةُ كَما ذَكَرْنا، وكَما فَسَّرَ بِهِ الآيَةَ جَماهِيرُ عُلَماءِ التَّفْسِيرِ. وقالَ بَعْضُ العُلَماءِ وجْهُ الدَّلِيلِ في الآيَةِ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى:
﴿أوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسانٍ﴾ عامٌّ يَتَناوَلُ إيقاعَ الثَّلاثِ دَفْعَةً واحِدَةً، ولا يَخْفى عَدَمُ ظُهُورِهِ، ولَكِنَّ كَوْنَ الآيَةِ لا دَلِيلَ فِيها عَلى وُقُوعِ الثَّلاثِ بِلَفْظٍ واحِدٍ، لا يُنافِي أنْ تَقُومَ عَلى ذَلِكَ أدِلَّةٌ، وسَنَذْكُرُ أدِلَّةَ ذَلِكَ وأدِلَّةَ مَن خالَفَ فِيهِ، والرّاجِحُ عِنْدَنا في ذَلِكَ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى مَعَ إيضاحِ خُلاصَةِ البَحْثِ كُلِّهِ في آخِرِ الكَلامِ إيضاحًا تامًّا.
فَنَقُولُ وبِاللَّهِ نَسْتَعِينُ: اعْلَمْ أنَّ مِن أدِلَّةِ القائِلِينَ بِلُزُومِ الثَّلاثِ مُجْتَمِعَةً حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السّاعِدِيِّ، الثّابِتُ في الصَّحِيحِ في قِصَّةِ لِعانِ عُوَيْمِرٍ العَجْلانِيِّ وزَوْجِهِ؛ فَإنَّ فِيهِ:
«فَلَمّا فَرَغا قالَ عُوَيْمِرٌ: كَذَبْتُ عَلَيْها يا رَسُولَ اللَّهِ إنْ أمْسَكْتُها، فَطَلَّقَها ثَلاثًا قَبْلَ أنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، قالَ ابْنُ شِهابٍ: فَكانَتْ سُنَّةُ المُتَلاعِنَيْنِ» .
أخْرَجَ البُخارِيُّ هَذا الحَدِيثَ تَحْتَ التَّرْجَمَةِ المُتَقَدِّمَةِ عَنْهُ، ووَجْهُ الدَّلِيلِ مِنهُ: أنَّهُ أوْقَعَ الثَّلاثَ في كَلِمَةٍ واحِدَةٍ، ولَمْ يُنْكِرْهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ .
وَرَدَّ المُخالِفُ الِاسْتِدْلالَ بِهَذا الحَدِيثِ؛ بِأنَّ المُفارَقَةَ وقَعَتْ بِنَفْسِ اللِّعانِ فَلَمْ يُصادِفْ تَطْلِيقَهُ الثَّلاثَ مَحَلًّا، ورَدَّ هَذا الِاعْتِراضَ؛ بِأنَّ الِاحْتِجاجَ بِالحَدِيثِ مِن حَيْثُ إنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ إيقاعَ الثَّلاثِ مَجْمُوعَةً، فَلَوْ كانَ مَمْنُوعًا لَأنْكَرَهُ، ولَوْ كانَتِ الفُرْقَةُ بِنَفْسِ اللِّعانِ وبِأنَّ الفُرْقَةَ لَمْ يَدُلَّ عَلى أنَّها بِنَفْسِ اللِّعانِ كِتابٌ ولا سُنَّةٌ صَرِيحَةٌ ولا إجْماعٌ، والعُلَماءُ مُخْتَلِفُونَ في ذَلِكَ.
فَذَهَبَ مالِكٌ وأصْحابُهُ إلى أنَّ الفُرْقَةَ بِنَفْسِ اللِّعانِ، وإنَّما تَتَحَقَّقُ بِلِعانِ الزَّوْجَيْنِ مَعًا، وهو رِوايَةٌ عَنْ أحْمَدَ. وذَهَبَ الشّافِعِيُّ وأصْحابُهُ إلى أنَّ الفُرْقَةَ بِنَفْسِ اللِّعانِ، وتَقَعُ عِنْدَ فَراغِ الزَّوْجِ مِن أيْمانِهِ قَبْلَ لِعانِ المَرْأةِ، وهو قَوْلُ سَحْنُونٍ مِن أصْحابِ مالِكٍ.
وَذَهَبَ الثَّوْرِيُّ وأبُو حَنِيفَةَ وأتْباعُهُما إلى أنَّها لا تَقَعُ حَتّى يُوقِعَها الحاكِمُ؛ واحْتَجُّوا بِظاهِرِ ما وقَعَ في أحادِيثِ اللِّعانِ، فَقَدْ أخْرَجَ البُخارِيُّ في ”صَحِيحِهِ“ عَنِ ابْنِ عُمَرَ:
«أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَرَّقَ بَيْنَ رَجُلٍ وامْرَأةٍ قَذَفَها، وأحْلَفَهُما رَسُولُ اللَّهِ ﷺ» . وأخْرَجَ أيْضًا في ”صَحِيحِهِ“ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِن وجْهٍ آخَرَ إنَّهُ قالَ:
«لاعَنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَيْنَ رَجُلٍ وامْرَأةٍ مِنَ الأنْصارِ، وفَرَّقَ بَيْنَهُما» ورَواهُ باقِي الجَماعَةِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وبِهِ تَعْلَمُ أنَّ قَوْلَ يَحْيى بْنِ مَعِينٍ: إنَّ الرِّوايَةَ بِلَفْظِ ”فَرَّقَ“ بَيْنَ المُتَلاعِنَيْنِ خَطَأٌ، يَعْنِي في خُصُوصِ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ المُتَقَدِّمِ، لا مُطْلَقًا، بِدَلِيلِ ثُبُوتِها في الصَّحِيحِ مِن حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ كَما تَرى. قالَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ: إنْ أرادَ مِن حَدِيثِ سَهْلٍ فَسَهْلٌ، وإلّا فَمَرْدُودٌ. وقالَ ابْنُ حَجَرٍ في ”فَتْحِ البارِي“ ما نَصُّهُ: ويُؤْخَذُ مِنهُ أنَّ إطْلاقَ يَحْيى بْنِ مَعِينٍ وغَيْرِهِ تَخْطِئَةَ الرِّوايَةِ بِلَفْظِ
«فَرَّقَ بَيْنَ المُتَلاعِنَيْنِ» إنَّما المُرادُ بِهِ في حَدِيثِ سَهْلٍ بِخُصُوصِهِ، فَقَدْ أخْرَجَهُ أبُو داوُدَ مِن طَرِيقِ سُفْيانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْهُ بِهَذا اللَّفْظِ، وقالَ بَعْدَهُ لَمْ يُتابِعِ ابْنَ عُيَيْنَةَ عَلى ذَلِكَ أحَدٌ، ثُمَّ أخْرَجَ مِن طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ:
«فَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَيْنَ أخَوَيْ بَنِي العَجْلانِ» ا ه، مَحَلُّ الغَرَضِ مِنهُ بِلَفْظٍ، وقَدْ قَدَّمْنا في حَدِيثِ سَهْلٍ:
«فَكانَتْ سُنَةُ المُتَلاعِنَيْنِ» .
واخْتُلِفَ في هَذا اللَّفْظِ هَلْ هو مُدْرَجٌ مِن كَلامِ الزُّهْرِيِّ فَيَكُونُ مُرْسَلًا، وبِهِ قالَ جَماعَةٌ مِنَ العُلَماءِ ؟ أوْ هو مِن كَلامِ سَهْلٍ فَهو مَرْفُوعٌ مُتَّصِلٌ ؟ ويُؤَيِّدُ كَوْنَهُ مِن كَلامِ سَهْلٍ ما وقَعَ في حَدِيثِ أبِي داوُدَ مِن طَرِيقِ عِياضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الفِهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ شِهابٍ عَنْ سَهْلٍ قالَ:
«فَطَلَّقَها ثَلاثَ تَطْلِيقاتٍ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَأنْفَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وكانَ ما صُنِعَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ سُنَّةً.
قالَ سَهْلٌ: حَضَرْتُ هَذا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَمَضَتِ السُّنَّةُ بَعْدُ في المُتَلاعِنَيْنِ، أنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُما، ثُمَّ لا يَجْتَمِعانِ أبَدًا» .
قالَ الشَّوْكانِيُّ في ”نَيْلِ الأوْطارِ“: ورِجالُهُ رِجالُ الصَّحِيحِ.
قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ: ومَعْلُومٌ أنَّ ما سَكَتَ عَلَيْهِ أبُو داوُدَ فَأقَلُّ دَرَجاتِهِ عِنْدَهُ الحَسَنُ، وهَذِهِ الرِّوايَةُ ظاهِرَةٌ في مَحَلِّ النِّزاعِ، وبِها تَعْلَمُ أنَّ احْتِجاجَ البُخارِيِّ لِوُقُوعِ الثَّلاثِ دَفْعَةً بِحَدِيثِ سَهْلٍ المَذْكُورِ واقِعٌ مَوْقِعَهُ؛ لِأنَّ المُطَّلِعَ عَلى غَوامِضِ إشاراتِ البُخارِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَفْهَمُ أنَّ هَذا اللَّفْظَ الثّابِتَ في ”سُنَنِ أبِي داوُدَ“ مُطابِقٌ لِتَرْجَمَةِ البُخارِيِّ، وأنَّهُ أشارَ بِالتَّرْجَمَةِ إلى هَذِهِ الرِّوايَةِ ولَمْ يُخَرِّجْها؛ لِأنَّها لَيْسَتْ عَلى شَرْطِهِ، فَتَصْرِيحُ هَذا الصَّحابِيِّ الجَلِيلِ في هَذِهِ الرِّوايَةِ الثّابِتَةِ:
«بِأنَّ النَّبِيَّ ﷺ أنْفَذَ طَلاقَ الثَّلاثِ دَفْعَةً» يَبْطُلُ بِإيضاحٍ أنَّهُ لا عِبْرَةَ بِسُكُوتِهِ ﷺ وتَقْرِيرِهِ لَهُ؛ بِناءً عَلى أنَّ الفُرْقَةَ بِنَفْسِ اللِّعانِ كَما تَرى.
وَذَهَبَ عُثْمانُ البَتِّيُّ، وأبُو الشَّعْثاءِ جابِرُ بْنُ زَيْدٍ البَصْرِيُّ، أحَدُ أصْحابِ ابْنِ عَبّاسٍ مِن فُقَهاءِ التّابِعِينَ إلى أنَّ الفُرْقَةَ لا تَقَعُ حَتّى يُوقِعَها الزَّوْجُ، وذَهَبَ أبُو عُبَيْدٍ إلى أنَّها تَقَعُ بِنَفْسِ القَذْفِ، وبِهَذا تَعْلَمُ أنَّ كَوْنَ الفُرْقَةِ بِنَفْسِ اللِّعانِ لَيْسَ أمْرًا قَطْعِيًّا، حَتّى تَرِدَ بِهِ دَلالَةُ تَقْرِيرِ النَّبِيِّ ﷺ عُوَيْمِرًا العَجْلانِيَّ، عَلى إيقاعِ الثَّلاثِ دَفْعَةً، الثّابِتُ في الصَّحِيحِ، لا سِيَّما وقَدْ عَرَفْتَ أنَّ بَعْضَ الرِّواياتِ فِيها التَّصْرِيحُ بِأنَّهُ ﷺ أنْفَذَ ذَلِكَ، فَإنْ قِيلَ قَدْ وقَعَ في حَدِيثٍ لِأبِي داوُدَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وقَضى أنْ لَيْسَ عَلَيْهِ قُوتٌ ولا سُكْنى، مِن أجْلِ أنَّهُما يَفْتَرِقانِ بِغَيْرِ طَلاقٍ ولا مُتَوَفًّى عَنْها.
فالجَوابُ أنَّ هَذا التَّعْلِيلَ لِعَدَمِ إيجابِ النَّفَقَةِ والسُّكْنى؛ لِلْمُلاعَنَةِ بِعَدَمِ طَلاقٍ أوْ وفاةٍ يَحْتَمِلُ كَوْنَهُ مِنِ ابْنِ عَبّاسٍ، ولَيْسَ مَرْفُوعًا إلَيْهِ ﷺ .
وَهَذا هو الظّاهِرُ أنَّ ابْنَ عَبّاسٍ ذَكَرَ العِلَّةَ لِما قَضى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِن عَدَمِ النَّفَقَةِ والسُّكْنى، وأراهُ اجْتِهادَهُ أنَّ عِلَّةَ ذَلِكَ عَدَمُ الطَّلاقِ والوَفاةِ.
والظّاهِرُ أنَّ العِلَّةَ الصَّحِيحَةَ لِعَدَمِ النَّفَقَةِ والسُّكْنى هي البَيْنُونَةُ بِمَعْناها الَّذِي هو أعَمُّ مِن وُقُوعِها بِالطَّلاقِ أوْ بِالفَسْخِ، بِدَلِيلِ أنَّ البائِنَ بِالطَّلاقِ لا تَجِبُ لَها النَّفَقَةُ والسُّكْنى عَلى أصَحِّ الأقْوالِ دَلِيلًا.
فَعُلِمَ أنَّ عَدَمَ النَّفَقَةِ والسُّكْنى لا يَتَوَقَّفُ عَلى عَدَمِ الطَّلاقِ.
وَأوْضَحُ دَلِيلٍ في ذَلِكَ ما صَحَّ عَنْهُ ﷺ مِن
«حَدِيثِ فاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: ”أنَّها طَلَّقَها زَوْجُها آخِرَ ثَلاثِ تَطْلِيقاتٍ فَلَمْ يَجْعَلْ لَها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ نَفَقَةً ولا سُكْنى“» أخْرَجَهُ مُسْلِمٌ في ”صَحِيحِهِ“ والإمامُ أحْمَدُ وأصْحابُ السُّنَنِ، وهو نَصٌّ صَرِيحٌ صَحِيحٌ في أنَّ البائِنَ بِالطَّلاقِ لا نَفَقَةَ لَها ولا سُكْنى، وهَذا الحَدِيثُ أصَحُّ مِن حَدِيثِابْنِ عَبّاسٍ المُتَقَدِّمِ.
وَصَرَّحَ الأئِمَّةُ بِأنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ مِنَ السُّنَّةِ ما يُخالِفُ حَدِيثَ فاطِمَةَ هَذا، وما وقَعَ في بَعْضِ الرِّواياتِ عَنْ عُمَرَ أنَّهُ قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ
«لَها: ”السُّكْنى والنَّفَقَةُ»“ . فَقالَ: قالَ الإمامُ أحْمَدُ: لا يَصِحُّ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ.
وَقالَ الدّارَقُطْنِيُّ: السُّنَّةُ بِيَدِ فاطِمَةَ قَطْعًا، وأيْضًا تِلْكَ الرِّوايَةُ عَنْ عُمَرَ مِن طَرِيقِ إبْراهِيمَ النَّخَعِيِّ، ومَوْلِدُهُ بَعْدَ مَوْتِ عُمَرَ بِسَنَتَيْنِ.
قالَ ابْنُ القَيِّمِ: ونَحْنُ نَشْهَدُ بِاللَّهِ شَهادَةً نُسْألُ عَنْها إذا لَقِيناهُ، أنَّها كَذِبٌ عَلى عُمَرَ، وكَذِبٌ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَإذا حُقِّقَتْ أنَّ السُّنَّةَ مَعَها وأنَّها صاحِبَةُ القِصَّةِ، فاعْلَمْ أنَّها لَمّا سَمِعَتْ قَوْلَ عُمَرَ لا نَتْرُكُ كِتابَ اللَّهِ وسُنَّةَ نَبِيِّنا ﷺ لِقَوْلِ امْرَأةٍ، لا نَدْرِي لَعَلَّها حَفِظَتْ أوْ نَسِيَتْ، قالَتْ: بَيْنِي وبَيْنَكم كِتابُ اللَّهِ. قالَ اللَّهُ:
﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ [الطلاق: ١]، حَتّى قالَ:
﴿لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أمْرًا﴾ [الطلاق: ١] . فَأيُّ أمْرٍ يَحْدُثُ بَعْدَ الثَّلاثِ، رَواهُ أبُو داوُدَ، والنَّسائِيُّ، وأحْمَدُ، ومُسْلِمٌ بِمَعْناهُ. فَتَحَصَّلَ أنَّ السُّنَّةَ بِيَدِها وكِتابَ اللَّهِ مَعَها.
وَهَذا المَذْهَبُ بِحَسَبِ الدَّلِيلِ هو أوْضَحُ المَذاهِبِ وأصْوَبُها. ولِلْعُلَماءِ في نَفَقَةِ البائِنِ وسُكْناها أقْوالٌ غَيْرُ هَذا فَمِنهم مَن أوْجَبَهُما مَعًا، ومِنهم مَن أوْجَبَ السُّكْنى دُونَ النَّفَقَةِ، ومِنهم مَن عَكَسَ.
فالحاصِلُ أنَّ حَدِيثَ فاطِمَةَ هَذا يَرُدُّ تَعْلِيلَ ابْنِ عَبّاسٍ المَذْكُورَ، وأنَّهُ أصَحُّ مِن حَدِيثِهِ، وفِيهِ التَّصْرِيحُ بِأنَّ سُقُوطَ النَّفَقَةِ والسُّكْنى لا يَتَوَقَّفُ عَلى عَدَمِ الطَّلاقِ، بَلْ يَكُونُ مَعَ الطَّلاقِ البائِنِ، وأيْضًا فالتَّصْرِيحُ بِأنَّهُ ﷺ أنْفَذَ الثَّلاثَ دَفْعَةً في الرِّوايَةِ المَذْكُورَةِ أوْلى بِالِاعْتِبارِ مِن كَلامِ ابْنِ عَبّاسٍ المَذْكُورِ؛ لِأنَّ مَن حَفِظَ حُجَّةً عَلى مَن لَمْ يَحْفَظْ، وهَذا الصَّحابِيُّ حَفِظَ إنْفاذَ الثَّلاثِ، والمُثْبَتُ مُقَدَّمٌ عَلى النّافِي.
فَإنْ قِيلَ: إنْفاذُهُ ﷺ الثَّلاثَ دَفْعَةً مِنَ المُلاعِنِ عَلى الرِّوايَةِ المَذْكُورَةِ لا يَكُونُ حُجَّةً في غَيْرِ اللِّعانِ؛ لِأنَّ اللِّعانَ تَجِبُ فِيهِ الفُرْقَةُ الأبَدِيَّةُ. فَإنْفاذُ الثَّلاثِ مُؤَكِّدٌ لِذَلِكَ الأمْرِ الواجِبِ بِخِلافِ الواقِعِ في غَيْرِ اللِّعانِ.
وَيَدُلُّ لِهَذا أنَّ النَّبِيَّ ﷺ غَضِبَ مِن إيقاعِ الثَّلاثِ دَفْعَةً في غَيْرِ اللِّعانِ، وقالَ:
«أيُلْعَبُ بِكِتابِ اللَّهِ وأنا بَيْنَ أظْهُرِكم ؟ !» كَما أخْرَجَهُ النَّسائِيُّ مِن حَدِيثِ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، فالجَوابُ مِن أرْبَعَةِ أوْجُهٍ: الأوَّلُ: الكَلامُ في حَدِيثِ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، فَإنَّهُ تَكَلَّمَ مِن جِهَتَيْنِ: الأُولى: أنَّهُ مُرْسَلٌ؛ لِأنَّ مَحْمُودَ بْنَ لَبِيدٍ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ سَماعٌ مِن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وإنْ كانَتْ وِلادَتُهُ في عَهْدِهِ ﷺ، وذِكْرُهُ في الصَّحابَةِ مِن أجْلِ الرُّؤْيَةِ، وقَدْ تَرْجَمَ لَهُ أحْمَدُ في مُسْنَدِهِ، وأخْرَجَ لَهُ عِدَّةَ أحادِيثَ لَيْسَ فِيها شَيْءٌ صَرَّحَ فِيهِ بِالسَّماعِ.
الثّانِيَةُ: أنَّ النَّسائِيَّ قالَ بَعْدَ تَخْرِيجِهِ لِهَذا الحَدِيثِ لا أعْلَمُ أحَدًا رَواهُ غَيْرُ مَخْرَمَةَ بْنِ بُكَيْرٍ يَعْنِي ابْنَ الأشَجِّ، عَنْ أبِيهِ، ورِوايَةُ مَخْرَمَةَ، عَنْ أبِيهِ، وِجادَةٌ مِن كِتابِهِ، قالَهُ أحْمَدُ وابْنُ مَعِينٍ وغَيْرُهُما.
وَقالَ ابْنُ المَدِينِيِّ: سَمِعَ مِن أبِيهِ قَلِيلًا، قالَ ابْنُ حَجَرٍ في ”التَّقْرِيبِ“: رِوايَتُهُ عَنْ أبِيهِ وِجادَةٌ مِن كِتابِهِ، قالَ أحْمَدُ وابْنُ مَعِينٍ وغَيْرُهُما، وقالَ ابْنُ المَدِينِيِّ: سَمِعَ مِن أبِيهِ قَلِيلًا.
قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ: أمّا الإعْلالُ الأوَّلُ بِأنَّهُ مُرْسَلٌ، فَهو مَرْدُودٌ بِأنَّهُ مُرْسَلُ صَحابِيٍّ ومَراسِيلُ الصَّحابَةِ لَها حُكْمُ الوَصْلِ، ومَحْمُودُ بْنُ لَبِيدٍ المَذْكُورُ جُلُّ رِوايَتِهِ عَنِ الصَّحابَةِ، كَما قالَهُ ابْنُ حَجَرٍ في ”التَّقْرِيبِ“ وغَيْرِهِ.
والإعْلالُ الثّانِي بِأنَّ رِوايَةَ مَخْرَمَةَ عَنْ أبِيهِ وِجادَةٌ مِن كِتابِهِ فِيهِ أنَّ مُسْلِمًا أخْرَجَ في ”صَحِيحِهِ“ عِدَّةَ أحادِيثَ مِن رِوايَةِ مَخْرَمَةَ، عَنْ أبِيهِ، والمُسْلِمُونَ مُجْمِعُونَ عَلى قَبُولِ أحادِيثِ مُسْلِمٍ إلّا بِمُوجِبٍ صَرِيحٍ يَقْتَضِي الرَّدَّ، فالحَقُّ أنَّ الحَدِيثَ ثابِتٌ إلّا أنَّ الِاسْتِدْلالَ بِهِ يَرُدُّهُ.
الوَجْهُ الثّانِي: وهو أنْ حَدِيثَ مَحْمُودٍ لَيْسَ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِأنَّهُ ﷺ أنْفَذَ الثَّلاثَ، ولا أنَّهُ لَمْ يُنْفِذْها، وحَدِيثُ سَهْلٍ عَلى الرِّوايَةِ المَذْكُورَةِ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِأنَّهُ أنْفَذَها، والمُبَيَّنُ مُقَدَّمٌ عَلى المُجْمَلِ، كَما تَقَرَّرَ في الأُصُولِ بَلْ بَعْضُ العُلَماءِ احْتَجَّ لِإيقاعِ الثَّلاثِ دَفْعَةً، بِحَدِيثِ مَحْمُودٍ هَذا.
وَوَجْهُ اسْتِدْلالِهِ بِهِ أنَّهُ طَلَّقَ ثَلاثًا يَظُنُّ لُزُومَها، فَلَوْ كانَتْ غَيْرَ لازِمَةٍ لِبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أنَّها غَيْرُ لازِمَةٍ؛ لِأنَّ البَيانَ لا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ عَنْ وقْتِ الحاجَةِ.
الوَجْهُ الثّالِثُ: أنَّ إمامَ المُحَدِّثِينَ مُحَمَّدَ بْنَ إسْماعِيلَ البُخارِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أخْرَجَ حَدِيثَ سَهْلٍ تَحْتَ التَّرْجَمَةِ الَّتِي هي قَوْلُهُ: ”بابُ مَن جَوَّزَ الطَّلاقَ الثَّلاثَ“ وهو دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ يَرى عَدَمَ الفَرْقِ بَيْنَ اللِّعانِ وغَيْرِهِ في الِاحْتِجاجِ بِإنْفاذِ الثَّلاثِ دَفْعَةً.
الوَجْهُ الرّابِعُ: هو ما سَيَأْتِي مِنَ الأحادِيثِ الدّالَّةِ عَلى وُقُوعِ الثَّلاثِ دَفْعَةً، كَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وحَدِيثِ الحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، وإنْ كانَ الكُلُّ لا يَخْلُو مِن كَلامٍ. ومِمَّنْ قالَ بِأنَّ اللِّعانَ طَلاقٌ لا فَسْخٌ: أبُو حَنِيفَةَ، ومُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ، وحَمّادٌ، وصَحَّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ، كَما نَقَلَهُ الحافِظُ ابْنُ حَجَرٍ في ”فَتْحِ البارِي“ وعَنِ الضَّحّاكِ والشَّعْبِيِّ: إذا أكْذَبَ نَفْسَهُ رُدَّتْ إلَيْهِ امْرَأتُهُ.
وَبِهَذا كُلِّهِ تَعْلَمُ أنَّ رَدَّ الِاحْتِجاجِ بِتَقْرِيرِهِ ﷺ عُوَيْمِرَ العَجْلانِيَّ، عَلى إيقاعِ الثَّلاثِ دَفْعَةً، بِأنَّ الفُرْقَةَ بِنَفْسِ اللِّعانِ لا يَخْلُو مِن نَظَرٍ، ولَوْ سَلَّمْنا أنَّ الفُرْقَةَ بِنَفْسِ اللِّعانِ فَإنّا لا نُسَلِّمُ أنَّ سُكُوتَهُ ﷺ لا دَلِيلَ فِيهِ، بَلْ نَقُولُ: لَوْ كانَتْ لا تَقَعُ دَفْعَةً لَبَيَّنَ أنَّها لا تَقَعُ دَفْعَةً، ولَوْ كانَتِ الفُرْقَةُ بِنَفْسِ اللِّعانِ، كَما تَقَدَّمَ.
* * *وَمِن أدِلَّتِهِمْ حَدِيثُ عائِشَةَ الثّابِتُ في الصَّحِيحِ في قِصَّةِ رِفاعَةَ القُرَظِيِّ وامْرَأتِهِ، فَإنَّ فِيهِ:
«فَقالَتْ: يا رَسُولَ اللَّهِ ! إنْ رِفاعَةَ طَلَّقَنِي فَبَتَّ طَلاقِي» الحَدِيثَ. وقَدْ أخْرَجَهُ البُخارِيُّ تَحْتَ التَّرْجَمَةِ المُتَقَدِّمَةِ، فَإنَّ قَوْلَها ”فَبَتَّ طَلاقِي“ ظاهِرٌ في أنَّهُ قالَ لَها: أنْتِ طالِقٌ البَتَّةَ.
قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ: الِاسْتِدْلالُ بِهَذا الحَدِيثِ غَيْرُ ناهِضٍ فِيما يَظْهَرُ؛ لِأنَّ مُرادَها بِقَوْلِها: فَبَتَّ طَلاقِي؛ أيْ: بِحُصُولِ الطَّلْقَةِ الثّالِثَةِ.
وَيُبَيِّنُهُ أنَّ البُخارِيَّ ذَكَرَ في كِتابِ الأدَبِ مِن وجْهٍ آخَرَ أنَّها قالَتْ:
«طَلَّقَنِي آخِرَ ثَلاثِ تَطْلِيقاتٍ»، وهَذِهِ الرِّوايَةُ تُبَيِّنُ المُرادَ مِن قَوْلِها فَبَتَّ طَلاقِي، وأنَّهُ لَمْ يَكُنْ دَفْعَةً واحِدَةً، ومِن أدِلَّتِهِمْ حَدِيثُ عائِشَةَ الثّابِتُ في الصَّحِيحِ. وقَدْ أخْرَجَهُ البُخارِيُّ تَحْتَ التَّرْجَمَةِ المَذْكُورَةِ أيْضًا:
«أنَّ رَجُلًا طَلَّقَ امْرَأتَهُ ثَلاثًا، فَتَزَوَّجَتْ فَطَلَّقَ، فَسُئِلَ النَّبِيُّ ﷺ أتَحِلُّ لِلْأوَّلِ ؟ قالَ: " لا، حَتّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَها كَما ذاقَ الأوَّلُ» فَإنَّ قَوْلَهُ ثَلاثًا ظاهِرٌ في كَوْنِها مَجْمُوعَةً، واعْتَرَضَ الِاسْتِدْلالَ بِهَذا الحَدِيثِ بِأنَّهُ مُخْتَصَرٌ مِن قِصَّةِ رِفاعَةَ، وقَدْ قَدَّمْنا قَرِيبًا أنَّ بَعْضَ الرِّواياتِ الصَّحِيحَةِ دَلَّ عَلى أنَّها ثَلاثٌ مُفَرَّقَةٌ لا مَجْمُوعَةٌ، ورَدَّ هَذا الِاعْتِراضَ بِأنَّ غَيْرَ رِفاعَةَ قَدْ وقَعَ لَهُ مَعَ امْرَأتِهِ نَظِيرُ ما وقَعَ لِرِفاعَةَ، فَلا مانِعَ مِنَ التَّعَدُّدِ، وكَوْنُ الحَدِيثِ الأخِيرِ في قِصَّةٍ أُخْرى كَما ذَكَرَهُ الحافِظُ ابْنُ حَجْرٍ في الكَلامِ عَلى قِصَّةِ رِفاعَةَ، فَإنَّهُ قالَ فِيها ما نَصُّهُ: وهَذا الحَدِيثُ إنْ كانَ مَحْفُوظًا فالواضِحُ مِن سِياقِهِ أنَّها قِصَّةٌ أُخْرى، وأنَّ كُلًّا مِن رِفاعَةَ القُرَظِيِّ، ورِفاعَةَ النَّضْرِيِّ وقَعَ لَهُ مَعَ زَوْجَةٍ لَهُ طَلاقٌ، فَتَزَوَّجَ كُلًّا مِنهُما عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَطَلَّقَها قَبْلَ أنْ يَمَسَّها، فالحُكْمُ في قِصَّتِهِما مُتَّحِدٌ مَعَ تَغايُرِ الأشْخاصِ. وبِهَذا يَتَبَيَّنُ خَطَأُ مَن وحَّدَ بَيْنَهُما ظَنًّا مِنهُ أنَّ رِفاعَةَ بْنَ سَمَوْألٍ هو رَفاعَةُ بْنُ وهْبٍ. ا ه، مَحَلُّ الحاجَةِ مِنهُ بِلَفْظِهِ.
وَمِن أدِلَّتِهِمْ ما أخْرَجَهُ النَّسائِيُّ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ قالَ:
«أُخْبِرَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأتَهُ ثَلاثَ تَطْلِيقاتٍ جَمِيعًا، فَقامَ مُغْضَبًا، فَقالَ: " أيُلْعَبُ بِكِتابِ اللَّهِ وأنا بَيْنَ أظْهُرِكم ؟ !» وقَدْ قَدَّمْنا أنَّ وجْهَ الِاسْتِدْلالِ مِنهُ: أنَّ المُطَلِّقَ يَظُنُّ الثَّلاثَ المَجْمُوعَةَ واقِعَةً، فَلَوْ كانَتْ لا تَقَعُ لَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أنَّها لا تَقَعُ؛ لِأنَّهُ لا يَجُوزُ في حَقِّهِ تَأْخِيرُ البَيانِ عَنْ وقْتِ الحاجَةِ إلَيْهِ.
وَقَدْ قالَ ابْنُ كَثِيرٍ في حَدِيثِ مَحْمُودٍ هَذا: إنَّ إسْنادَهُ جَيِّدٌ، وقالَ الحافِظُ في ”بُلُوغِ المَرامِ“: رُواتُهُ مُوَثَّقُونَ، وقالَ في ”الفَتْحِ“: رِجالُهُ ثِقاتٌ، فَإنْ قِيلَ: غَضِبَ النَّبِيُّ ﷺ، وتَصْرِيحُهُ بِأنَّ ذَلِكَ الجَمْعَ لِلطَّلَقاتِ لَعِبٌ بِكِتابِ اللَّهِ يَدُلُّ عَلى أنَّها لا تَقَعُ؛ لِقَوْلِهِ ﷺ:
«مَن أحْدَثَ في أمْرِنا هَذا ما لَيْسَ مِنهُ فَهو رَدٌّ»، وفي رِوايَةِ
«مَن عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أمْرُنا فَهو رَدٌّ»، فالجَوابُ أنَّ كَوْنَهُ مَمْنُوعًا ابْتِداءً لا يُنافِي وُقُوعَهُ بَعْدَ الإيقاعِ، ويَدُلُّ لَهُ ما سَيَأْتِي قَرِيبًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِن قَوْلِهِ لِمَن سَألَهُ: وإنْ كُنْتَ طَلَّقْتَها ثَلاثًا فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْكَ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَكَ، وعَصَيْتَ اللَّهَ فِيما أمَرَكَ بِهِ مِن طَلاقِ امْرَأتِكِ، ولا سِيَّما عَلى قَوْلِ الحاكِمِ: إنَّهُ مَرْفُوعٌ، وهَذا ثابِتٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ في الصَّحِيحِ، ويُؤَيِّدُهُ ما سَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ قَرِيبًا مِن حَدِيثِهِ المَرْفُوعِ عِنْدَ الدّارَقُطْنِيِّ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ لَهُ:
«كانَتْ تَبِينُ مِنكَ وتَكُونُ مَعْصِيَةٌ» ويُؤَيِّدُهُ أيْضًا ما سَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ بِإسْنادٍ صَحِيحٍ أنَّهُ قالَ لِمَن سَألَهُ عَنْ ثَلاثٍ أوْقَعَها دَفْعَةً: ”إنَّكَ لَمْ تَتَّقِ اللَّهَ فَيَجْعَلُ لَكَ مَخْرَجًا، عَصَيْتَ رَبَّكَ، وبانَتْ مِنكَ امْرَأتُكَ“ .
وَبِالجُمْلَةِ فالمُناسِبُ لِمُرْتَكِبِ المَعْصِيَةِ التَّشْدِيدُ لا التَّخْفِيفُ بِعَدَمِ الإلْزامِ، ومِن أدِلَّتِهِمْ ما أخْرَجَهُ الدّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - إنَّهُ قالَ:
«فَقُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ ! أرَأيْتَ لَوْ طَلَّقْتُها ثَلاثًا أكانَ يَحِلُّ لِي أنْ أُراجِعَها ؟ قالَ: ”لا، كانَتْ تَبِينُ مِنكَ وتَكُونُ مَعْصِيَةٌ»“ وفي إسْنادِهِ عَطاءٌ الخُراسانِيُّ وهو مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وقَدْ وثَّقَهُ التِّرْمِذِيُّ، وقالَ النَّسائِيُّ، وأبُو حاتِمٍ: لا بَأْسَ بِهِ، وكَذَّبَهُ سَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ، وضَعَّفَهُ غَيْرُ واحِدٍ، وقالَ البُخارِيُّ: لَيْسَ فِيمَن رُوِيَ عَنْ مالِكٍ مَن يَسْتَحِقُّ التَّرْكَ غَيْرُهُ، وقالَ شُعْبَةُ: كانَ نَسِيًّا، وقالَ ابْنُ حِبّانَ: كانَ مِن خِيارِ عِبادِ اللَّهِ، غَيْرَ أنَّهُ كَثِيرُ الوَهْمِ سَيِّئُ الحِفْظِ، يُخْطِئُ ولا يَدْرِي، فَلَمّا كَثُرَ ذَلِكَ في رِوايَتِهِ بَطَلَ الِاحْتِجاجُ بِهِ. وأيْضًا الزِّيادَةُ الَّتِي هي مَحَلُّ الحُجَّةِ مِنَ الحَدِيثِ أعْنِي قَوْلَهُ:
«أرَأيْتَ لَوْ طَلَّقْتُها» إلَخْ، مِمّا تَفَرَّدَ بِهِ عَطاءٌ المَذْكُورُ. وقَدْ شارَكَهُ الحُفّاظُ في أصْلِ الحَدِيثِ، ولَمْ يَذْكُرُوا الزِّيادَةَ المَذْكُورَةَ. وفي إسْنادِها شُعَيْبُ بْنُ زُرَيْقٍ الشّامِيُّ وهو ضَعِيفٌ، وأعَلَّ عَبْدُ الحَقِّ في أحْكامِهِ هَذا الحَدِيثَ، بِأنَّ في إسِنادِهِ مُعَلّى بْنَ مَنصُورٍ، وقالَ: رَماهُ أحْمَدُ بِالكَذِبِ.
قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ: أمّا عَطاءٌ الخُراسانِيُّ المَذْكُورُ فَهو مِن رِجالِ مُسْلِمٍ في ”صَحِيحِهِ“ وأمّا مُعَلّى بْنُ مَنصُورٍ فَقَدْ قالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ في ”التَّقْرِيبِ“: ثِقَةٌ سُنِّيٌّ فَقِيهٌ طُلِبَ لِلْقَضاءِ فامْتَنَعَ، أخْطَأ مَن زَعَمَ أنَّ أحْمَدَ رَماهُ بِالكَذِبِ، أخْرَجَ لَهُ الشَّيْخانِ وباقِي الجَماعَةِ. وأمّا شُعَيْبُ بْنُ زُرَيْقٍ أبُو شَيْبَةَ الشّامِيِّ فَقَدْ قالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ في ”التَّقْرِيبِ“: صَدُوقٌ يُخْطِئُ، ومَن كانَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ مَرْدُودَ الحَدِيثِ، لا سِيَّما وقَدِ اعْتَضَدَتْ رِوايَتُهُ بِما تَقَدَّمَ في حَدِيثِ سَهْلٍ، وبِما رَواهُ البَيْهَقِيُّ عَنِ الحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - فَإنَّهُ قالَ في [ السُّنَنِ الكُبْرى ] ما نَصُّهُ: أخْبَرَنا أبُو الحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أحْمَدَ بْنِ عَبْدانَ: أنا أحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الصَّفّارِ، أنا إبْراهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الواسِطِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ الرّازِيُّ، أنا سَلَمَةُ بْنُ الفَضْلِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أبِي قَيْسٍ، عَنْ إبْراهِيمَ بْنِ عَبْدِ الأعْلى، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ، قالَ: كانَتْ عائِشَةُ الخَثْعَمِيَّةُ عِنْدَ الحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، فَلَمّا قُتِلَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قالَتْ: لِتَهْنِكَ الخِلافَةُ، قالَ: بِقَتْلِ عَلِيٍّ تُظْهِرِينَ الشَّماتَةَ، اذْهَبِي فَأنْتِ طالِقٌ، يَعْنِي ثَلاثًا قالَ: فَتَلَفَّعَتْ بِثِيابِها، وقَعَدَتْ حَتّى قَضَتْ عِدَّتَها، فَبَعَثَ إلَيْها بِبَقِيَّةٍ بَقِيَتْ لَها مِن صَداقِها وعَشَرَةِ آلافٍ صَدَقَةً، فَلَمّا جاءَها الرَّسُولُ قالَتْ: مَتاعٌ قَلِيلٌ مِن حَبِيبٍ مُفارِقٍ، فَلَمّا بَلَغَهُ قَوْلُها بَكى، ثُمَّ قالَ: لَوْلا أنِّي سَمِعْتُ جَدِّي أوْ حَدَّثَنِي أبِي أنَّهُ سَمِعَ جَدِّي يَقُولُ:
«أيُّما رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأتَهُ ثَلاثًا عِنْدَ الأقْراءِ ”أوْ“ ثَلاثًا مُبْهَمَةً لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ» لَراجَعْتُها.
وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شَمِرٍ، عَنْ عِمْرانَ بْنِ مُسْلِمٍ، وإبْراهِيمَ بْنِ عَبْدِ الأعْلى، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ. ا ه مِنهُ بِلَفْظِهِ. وضِعْفُ هَذا الإسْنادِ بِأنَّ فِيهِ مُحَمَّدَ بْنَ حُمَيْدِ بْنِ حَيّانَ الرّازِيَّ، قالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ في ”التَّقْرِيبِ“: حافِظٌ ضَعِيفٌ، وكانَ ابْنُ مَعِينٍ حَسَنَ الرَّأْيِ فِيهِ، أنَّ فِيهِ أيْضًا سَلَمَةَ بْنَ الفَضْلِ الأبْرَشَ، مَوْلى الأنْصارِ قاضِي الرَّيِّ قالَ فِيهِ في ”التَّقْرِيبِ“: صَدُوقٌ كَثِيرُ الخَطَأِ ورُوِيَ مِن غَيْرِ هَذا الوَجْهِ ورَوى نَحْوَهُ الطَّبَرانِيُّ مِن حَدِيثِ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ، وضَعَّفَ الحَدِيثَ إسْحاقُ بْنُ راهَوَيْهِ، ويُؤَيِّدُ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ المَذْكُورَ أيْضًا ما ثَبَتَ في الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِن إنَّهُ قالَ: ”وَإنْ كُنْتَ طَلَّقْتَها ثَلاثًا فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْكَ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَكَ، وعَصَيْتَ اللَّهَ فِيما أمَرَكَ بِهِ مِن طَلاقِ امْرَأتِكَ“ . ولا سِيَّما عَلى قَوْلِ الحاكِمِ: إنَّهُ مَرْفُوعٌ، وعَلى ثُبُوتِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ المَذْكُورِ، فَهو ظاهِرٌ في مَحَلِّ النِّزاعِ.
فَما ذَكَرَهُ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ مِن أنَّهُ لَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ؛ بِناءً عَلى حَمْلِهِ عَلى كَوْنِ الثَّلاثِ مُفَرَّقَةً لا مُجْتَمِعَةً، فَهو بَعِيدٌ. والحَدِيثُ ظاهِرٌ في كَوْنِها مُجْتَمِعَةً؛ لِأنَّ ابْنَ عُمَرَ لا يَسْألُ عَنِ الثَّلاثِ المُتَفَرِّقَةِ إذْ لا يَخْفى عَلَيْهِ أنَّها مُحَرَّمَةٌ، ولَيْسَ مَحَلُّ نِزاعٍ. ومِن أدِلَّتِهِمْ ما أخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزّاقِ في ”مُصَنَّفِهِ“، عَنْ عُبادَةَ بْنِ الصّامِتِ، قالَ:
«طَلَّقَ جَدِّي امْرَأةً لَهُ ألْفَ تَطْلِيقَةٍ، فانْطَلَقَ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: " ما اتَّقى اللَّهَ جَدُّكَ، أمّا ثَلاثٌ فَلَهُ، وأمّا تِسْعُمِائَةٍ وسَبْعٌ وتِسْعُونَ فَعُدْوانٌ وظُلْمٌ، إنْ شاءَ اللَّهُ عَذَّبَهُ وإنْ شاءَ غَفَرَ لَهُ» . وفي رِوايَةٍ:
«إنَّ أباكَ لَمْ يَتَّقِ اللَّهَ فَيَجْعَلَ لَهُ مَخْرَجًا، بانَتْ مِنهُ بِثَلاثٍ عَلى غَيْرِ السُّنَّةِ، وتِسْعُمِائَةٍ وسَبْعٌ وتِسْعُونَ إثْمٌ في عُنُقِهِ» وفي إسْنادِهِ يَحْيى بْنُ العَلاءِ، وعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الوَلِيدِ، وإبْراهِيمُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، ولا يُحْتَجُّ بِواحِدٍ مِنهم.
وَقَدْ رَواهُ بَعْضُهم عَنْ صَدَقَةَ بْنِ أبِي عِمْرانَ، عَنْ إبْراهِيمَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُبادَةَ بْنِ الصّامِتِ، عَنْ أبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ. ومِن أدِلَّتِهِمْ ما رَواهُ ابْنُ ماجَهْ عَنِ الشَّعْبِيِّ قالَ:
«قُلْتُ لِفاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ: حَدِّثِينِي عَنْ طَلاقِكِ، قالَتْ: طَلَّقَنِي زَوْجِي ثَلاثًا، وهو خارِجٌ إلى اليَمَنِ، فَأجازَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ» .
وَفِي رِوايَةِ أبِي أُسامَةَ، عَنْ هِشامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أبِيهِ، عَنْ فاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ قالَتْ:
«يا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ زَوِّجِي طَلَّقَنِي ثَلاثًا، فَأخافُ أنْ يَقْتَحِمَ عَلَيَّ فَأمَرَها فَتَحَوَّلَتْ» .
وَفِي مُسْلِمٍ مِن رِوايَةِ أبِي سَلَمَةَ، أنَّ فاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ أخْبَرَتْهُ
«أنَّ أبا حَفْصِ بْنَ المُغِيرَةِ المَخْزُومِيَّ طَلَّقَها ثَلاثًا ثُمَّ انْطَلَقَ إلى اليَمَنِ» إلَخْ. . . وفِيهِ عَنْ أبِي سَلَمَةَ أيْضًا أنَّها قالَتْ:
«فَطَلَّقَنِي البَتَّةَ» .
قالُوا: فَهَذِهِ الرِّواياتُ ظاهِرَةٌ في أنَّ الطَّلاقَ كانَ بِالثَّلاثِ المُجْتَمِعَةِ، ولا سِيَّما حَدِيثُ الشَّعْبِيِّ؛ لِقَوْلِها فِيهِ: فَأجازَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إذْ لا يَحْتاجُ إلى الإخْبارِ بِإجازَتِهِ إلّا الثَّلاثَ المُجْتَمِعَةَ، ورَدَّ الِاسْتِدْلالَ بِهَذا الحَدِيثِ بِما ثَبَتَ في بَعْضِ الرِّواياتِ الصَّحِيحَةِ، كَما أخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِن رِوايَةِ أبِي سَلَمَةَ أيْضًا: أنَّ فاطِمَةَ أخْبَرَتْهُ أنَّها كانَتْ تَحْتَ أبِي عَمْرِو بْنِ حَفْصِ بْنِ المُغِيرَةِ فَطَلَّقَها آخِرَ ثَلاثِ تَطْلِيقاتٍ.
فَهَذِهِ الرِّوايَةُ تُفَسِّرُ الرِّواياتِ المُتَقَدِّمَةِ، وتُظْهِرُ أنَّ المَقْصُودَ مِنها أنَّ ذَلِكَ وقَعَ مُفَرَّقًا لا دَفْعَةً، ورَدَّ بَعْضُهم هَذا الِاعْتِراضَ بِأنَّ الرِّواياتِ المَذْكُورَةَ تَدُلُّ عَلى عَدَمِ تَفْرِيقِ الصَّحابَةِ والتّابِعَيْنِ بَيْنَ صِيَغِ البَيْنُونَةِ الثَّلاثِ، يَعْنُونَ لَفْظَ البَتَّةَ والثَّلاثِ المُجْتَمِعَةِ، والثَّلاثِ المُتَفَرِّقَةِ؛ لِتَعْبِيرِها في بَعْضِ الرِّواياتِ بِلَفْظِ طَلَّقَنِي ثَلاثًا، وفي بَعْضِها بِلَفْظِ: طَلَّقَنِي البَتَّةَ، وفي بَعْضِها بِلَفْظٍ: فَطَلَّقَنِي آخِرَ ثَلاثِ تَطْلِيقاتٍ. فَلَمْ تَخُصَّ لَفْظًا مِنها عَنْ لَفْظٍ؛ لِعِلْمِها بِتَساوِي الصِّيَغِ.
وَلَوْ عَلِمْتَ أنَّ بَعْضَها لا يَحْرُمُ لاحْتَرَزَتْ مِنهُ.
قالُوا: والشَّعْبِيُّ قالَ لَها: حَدِّثِينِي عَنْ طَلاقِكِ، أيْ: عَنْ كَيْفِيَّتِهِ وحالِهِ. فَكَيْفَ يَسْألُ عَنِ الكَيْفِيَّةِ ويَقْبَلُ الجَوابَ بِما فِيهِ عِنْدَهُ إجْمالٌ مِن غَيْرِ أنْ يَسْتَفْسِرَ عَنْهُ، وأبُو سَلَمَةَ رَوى عَنْها الصِّيَغَ الثَّلاثَ، فَلَوْ كانَ بَيْنَهُ عِنْدَهُ تَفاوُتٌ لاعْتَرَضَ عَلَيْها بِاخْتِلافِ ألْفاظِها، وتَثَبَّتَ حَتّى يَعْلَمَ مِنها بِأيِّ الصِّيَغِ وقَعَتْ بَيْنُونَتُها، فَتَرْكُهُ لِذَلِكَ دَلِيلٌ عَلى تَساوِي الصِّيَغِ المَذْكُورَةِ عِنْدَهُ هَكَذا ذَكَرَهُ بَعْضُ الأجِلّاءِ.
والظّاهِرُ أنَّ هَذا الحَدِيثَ لا دَلِيلَ فِيهِ؛ لِأنَّ الرِّواياتِ الَّتِي فِيها إجْمالٌ بَيَّنَتْها الرِّوايَةُ الصَّحِيحَةُ الأُخْرى كَما هو ظاهِرٌ، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
وَمِن أدِلَّتِهِمْ ما رَواهُ أبُو داوُدَ، والدّارَقُطْنِيُّ وقالَ: قالَ أبُو داوُدَ: هَذا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، والشّافِعِيُّ، والتِّرْمِذِيُّ، وابْنُ ماجَهْ، وصَحَّحَهُ ابْنُ حِبّانَ، والحاكِمُ
«عَنْ رُكانَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أنَّهُ طَلَّقَ امْرَأتَهُ سُهَيْمَةَ البَتَّةَ، فَأخْبَرَ النَّبِيَّ ﷺ بِذَلِكَ. فَقالَ: واللَّهِ ما أرَدْتُ إلّا واحِدَةً، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ”واللَّهِ ما أرَدْتَ إلّا واحِدَةً“ ؟ فَقالَ رُكانَةُ: واللَّهِ ما أرَدْتُ إلّا واحِدَةً، فَرَدَّها إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وطَلَّقَها الثّانِيَةَ في زَمانِ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ، والثّالِثَةَ في زَمَنِ عُثْمانَ»، فَهَذا الحَدِيثُ صَحَّحَهُ أبُو داوُدَ، وابْنُ حِبّانَ، والحاكِمُ.
وَقالَ فِيهِ ابْنُ ماجَهْ: سَمِعْتُ أبا الحَسَنِ عَلِيَّ بْنَ مُحَمَّدٍ الطَّنافِسِيَّ يَقُولُ: ما أشْرَفَ هَذا الحَدِيثِ.
وَقالَ الشَّوْكانِيُّ في ”نَيْلِ الأوْطارِ“: قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: قَدْ رَواهُ أبُو داوُدَ مِن وجْهٍ آخَرَ، ولَهُ طُرُقٌ أُخَرُ، فَهو حَسَنٌ إنْ شاءَ اللَّهُ. وهو نَصٌّ في مَحَلِّ النِّزاعِ؛ لِأنَّ تَحْلِيفَهُ ﷺ لِرُكانَةَ ما أرادَ بِلَفْظِ البَتَّةَ إلّا واحِدَةً دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ لَوْ أرادَ بِها أكْثَرَ مِنَ الواحِدَةِ لَوَقَعَ، والثَّلاثُ أصْرَحُ في ذَلِكَ في لَفْظِ البَتَّةَ؛ لِأنَّ البَتَّةَ كِنايَةٌ والثَّلاثَ صَرِيحٌ، ولَوْ كانَ لا يَقَعُ أكْثَرُ مِن واحِدَةٍ، لَما كانَ لِتَحْلِيفِهِ مَعْنًى مَعَ اعْتِضادِ هَذا الحَدِيثِ بِما قَدَّمْنا مِنَ الأحادِيثِ، وبِما سَنَذْكُرُهُ بَعْدَهُ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى، وإنْ كانَ الكُلُّ لا يَخْلُو مِن كَلامٍ، مَعَ أنَّ هَذا الحَدِيثَ تَكَلَّمَ فِيهِ: بِأنَّ في إسْنادِهِ الزُّبَيْرَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ سُلَيْمانَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ الحارِثِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ الهاشِمِيَّ.
قالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ في ”التَّقْرِيبِ“: لَيِّنُ الحَدِيثِ، وقَدْ ضَعَّفَهُ غَيْرُ واحِدٍ. وقِيلَ: إنَّهُ مَتْرُوكٌ، والحَقُّ ما قالَهُ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ مِن أنَّهُ لَيِّنُ الحَدِيثِ.
وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ عَنِ البُخارِيِّ أنَّهُ مُضْطَرِبٌ فِيهِ. يُقالُ ثَلاثًا، وتارَةً قِيلَ واحِدَةً. وأصَحُّها أنَّهُ طَلَّقَها البَتَّةَ، وأنَّ الثَّلاثَ ذُكِرَتْ فِيهِ عَلى المَعْنى.
وَقالَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ في ”التَّمْهِيدِ“: تَكَلَّمُوا في هَذا الحَدِيثِ، وقَدْ قَدَّمْنا آنِفًا تَصْحِيحَ أبِي داوُدَ، وابْنِ حِبّانَ، والحاكِمِ لَهُ، وأنَّ ابْنَ كَثِيرٍ قالَ: إنَّهُ حَسَنٌ، وإنَّهُ مُعْتَضِدٌ بِالأحادِيثِ المَذْكُورَةِ قَبْلَهُ، كَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ الدّارَقُطْنِيِّ، وحَدِيثِ الحَسَنِ عِنْدَ البَيْهَقِيِّ، وحَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدِ السّاعِدِيِّ في لِعانِ عُوَيْمِرٍ وزَوْجِهِ، ولا سِيَّما عَلى رِوايَةِ فَأنْفَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَعْنِي الثَّلاثَ بِلَفْظٍ واحِدٍ كَما تَقَدَّمَ.
وَيَعْتَضِدُ أيْضًا بِما رَواهُ أبُو داوُدَ، والتِّرْمِذِيُّ، والنَّسائِيُّ عَنْ حَمّادِ بْنِ زَيْدٍ، قالَ: قُلْتُ لِأيُّوبَ: هَلْ عَلِمْتَ أحَدًا قالَ في أمْرِكَ بِيَدِكَ إنَّها ثَلاثٌ غَيْرَ الحَسَنِ ؟ قالَ: لا، ثُمَّ قالَ: اللَّهُمَّ غُفْرًا إلّا ما حَدَّثَنِي قَتادَةُ عَنْ كَثِيرٍ - مَوْلى ابْنِ سَمُرَةَ - عَنْ أبِي سَلَمَةَ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ:
«ثَلاثٌ» . فَلَقِيتُ كَثِيرًا فَسَألْتُهُ فَلَمْ يَعْرِفْهُ، فَرَجَعْتُ إلى قَتادَةَ فَأخْبَرْتُهُ فَقالَ: نَسِيَ.
وَقالَ التِّرْمِذِيُّ: لا نَعْرِفُهُ إلّا مِن حَدِيثِ سُلَيْمانَ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ حَمّادِ بْنِ زَيْدٍ، وتَكَلَّمَ في هَذا الحَدِيثِ مِن ثَلاثِ جِهاتٍ: الأُولى: أنَّ البُخارِيَّ لَمْ يَعْرِفْهُ مَرْفُوعًا، وقالَ إنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلى أبِي هُرَيْرَةَ ويُجابُ عَنْ هَذا: بِأنَّ الرَّفْعَ زِيادَةٌ، وزِيادَةُ العَدْلِ مَقْبُولَةٌ، وقَدْ رَواهُ سُلَيْمانُ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ حَمّادِ بْنِ زَيْدٍ مَرْفُوعًا، وجَلالَتُهُما مَعْرُوفَةٌ.
قالَ في ”مَراقِي السُّعُودِ“: [ الرَّجَزِ ]
والرَّفْعُ والوَصْلُ وزِيدَ اللَّفْظُ مَقْبُولَةٌ عِنْدَ إمامِ الحِفْظِ
الثّانِيَةُ: أنَّ كَثِيرًا نَسِيَهُ، ويُجابُ عَنْ هَذا بِأنَّ نِسْيانَ الشَّيْخِ لا يُبْطِلُ رِوايَةَ مَن رَوى عَنْهُ؛ لِأنَّهُ يَقِلُّ راوٍ يَحْفَظُ طُولَ الزَّمانِ ما يَرْوِيهِ، وهَذا قَوْلُ الجُمْهُورِ.
وَقَدْ رَوى سُهَيْلُ بْنُ أبِي صالِحٍ، عَنْ أبِيهِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ:
«أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَضى بِالشّاهِدِ واليَمِينِ» ونَسِيَهُ، فَكانَ يَقُولُ: حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ عَنِّي ولَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أحَدٌ، وأشارَ إلَيْهِ العِراقِيُّ في ألْفِيَّتِهِ بِقَوْلِهِ: [ الرَّجَزِ ]
وَإنْ يُرِدْهُ بِلا أذْكُرُ أوْ ∗∗∗ ما يَقْتَضِي نِسْيانَهُ فَقَدْ رَأوْا ∗∗∗ الحُكْمَ لِلذّاكِرِ عِنْدَ المُعْظَمِ ∗∗∗ وحُكِيَ الإسْقاطُ عَنْ بَعْضِهِمُ ∗∗∗ كَقِصَّةِ الشّاهِدِ واليَمِينِ إذْ ∗∗∗ نَسِيَهُ سُهَيْلٌ الَّذِي أخَذْ ∗∗∗ عَنْهُ فَكانَ بَعْدُ عَنْ رَبِيعِهِ ∗∗∗ عَنْ نَفْسِهِ يَرْوِيهِ لَنْ يُضِيعَهُ
الثّالِثَةُ: تَضْعِيفُهُ بِكَثِيرٍ مَوْلى ابْنِ سَمُرَةَ، كَما قالَ ابْنُ حَزْمٍ إنَّهُ مَجْهُولٌ، ويُجابُ عَنْهُ بِأنَّ ابْنَ حَجَرٍ قالَ في ”التَّقْرِيبِ“: إنَّهُ مَقْبُولٌ، ومِن أدِلَّتِهِمْ ما رَواهُ الدّارَقُطْنِيُّ مِن حَدِيثِ زاذانَ، عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قالَ:
«سَمِعَ النَّبِيُّ ﷺ رَجُلًا طَلَّقَ البَتَّةَ فَغَضِبَ، وقالَ: ”أتَتَّخِذُونَ آياتِ اللَّهِ هُزُوًا ؟ أوْ دِينَ اللَّهِ هُزُوًا، أوْ لَعِبًا ؟ مَن طَلَّقَ البَتَّةَ ألْزَمْناهُ ثَلاثًا لا تَحِلُّ لَهُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ»“ وفِيهِ إسْماعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ، قالَ فِيهِ الدّارَقُطْنِيُّ: كُوفِيٌّ ضَعِيفٌ.
* * *وَمِن أدِلَّتِهِمْ ما رَواهُ الدّارَقُطْنِيُّ مِن حَدِيثِ حَمّادِ بْنِ زَيْدٍ، حَدَّثَنا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ، عَنْ أنَسٍ قالَ: سَمِعْتُ أنَسَ بْنَ مالِكٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ مُعاذَ بْنَ جَبَلٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ:
«يا مُعاذُ مَن طَلَّقَ لِلْبِدْعَةِ واحِدَةً أوِ اثْنَتَيْنِ أوْ ثَلاثًا ألْزَمْناهُ بِدَعَتَهُ» وفي إسْنادِهِ إسْماعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ الذّارِعُ وهو ضَعِيفٌ أيْضًا. فَهَذِهِ الأحادِيثُ وإنْ كانَتْ لا يَخْلُو شَيْءٌ مِنها مِن مَقالٍ فَإنَّ كَثْرَتَها واخْتِلافَ طُرُقِها، وتَبايُنَ مَخارِجِها يَدُلُّ عَلى أنَّ لَها أصْلًا، والضِّعافُ المُعْتَبَرُ بِها إذا تَبايَنَتْ مَخارِجُها شَدَّ بَعْضُها بَعْضًا فَصَلَحَ مَجْمُوعَها لِلِاحْتِجاجِ، ولا سِيَّما أنَّ مِنها ما صَحَّحَهُ بَعْضُ العُلَماءِ كَحَدِيثِ طَلاقِ رُكانَةَ البَتَّةَ، وحَسَّنَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، ومِنها ما هو صَحِيحٌ، وهو رِوايَةُ إنْفاذِهِ ﷺ طَلاقَ عُوَيْمِرٍ ثَلاثًا، مَجْمُوعَةً عِنْدٍ أبِي داوُدَ.
وَقَدْ عَلِمْتَ مُعارَضَةَ تَضْعِيفِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ الدّارَقُطْنِيِّ مِن جِهَةِ عَطاءِ الخُراسانِيِّ، ومُعَلّى بْنِ مَنصُورٍ، وشُعَيْبِ بْنِ زُرَيْقٍ، إلى آخِرِ ما تَقَدَّمَ: [ الخَفِيفِ ]
لا تُخاصِمْ بِواحِدٍ أهْلَ بَيْتٍ فَضَعِيفانِ يَغْلِبانِ قَوِيًّا
وَقالَ النَّوَوِيُّ في ”شَرْحِ مُسْلِمٍ“ ما نَصُّهُ: واحْتَجَّ الجُمْهُورُ بِقَوْلِهِ تَعالى:
﴿وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أمْرًا﴾ [الطلاق: ١] .
قالُوا: مَعْناهُ أنَّ المُطَلِّقَ قَدْ يَحْدُثُ لَهُ نَدَمٌ فَلا يُمْكِنُهُ تَدارُكَهُ؛ لِوُقُوعِ البَيْنُونَةِ، فَلَوْ كانَتِ الثَّلاثُ لا تَقَعُ لَمْ يَقَعْ طَلاقُهُ هَذا إلّا رَجْعِيًّا، فَلا يَنْدَمُ. ا ه مَحَلُّ الغَرَضِ مِنهُ بِلَفْظِهِ.
قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ: ومِمّا يُؤَيِّدُ هَذا الِاسْتِدْلالَ القُرْآنِيَّ ما أخْرَجَهُ أبُو داوُدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ مِن طَرِيقِ مُجاهِدٍ قالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبّاسٍ فَجاءَهُ رَجُلٌ فَقالَ إنَّهُ طَلَّقَ امْرَأتَهُ ثَلاثًا، فَسَكَتَ حَتّى ظَنَنْتُ أنَّهُ سَيَرُدُّها إلَيْهِ، فَقالَ: يَنْطَلِقُ أحَدُكم فَيَرْكَبُ الأُحْمُوقَةَ، ثُمَّ يَقُولُ يا ابْنَ عَبّاسٍ، إنَّ اللَّهَ قالَ:
﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾ [الطلاق: ٢] وإنَّكَ لَمْ تَتَّقِ اللَّهَ، فَلا أجِدُ لَكَ مَخْرَجًا، عَصَيْتَ رَبَّكَ، وبانَتْ مِنكَ امْرَأتُكَ. وأخْرَجَ لَهُ أبُو داوُدَ مُتابَعاتٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ بِنَحْوِهِ، وهَذا تَفْسِيرٌ مِنِ ابْنِ عَبّاسٍ لِلْآيَةِ بِأنَّها يَدْخُلُ في مَعْناها
﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ﴾ ولَمْ يَجْمَعِ الطَّلاقَ في لَفْظَةٍ واحِدَةٍ يَجْعَلُ لَهُ مَخْرَجًا بِالرَّجْعَةِ، ومَن لَمْ يَتَّقِهِ في ذَلِكَ بِأنْ جَمَعَ الطَّلَقاتِ في لَفْظٍ واحِدٍ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا بِالرَّجْعَةِ؛ لِوُقُوعِ البَيْنُونَةِ بِها مُجْتَمِعَةً، هَذا هو مَعْنى كَلامِهِ، الَّذِي لا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ. وهو قَوِيٌّ جِدًّا في مَحَلِّ النِّزاعِ؛ لِأنَّهُ مُفَسِّرٌ بِهِ قُرْآنًا، وهو تُرْجُمانُ القُرْآنِ وقَدْ قالَ ﷺ:
«اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ» وعَلى هَذا القَوْلِ جُلُّ الصَّحابَةِ وأكْثَرُ العُلَماءِ، مِنهُمُ الأئِمَّةُ الأرْبَعَةِ. وحَكى غَيْرُ واحِدٍ عَلَيْهِ الإجْماعَ، واحْتَجَّ المُخالِفُونَ بِأرْبَعَةِ أحادِيثَ؛ الأوَّلُ: حَدِيثُ ابْنِ إسْحاقَ، عَنْ داوُدَ بْنِ الحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ عِنْدَ أحْمَدَ وأبِي يَعْلى، وصَحَّحَهُ بَعْضُهم قالَ:
«طَلَّقَ رُكانَةُ بْنُ عَبْدِ يَزِيدَ امْرَأتَهُ ثَلاثًا في مَجْلِسٍ واحِدٍ، فَحَزِنَ عَلَيْها حُزْنًا شَدِيدًا فَسَألَهُ النَّبِيُّ ﷺ: ”كَيْفَ طَلَّقْتَها“ ؟ قالَ: ثَلاثًا في مَجْلِسٍ واحِدٍ، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: ”إنَّما تِلْكَ واحِدَةٌ، فارْتَجِعْها إنْ شِئْتَ“ فارْتَجَعَها» .
قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ: الِاسْتِدْلالُ بِهَذا الحَدِيثِ مَرْدُودٌ مِن ثَلاثَةِ أوْجُهٍ: الأوَّلُ: أنَّهُ لا دَلِيلَ فِيهِ البَتَّةَ عَلى مَحَلِّ النِّزاعِ عَلى فَرْضِ صِحَّتِهِ، لا بِدَلالَةِ المُطابَقَةِ، ولا بِدَلالَةِ التَّضَمُّنِ، ولا بِدَلالَةِ الِالتِزامِ؛ لِأنَّ لَفْظَ المَتْنِ أنَّ الطَّلَقاتِ الثَّلاثَ واقِعَةٌ في مَجْلِسٍ واحِدٍ، ولا شَكَّ أنَّ كَوْنَها في مَجْلِسٍ واحِدٍ لا يَلْزَمُ مِنهُ كَوْنُها بِلَفْظٍ واحِدٍ، فادِّعاءُ أنَّها لَمّا كانَتْ في مَجْلِسٍ واحِدٍ لا بُدَّ أنْ تَكُونَ بِلَفْظٍ واحِدٍ في غايَةِ البُطْلانِ كَما تَرى؛ إذْ لَمْ يَدُلَّ كَوْنُها في مَجْلِسٍ واحِدٍ عَلى كَوْنِها بِلَفْظٍ واحِدٍ بِنَقْلٍ ولا عَقْلٍ ولا لُغَةٍ، كَما لا يَخْفى عَلى أحَدٍ، بَلِ الحَدِيثُ أظْهَرُ في كَوْنِها لَيْسَتْ بِلَفْظٍ واحِدٍ، إذْ لَوْ كانَتْ بِلَفْظٍ واحِدٍ؛ لَقالَ بِلَفْظٍ واحِدٍ وتَرَكَ ذِكْرَ المَجْلِسِ؛ إذْ لا داعِيَ لِتَرْكِ الأخَصِّ والتَّعْبِيرِ بِالأعَمِّ بِلا مُوجِبٍ كَما تَرى.
وَبِالجُمْلَةِ فَهَذا الدَّلِيلُ يُقْدَحُ فِيهِ بِالقادِحِ المَعْرُوفِ عِنْدَ أهْلِ الأُصُولِ بِالقَوْلِ بِالمُوجِبِ، فَيُقالُ: سَلَّمْنا أنَّها في مَجْلِسٍ واحِدٍ، ولَكِنَّ مِن أيْنَ لَكَ أنَّها بِلَفْظٍ واحِدٍ فافْهَمْ. وسَتَرى تَمامَ هَذا المَبْحَثِ إنْ شاءَ اللَّهُ في الكَلامِ عَلى حَدِيثِ طاوُسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ.
الثّانِي: أنَّ داوُدَ بْنَ الحُصَيْنِ الَّذِي هو راوِي هَذا الحَدِيثِ عَنْ عِكْرِمَةَ لَيْسَ بِثِقَةٍ في عِكْرِمَةَ.
قالَ ابْنُ حَجَرٍ في ”التَّقْرِيبِ“: داوُدُ بْنُ الحُصَيْنِ الأُمَوِيُّ مَوْلاهم أبُو سُلَيْمانَ المَدَنِيُّ ثِقَةٌ إلّا في عِكْرِمَةَ، ورُمِيَ بِرَأْيِ الخَوارِجِ ا ه. وإذا كانَ غَيْرَ ثِقَةٍ في عِكْرِمَةَ كانَ الحَدِيثُ المَذْكُورُ مِن رِوايَةِ غَيْرِ ثِقَةٍ. مَعَ أنَّهُ قَدَّمْنا أنَّهُ لَوْ كانَ صَحِيحًا لَما كانَتْ فِيهِ حُجَّةٌ.
الثّالِثُ: ما ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ في ”فَتْحِ البارِي“ فَإنَّهُ قالَ فِيهِ ما نَصُّهُ: الثّالِثُ: أنَّ أبا داوُدَ رَجَّحَ أنَّ رُكانَةَ إنَّما طَلَّقَ امْرَأتَهُ البَتَّةَ كَما أخْرَجَهُ هو مِن طَرِيقِ آلِ بَيْتِ رُكانَةَ، وهو تَعْلِيلٌ قَوِيٌّ؛ لِجَوازِ أنْ يَكُونَ بَعْضُ رُواتِهِ حَمَلَ البَتَّةَ عَلى الثَّلاثِ، فَقالَ طَلَّقَها ثَلاثًا، فَبِهَذِهِ النُّكْتَةِ يَقِفُ الِاسْتِدْلالُ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ. ا ه مِنهُ بِلَفْظِهِ.
يَعْنِي حَدِيثَ ابْنِ إسْحاقَ، عَنْ داوُدَ بْنِ الحُصَيْنِ المَذْكُورِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، مَعَ أنّا قَدَّمْنا أنَّ الحَدِيثَ لا دَلِيلَ فِيهِ أصْلًا عَلى مَحَلِّ النِّزاعِ. وبِما ذَكَرْنا يَظْهَرُ سُقُوطُ الِاسْتِدْلالِ بِحَدِيثِ ابْنِ إسْحاقَ المَذْكُورِ.
* * *الحَدِيثُ الثّانِي مِنَ الأحادِيثِ الأرْبَعَةِ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِها مَن جَعَلَ الثَّلاثَ واحِدَةً: هو ما جاءَ في بَعْضِ رِواياتِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، مِن أنَّهُ طَلَّقَ امْرَأتَهُ في الحَيْضِ ثَلاثًا، فاحْتُسِبَ بِواحِدَةٍ، ولا يَخْفى سُقُوطُ هَذا الِاسْتِدْلالِ، وأنَّ الصَّحِيحَ أنَّهُ إنَّما طَلَّقَها واحِدَةً، كَما جاءَ في الرِّواياتِ الصَّحِيحَةِ عِنْدَ مُسْلِمٍ وغَيْرِهِ.
وَقالَ النَّوَوِيُّ في ”شَرْحِ مُسْلِمٍ“ ما نَصُّهُ: وأمّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فالرِّواياتُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي ذَكَرَها مُسْلِمٌ وغَيْرُهُ أنَّهُ طَلَّقَها واحِدَةً.
وَقالَ القُرْطُبِيُّ في ”تَفْسِيرِهِ“ ما نَصُّهُ: والمَحْفُوظُ أنَّ ابْنَ عُمَرَ طَلَّقَ امْرَأتَهُ واحِدَةً في الحَيْضِ.
قالَ عَبْدُ اللَّهِ: وكانَ تَطْلِيقُهُ إيّاها في الحَيْضِ واحِدَةً غَيْرَ أنَّهُ خالَفَ السُّنَّةَ. وكَذَلِكَ قالَ صالِحُ بْنُ كَيْسانَ، ومُوسى بْنُ عُقْبَةَ، وإسْماعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ، ولَيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وابْنُ أبِي ذِئْبٍ، وابْنُ جُرَيْجٍ، وجابِرٌ، وإسْماعِيلُ بْنُ إبْراهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نافِعٍ، أنَّ ابْنَ عُمَرَ طَلَّقَ تَطْلِيقَةً واحِدَةً.
وَكَذا قالَ الزُّهْرِيُّ، عَنْ سالِمٍ، عَنْ أبِيهِ، ويُونُسَ بْنِ جُبَيْرٍ والشَّعْبِيِّ والحَسَنِ. اه مِنهُ بِلَفْظِهِ. فَسُقُوطُ الِاسْتِدْلالِ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ في غايَةِ الظُّهُورِ.
* * *الحَدِيثُ الثّالِثُ مِن أدِلَّتِهِمْ: هو ما رَواهُ أبُو داوُدَ في ”سُنَنِهِ“ حَدَّثَنا أحْمَدُ بْنُ صالِحٍ، حَدَّثَنا عَبْدُ الرَّزّاقِ، أخْبَرْنا ابْنُ جُرَيْجٍ، قالَ: أخْبَرَنِي بَعْضُ بَنِي أبِي رافِعٍ مَوْلى النَّبِيِّ ﷺ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، قالَ:
«طَلَّقَ عَبْدُ يَزِيدَ أبُو رُكانَةَ وإخْوَتُهُ أُمَّ رُكانَةَ، ونَكَحَ امْرَأةً مِن مُزَيْنَةَ، فَجاءَتْ إلى النَّبِيِّ ﷺ، فَقالَتْ: ما يُغْنِي عَنِّي إلّا كَما تُغْنِي هَذِهِ الشَّعْرَةُ - لِشَعْرَةٍ أخَذَتْها مِن رَأْسِها - فَفَرِّقْ بَيْنِي وبَيْنَهُ. فَأخَذَتِ النَّبِيَّ ﷺ حَمِيَّةٌ، فَدَعا بِرُكانَةَ وإخْوَتِهِ، ثُمَّ قالَ لِجُلَسائِهِ: ”أتَرَوْنَ فُلانًا يُشْبِهُ مِنهُ كَذا وكَذا مِن عَبْدِ يَزِيدَ ؟ وفُلانًا يُشْبِهُ مِنهُ كَذا وكَذا“ ؟ قالُوا: نَعَمْ. فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: ”طَلِّقْها“ فَفَعَلَ، فَقالَ: ”راجِعِ امْرَأتَكَ أُمَّ رُكانَةَ“ فَقالَ: إنِّي طَلَّقْتُها ثَلاثًا يا رَسُولَ اللَّهِ، قالَ: ”قَدْ عَلِمْتُ راجِعْها“ وتَلا: ﴿ياأيُّها النَّبِيُّ إذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وأحْصُوا العِدَّةَ﴾ [الطلاق: ١] "» .
قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ: والِاسْتِدْلالُ بِهَذا الحَدِيثِ ظاهِرُ السُّقُوطِ؛ لِأنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ قالَ: أخْبَرَنِي بَعْضُ بَنِي أبِي رافِعٍ، وهي رِوايَةٌ عَنْ مَجْهُولٍ لا يُدْرى مَن هو، فَسُقُوطُها كَما تَرى. ولا شَكَّ أنَّ حَدِيثَ أبِي داوُدَ المُتَقَدِّمَ أوْلى بِالقَبُولِ مِن هَذا الَّذِي لا خِلافَ في ضَعْفِهِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أنَّ ذَلِكَ فِيهِ أنَّهُ طَلَّقَها البَتَّةَ، وأنَّ النَّبِيَّ ﷺ أحْلَفَهُ ما أرادَ إلّا واحِدَةً، وهو دَلِيلٌ واضِحٌ عَلى نُفُوذِ الطَّلَقاتِ المُجْتَمِعَةِ كَما تَقَدَّمَ.
* * *الحَدِيثُ الرّابِعُ هو ما أخْرَجَهُ مُسْلِمٌ في ”صَحِيحِهِ“: حَدَّثَنا إسْحاقُ بْنُ إبْراهِيمَ ومُحَمَّدُ بْنُ رافِعٍ، واللَّفْظُ لِابْنِ رافِعٍ، قالَ إسْحاقُ: أخْبَرَنا وقالَ ابْنُ رافِعٍ: حَدَّثَنا عَبْدُ الرَّزّاقِ، أخْبَرَنا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ طاوُسٍ، عَنْ أبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، قالَ:
«كانَ الطَّلاقُ عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وأبِي بَكْرٍ وسَنَتَيْنِ مِن خِلافَةِ عُمَرَ طَلاقُ الثَّلاثِ واحِدَةً، فَقالَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ: إنَّ النّاسَ قَدِ اسْتَعْجَلُوا في أمْرٍ كانَتْ لَهم فِيهِ أناةٌ، فَلَوْ أمْضَيْناهُ عَلَيْهِمْ فَأمْضاهُ عَلَيْهِمْ»، حَدَّثَنا إسْحاقُ بْنُ إبْراهِيمَ، أخْبَرَنا رَوْحُ بْنُ عُبادَةَ، أخْبَرَنا ابْنُ جُرَيْجٍ، وحَدَّثَنا ابْنُ رافِعٍ واللَّفْظُ لَهُ، حَدَّثَنا عَبْدُ الرَّزّاقِ، أخْبَرَنا ابْنُ جُرَيْجٍ، أخْبَرَنِي ابْنُ طاوُسٍ، عَنْ أبِيهِ،
«أنَّ أبا الصَّهْباءِ قالَ لِابْنِ عَبّاسٍ: أتَعْلَمُ إنَّما كانَتِ الثَّلاثُ تُجْعَلُ واحِدَةً عَلى عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ وأبِي بَكْرٍ وثَلاثًا مِن إمارَةِ عُمَرَ ؟ فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: نَعَمْ» .
وَحَدَّثَنا إسْحاقُ بْنُ إبْراهِيمَ، أخْبَرَنا سُلَيْمانُ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ حَمّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أيُّوبَ السَّخْتِيانِيِّ، عَنْ إبْراهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ طاوُسٍ،
«أنَّ أبا الصَّهْباءِ قالَ لِابْنِ عَبّاسٍ: هاتِ مِن هَناتِكَ، ألَمْ يَكُنِ الطَّلاقُ الثَّلاثُ عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وأبِي بَكْرٍ واحِدَةً ؟ فَقالَ: قَدْ كانَ ذَلِكَ، فَلَمّا كانَ في عَهْدِ عُمَرَ تَتايَعَ النّاسُ في الطَّلاقِ فَأجازَهُ عَلَيْهِمْ»، هَذا لَفْظُ مُسْلِمٍ في ”صَحِيحِهِ“ .
وَهَذِهِ الطَّرِيقُ الأخِيرَةُ أخْرَجَها أبُو داوُدَ ولَكِنْ لَمْ يُسَمِّ إبْراهِيمَ بْنَ مَيْسَرَةَ.
وَقالَ بَدَلَهُ عَنْ غَيْرِ واحِدٍ، ولَفْظُ المَتْنِ:
«أما عَلِمْتَ أنَّ الرَّجُلَ كانَ إذا طَلَّقَ امْرَأتَهُ ثَلاثًا قَبْلَ أنْ يَدْخُلَ بِها جَعَلُوها واحِدَةً عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وأبِي بَكْرٍ وصَدْرًا مِن إمارَةِ عُمَرَ ؟
قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: بَلى، كانَ الرَّجُلُ إذا طَلَّقَ امْرَأتَهُ ثَلاثًا قَبْلَ أنْ يَدْخُلَ بِها جَعَلُوها واحِدَةً عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وأبِي بَكْرٍ وصَدْرًا مِن إمارَةِ عُمَرَ، فَلَمّا رَأى النّاسَ - يَعْنِي عُمَرَ - قَدْ تَتايَعُوا فِيها، قالَ: أجِيزُوهُنَّ عَلَيْهِمْ»، ولِلْجُمْهُورِ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ هَذا عِدَّةُ أجْوِبَةٍ:
الأوَّلُ: أنَّ الثَّلاثَ المَذْكُورَةَ فِيهِ الَّتِي كانَتْ تُجْعَلُ واحِدَةً، لَيْسَ في شَيْءٍ مِن رِواياتِ الحَدِيثِ التَّصْرِيحُ بِأنَّها واقِعَةٌ بِلَفْظٍ واحِدٍ، ولَفْظُ طَلاقِ الثَّلاثِ لا يَلْزَمُ مِنهُ لُغَةً ولا عَقْلًا ولا شَرْعًا أنْ تَكُونَ بِلَفْظٍ واحِدٍ، فَمَن قالَ لِزَوْجَتِهِ: أنْتِ طالِقٌ، أنْتِ طالِقٌ، أنْتِ طالِقٌ، ثَلاثَ مَرّاتٍ في وقْتٍ واحِدٍ، فَطَلاقُهُ هَذا طَلاقُ الثَّلاثِ؛ لِأنَّهُ صَرَّحَ بِالطَّلاقِ فِيهِ ثَلاثَ مَرّاتٍ، وإذا قِيلَ لِمَن جَزَمَ بِأنَّ المُرادَ في الحَدِيثِ إيقاعُ الثَّلاثِ بِكَلِمَةٍ واحِدَةٍ، مِن أيْنَ أخَذْتَ كَوْنَها بِكَلِمَةٍ واحِدَةٍ ؟ فَهَلْ في لَفْظٍ مِن ألْفاظِ الحَدِيثِ أنَّها بِكَلِمَةٍ واحِدَةٍ ؟ وهَلْ يَمْنَعُ إطْلاقُ الطَّلاقَ الثَّلاثَ عَلى الطَّلاقِ بِكَلِماتٍ مُتَعَدِّدَةٍ ؟ فَإنْ قالَ: لا. يُقالُ لَهُ طَلاقُ الثَّلاثِ إلّا إذا كانَ بِكَلِمَةٍ واحِدَةٍ، فَلا شَكَّ في أنَّ دَعْواهُ هَذِهِ غَيْرُ صَحِيحَةٍ، وإنِ اعْتَرَفَ بِالحَقِّ وقالَ: يَجُوزُ إطْلاقُهُ عَلى ما أوْقَعَ بِكَلِمَةٍ واحِدَةٍ، وعَلى ما أوْقَعَ بِكَلِماتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وهو أشَدُّ بِظاهِرِ اللَّفْظِ، قِيلَ لَهُ: وإذَنْ فَجَزْمُكَ بِكَوْنِهِ بِكَلِمَةٍ واحِدَةٍ لا وجْهَ لَهُ، وإذا لَمْ يَتَعَيَّنْ في الحَدِيثِ كَوْنُ الثَّلاثِ بِلَفْظٍ واحِدٍ سَقَطَ الِاسْتِدْلالُ بِهِ مِن أصْلِهِ في مَحَلِّ النِّزاعِ. ومِمّا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لا يَلْزَمُ مِن لَفْظِ طَلاقِ الثَّلاثِ في هَذا الحَدِيثِ كَوْنُها بِكَلِمَةٍ واحِدَةٍ، أنَّ الإمامَ أبا عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسائِيَّ مَعَ جَلالَتِهِ وعِلْمِهِ وشِدَّةِ فَهْمِهِ ما فَهِمَ مِن هَذا الحَدِيثِ إلّا أنَّ المُرادَ بِطَلاقِ الثَّلاثِ فِيهِ، أنْتِ طالِقٌ، أنْتِ طالِقٌ، أنْتِ طالِقٌ، بِتَفْرِيقِ الطَّلَقاتِ؛ لِأنَّ لَفْظَ الثَّلاثِ أظْهَرُ في إيقاعِ الطَّلاقِ ثَلاثَ مَرّاتٍ، ولِذا تَرْجَمَ في ”سُنَنِهِ“ لِرِوايَةِ أبِي داوُدَ المَذْكُورَةِ في هَذا الحَدِيثِ، فَقالَ: ”بابُ طَلاقِ الثَّلاثِ المُتَفَرِّقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِالزَّوْجَةِ“ ثُمَّ قالَ: أخْبَرَنا أبُو داوُدَ سُلَيْمانُ بْنُ سَيْفٍ قالَ: حَدَّثْنا أبُو عاصِمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ طاوُسٍ، عَنْ أبِيهِ: أنَّ أبا الصَّهْباءِ جاءَ إلى ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - فَقالَ: يا ابْنَ عَبّاسٍ، ألَمْ تَعْلَمْ أنَّ الثَّلاثَ كانَتْ عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وأبِي بَكْرٍ وصَدْرًا مِن خِلافَةِ عُمَرَ تُرَدُّ إلى الواحِدَةِ ؟ قالَ: نَعَمْ، فَتَرى هَذا الإمامَ الجَلِيلَ صَرَّحَ بِأنَّ طَلاقَ الثَّلاثِ في هَذا الحَدِيثِ لَيْسَ بِلَفْظٍ واحِدٍ بَلْ بِألْفاظٍ مُتَفَرِّقَةٍ، ويَدُلُّ عَلى صِحَّةِ ما فَهِمَهُ النَّسائِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنَ الحَدِيثِ ما ذَكَرَهُ ابْنُ القَيِّمِ في ”زادِ المَعادِ“ في الرَّدِّ عَلى مَنِ اسْتَدَلَّ لِوُقُوعِ الثَّلاثِ دَفْعَةً بِحَدِيثِ عائِشَةَ:
«أنَّ رَجُلًا طَلَّقَ امْرَأتَهُ ثَلاثًا فَتَزَوَّجَتْ» . الحَدِيثَ. فَإنَّهُ قالَ فِيهِ ما نَصُّهُ: ولَكِنْ أيْنَ في الحَدِيثِ أنَّهُ طَلَّقَ الثَّلاثَ بِفَمٍ واحِدٍ ؟ بَلِ الحَدِيثُ حُجَّةٌ لَنا فَإنَّهُ لا يُقالُ فَعَلَ ذَلِكَ ثَلاثًا وقالَ: ثَلاثًا، إلّا مَن فَعَلَ وقالَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وهَذا هو المَعْقُولُ في لُغاتِ الأُمَمِ عَرِبِهِمْ وعَجَمِهِمْ، كَما يُقالُ قَذَفَهُ ثَلاثًا وشَتَمَهُ ثَلاثًا وسَلَّمَ عَلَيْهِ ثَلاثًا. ا ه مِنهُ بِلَفْظِهِ.
وَهُوَ دَلِيلٌ واضِحٌ لِصِحَّةِ ما فَهِمَهُ أبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسائِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنَ الحَدِيثِ؛ لِأنَّ لَفْظَ الثَّلاثِ في جَمِيعِ رِواياتِهِ أظْهَرُ في أنَّها طَلَقاتٌ ثَلاثٌ واقِعَةٌ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، كَما أوْضَحَهُ ابْنُ القَيِّمِ في حَدِيثِ عائِشَةَ المَذْكُورِ آنِفًا.
وَمِمَّنْ قالَ: بِأنَّ المُرادَ بِالثَّلاثِ في حَدِيثِ طاوُسٍ المَذْكُورِ، الثَّلاثُ المُفَرَّقَةُ بِألْفاظٍ نَحْوَ أنْتِ طالِقٌ، أنْتِ طالِقٌ، أنْتِ طالِقٌ، ابْنُ سُرَيْجٍ فَإنَّهُ قالَ: يُشْبِهُ أنْ يَكُونَ ورَدَ في تَكْرِيرِ اللَّفْظِ، كَأنْ يَقُولَ: أنْتِ طالِقٌ، أنْتِ طالِقٌ، أنْتِ طالِقٌ. وكانُوا أوَّلًا عَلى سَلامَةِ صُدُورِهِمْ، يُقْبَلُ مِنهم أنَّهم أرادُوا التَّأْكِيدَ، فَلَمّا كَثُرَ النّاسُ في زَمَنِ عُمَرَ، وكَثُرَ فِيهِمُ الخِداعُ ونَحْوُهُ؛ مِمّا يَمْنَعُ قَبُولُ مَنِ ادَّعى التَّأْكِيدَ حَمَلَ عُمَرُ اللَّفْظَ عَلى ظاهِرِ التَّكْرارِ فَأمْضاهُ عَلَيْهِمْ. قالَهُ ابْنُ حَجَرٍ في ”الفَتْحِ“ وقالَ: إنَّ هَذا الجَوابَ ارْتَضاهُ القُرْطُبِيُّ، وقَوّاهُ بِقَوْلِ عُمَرَ: إنَّ النّاسَ اسْتَعْجَلُوا في أمْرٍ كانَتْ لَهم فِيهِ أناةٌ.
وَقالَ النَّوَوِيُّ في ”شَرْحِ مُسْلِمٌ“ ما نَصُّهُ: وأمّا حَدِيثُ ابْنِ عَبّاسٍ فاخْتَلَفَ النّاسُ في جَوابِهِ وتَأْوِيلِهِ، فالأصَحُّ أنَّ مَعْناهُ أنَّهُ كانَ في أوَّلِ الأمْرِ إذا قالَ لَها: أنْتِ طالِقٌ، أنْتِ طالِقٌ، أنْتِ طالِقٌ، ولَمْ يَنْوِ تَأْكِيدًا ولا اسْتِئْنافًا يَحْكُمُ بِوُقُوعِ طَلْقَةٍ؛ لِقِلَّةِ إرادَتِهِمُ الِاسْتِئْنافَ بِذَلِكَ، فَحَمَلَ عَلى الغالِبِ الَّذِي هو إرادَةُ التَّأْكِيدِ. فَلَمّا كانَ في زَمَنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وكَثُرَ اسْتِعْمالُ النّاسِ لِهَذِهِ الصِّيغَةِ، وغَلَبَ مِنهم إرادَةُ الِاسْتِئْنافِ بِها، حُمِلَتْ عِنْدَ الإطْلاقِ عَلى الثَّلاثِ؛ عَمَلًا بِالغالِبِ السّابِقِ إلى الفَهْمِ في ذَلِكَ العَصْرِ.
قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ: وهَذا الوَجْهُ لا إشْكالَ فِيهِ؛ لِجَوازِ تَغَيُّرِ الحالِ عِنْدَ تَغَيُّرِ القَصْدِ؛ لِأنَّ ”الأعْمالَ بِالنِّيّاتِ“ ولِكُلِّ امْرِئٍ ما نَوى " وظاهِرُ اللَّفْظِ يَدُلُّ لِهَذا كَما قَدَّمْنا.
وَعَلى كُلِّ حالٍ، فادِّعاءُ الجَزْمِ بِأنَّ مَعْنى حَدِيثِ طاوُسٍ المَذْكُورِ أنَّ الثَّلاثَ بِلَفْظٍ واحِدٍ ادِّعاءٌ خالٍ مِن دَلِيلٍ كَما رَأيْتَ، فَلْيَتَّقِ اللَّهَ مَن تَجَرَّأ عَلى عَزْوِ ذَلِكَ إلى النَّبِيِّ ﷺ مَعَ أنَّهُ لَيْسَ في شَيْءٍ مِن رِواياتِ حَدِيثِ طاوُسٍ كَوْنُ الثَّلاثِ المَذْكُورَةِ بِلَفْظٍ واحِدٍ، ولَمْ يَتَعَيَّنْ ذَلِكَ مِنَ اللُّغَةِ، ولا مِنَ الشَّرْعِ، ولا مِنَ العَقْلِ كَما تَرى.
قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ: ويَدُلُّ لِكَوْنِ الثَّلاثِ المَذْكُورَةِ لَيْسَتْ بِلَفْظٍ واحِدٍ ما تَقَدَّمَ في حَدِيثِ ابْنِ إسْحاقَ عَنْ داوُدَ بْنِ الحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، عَنْ أحْمَدَ، وأبِي يَعْلى مِن قَوْلِهِ:
«طَلَّقَ امْرَأتَهُ ثَلاثًا في مَجْلِسٍ واحِدٍ، وقَوْلِهِ ﷺ: ”كَيْفَ طَلَّقْتَها“ ؟ قالَ: ثَلاثًا في مَجْلِسٍ واحِدٍ»؛ لِأنَّ التَّعْبِيرَ بِلَفْظِ المَجْلِسِ يُفْهَمُ مِنهُ أنَّها لَيْسَتْ بِلَفْظٍ واحِدٍ، إذْ لَوْ كانَ اللَّفْظُ واحِدًا لَقالَ بِلَفْظٍ واحِدٍ ولَمْ يَحْتَجْ إلى ذِكْرِ المَجْلِسِ، إذْ لا داعِيَ لِذِكْرِ الوَصْفِ الأعَمِّ وتَرْكِ الأخَصِّ بِلا مُوجِبٍ، كَما هو ظاهِرُ الجَوابِ الثّانِي عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ هو: أنَّ مَعْنى الحَدِيثِ أنَّ الطَّلاقَ الواقِعَ في زَمَنِ عُمَرَ ثَلاثًا كانَ يَقَعُ قَبْلَ ذَلِكَ واحِدَةً؛ لِأنَّهم كانُوا لا يَسْتَعْمِلُونَ الثَّلاثَ أصْلًا، أوْ يَسْتَعْمِلُونَها نادِرًا. وأمّا في عَهْدِ عُمَرَ فَكَثُرَ اسْتِعْمالُهم لَها.
وَمَعْنى قَوْلِهِ: فَأمْضاهُ عَلَيْهِمْ عَلى هَذا القَوْلِ، أنَّهُ صَنَعَ فِيهِ مِنَ الحُكْمِ بِإيقاعِ الطَّلاقِ ما كانَ يُصْنَعُ قَبْلَهُ، ورَجَّحَ هَذا التَّأْوِيلَ ابْنُ العَرَبِيِّ، ونَسَبَهُ إلى أبِي زُرْعَةَ الرّازِيِّ. وكَذا أوْرَدَهُ البَيْهَقِيُّ بِإسْنادِهِ الصَّحِيحِ إلى أبِي زُرْعَةَ أنَّهُ قالَ: مَعْنى هَذا الحَدِيثِ عِنْدِي إنَّما تُطَلِّقُونَ أنْتُمْ ثَلاثًا، كانُوا يُطَلِّقُونَ واحِدَةً. قالَ النَّوَوِيُّ: وعَلى هَذا فَيَكُونُ الخَبَرُ وقَعَ عَنِ اخْتِلافِ عادَةِ النّاسِ خاصَّةً، لا عَنْ تَغْيِيرِ الحُكْمِ في المَسْألَةِ الواحِدَةِ، وهَذا الجَوابُ نَقَلَهُ القُرْطُبِيُّ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى:
﴿الطَّلاقُ مَرَّتانِ﴾ [البقرة: ٢٢٩] عَنِ المُحَقِّقِ القاضِي أبِي الوَلِيدِ الباجِيِّ، والقاضِي عَبْدِ الوَهّابِ، والكِيا الطَّبَرِيِّ.
قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ: ولا يَخْفى ما في هَذا الجَوابِ مِنَ التَّعَسُّفِ، وإنْ قالَ بِهِ بَعْضُ أجِلّاءِ العُلَماءِ.
* * *الجَوابُ الثّالِثُ: عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - هو القَوْلُ بِأنَّهُ مَنسُوخٌ، وأنَّ بَعْضَ الصَّحابَةِ لَمْ يَطَّلِعْ عَلى النَّسْخِ إلّا في عَهْدِ عُمَرَ، فَقَدْ نَقَلَ البَيْهَقِيُّ في ”السُّنَنِ الكُبْرى“ في بابِ مَن جَعَلَ الثَّلاثَ واحِدَةً عَنِ الإمامِ الشّافِعِيِّ ما نَصُّهُ: قالَ الشّافِعِيُّ: فَإنْ كانَ مَعْنى قَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ الثَّلاثَ كانَتْ تُحْسَبُ عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ واحِدَةً؛ يَعْنِي أنَّهُ بِأمْرِ النَّبِيِّ ﷺ فالَّذِي يُشْبِهُ واللَّهُ أعْلَمُ أنْ يَكُونَ ابْنُ عَبّاسٍ عَلِمَ أنْ كانَ شَيْئًا فَنُسِخَ، فَإنْ قِيلَ: فَما دَلَّ عَلى ما وصَفْتَ ؟ قِيلَ: لا يُشْبِهُ أنْ يَكُونَ ابْنُ عَبّاسٍ يَرْوِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ شَيْئًا ثُمَّ يُخالِفُهُ بِشَيْءٍ لَمْ يَعْلَمْهُ كانَ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ فِيهِ خِلافٌ. قالَ الشَّيْخُ: ورِوايَةُ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قَدْ مَضَتْ في النَّسْخِ وفِيها تَأْكِيدٌ لِصِحَّةِ هَذا التَّأْوِيلِ. قالَ الشّافِعِيُّ: فَإنْ قِيلَ: فَلَعَلَّ هَذا شَيْءٌ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، فَقالَ فِيهِ ابْنُ عَبّاسٍ بِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قِيلَ: قَدْ عَلِمْنا أنَّ ابْنَ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - يُخالِفُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في نِكاحِ المُتْعَةِ، وفي بَيْعِ الدِّينارِ بِالدِّينارَيْنِ، وفي بَيْعِ أُمَّهاتِ الأوْلادِ وغَيْرِهِ، فَكَيْفَ يُوافِقُهُ في شَيْءٍ يُرْوى عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِيهِ خِلافُهُ ؟ ا ه مَحَلُّ الحاجَةِ مِنَ البَيْهَقِيِّ بِلَفْظِهِ.
وَقالَ الحافِظُ ابْنُ حَجَرٍ في ”فَتْحِ البارِي“ ما نَصُّهُ: الجَوابُ الثّالِثُ دَعْوى النَّسْخِ، فَنَقَلَ البَيْهَقِيُّ عَنِ الشّافِعِيِّ أنَّهُ قالَ: يُشْبِهُ أنْ يَكُونَ ابْنُ عَبّاسٍ عَلِمَ شَيْئًا نَسَخَ ذَلِكَ، قالَ البَيْهَقِيُّ: ويُقَوِّيهِ ما أخْرَجَهُ أبُو داوُدَ مِن طَرِيقِ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، قالَ: كانَ الرَّجُلُ إذا طَلَّقَ امْرَأتَهُ فَهو أحَقُّ بِرَجْعَتِها، وإنْ طَلَّقَها ثَلاثًا فَنُسِخَ ذَلِكَ. والتَّرْجَمَةُ الَّتِي ذَكَرَ تَحْتَها أبُو داوُدَ الحَدِيثَ المَذْكُورَ هي قَوْلُهُ: ”بابُ نَسْخِ المُراجَعَةِ بَعْدَ التَّطْلِيقاتِ الثَّلاثِ“ .
وَقالَ ابْنُ كَثِيرٍ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى:
﴿الطَّلاقُ مَرَّتانِ﴾ الآيَةَ، بَعْدَ أنْ ساقَ حَدِيثَ أبِي داوُدَ المَذْكُورَ آنِفًا ما نَصُّهُ: ورَواهُ النَّسائِيُّ عَنْ زَكَرِيّا بْنِ يَحْيى، عَنْ إسْحاقَ بْنِ إبْراهِيمَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ بِهِ، وقالَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ: حَدَّثَنا هارُونُ بْنُ إسْحاقَ، حَدَّثَنا عَبْدَةُ يَعْنِي: ابْنَ سُلَيْمانَ، عَنْ هِشامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أبِيهِ
«أنَّ رَجُلًا قالَ لِامْرَأتِهِ: لا أُطَلِّقُكِ أبَدًا، ولا آوِيكِ أبَدًا، قالَتْ: وكَيْفَ ذَلِكَ ؟ قالَ: أُطَلِّقُ حَتّى إذا دَنا أجَلُكِ راجَعْتُكِ، فَأتَتْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وذَكَرَتْ لَهُ ذَلِكَ، فَأنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿الطَّلاقُ مَرَّتانِ﴾ قالَ: فاسْتَقْبَلَ النّاسُ الطَّلاقَ مَن كانَ طَلَّقَ ومَن لَمْ يَكُنْ طَلَّقَ»، وقَدْ رَواهُ أبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ مِن طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمانَ، عَنْ يَعْلى بْنِ شَبِيبٍ مَوْلى الزُّبَيْرِ، عَنْ هِشامٍ، عَنْ أبِيهِ، عَنْ عائِشَةَ: فَذَكَرَهُ بِنَحْوِ ما تَقَدَّمَ، ورَواهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ يَعْلى بْنِ شَبِيبٍ بِهِ، ثُمَّ رَواهُ عَنْ أبِي كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ إدْرِيسَ، عَنْ هِشامٍ، عَنْ أبِيهِ مُرْسَلًا وقالَ: هَذا أصَحُّ. ورَواهُ الحاكِمُ في ”مُسْتَدْرَكِهِ“ مِن طَرِيقِ يَعْقُوبَ بْنِ حُمَيْدِ بْنِ كُلَيْبٍ، عَنْ يَعْلى بْنِ شَبِيبٍ بِهِ، وقالَ: صَحِيحُ الإسْنادِ.
ثُمَّ قالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ أحْمَدَ بْنِ إبْراهِيمَ، حَدَّثَنا إسْماعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنا سَلَمَةُ بْنُ الفَضْلِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحاقَ، عَنْ هِشامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أبِيهِ، عَنْ عائِشَةَ قالَتْ:
«لَمْ يَكُنْ لِلطَّلاقِ وقْتٌ، يُطَلِّقُ الرَّجُلُ امْرَأتَهُ ثُمَّ يُراجِعُها، ما لَمْ تَنْقَضِ العِدَّةُ، وكانَ بَيْنَ رَجُلٍ مِنَ الأنْصارِ وبَيْنَ أهْلِهِ بَعْضُ ما يَكُونُ بَيْنَ النّاسِ، فَقالَ: واللَّهِ لَأتْرُكَنَّكِ لا أيِّمًا، ولا ذاتَ زَوْجٍ، فَجَعَلَ يُطَلِّقُها حَتّى إذا كادَتِ العِدَّةُ أنْ تَنْقَضِيَ راجَعَها، فَفَعَلَ ذَلِكَ مِرارًا، فَأنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسانٍ﴾ فَوَقَّتَ الطَّلاقَ ثَلاثًا لا رَجْعَةَ فِيهِ بَعْدَ الثّالِثَةِ، حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ» . وهَكَذا رُوِيَ عَنْ قَتادَةَ مُرْسَلًا، ذَكَرَهُ السُّدِّيُّ وابْنُ زَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ كَذَلِكَ واخْتارَ أنَّ هَذا تَفْسِيرُ هَذِهِ الآيَةِ. ا ه مِنِ ابْنِ كَثِيرٍ بِلَفْظِهِ.
وَفِي هَذِهِ الرِّواياتِ دَلالَةٌ واضِحَةٌ لِنَسْخِ المُراجَعَةِ بَعْدَ الثَّلاثِ، وإنْكارُ المازِرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ادِّعاءَ النَّسْخِ مَرْدُودٌ بِما رَدَّهُ بِهِ الحافِظُ ابْنُ حَجَرٍ في ”فَتْحِ البارِي“ فَإنَّهُ لَمّا نَقَلَ عَنِ المازَرِيِّ إنْكارَهُ لِلنَّسْخِ مِن أوْجُهٍ مُتَعَدِّدَةٍ، قالَ بَعْدَهُ ما نَصُّهُ: قُلْتُ: نَقَلَ النَّوَوِيُّ هَذا الفَصْلَ في ”شَرْحِ مُسْلِمٍ“ وأقَرَّهُ، وهو مُتَعَقَّبٌ في مَواضِعَ: أحُدُها: أنَّ الَّذِي ادَّعى نَسْخَ الحُكْمِ لَمْ يَقُلْ: إنَّ عُمَرَ هو الَّذِي نَسَخَ حَتّى يَلْزَمَ مِنهُ ما ذَكَرَ، وإنَّما قالَ ما تَقَدَّمَ: يُشْبِهُ أنْ يَكُونَ عَلِمَ شَيْئًا مِن ذَلِكَ نُسِخَ؛ أيِ: اطَّلَعَ عَلى ناسِخٍ لِلْحُكْمِ الَّذِي رَواهُ مَرْفُوعًا، ولِذَلِكَ أفْتى بِخِلافِهِ، وقَدْ سَلَّمَ المازَرِيُّ في أثْناءِ كَلامِهِ أنَّ إجْماعَهم يَدُلُّ عَلى ناسِخٍ، وهَذا هو مُرادُ مَنِ ادَّعى النَّسْخَ.
الثّانِي: إنْكارُهُ الخُرُوجَ عَنِ الظّاهِرِ عَجِيبٌ؛ فَإنَّ الَّذِي يُحاوِلُ الجَمْعَ بِالتَّأْوِيلِ يَرْتَكِبُ خِلافَ الظّاهِرِ حَتْمًا.
الثّالِثُ: أنَّ تَغْلِيطَهُ مَن قالَ: المُرادُ ظُهُورُ النَّسْخِ عَجِيبٌ أيْضًا؛ لِأنَّ المُرادَ بِظُهُورِهِ انْتِشارُهُ، وكَلامُ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ كانَ يُفْعَلُ في زَمَنِ أبِي بَكْرٍ مَحْمُولٌ عَلى أنَّ الَّذِي كانَ يَفْعَلُهُ مَن لَمْ يَبْلُغْهُ النَّسْخُ، فَلا يَلْزَمُ ما ذَكَرَ مِن إجْماعِهِمْ عَلى الخَطَأِ. ا ه مَحَلُّ الحاجَةِ مِن ”فَتْحِ البارِي“ بِلَفْظِهِ، ولا إشْكالَ فِيهِ؛ لِأنَّ كَثِيرًا مِنَ الصَّحابَةِ اطَّلَعَ عَلى كَثِيرٍ مِنَ الأحْكامِ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ، وقَدْ وقَعَ ذَلِكَ في خِلافَةِ أبِي بَكْرٍ، وعُمَرَ، وعُثْمانَ، فَأبُو بَكْرٍ لَمْ يَكُنْ عالِمًا بِقَضاءِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في مِيراثِ الجَدَّةِ حَتّى أخْبَرَهُ المُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، ومُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، وعُمَرُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ بِقَضاءِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في دِيَةِ الجَنِينِ حَتّى أخْبَرَهُ المَذْكُورانِ قَبْلُ، ولَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِن أخْذِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الجِزْيَةَ مِن مَجُوسِ هَجَرَ حَتّى أخْبَرَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، ولا مِنَ الِاسْتِئْذانِ ثَلاثًا، حَتّى أخْبَرَهُ أبُو مُوسى الأشْعَرِيُّ، وأبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ، وعُثْمانُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ بِأنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أوْجَبَ السُّكْنى لِلْمُتَوَفّى عَنْها زَمَنَ العِدَّةِ، حَتّى أخْبَرَتْهُ فُرَيْعَةُ بِنْتُ مالِكٍ.
والعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ، وفاطِمَةُ الزَّهْراءُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُما عِلْمٌ بِأنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ:
«إنّا مَعاشِرُ الأنْبِياءِ لا نُورَثُ» الحَدِيثَ، حَتّى طَلَبا مِيراثَهُما مِن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وأمْثالُ هَذا كَثِيرَةٌ جِدًّا، وأوْضَحُ دَلِيلٍ يُزِيلُ الإشْكالَ عَنِ القَوْلِ بِالنَّسْخِ المَذْكُورِ وُقُوعُ مِثْلِهِ، واعْتِرافُ المُخالِفِ بِهِ في نِكاحِ المُتْعَةِ، فَإنَّ مُسْلِمًا رَوى عَنْ جابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
«أنَّ مُتْعَةَ النِّساءِ كانَتْ تُفْعَلُ في عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ وأبِي بَكْرٍ، وصَدْرًا مِن خِلافَةِ عُمَرَ، قالَ: ثُمَّ نَهانا عُمَرُ عَنْها فانْتَهَيْنا وهَذا مِثْلُ ما وقَعَ في طَلاقِ الثَّلاثِ طِبْقًا» ما أشْبَهَ اللَّيْلَةَ بِالبارِحَةِ ": [ الطَّوِيلِ ]
فَإلّا يَكُنْها أوْ تَكُنْهُ فَإنَّهُ أخُوها غَذَتْهُ أُمُّهُ بِلِبانِها
فَمِنَ الغَرِيبِ أنْ يُسَلِّمَ مُنْصِفٌ إمْكانَ النَّسْخِ في إحْداهُما، ويَدَّعِي اسْتِحالَتَهُ في الأُخْرى، مَعَ أنَّ كُلًّا مِنهُما رَوى مُسْلِمٌ فِيها عَنْ صَحابِيٍّ جَلِيلٍ: أنَّ ذَلِكَ الأمْرَ كانَ يُفْعَلُ في زَمَنِ النَّبِيِّ ﷺ وأبِي بَكْرٍ وصَدْرًا مِن خِلافَةِ عُمَرَ، في مَسْألَةٍ تَتَعَلَّقُ بِالفُرُوجِ ثُمَّ غَيَّرَهُ عُمَرُ.
وَمَن أجازَ نَسْخَ نِكاحِ المُتْعَةِ، وأحالَ نَسْخَ جَعْلِ الثَّلاثِ واحِدَةً، يُقالُ لَهُ: ما لِبائِكَ تَجُرُّ وبائِي لا تَجُرُّ ؟ فَإنْ قِيلَ: نِكاحُ المُتْعَةِ صَحَّ النَّصُّ بِنَسْخِهِ قُلْنا: قَدْ رَأيْتَ الرِّواياتِ المُتَقَدِّمَةَ بِنَسْخِ المُراجَعَةِ بَعْدَ الثَّلاثِ، ومِمَّنْ جَزَمَ بِنَسْخِ جَعْلِ الثَّلاثِ واحِدَةً، الإمامُ أبُو داوُدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى - ورَأى أنَّ جَعْلَها واحِدَةً إنَّما هو في الزَّمَنِ الَّذِي كانَ يَرْتَجِعُ فِيهِ بَعْدَ ثَلاثِ تَطْلِيقاتٍ وأكْثَرَ، قالَ في ”سُنَنِهِ“: ”بابُ نَسْخِ المُراجَعَةِ بَعْدَ التَّطْلِيقاتِ الثَّلاثِ“ ثُمَّ ساقَ بِسَنَدِهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ:
﴿والمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ولا يَحِلُّ لَهُنَّ أنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ في أرْحامِهِنَّ﴾ الآيَةَ
[البقرة: ٢٢٨] وذَلِكَ أنَّ الرَّجُلَ كانَ إذا طَلَّقَ امْرَأتَهُ فَهو أحَقُّ بِرَجْعَتِها وإنْ طَلَّقَها ثَلاثًا فَنُسِخَ ذَلِكَ، وقالَ:
﴿الطَّلاقُ مَرَّتانِ﴾ الآيَةَ. وأخْرَجَ نَحْوَهُ النَّسائِيُّ وفي إسْنادِهِ عَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنِ بْنِ واقِدٍ، قالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ في ”التَّقْرِيبِ“: صَدُوقٌ يَهِمُ، ورَوى مالِكٌ في ”المُوَطَّأِ“ عَنْ هِشامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أبِيهِ أنَّهُ قالَ:
«كانَ الرَّجُلُ إذا طَلَّقَ امْرَأتَهُ، ثُمَّ ارْتَجَعَها قَبْلَ أنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُها كانَ ذَلِكَ لَهُ، وإنْ طَلَّقَها ألْفَ مَرَّةٍ فَعَمَدَ رَجُلٌ إلى امْرَأتِهِ فَطَلَّقَها حَتّى إذا أشْرَفَتْ عَلى انْقِضاءِ عِدَّتِها راجَعَها، ثُمَّ قالَ: لا آوِيكِ ولا أُطَلِّقُكِ، فَأنْزَلَ اللَّهُ: ﴿الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسانٍ﴾ فاسْتَقْبَلَ النّاسُ الطَّلاقَ جَدِيدًا مِن يَوْمِئِذٍ، مَن كانَ طَلَّقَ مِنهم أوْ لَمْ يُطَلِّقْ» .
وَيُؤَيِّدُ هَذا أنَّ عُمَرَ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أحَدٌ مِن أصْحابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إيقاعَ الثَّلاثِ دَفْعَةً مَعَ كَثْرَتِهِمْ وعِلْمِهِمْ، ووَرَعِهِمْ، ويُؤَيِّدُهُ: أنَّ كَثِيرًا جِدًّا مِنَ الصَّحابَةِ الأجِلّاءِ العُلَماءِ صَحَّ عَنْهُمُ القَوْلُ بِذَلِكَ، كابْنِ عَبّاسٍ، وعُمَرَ، وابْنِ عُمَرَ، وخَلْقٍ لا يُحْصى.
والنّاسِخُ الَّذِي نَسَخَ المُراجَعَةَ بَعْدَ الثَّلاثِ، قالَ بَعْضُ العُلَماءِ: إنَّهُ قَوْلُهُ تَعالى:
﴿الطَّلاقُ مَرَّتانِ﴾ كَما جاءَ مُبَيَّنًا في الرِّواياتِ المُتَقَدِّمَةِ، ولا مانِعَ عَقْلًا ولا عادَةً مِن أنْ يَجْهَلَ مِثْلَ هَذا النّاسِخِ كَثِيرٌ مِنَ النّاسِ إلى خِلافَةِ عُمَرَ، مَعَ أنَّهُ ﷺ صَرَّحَ بِنَسْخِها وتَحْرِيمِها إلى يَوْمِ القِيامَةِ في غَزْوَةِ الفَتْحِ، وفي حَجَّةِ الوَداعِ أيْضًا، كَما جاءَ في رِوايَةٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ.
وَمَعَ أنَّ القُرْآنَ دَلَّ عَلى تَحْرِيمِ غَيْرِ الزَّوْجَةِ والسُّرِّيَّةِ بِقَوْلِهِ:
﴿والَّذِينَ هم لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ﴾ ﴿إلّا عَلى أزْواجِهِمْ أوْ ما مَلَكَتْ أيْمانُهُمْ﴾ [المؤمنون: ٥، ٦] ومَعْلُومٌ أنَّ المَرْأةَ المُتَمَتَّعَ بِها لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ ولا سُرِّيَّةٍ كَما يَأْتِي تَحْقِيقُهُ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى في سُورَةِ ”النِّساءِ“ في الكَلامِ عَلى قَوْلِهِ تَعالى:
﴿فَما اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنهُنَّ﴾ الآيَةَ
[النساء: ٢٤] والَّذِينَ قالُوا: بِالنَّسْخِ قالُوا: في مَعْنى قَوْلِ عُمَرَ: إنَّ النّاسَ اسْتَعْجَلُوا في أمْرٍ كانَتْ لَهم فِيهِ أناةٌ، أنَّ المُرادَ بِالأناةِ أنَّهم كانُوا يَتَأنَّوْنَ في الطَّلاقِ فَلا يُوقِعُونَ الثَّلاثَ في وقْتٍ واحِدٍ. ومَعْنى اسْتِعْجالِهِمْ أنَّهم صارُوا يُوقِعُونَها بِلَفْظٍ واحِدٍ، عَلى القَوْلِ بِأنَّ ذَلِكَ هو مَعْنى الحَدِيثِ، وقَدْ قَدَّمْنا أنَّهُ لا يَتَعَيَّنُ كَوْنُهُ هو مَعْناهُ، وإمْضاؤُهُ لَهُ عَلَيْهِمْ إذَنْ هو اللّازِمُ، ولا يُنافِيهِ قَوْلُهُ فَلَوْ أمْضَيْناهُ عَلَيْهِمْ، يَعْنِي ألْزَمْناهم بِمُقْتَضى ما قالُوا، ونَظِيرُهُ: قَوْلُ جابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ في نِكاحِ المُتْعَةِ: فَنَهانا عَنْها عُمَرُ. فَظاهِرُ كُلٍّ مِنهُما أنَّهُ اجْتِهادٌ مِن عُمَرَ، والنَّسْخُ ثابِتٌ فِيهِما مَعًا كَما رَأيْتَ، ولَيْسَتِ الأناةُ في المَنسُوخِ، وإنَّما هي في عَدَمِ الِاسْتِعْجالِ بِإيقاعِ الثَّلاثِ دَفْعَةً. وعَلى القَوْلِ الأوَّلِ: إنَّ المُرادَ بِالثَّلاثِ الَّتِي كانَتْ تُجْعَلُ واحِدَةً، أنْتِ طالِقٌ، أنْتِ طالِقٌ، أنْتِ طالِقٌ. فالظّاهِرُ في إمْضائِهِ لَها عَلَيْهِمْ أنَّهُ مِن حَيْثُ تَغَيَّرَ قَصْدُهم مِنَ التَّأْكِيدِ إلى التَّأْسِيسِ كَما تَقَدَّمَ، ولا إشْكالَ في ذَلِكَ.
أمّا كَوْنُ عُمَرَ كانَ يَعْلَمُ
«أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كانَ يَجْعَلُ الثَّلاثَ بِلَفْظٍ واحِدٍ واحِدَةً»، فَتَعَمَّدَ مُخالَفَةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وجَعَلَها ثَلاثًا، ولَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أحَدٌ مِنَ الصَّحابَةِ، فَلا يَخْفى بُعْدُهُ، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
* * *الجَوابُ الرّابِعُ: عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما - أنَّ رِوايَةَ طاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ مُخالِفَةٌ لِما رَواهُ عَنْهُ الحُفّاظُ مِن أصْحابِهِ، فَقَدْ رَوى عَنْهُ لُزُومَ الثَّلاثِ دَفْعَةً سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وعَطاءُ بْنُ أبِي رَباحٍ، ومُجاهِدٌ، وعِكْرِمَةُ، وعَمْرُو بْنُ دِينارٍ، ومالِكُ بْنُ الحارِثِ، ومُحَمَّدُ بْنُ إياسِ بْنِ البُكَيْرِ، ومُعاوِيَةُ بْنُ أبِي عَيّاشٍ الأنْصارِيُّ، كَما نَقَلَهُ البَيْهَقِيُّ في ”السُّنَنِ الكُبْرى“ والقُرْطُبِيُّ وغَيْرُهُما.
وَقالَ البَيْهَقِيُّ في ”السُّنَنِ الكُبْرى“: إنَّ البُخارِيَّ لَمْ يُخَرِّجْ هَذا الحَدِيثَ؛ لِمُخالَفَةِ هَؤُلاءِ لِرِوايَةِ طاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ.
وَقالَ الأثْرَمُ: سَألْتُ أبا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ:
«كانَ الطَّلاقُ الثَّلاثُ عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وأبِي بَكْرٍ وعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - طَلاقُ الثَّلاثِ واحِدَةً»، بِأيِّ شَيْءٍ تَدْفَعُهُ ؟ قالَ: بِرِوايَةِ النّاسِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ مِن وُجُوهٍ خِلافَهُ، وكَذَلِكَ نَقَلَ عَنْهُ ابْنُ مَنصُورٍ، قالَهُ ابْنُ القَيِّمِ.
قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ: فَهَذا إمامُ المُحَدِّثِينَ وسَيِّدُ المُسْلِمِينَ في عَصْرِهِ الَّذِي تَدارَكَ اللَّهُ بِهِ الإسْلامَ بَعْدَ ما كادَ تَتَزَلْزَلُ قَواعِدُهُ، وتُغَيَّرُ عَقائِدُهُ، أبُو عَبْدِ اللَّهِ أحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى - قالَ لِلْأثْرَمِ وابْنِ مَنصُورٍ: إنَّهُ رَفَضَ حَدِيثَ ابْنِ عَبّاسٍ قَصْدًا؛ لِأنَّهُ يَرى عَدَمَ الِاحْتِجاجِ بِهِ في لُزُومِ الثَّلاثِ بِلَفْظٍ واحِدٍ؛ لِرِوايَةِ الحُفّاظِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ما يُخالِفُ ذَلِكَ، وهَذا الإمامُ مُحَمَّدُ بْنُ إسْماعِيلَ البُخارِيُّ، وهو هو، ذَكَرَ عَنْهُ الحافِظُ البَيْهَقِيُّ أنَّهُ تَرَكَ هَذا الحَدِيثَ عَمْدًا؛ لِذَلِكَ المُوجِبِ الَّذِي تَرَكَهُ مِن أجْلِهِ الإمامُ أحْمَدُ. ولا شَكَّ أنَّهُما ما تَرَكاهُ إلّا لِمُوجِبٍ يَقْتَضِي ذَلِكَ، فَإنْ قِيلَ: رِوايَةُ طاوُسٍ في حُكْمِ المَرْفُوعِ، ورِوايَةُ الجَماعَةِ المَذْكُورِينَ مَوْقُوفَةٌ عَلى ابْنِ عَبّاسٍ، والمَرْفُوعُ لا يُعارَضُ بِالمَوْقُوفِ.
فالجَوابُ أنَّ الصَّحابِيَّ إذا خالَفَ ما رُوِيَ، فَفِيهِ لِلْعُلَماءِ قَوْلانِ: وهُما رِوايَتانِ عَنْ أحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ: الأُولى: أنَّهُ لا يُحْتَجُّ بِالحَدِيثِ؛ لِأنَّ أعْلَمَ النّاسِ بِهِ راوِيهِ وقَدْ تَرَكَ العَمَلَ بِهِ، وهو عَدْلٌ عارِفٌ، وعَلى هَذِهِ الرِّوايَةِ فَلا إشْكالَ.
وَعَلى الرِّوايَةِ الأُخْرى الَّتِي هي المَشْهُورَةُ عِنْدَ العُلَماءِ أنَّ العِبْرَةَ بِرِوايَتِهِ لا بِقَوْلِهِ. فَإنَّهُ لا تُقَدَّمُ رِوايَتُهُ إلّا إذا كانَتْ صَرِيحَةَ المَعْنى، أوْ ظاهِرَةً فِيهِ ظُهُورًا يَضْعُفُ مَعَهُ احْتِمالُ مُقابِلِهِ، أمّا إذا كانَتْ مُحْتَمِلَةً لِغَيْرِ ذَلِكَ المَعْنى احْتِمالًا قَوِيًّا فَإنَّ مُخالَفَةَ الرّاوِي لِما رَوى تَدُلُّ عَلى أنَّ ذَلِكَ المُحْتَمَلَ الَّذِي تُرِكَ لَيْسَ هو مَعْنى ما رَوى، وقَدْ قَدَّمْنا أنَّ لَفْظَ طَلاقِ الثَّلاثِ في حَدِيثِ طاوُسٍ المَذْكُورِ مُحْتَمِلٌ احْتِمالًا قَوِيًّا لِأنْ تَكُونَ الطَّلَقاتُ مُفَرَّقَةً، كَما جَزَمَ بِهِ النَّسائِيُّ وصَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ والقُرْطُبِيُّ وابْنُ سُرَيْجٍ، فالحاصِلُ أنَّ تَرْكَ ابْنِ عَبّاسٍ لِجَعْلِ الثَّلاثِ بِفَمٍ واحِدٍ واحِدَةً؛ يَدُلُّ عَلى أنَّ مَعْنى الحَدِيثِ الَّذِي رُوِيَ لَيْسَ كَوْنَها بِلَفْظٍ واحِدٍ كَما سَتَرى بَيانَهُ في كَلامِ القُرْطُبِيِّ في المُفْهِمِ في الجَوابِ الَّذِي بَعْدَ هَذا.
واعْلَمْ أنَّ ابْنَ عَبّاسٍ لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ أنَّهُ أفْتى في الثَّلاثِ بِفَمٍ واحِدٍ أنَّها واحِدَةٌ، وما رَوى عَنْهُ أبُو داوُدَ مِن طَرِيقِ حَمّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أنَّ ابْنَ عَبّاسٍ قالَ: إذا قالَ أنْتِ طالِقٌ ثَلاثًا بِفَمٍ واحِدٍ فَهي واحِدَةٌ، فَهو مُعارَضٌ بِما رَواهُ أبُو داوُدَ نَفْسُهُ مِن طَرِيقِ إسْماعِيلَ بْنِ إبْراهِيمَ عَنْ أيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أنَّ ذَلِكَ مِن قَوْلِ عِكْرِمَةَ لا مِن قَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ، وتُرَجَّحُ رِوايَةُ إسْماعِيلَ بْنِ إبْراهِيمَ عَلى رِوايَةِ حَمّادٍ بِمُوافَقَةِ الحُفّاظِ لِإسْماعِيلَ، في أنَّ ابْنَ عَبّاسٍ يَجْعَلُها ثَلاثًا لا واحِدَةً.
* * *الجَوابُ الخامِسُ: هو ادِّعاءُ ضَعْفِهِ ومِمَّنْ حاوَلَ تَضْعِيفَهُ ابْنُ العَرَبِيِّ المالِكِيُّ، وابْنُ عَبْدِ البَرِّ، والقُرْطُبِيُّ.
قالَ ابْنُ العَرَبِيِّ المالِكِيُّ: زَلَّ قَوْمٌ في آخِرِ الزَّمانِ فَقالُوا: إنَّ الطَّلاقَ الثَّلاثَ في كَلِمَةٍ لا يَلْزَمُ، وجَعَلُوهُ واحِدَةً ونَسَبُوهُ إلى السَّلَفِ الأوَّلِ فَحَكَوْهُ عَنْ عَلِيٍّ، والزُّبَيْرِ، وعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وابْنِ مَسْعُودٍ، وابْنِ عَبّاسٍ، وعَزَوْهُ إلى الحَجّاجِ بْنِ أرْطاةَ الضَّعِيفِ المَنزِلَةِ، المَغْمُورِ المَرْتَبَةِ، ورَوَوْا في ذَلِكَ حَدِيثًا لَيْسَ لَهُ أصْلٌ، وغَوى قَوْمٌ مِن أهْلِ المَسائِلِ فَتَتَبَّعُوا الأهْواءَ المُبْتَدَعَةَ فِيهِ وقالُوا: إنَّ قَوْلَهُ أنْتِ طالِقٌ ثَلاثًا كَذِبٌ؛ لِأنَّهُ لَمْ يُطَلِّقْ ثَلاثًا، كَما لَوْ قالَ: طَلَّقْتُ ثَلاثًا ولَمْ يُطَلِّقْ إلّا واحِدَةً، وكَما لَوْ قالَ: أحْلِفُ ثَلاثًا كانَتْ يَمِينًا واحِدَةً.
وَلَقَدْ طَوَّفْتُ في الآفاقِ، ولَقِيتُ مِن عُلَماءِ الإسْلامِ، وأرْبابِ المَذاهِبِ كُلَّ صادِقٍ، فَما سَمِعْتُ لِهَذِهِ المَسْألَةِ بِخَبَرٍ، ولا أحْسَسْتُ لَها بِأثَرٍ، إلّا الشِّيعَةَ الَّذِينَ يَرَوْنَ نِكاحَ المُتْعَةِ جائِزًا، ولا يَرَوْنَ الطَّلاقَ واقِعًا، ولِذَلِكَ قالَ فِيهِمُ ابْنُ سُكَّرَةَ الهاشِمِيُّ: [ السَّرِيعِ ]
يا مَن يَرى المُتْعَةَ في دِينِهِ حِلًّا وإنْ كانَتْ بِلا مَهْرٍ
وَلا يَرى تِسْعِينَ تَطْلِيقَةً ∗∗∗ تُبِينُ مِنهُ رَبَّةُ الخِدْرِ
مِن هاهُنا طابَتْ مَوالِيدُكم ∗∗∗ فاغْتَنِمُوها يا بَنِي الفِطْرِ
وَقَدِ اتَّفَقَ عُلَماءُ الإسْلامِ، وأرْبابُ الحَلِّ والعَقْدِ في الأحْكامِ عَلى أنَّ الطَّلاقَ الثَّلاثَ في كَلِمَةٍ، وإنْ كانَ حَرامًا في قَوْلِ بَعْضِهِمْ، وبِدْعَةً في قَوْلِ الآخَرِينَ، لازِمٌ. وأيْنَ هَؤُلاءِ البُؤَساءُ مِن عالِمِ الدِّينِ، وعَلَمِ الإسْلامِ، مُحَمَّدِ بْنِ إسْماعِيلَ البُخارِيِّ، وقَدْ قالَ في ”صَحِيحِهِ“: ”بابُ جَوازِ الطَّلاقِ الثَّلاثِ“، لِقَوْلِهِ تَعالى:
﴿الطَّلاقُ مَرَّتانِ﴾ .
وَذَكَرَ حَدِيثَ اللِّعانِ:
«فَطَلَّقَها ثَلاثًا قَبْلَ أنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ولَمْ يُغَيِّرْ عَلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ» ولا يُقِرُّ عَلى الباطِلِ؛ ولِأنَّهُ جَمَعَ ما فَسَحَ لَهُ في تَفْرِيقِهِ، فَألْزَمَتْهُ الشَّرِيعَةُ حُكْمَهُ وما نَسَبُوهُ إلى الصَّحابَةِ كَذِبٌ بَحْتٌ، لا أصْلَ لَهُ في كِتابٍ ولا رِوايَةَ لَهُ عَنْ أحَدٍ.
وَقَدْ أدْخَلَ مالِكٌ في ”مُوَطَّئِهِ“ عَنْ عَلِيٍّ أنَّ الحَرامَ ثَلاثٌ لازِمَةٌ في كَلِمَةٍ، فَهَذا في مَعْناها، فَكَيْفَ إذا صَرَّحَ بِها. وأمّا حَدِيثُ الحَجّاجِ بْنِ أرْطاةَ فَغَيْرُ مَقْبُولٍ في المِلَّةِ، ولا عِنْدَ أحَدٍ مِنَ الأئِمَّةِ، فَإنْ قِيلَ: فَفي ”صَحِيحِ مُسْلِمٍ“ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وذَكَرَ حَدِيثَ أبِي الصَّهْباءِ المَذْكُورِ، قُلْنا: هَذا لا مُتَعَلِّقَ فِيهِ مِن خَمْسَةِ أوْجُهٍ: الأوَّلُ: أنَّهُ حَدِيثٌ مُخْتَلَفٌ في صِحَّتِهِ فَكَيْفَ يُقَدَّمُ عَلى إجْماعِ الأُمَّةِ ؟ ولَمْ يُعْرَفْ لَها في هَذِهِ المَسْألَةِ خِلافٌ إلّا عَنْ قَوْمٍ انْحَطُّوا عَنْ رُتْبَةِ التّابِعِينَ وقَدْ سَبَقَ العَصْرانِ الكَرِيمانِ والِاتِّفاقُ عَلى لُزُومِ الثَّلاثِ، فَإنْ رَوَوْا ذَلِكَ عَنْ أحَدٍ مِنهم فَلا تَقْبَلُوا مِنهم إلّا ما يَقْبَلُونَ مِنكم: نَقْلُ العَدْلِ عَنِ العَدْلِ. ولا تَجِدْ هَذِهِ المَسْألَةَ مَنسُوبَةً إلى أحَدٍ مِنَ السَّلَفِ أبَدًا.
الثّانِي: أنَّ هَذا الحَدِيثَ لَمْ يُرْوَ إلّا عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ولَمْ يُرْوَ عَنْهُ إلّا مِن طَرِيقِ طاوُسٍ، فَكَيْفَ يُقْبَلُ ما لَمْ يَرْوِهِ مِنَ الصَّحابَةِ إلّا واحِدٌ وما لَمْ يَرْوِهِ عَنْ ذَلِكَ الصَّحابِيِّ إلّا واحِدٌ ؟ وكَيْفَ خَفِيَ عَلى جَمِيعِ الصَّحابَةِ وسَكَتُوا عَنْهُ إلّا ابْنَ عَبّاسٍ ؟ وكَيْفَ خَفِيَ عَلى أصْحابِ ابْنِ عَبّاسٍ إلّا طاوُسًا ؟ اهـ مَحَلُّ الغَرَضِ مِن كَلامِ ابْنِ العَرَبِيِّ، وقالَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ: ورِوايَةُ طاوُسٍ وهْمٌ وغَلَطٌ لَمْ يُعَرِّجْ عَلَيْها أحَدٌ مِن فُقَهاءِ الأمْصارِ بِالحِجازِ، والشّامِ، والعِراقِ، والمَشْرِقِ، والمَغْرِبِ. وقَدْ قِيلَ: إنَّ أبا الصَّهْباءِ لا يُعْرَفُ في مَوالِي ابْنِ عَبّاسٍ.
قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ: إنَّ مِثْلَ هَذا لا يَثْبُتُ بِهِ تَضْعِيفُ هَذا الحَدِيثِ؛ لِأنَّ الأئِمَّةَ كَمَعْمَرٍ وابْنِ جُرَيْجٍ وغَيْرِهِما رَوَوْهُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وهو إمامٌ، عَنْ طاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، ورَواهُ عَنْ طاوُسٍ أيْضًا إبْراهِيمُ بْنُ مَيْسَرَةَ، وهو ثِقَةٌ حافِظٌ. وانْفِرادُ الصَّحابِيِّ لا يَضُرُّ ولَوْ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ أصْلًا إلّا واحِدٌ، كَما أشارَ إلَيْهِ العِراقِيُّ في ”ألْفِيَّتِهِ“ بِقَوْلِهِ: [ الرَّجَزِ ]
فِي الصَّحِيحِ أخْرَجا المُسَيَّبا ∗∗∗ وأخْرَجَ الجُعْفِيُّ لِابْنِ تَغْلِبا
يَعْنِي: أنَّ الشَّيْخَيْنِ أخْرَجا حَدِيثَ المُسَيَّبِ بْنِ حَزْنٍ، ولَمْ يَرْوِ عَنْهُ أحَدٌ غَيْرُ ابْنِهِ سَعِيدٍ.
وَأخْرَجَ البُخارِيُّ حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ تَغْلِبَ النَّمَرِيِّ، ويُقالُ العَبْدِيُّ ولَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْرُ الحَسَنِ البَصْرِيِّ هَذا مُرادُهُ. وقَدْ ذَكَرَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ أنَّ عَمْرَو بْنَ تَغْلِبَ رَوى عَنْهُ أيْضًا الحَكَمُ بْنُ الأعْرَجِ، قالَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وابْنُ عَبْدِ البَرِّ وغَيْرُهُما.
والحاصِلُ أنَّ حَدِيثَ طاوُسٍ ثابِتٌ في ”صَحِيحِ مُسْلِمٍ“ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، وما كانَ كَذَلِكَ لا يُمْكِنُ تَضْعِيفُهُ إلّا بِأمْرٍ واضِحٍ، نَعَمْ لِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: إنَّ خَبَرَ الآحادِ إذا كانَتِ الدَّواعِي مُتَوَفِّرَةً إلى نَقْلِهِ ولَمْ يَنْقُلْهُ إلّا واحِدٌ ونَحْوُهُ، أنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلى عَدَمِ صِحَّتِهِ. ووَجْهُهُ أنَّ تَوَفُّرَ الدَّواعِي يَلْزَمُ مِنهُ أنَّ النَّقْلَ تَواتُرًا والِاشْتِهارَ، فَإنْ لَمْ يَشْتَهِرْ دَلَّ عَلى أنَّهُ لَمْ يَقَعْ؛ لِأنَّ انْتِفاءَ اللّازِمِ يَقْتَضِي انْتِفاءَ المَلْزُومِ، وهَذِهِ قاعِدَةٌ مُقَرَّرَةٌ في الأُصُولِ، أشارَ إلَيْها في ”مَراقِي السُّعُودِ“ بِقَوْلِهِ عاطِفًا عَلى ما يُحْكَمُ فِيهِ بِعَدَمِ صِحَّةِ الخَبَرِ: [ الرَجَزِ ] . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وَخَبَرُ الآحادِ في السُّنِّيِّ
حَيْثُ دَواعِي نَقْلِهِ تَواتُرًا ∗∗∗ نَرى لَها لَوْ قالَهُ تَقَرُّرا
وَجَزَمَ بِها غَيْرُ واحِدٍ مِنَ الأُصُولِيِّينَ، وقالَ صاحِبُ ”جَمْعِ الجَوامِعِ“ عاطِفًا عَلى ما يُجْزَمُ فِيهِ بِعَدَمِ صِحَّةِ الخَبَرِ. والمَنقُولُ آحادًا فِيما تَتَوَفَّرُ الدَّواعِي إلى نَقْلِهِ خِلافًا لِلرّافِضَةِ. اهـ مِنهُ بِلَفْظِهِ.
وَمُرادُهُ أنَّ مِمّا يُجْزَمُ بِعَدَمِ صِحَّتِهِ الخَبَرُ المَنقُولُ آحادًا مَعَ تَوَفُّرِ الدَّواعِي إلى نَقْلِهِ.
وَقالَ ابْنُ الحاجِبِ في ”مُخْتَصَرِهِ الأُصُولِيِّ“ مَسْألَةٌ: إذا انْفَرَدَ واحِدٌ فِيما يَتَوَفَّرُ الدَّواعِي إلى نَقْلِهِ، وقَدْ شارَكَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ. كَما لَوِ انْفَرَدَ واحِدٌ بِقَتْلِ خَطِيبٍ عَلى المِنبَرِ في مَدِينَةٍ فَهو كاذِبٌ قَطْعًا خِلافًا لِلشِّيعَةِ. اهـ مَحَلُّ الغَرَضِ مِنهُ بِلَفْظِهِ. وفي المَسْألَةِ مُناقَشاتٌ وأجْوِبَةٌ عَنْها مَعْرُوفَةٌ في الأُصُولِ.
قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ: ولا شَكَّ أنَّهُ عَلى القَوْلِ بِأنَّ مَعْنى حَدِيثِ طاوُسٍ المَذْكُورِ أنَّ الثَّلاثَ بِلَفْظٍ واحِدٍ كانَتْ تُجْعَلُ واحِدَةً عَلى عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ وأبِي بَكْرٍ، وصَدْرًا مِن خِلافَةِ عُمَرَ، ثُمَّ إنَّ عُمَرَ غَيَّرَ ما كانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ والمُسْلِمُونَ في زَمَنِ أبِي بَكْرٍ، وعامَّةُ الصَّحابَةِ أوْ جُلُّهم يَعْلَمُونَ ذَلِكَ. فالدَّواعِي إلى نَقْلٍ ما كانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ والمُسْلِمُونَ مِن بَعْدِهِ، مُتَوَفِّرَةٌ تَوَفُّرًا لا يُمْكِنُ إنْكارُهُ، لِأنْ يَرُدَّ بِذَلِكَ التَّغْيِيرِ الَّذِي أحْدَثَهُ عُمَرُ فَسُكُوتُ جَمِيعِ الصَّحابَةِ عَنْهُ وكَوْنُ ذَلِكَ لَمْ يُنْقَلْ مِنهُ حَرْفٌ عَنْ غَيْرِ ابْنِ عَبّاسٍ، يَدُلُّ دَلالَةً واضِحَةً عَلى أحَدِ أمْرَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّ حَدِيثَ طاوُسٍ الَّذِي رَواهُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ لَيْسَ مَعْناهُ أنَّها بِلَفْظٍ واحِدٍ، بَلْ بِثَلاثَةِ ألْفاظٍ في وقْتٍ واحِدٍ كَما قَدَّمْنا، وكَما جَزَمَ بِهِ النَّسائِيُّ، وصَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ والقُرْطُبِيُّ وابْنُ سُرَيْجٍ. وعَلَيْهِ فَلا إشْكالَ؛ لِأنَّ تَغْيِيرَ عُمَرَ لِلْحُكْمِ مَبْنِيٌّ عَلى تَغْيِيرِ قَصْدِهِمْ، والنَّبِيُّ ﷺ قالَ:
«إنَّما الأعْمالُ بِالنِّيّاتِ وإنَّما لِكُلِّ امْرِئٍ ما نَوى» فَمَن قالَ أنْتِ طالِقٌ، أنْتِ طالِقٌ، أنْتِ طالِقٌ، ونَوى التَّأْكِيدَ فَواحِدَةٌ، وإنْ نَوى الِاسْتِئْنافَ بِكُلِّ واحِدَةٍ فَثَلاثٌ. واخْتِلافُ مَحامِلِ اللَّفْظِ الواحِدِ لِاخْتِلافِ نِيّاتِ اللّافِظِينَ بِهِ لا إشْكالَ فِيهِ؛ لِقَوْلِهِ ﷺ:
«وَإنَّما لِكُلِّ امْرِئٍ ما نَوى» .
والثّانِي: أنْ يَكُونَ الحَدِيثُ غَيْرَ مَحْكُومٍ بِصِحَّتِهِ لِنَقْلِهِ آحادًا مَعَ تَوَفُّرِ الدَّواعِي إلى نَقْلِهِ، والأوَّلُ أوْلى وأخَفُّ مِنَ الثّانِي، وقالَ القُرْطُبِيُّ في المُفْهِمِ في الكَلامِ عَلى حَدِيثِ طاوُسٍ المَذْكُورِ: وظاهِرُ سِياقِهِ يَقْتَضِي عَنْ جَمِيعِهِمْ أنَّ مُعْظَمَهم كانُوا يَرَوْنَ ذَلِكَ، والعادَةُ في مِثْلِ هَذا أنْ يَفْشُوَ الحُكْمُ ويَنْتَشِرَ فَكَيْفَ يَنْفَرِدُ بِهِ واحِدٌ عَنْ واحِدٍ ؟ قالَ: فَهَذا الوَجْهُ يَقْتَضِي التَّوَقُّفَ عَنِ العَمَلِ بِظاهِرِهِ، إنْ لَمْ يَقْتَضِ القَطْعَ بِبُطْلانِهِ. اهـ مِنهُ بِواسِطَةِ نَقْلِ ابْنِ حَجَرٍ في ”فَتْحِ البارِي“ عَنْهُ، وهو قَوِيٌّ جِدًّا بِحَسَبِ المُقَرَّرِ في الأُصُولِ كَما تَرى.
* * *الجَوابُ السّادِسُ: عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - هو حَمْلُ لَفْظِ الثَّلاثِ في الحَدِيثِ عَلى أنَّ المُرادَ بِها البَتَّةَ كَما قَدَّمْنا في حَدِيثِ رُكانَةَ، وهو مِن رِوايَةِ ابْنِ عَبّاسٍ أيْضًا، قالَ الحافِظُ ابْنُ حَجَرٍ في ”فَتْحِ البارِي“ بَعْدَ أنْ ذَكَرَ هَذا الجَوابَ ما نَصُّهُ: وهو قَوِيٌّ ويُؤَيِّدُهُ إدْخالُ البُخارِيِّ في هَذا البابِ، الآثارَ الَّتِي فِيها البَتَّةَ، والأحادِيثَ الَّتِي فِيها التَّصْرِيحُ بِالثَّلاثِ، كَأنَّهُ يُشِيرُ إلى عَدَمِ الفَرْقِ بَيْنَهُما، وأنَّ البَتَّةَ إذا أُطْلِقَتْ حُمِلَ عَلى الثَّلاثِ إلّا إنْ أرادَ المُطَلِّقُ واحِدَةً فَيُقْبَلُ، فَكَأنَّ بَعْضَ رُواتِهِ حَمَلَ لَفْظَ البَتَّةَ عَلى الثَّلاثِ؛ لِاشْتِهارِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُما، فَرَواها بِلَفْظِ الثَّلاثِ. وإنَّما المُرادُ لَفْظَةُ البَتَّةَ، وكانُوا في العَصْرِ الأوَّلِ يَقْبَلُونَ مِمَّنْ قالَ أرَدْتُ بِالبَتَّةِ واحِدَةً، فَلَمّا كانَ عَهْدُ عُمَرَ أمْضى الثَّلاثَ في ظاهِرِ الحُكْمِ. اهـ مِن ”فَتْحِ البارِي“ بِلَفْظِهِ، ولَهُ وجْهٌ مِنَ النَّظَرِ كَما لا يَخْفى، وما يَذْكُرُهُ كُلٌّ مِمَّنْ قالَ بِلُزُومِ الثَّلاثِ دُفْعَةً، ومَن قالَ بِعَدَمِ لُزُومِها مِنَ الأُمُورِ النَّظَرِيَّةِ لِيُصَحِّحَ بِهِ كُلٌّ مَذْهَبَهُ، لَمْ نُطِلْ بِهِ الكَلامَ؛ لِأنَّ الظّاهِرَ سُقُوطُ ذَلِكَ كُلِّهِ، وأنَّ هَذِهِ المَسْألَةَ إنْ لَمْ يُمْكِنْ تَحْقِيقُها مِن جِهَةِ النَّقْلِ فَإنَّهُ لا يُمْكِنُ مِن جِهَةِ العَقْلِ، وقِياسُ أنْتِ طالِقٌ ثَلاثًا عَلى أيْمانِ اللِّعانِ في أنَّهُ لَوْ حَلَفَها بِلَفْظٍ واحِدٍ لَمْ تَجُزْ، قِياسٌ مَعَ وُجُودِ الفارِقِ؛ لَأنَّ مَنِ اقْتَصَرَ عَلى واحِدَةٍ مِنَ الشَّهاداتِ الأرْبَعِ المَذْكُورَةِ في آيَةِ اللِّعانِ أجْمَعَ العُلَماءُ عَلى أنَّ ذَلِكَ كَما لَوْ لَمْ يَأْتِ بِشَيْءٍ مِنها أصْلًا، بِخِلافِ الطَّلَقاتِ الثَّلاثِ فَمَنِ اقْتَصَرَ عَلى واحِدَةٍ مِنها اعْتُبِرَتْ إجْماعًا، وحَصَلَتْ بِها البَيْنُونَةُ بِانْقِضاءِ العِدَّةِ إجْماعًا.
(١)
(١) اختُصِرَ كلام المؤلف لشدة طوله