الباحث القرآني
* (فائدة)
فرق النكاح عشرون فُرقة:
الأولى: فُرقة الطلاق
الثانية: الفسخ للعسرة بالمهر
الثالثة: الفسخ للعسر عن النفقة
الرابعة: فرقة الإيلاء
الخامسة: فرقة الخلع
السادسة: تفريق الحكمين
السابعة: فرقة العنين
الثامنة: فرقة اللعان
التاسعة: فرقة العتق تحت العبد
العاشرة: فرقة الغرور
الحادية عشر: فرقة العيوب
الثانية عشرة: فرقة الرضاع
الثالثة عشر: فرقة وطء الشبهة حيث تحرم الزوجة
الرابعة عشر: فرقة إسلام أحد الزوجين
الخامسة عشر: فرقة ارتداد أحدهما
السادسة عشر: فرقة إسلام الزوج وعنده اختان أو أكثر من أربع أو امرأة وعمتها أو امرأة وخالتها
السابعة عشر: فرقة السبا
الثامنة عشر: فرقة ملك أحد الزوجين صاحبة
التاسعة عشر: فرقة الجهل بسبق أحد النكاحين
العشرون: فرقة الموت.
فهذه الفروق منها إلى المرأة وحدها فرقة الحرية والغرور والعيب ومنها إلى الزوج وحده الطلاق والغرور والعيب أيضا ومنها ما للحاكم فيه مدخل وهو فرقة العنين والحكمين والإيلاء والعجز عن النفقة والمهر ونكاح الوليين ومنها ما لا يتوقف على أحد الزوجين ولا الحاكم هو اللعان والردة والوطء بالشبهة وإسلام أحدهما وملك احد الزوجين صاحبة والرضاع.
وهذه الفرق منها ما لا يتلافى إلا بعد زوج وإصابة وهو استيفاء الثلاث ومنها ما لا يتلافى أبدا وهو فرقة اللعان والرضاع والوطء بشبهة ومنها ما لا يتلافى في العدة خاصة وهي فرقة الردة وإسلام احد الزوجين الطلاق الرجعي ومنها ما يتلافى بعقد جديد وهي فرقة الخلع والإعسار بالمهر والنفقة وفرقة الإيلاء والعيوب والغرور وكلها فسخ إلا الطلاق وفرقة الإيلاء والفرقة بالحكمين.
* [فَصْلٌ: جَمْعُ الطَّلْقاتِ الثَّلاثِ بِلَفْظٍ واحِدٍ]
المِثالُ السّابِعُ: أنَّ المُطَلِّقَ في زَمَنِ النَّبِيِّ ﷺ وزَمَنِ خَلِيفَتِهِ أبِي بَكْرٍ وصَدْرًا مِن خِلافَةِ عُمَرَ كانَ إذا جَمَعَ الطَّلْقاتِ الثَّلاثَ بِفَمٍ واحِدٍ جُعِلَتْ واحِدَةً، كَما ثَبَتَ ذَلِكَ في الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ؛ فَرَوى مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ طاوُسٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ: «كانَ الطَّلاقُ الثَّلاثُ عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ وأبِي بَكْرٍ وسَنَتَيْنِ مِن خِلافَةِ عُمَرَ طَلاقَ الثَّلاثِ واحِدَةً، فَقالَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ: إنّ النّاسَ قَدْ اسْتَعْجَلُوا في أمْرٍ كانَتْ لَهم فِيهِ أناةٌ، فَلَوْ أمْضَيْناهُ عَلَيْهِمْ، فَأمْضاهُ عَلَيْهِمْ»، وفي صَحِيحِهِ أيْضًا عَنْ طاوُسٍ أنَّ أبا الصَّهْباءِ قالَ لِابْنِ عَبّاسٍ: ألَمْ تَعْلَمْ «أنَّ الثَّلاثَ كانَتْ تُجْعَلُ واحِدَةً عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وأبِي بَكْرٍ وثَلاثًا مِن إمارَةِ عُمَرَ»؟ فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: نَعَمْ " وفي صَحِيحِهِ أيْضًا أنَّ أبا الصَّهْباءِ قالَ لِابْنِ عَبّاسٍ: هاتِ مِن هَناتِك، «ألَمْ يَكُنْ الطَّلاقُ الثَّلاثُ عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وأبِي بَكْرٍ واحِدَةً، فَقالَ: قَدْ كانَ ذَلِكَ، فَلَمّا كانَ في عَهْدِ عُمَرَ تَتابَعَ النّاسُ في الطَّلاقِ، فَأجازَهُ عَلَيْهِمْ».
وَفِي سُنَنِ أبِي داوُد عَنْ طاوُسٍ أنَّ رَجُلًا يُقالُ لَهُ أبُو الصَّهْباءِ كانَ كَثِيرَ السُّؤالِ لِابْنِ عَبّاسٍ، فَقالَ: أما عَلِمْت «أنَّ الرَّجُلَ كانَ إذا طَلَّقَ امْرَأتَهُ ثَلاثًا قَبْلَ أنْ يَدْخُلَ بِها جَعَلُوها واحِدَةً عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وأبِي بَكْرٍ وصَدْرًا مِن إمارَةِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؟ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: بَلى كانَ الرَّجُلُ إذا طَلَّقَ امْرَأتَهُ ثَلاثًا قَبْلَ أنْ يَدْخُلَ بِها جَعَلُوها واحِدَةً عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ وأبِي بَكْرٍ وصَدْرًا مِن إمارَةِ عُمَرَ، فَلَمّا رَأى النّاسَ قَدْ تَتابَعُوا فِيها قالَ: أجِيزُوهُنَّ عَلَيْهِمْ».
وَفِي مُسْتَدْرَكِ الحاكِمِ مِن حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ المُؤَمَّلِ عَنْ ابْنِ أبِي مُلَيْكَةَ أنَّ أبا الجَوْزاءِ أتى ابْنَ عَبّاسٍ، فَقالَ: أتَعْلَمُ «أنَّ الثَّلاثَ كُنَّ يُرْدَدْنَ عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إلى واحِدَةٍ»؟ قالَ: نَعَمْ.
قالَ الحاكِمُ: هَذا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وهَذِهِ غَيْرُ طَرِيقِ طاوُسٍ عَنْ أبِي الصَّهْباءِ، وقالَ الإمامُ أحْمَدُ في مُسْنَدِهِ: ثنا سَعْدُ بْنُ إبْراهِيمَ، ثنا أبِي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحاقَ قالَ: حَدَّثَنِي داوُد بْنُ الحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلى ابْنِ عَبّاسٍ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، قالَ: «طَلَّقَ رُكانَةُ بْنُ عَبْدِ يَزِيدَ أخُو بَنِي المُطَّلِبِ امْرَأتَهُ ثَلاثًا في مَجْلِسٍ واحِدٍ، فَحَزِنَ عَلَيْها حُزْنًا شَدِيدًا، قالَ: فَسَألَهُ رَسُولُ اللَّهِ: كَيْفَ طَلَّقْتها؟ قالَ: طَلَّقْتها ثَلاثًا، قالَ: فَقالَ: في مَجْلِسٍ واحِد؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: فَإنَّما تِلْكَ واحِدَةٌ، فَأرْجِعْها إنْ شِئْتَ، قالَ: فَراجَعَها». فَكانَ ابْنُ عَبّاسٍ يَرى إنّما الطَّلاقُ عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ، وقَدْ صَحَّحَ الإمامُ أحْمَدُ هَذا الإسْنادَ وحَسَّنَهُ فَقالَ في حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ رَدَّ ابْنَتَهُ عَلى ابْنِ أبِي العاصِ بِمَهْرٍ جَدِيدٍ ونِكاحٍ جَدِيدٍ»: هَذا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، أوْ قالَ: واهٍ لَمْ يَسْمَعْهُ الحَجّاجُ مِن عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، وإنَّما سَمِعَهُ مِن مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ العَزْرَمِيِّ، والعَزْرَمِيُّ لا يُساوِي حَدِيثُهُ شَيْئًا، والحَدِيثُ الَّذِي رَواهُ «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ أقَرَّهُما عَلى النِّكاحِ الأوَّلِ» وإسْنادُهُ عِنْدَهُ هو إسْنادُ حَدِيثِ رُكانَةَ بْنِ عَبْدِ يَزِيدَ. هَذا وقَدْ قالَ التِّرْمِذِيُّ فِيهِ: لَيْسَ بِإسْنادِهِ بَأْسٌ، فَهَذا إسْنادٌ صَحِيحٌ عِنْدَ أحْمَدَ، ولَيْسَ بِهِ بَأْسٌ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ؛ فَهو حُجَّةٌ ما لَمْ يُعارِضْهُ ما هو أقْوى مِنهُ، فَكَيْفَ إذا عَضَّدَهُ ما هو نَظِيرُهُ أوْ أقْوى مِنهُ؟ وقالَ أبُو داوُد: حَدَّثَنا أحْمَدُ بْنُ صالِحٍ ثنا عَبْدُ الرَّزّاقِ أخْبَرَنا ابْنُ جُرَيْجٍ قالَ: أخْبَرَنِي بَعْضُ بَنِي أبِي رافِعٍ مَوْلى النَّبِيِّ ﷺ عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلى ابْنِ عَبّاسٍ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: «طَلَّقَ عَبْدُ يَزِيدَ أبُو رُكانَةَ وإخْوَتِهِ أُمَّ رُكانَةَ، ونَكَحَ امْرَأةً مِن مُزَيْنَةَ، فَجاءَتْ إلى النَّبِيِّ ﷺ فَقالَتْ: ما يُغْنِي عَنِّي إلّا كَما تُغْنِي هَذِهِ الشَّعْرَةُ لِشَعْرَةٍ أخَذَتْها مِن رَأْسِها، فَفَرِّقْ بَيْنِي وبَيْنَهُ، فَأخَذَتْ النَّبِيَّ ﷺ حَمِيَّةٌ فَدَعا بِرُكانَةَ وإخْوَتِهِ، ثُمَّ قالَ لِجُلَسائِهِ: أتَرَوْنَ فُلانًا يُشْبِهُ كَذا وكَذا مِن عَبْدِ يَزِيدَ وفُلانًا مِنهُ كَذا وكَذا؟ قالُوا: نَعَمْ، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ لِعَبْدِ يَزِيدَ: طَلِّقْها فَفَعَلَ، فَقالَ: راجِعْ امْرَأتَك أُمَّ رُكانَةَ وإخْوَتِهِ، فَقالَ: إنِّي طَلَّقْتها ثَلاثًا يا رَسُولَ اللَّهِ قالَ: قَدْ عَلِمْت، راجِعْها، وتَلا: ﴿يا أيُّها النَّبِيُّ إذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ [الطلاق: ١]».
وَقالَ أبُو داوُد: حَدِيثُ نافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ وعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ بْنِ رُكانَةَ عَنْ أبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «أنَّ رُكانَةَ طَلَّقَ امْرَأتَهُ فَرَدَّها إلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ» أصَحُّ، لِأنَّهم ولَدُ الرَّجُلِ وأهْلُهُ وأعْلَمُ بِهِ، «وَأنَّ رُكانَةَ إنّما طَلَّقَ امْرَأتَهُ ألْبَتَّةَ، فَجَعَلَها النَّبِيُّ ﷺ واحِدَةً».
قالَ شَيْخُنا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وأبُو داوُد لَمّا لَمْ يَرْوِ في سُنَنِهِ الحَدِيثَ الَّذِي في مُسْنَدِ أحْمَدَ - يَعْنِي الَّذِي ذَكَرْناهُ آنِفًا - فَقالَ: حَدِيثُ ألْبَتَّةَ أصَحُّ مِن حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ أنَّ رُكانَةَ طَلَّقَ امْرَأتَهُ ثَلاثًا، لِأنَّهم أهْلُ بَيْتِهِ، ولَكِنْ الأئِمَّةُ الأكابِرُ العارِفُونَ بِعِلَلِ الحَدِيثِ والفِقْهِ كالإمامِ أحْمَدَ وأبِي عُبَيْدٍ والبُخارِيِّ ضَعَّفُوا حَدِيثَ ألْبَتَّةَ، وبَيَّنُوا أنَّهُ رِوايَةُ قَوْمٍ مَجاهِيلَ لَمْ تُعْرَفْ عَدالَتُهم وضَبْطُهُمْ، وأحْمَدُ أثْبَتَ حَدِيثَ الثَّلاثِ، وبَيَّنَ أنَّهُ الصَّوابُ، وقالَ: حَدِيثُ رُكانَةَ لا يَثْبُتُ أنَّهُ طَلَّقَ امْرَأتَهُ ألْبَتَّةَ، وفي رِوايَةٍ عَنْهُ: حَدِيثُ رُكانَةَ في البَتَّةِ لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأنَّ ابْنَ إسْحاقَ يَرْوِيهِ عَنْ داوُد بْنِ الحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنَّ رُكانَةَ طَلَّقَ امْرَأتَهُ ثَلاثًا، وأهْلُ المَدِينَةِ يُسَمُّونَ الثَّلاثَ ألْبَتَّةَ، قالَ الأثْرَمُ: قُلْت لِأحْمَدَ: حَدِيثُ رُكانَةَ في البَتَّةِ، فَضَعَّفَهُ.
والمَقْصُودُ أنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ أنَّ هَذا هو السُّنَّةُ، وأنَّهُ تَوْسِعَةٌ مِن اللَّهِ لِعِبادِهِ؛ إذْ جَعَلَ الطَّلاقَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وما كانَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ لَمْ يَمْلِكْ المُكَلَّفُ إيقاعَ مَرّاتِهِ كُلِّها جُمْلَةً واحِدَةً كاللِّعانِ، فَإنَّهُ لَوْ قالَ: " أشْهَدُ بِاللَّهِ أرْبَعَ شَهاداتٍ إنِّي لَمِن الصّادِقِينَ " كانَ مَرَّةً واحِدَةً، ولَوْ حَلَفَ في القَسامَةِ وقالَ: " أُقْسِمُ بِاللَّهِ خَمْسِينَ يَمِينًا أنَّ هَذا قاتِلُهُ " كانَ ذَلِكَ يَمِينًا واحِدَةً، ولَوْ قالَ المُقِرُّ بِالزِّنا: " أنا أُقِرُّ أرْبَعَ مَرّاتٍ أنِّي زَنَيْت " كانَ مَرَّةً واحِدَةً؛ فَمَن يَعْتَبِرُ الأرْبَعَ لا يَجْعَلُ ذَلِكَ إلّا إقْرارًا واحِدًا، وقالَ النَّبِيُّ ﷺ: «مَن قالَ في يَوْمِهِ سُبْحانَ اللَّهِ وبِحَمْدِهِ مِائَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ عَنْهُ خَطاياهُ ولَوْ كانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ» فَلَوْ قالَ: «سُبْحانَ اللَّهِ وبِحَمْدِهِ مِائَةَ مَرَّةٍ» لَمْ يَحْصُلْ لَهُ هَذا الثَّوابُ حَتّى يَقُولَها مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وكَذَلِكَ قَوْلُهُ: «مَن سَبَّحَ اللَّهَ دُبُرَ كُلِّ صَلاةٍ ثَلاثًا وثَلاثِينَ، وحَمِدَهُ ثَلاثًا وثَلاثِينَ، وكَبَّرَهُ ثَلاثًا وثَلاثِينَ» الحَدِيثَ؛ لا يَكُونُ عامِلًا بِهِ حَتّى يَقُولَ ذَلِكَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، ولا يَجْمَعُ الكُلَّ بِلَفْظٍ واحِدٍ، وكَذَلِكَ قَوْلُهُ: «مَن قالَ في يَوْمِهِ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ لَهُ المُلْكُ ولَهُ الحَمْدُ وهو عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مِائَةَ مَرَّةٍ كانَتْ لَهُ حِرْزًا مِن الشَّيْطانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتّى يُمْسِيَ» لا يَحْصُلُ هَذا إلّا بِقَوْلِها مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وهَكَذا قَوْلُهُ: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أيْمانُكم والَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الحُلُمَ مِنكم ثَلاثَ مَرّاتٍ﴾ [النور: ٥٨] وهَكَذا قَوْلُهُ في الحَدِيثِ: «الِاسْتِئْذانُ ثَلاثُ مَرّاتٍ، فَإنْ أذِنَ لَك وإلّا فارْجِعْ» لَوْ قالَ الرَّجُلُ ثَلاثَ مَرّاتٍ هَكَذا كانَتْ مَرَّةً واحِدَةً حَتّى يَسْتَأْذِنَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وهَذا كَما أنَّهُ في الأقْوالِ والألْفاظِ فَكَذَلِكَ هو في الأفْعالِ سَواءٌ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿سَنُعَذِّبُهم مَرَّتَيْنِ﴾ [التوبة: ١٠١] إنّما هو مَرَّةٌ بَعْدَ مَرَّةٍ، وكَذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ " رَأى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ بِفُؤادِهِ مَرَّتَيْنِ " إنّما هو مَرَّةٌ بَعْدَ مَرَّةٍ، وكَذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: «لا يُلْدَغُ المُؤْمِنُ مِن جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ» فَهَذا المَعْقُولُ مِن اللُّغَةِ والعُرْفِ في الأحادِيثِ المَذْكُورَةِ، وهَذِهِ النُّصُوصُ المَذْكُورَةُ وقَوْله تَعالى: ﴿الطَّلاقُ مَرَّتانِ﴾ [البقرة: ٢٢٩] كُلُّها مِن بابٍ واحِدٍ ومِشْكاةٍ واحِدَةٍ، والأحادِيثُ المَذْكُورَةُ تُفَسِّرُ المُرادَ مِن قَوْلِهِ: ﴿الطَّلاقُ مَرَّتانِ﴾ [البقرة: ٢٢٩] كَما أنَّ حَدِيثَ اللِّعانِ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَشَهادَةُ أحَدِهِمْ أرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ﴾ [النور: ٦].
فَهَذا كِتابُ اللَّهِ، وهَذِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وهَذِهِ لُغَةُ العَرَبِ، وهَذا عُرْفُ التَّخاطُبِ، وهَذا خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ والصَّحابَةُ كُلُّهم مَعَهُ في عَصْرِهِ وثَلاثِ سِنِينَ مِن عَصْرِ عُمَرَ عَلى هَذا المَذْهَبِ؛ فَلَوْ عَدَّهم العادُّ بِأسْمائِهِمْ واحِدًا واحِدًا لَوَجَدَ أنَّهم كانُوا يَرَوْنَ الثَّلاثَ واحِدَةً إمّا بِفَتْوى وإمّا بِإقْرارٍ عَلَيْها، ولَوْ فُرِضَ فِيهِمْ مَن لَمْ يَكُنْ يَرى ذَلِكَ فَإنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُنْكِرًا لِلْفَتْوى بِهِ، بَلْ كانُوا ما بَيْنَ مُفْتٍ ومُقِرٍّ بِفُتْيا وساكِتٍ غَيْرِ مُنْكِرٍ.
وَهَذا حالُ كُلِّ صَحابِيٍّ مِن عَهْدِ الصِّدِّيقِ إلى ثَلاثِ سِنِينَ مِن خِلافَةِ عُمَرَ، وهم يَزِيدُونَ عَلى الألْفِ قَطْعًا كَما ذَكَرَهُ يُونُسُ بْنُ بُكَيْر عَنْ أبِي إسْحاقَ قالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قالَ: اسْتُشْهِدَ مِن المُسْلِمِينَ في وقْعَةِ اليَمامَةِ ألْفٌ ومِائَتا رَجُلٍ مِنهم سَبْعُونَ مِن القُرّاءِ كُلُّهم قَدْ قَرَءُوا القُرْآنَ، وتُوُفِّيَ في خِلافَةِ الصِّدِّيقِ فاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبِي بَكْرٍ قالَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحاقَ: فَلَمّا أُصِيبَ المُسْلِمُونَ مِن المُهاجِرِينَ والأنْصارِ بِاليَمامَةِ وأُصِيبَ فِيهِمْ عامَّةُ فُقَهاءِ المُسْلِمِينَ وقُرّائِهِمْ فَزِعَ أبُو بَكْرٍ إلى القُرْآنِ، وخافَ أنْ يَهْلِكَ مِنهُ طائِفَةٌ، وكُلُّ صَحابِيٍّ مِن لَدُنْ خِلافَةِ الصِّدِّيقِ إلى ثَلاثِ سِنِينَ مِن خِلافَةِ عُمَرَ كانَ عَلى أنَّ الثَّلاثَ واحِدَةٌ فَتْوى أوْ إقْرارًا أوْ سُكُوتًا، ولِهَذا ادَّعى بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ أنَّ هَذا إجْماعٌ قَدِيمٌ، ولَمْ تُجْمِعْ الأُمَّةُ ولِلَّهِ الحَمْدُ عَلى خِلافِهِ، بَلْ لَمْ يَزَلْ فِيهِمْ مَن يُفْتِي بِهِ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ، وإلى يَوْمِنا هَذا، فَأفْتى بِهِ حَبْرُ الأُمَّةِ وتُرْجُمانُ القُرْآنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبّاسٍ كَما رَواهُ حَمّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ: " إذا قالَ أنْتِ طالِقٌ ثَلاثًا بِفَمٍ واحِدَةٍ فَهي واحِدَةٌ " وأفْتى أيْضًا بِالثَّلاثِ، أفْتى بِهَذا وهَذا.
وَأفْتى بِأنَّها واحِدَةٌ الزُّبَيْرُ بْنُ العَوّامِ وعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، حَكاهُ عَنْهُما ابْنُ وضّاحٍ، وعَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وجْهَهُ وابْنِ مَسْعُودٍ رِوايَتانِ كَما عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، وأمّا التّابِعُونَ فَأفْتى بِهِ عِكْرِمَةُ، رَواهُ إسْماعِيلُ بْنُ إبْراهِيمَ عَنْ أيُّوبَ عَنْهُ، وأفْتى بِهِ طاوُسٌ، وأمّا تابِعُو التّابِعِينَ فَأفْتى بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحاقَ، حَكاهُ الإمامُ أحْمَدُ وغَيْرُهُ عَنْهُ، وأفْتى بِهِ خِلاسُ بْنُ عَمْرٍو والحارِثُ العُكْلِيُّ، وأمّا أتْباعُ تابِعِي التّابِعِينَ فَأفْتى بِهِ داوُد بْنُ عَلِيٍّ وأكْثَرُ أصْحابِهِ، حَكاهُ عَنْهم أبُو المُفْلِسِ وابْنُ حَزْمٍ وغَيْرُهُما، وأفْتى بِهِ بَعْضُ أصْحابِ مالِكٍ، حَكاهُ التِّلْمِسانِيُّ في شَرْحِ تَفْرِيعِ ابْنِ الجَلّابِ قَوْلًا لِبَعْضِ المالِكِيَّةِ.
وَأفْتى بِهِ بَعْضُ الحَنَفِيَّةِ، حَكاهُ أبُو بَكْرٍ الرّازِيّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُقاتِلٍ، وأفْتى بِهِ بَعْضُ أصْحابِ أحْمَدَ، حَكاهُ شَيْخُ الإسْلامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ عَنْهُ، قالَ: وكانَ الجَدُّ يُفْتِي بِهِ أحْيانًا.
وَأمّا الإمامُ أحْمَدُ نَفْسُهُ فَقَدْ قالَ الأثْرَمُ: سَألْت أبا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ: «كانَ الطَّلاقُ الثَّلاثُ عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وأبِي بَكْرٍ وعُمَرَ واحِدَةً» بِأيِّ شَيْءٍ تَدْفَعُهُ؟ قالَ: بِرِوايَةِ النّاسِ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ مِن وُجُوهٍ خِلافَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ عَنْ عِدَّةٍ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّها ثَلاثٌ؛ فَقَدْ صَرَّحَ بِأنَّهُ إنّما تَرَكَ القَوْلَ بِهِ لِمُخالَفَةِ رِوايَةٍ لَهُ، وأصْلُ مَذْهَبِهِ وقاعِدَتِهِ الَّتِي بَنى عَلَيْها أنَّ الحَدِيثَ إذا صَحَّ لَمْ يَرُدَّهُ لِمُخالَفَةِ رِوايَةٍ لَهُ، بَلْ الأخْذُ بِما رَواهُ، كَما فَعَلَ في رِوايَةِ ابْنِ عَبّاسٍ وفَتْواهُ في بَيْعِ الأمَةِ فَأخَذَ بِرِوايَتِهِ أنَّهُ لا يَكُونُ طَلاقًا، وتَرَكَ رَأْيَهُ، وعَلى أصْلِهِ يَخْرُجُ لَهُ قَوْلُ إنّ الثَّلاثَ واحِدَةٌ؛ فَإنَّهُ إذا صَرَّحَ بِأنَّهُ إنّما تَرَكَ الحَدِيثَ لِمُخالَفَةِ الرّاوِي وصَرَّحَ في عِدَّةِ مَواضِعَ أنَّ مُخالَفَةَ الرّاوِي لا تُوجِبُ تَرْكَ الحَدِيثِ خَرَجَ لَهُ في المَسْألَةِ قَوْلانِ، وأصْحابُهُ يُخَرِّجُونَهُ عَلى مَذْهَبِهِ أقْوالًا دُونَ ذَلِكَ بِكَثِيرٍ.
والمَقْصُودُ أنَّ هَذا القَوْلَ قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الكِتابُ والسُّنَّةُ والقِياسُ والإجْماعُ القَدِيمُ، ولَمْ يَأْتِ بَعْدَهُ إجْماعٌ يُبْطِلُهُ، ولَكِنْ رَأى أمِيرُ المُؤْمِنِينَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنَّ النّاسَ قَدْ اسْتَهانُوا بِأمْرِ الطَّلاقِ، وكَثُرَ مِنهم إيقاعُهُ جُمْلَةً واحِدَةً؛ فَرَأى مِن المَصْلَحَةِ عُقُوبَتَهم بِإمْضائِهِ عَلَيْهِمْ؛ لِيَعْلَمُوا أنَّ أحَدَهم إذا أوْقَعَهُ جُمْلَةً بانَتْ مِنهُ المَرْأةُ وحُرِّمَتْ عَلَيْهِ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ نِكاحَ رَغْبَةٍ يُرادُ لِلدَّوامِ لا نِكاحَ تَحْلِيلٍ، فَإنَّهُ كانَ مِن أشَدِّ النّاسِ فِيهِ، فَإذا عَلِمُوا ذَلِكَ كَفُّوا عَنْ الطَّلاقِ المُحَرَّمِ، فَرَأى عُمَرُ أنَّ هَذا مَصْلَحَةٌ لَهم في زَمانِهِ.
وَرَأى أنَّ ما كانُوا عَلَيْهِ في عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ وعَهْدِ الصِّدِّيقِ وصَدْرًا مِن خِلافَتِهِ كانَ الألْيَقَ بِهِمْ؛ لِأنَّهم لَمْ يَتَتابَعُوا فِيهِ، وكانُوا يَتَّقُونَ اللَّهَ في الطَّلاقِ، وقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ مَن اتَّقاهُ مَخْرَجًا، فَلَمّا تَرَكُوا تَقْوى اللَّهِ وتَلاعَبُوا بِكِتابِ اللَّهِ وطَلَّقُوا عَلى غَيْرِ ما شَرَعَهُ اللَّهُ ألْزَمَهم بِما التَزَمُوهُ عُقُوبَةً لَهُمْ؛ فَإنَّ اللَّهَ تَعالى إنّما شَرَعَ الطَّلاقَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، ولَمْ يَشْرَعْهُ كُلَّهُ مَرَّةً واحِدَةً، فَمَن جَمَعَ الثَّلاثَ في مَرَّةٍ واحِدَةٍ فَقَدْ تَعَدّى حُدُودَ اللَّهِ، وظَلَمَ نَفْسَهُ، ولَعِبَ بِكِتابِ اللَّهِ، فَهو حَقِيقٌ أنْ يُعاقَبَ، ويُلْزَمَ بِما التَزَمَهُ، ولا يُقِرُّ عَلى رُخْصَةِ اللَّهِ وسَعَتِهِ، وقَدْ صَعَّبَها عَلى نَفْسِهِ، ولَمْ يَتَّقِ اللَّهَ ولَمْ يُطَلِّقْ كَما أمَرَهُ اللَّهُ وشَرَعَهُ لَهُ، بَلْ اسْتَعْجَلَ فِيما جَعَلَ اللَّهُ لَهُ الأناةَ فِيهِ رَحْمَةً مِنهُ وإحْسانًا، ولَبَسَ عَلى نَفْسِهِ واخْتارَ الأغْلَظَ والأشَدَّ؛ فَهَذا مِمّا تَغَيَّرَتْ بِهِ الفَتْوى لِتَغَيُّرِ الزَّمانِ، وعَلِمَ الصَّحابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - حُسْنَ سِياسَةِ عُمَرَ وتَأْدِيبِهِ لِرَعِيَّتِهِ في ذَلِكَ فَوافَقُوهُ عَلى ما ألْزَمَ بِهِ، وصَرَّحُوا لِمَن اسْتَفْتاهم بِذَلِكَ فَقالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: مَن أتى الأمْرَ عَلى وجْهِهِ فَقَدْ بُيِّنَ لَهُ، ومَن لَبَسَ عَلى نَفْسِهِ جَعَلْنا عَلَيْهِ لَبْسَهُ، واللَّهِ لا تَلْبِسُونَ عَلى أنْفُسِكم ونَتَحَمَّلُهُ مِنكُمْ، هو كَما تَقُولُونَ.
فَلَوْ كانَ وُقُوعُ الثَّلاثِ ثَلاثًا في كِتابِ اللَّهِ وسُنَّةِ رَسُولِهِ لَكانَ المُطَلِّقُ قَدْ أتى الأمْرَ عَلى وجْهِهِ، ولَما كانَ قَدْ لَبَسَ عَلى نَفْسِهِ، ولَما قالَ النَّبِيُّ ﷺ لِمَن فَعَلَ ذَلِكَ «تَلْعَبُ بِكِتابِ اللَّهِ وأنا بَيْنَ أظْهُرِكُمْ»؟
وَلَما تَوَقَّفَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ في الإيقاعِ وقالَ لِلسّائِلِ: إنّ هَذا الأمْرَ ما لَنا فِيهِ قَوْلٌ، فاذْهَبْ إلى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبّاسٍ وأبِي هُرَيْرَةَ، فَلَمّا جاءَ إلَيْهِما قالَ ابْنُ عَبّاسٍ لِأبِي هُرَيْرَةَ: أفْتِهِ فَقَدْ جاءَتْك مُعْضِلَةٌ، ثُمَّ أفْتَياهُ بِالوُقُوعِ.
فالصَّحابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - ومُقَدَّمُهم عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ لَمّا رَأوْا النّاسَ قَدْ اسْتَهانُوا بِأمْرِ الطَّلاقِ وأرْسَلُوا ما بِأيْدِيهِمْ مِنهُ ولَبَسُوا عَلى أنْفُسِهِمْ ولَمْ يَتَّقُوا اللَّهَ في التَّطْلِيقِ الَّذِي شَرَعَهُ لَهم وأخَذُوا بِالتَّشْدِيدِ عَلى أنْفُسِهِمْ ولَمْ يَقِفُوا عَلى ما حُدَّ لَهم ألْزَمُوهم بِما التَزَمُوهُ، وأمْضَوْا عَلَيْهِمْ ما اخْتارُوهُ لِأنْفُسِهِمْ مِن التَّشْدِيدِ الَّذِي وسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ما شَرَعَهُ لَهم بِخِلافِهِ، ولا رَيْبَ أنَّ مَن فَعَلَ هَذا حَقِيقٌ بِالعُقُوبَةِ بِأنْ يُنْفِذَ عَلَيْهِ ما أنْفَذَهُ عَلى نَفْسِهِ؛ إذْ لَمْ يَقْبَلْ رُخْصَةَ اللَّهِ وتَيْسِيرَهُ ومُهْلَتَهُ، ولِهَذا قالَ ابْنُ عَبّاسٍ لِمَن طَلَّقَ مِائَةً: عَصَيْت رَبَّك وبانَتْ مِنك امْرَأتُك؛ إنّك لَمْ تَتَّقِ اللَّهَ فَيَجْعَلُ لَك مَخْرَجًا، ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وأتاهُ رَجُلٌ فَقالَ: إنّ عَمِّي طَلَّقَ ثَلاثًا، فَقالَ: إنّ عَمَّك عَصى اللَّهَ فَأنْدَمَهُ، وأطاعَ الشَّيْطانَ فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، فَقالَ: أفَلا تُحَلِّلُها لَهُ؟ فَقالَ: مَن يُخادِعْ اللَّهَ يَخْدَعْهُ.
فَلْيَتَدَبَّرْ العالِمُ الَّذِي قَصْدُهُ مَعْرِفَةُ الحَقِّ واتِّباعِهِ مِن الشَّرْعِ والقَدَرِ في قَبُولِ الصَّحابَةِ هَذِهِ الرُّخْصَةَ والتَّيْسِيرِ عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وتَقْواهم رَبَّهم تَبارَكَ وتَعالى في التَّطْلِيقِ، فَجَرَتْ عَلَيْهِمْ رُخْصَةُ اللَّهِ وتَيْسِيرُهُ شَرْعًا وقَدَرًا، فَلَمّا رَكِبَ النّاسُ الأُحْمُوقَةَ، وتَرَكُوا تَقْوى اللَّهَ، ولَبَسُوا عَلى أنْفُسِهِمْ، وطَلَّقُوا عَلى غَيْرِ ما شَرَعَهُ اللَّهُ لَهُمْ، أجْرى اللَّهُ عَلى لِسانِ الخَلِيفَةِ الرّاشِدِ والصَّحابَةِ مَعَهُ شَرْعًا وقَدَرَ إلْزامَهم بِذَلِكَ، وإنْفاذَهُ عَلَيْهِمْ، وإبْقاءَ الإصْرِ الَّذِي جَعَلُوهُ هم في أعْناقِهِمْ كَما جَعَلُوهُ، وهَذِهِ أسْرارٌ مِن أسْرارِ الشَّرْعِ والقَدَرِ لا تُناسِبُ عُقُولَ أبْناءِ الزَّمَنِ، فَجاءَ أئِمَّةُ الإسْلامِ، فَمَضَوْا عَلى آثارِ الصَّحابَةِ سالِكِينَ مَسْلَكَهُمْ، قاصِدِينَ رِضاءَ اللَّهِ ورَسُولِهِ وإنْفاذَ دِينِهِ.
فَمِنهم مَن تَرَكَ القَوْلَ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ لِظَنِّهِ أنَّهُ مَنسُوخٌ، وهَذِهِ طَرِيقَةُ الشّافِعِيِّ.
قالَ: فَإنْ كانَ مَعْنى قَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ إنّ الثَّلاثَ كانَتْ تُحْسَبُ عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ واحِدَةً بِمَعْنى أنَّهُ أمْرُ النَّبِيِّ ﷺ فاَلَّذِي يُشْبِهُ أنْ يَكُونَ ابْنُ عَبّاسٍ قَدْ عَلِمَ شَيْئًا فَنُسِخَ.
فَإنْ قِيلَ: فَما دَلَّ عَلى ما وصَفْت؟ قِيلَ: لا يُشْبِهُ أنْ يَكُونَ ابْنُ عَبّاسٍ قَدْ يَرْوِي عَنْ النَّبِيِّ ﷺ شَيْئًا ثُمَّ يُخالِفُهُ بِشَيْءٍ ولَمْ يَعْلَمْهُ كانَ مِن النَّبِيِّ ﷺ فِيهِ خِلافٌ.
فَإنْ قِيلَ: فَلَعَلَّ هَذا شَيْءٌ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ فَقالَ فِيهِ ابْنُ عَبّاسٍ بِقَوْلِ عُمَرَ. قِيلَ: قَدْ عَلِمْنا أنَّ ابْنَ عَبّاسٍ يُخالِفُ عُمَرَ في نِكاحِ المُتْعَةِ، وبَيْعِ الدِّينارِ بِالدِّينارَيْنِ، وبَيْعِ أُمَّهاتِ الأوْلادِ، فَكَيْفَ يُوافِقُهُ في شَيْءٍ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ خِلافُهُ؟
* [فَصْلٌ: فَتْوى الصَّحابِيِّ عَلى خِلافِ ما رَواهُ]
قالَ المانِعُونَ مِن لُزُومِ الثَّلاثِ: النَّسْخُ لا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمالِ، ولا تَرْكُ الحَدِيثِ الصَّحِيحِ المَعْصُومِ لِمُخالَفَةِ راوِيهِ لَهُ؛ فَإنَّ مُخالَفَتَهُ لَيْسَتْ مَعْصُومَةً، وقَدْ قَدَّمَ الشّافِعِيُّ رِوايَةَ ابْنِ عَبّاسٍ في شَأْنِ بَرِيرَةَ عَلى فَتْواهُ الَّتِي تُخالِفُها في كَوْنِ بَيْعِ الأمَةِ طَلاقَها، وأخَذَ هو وأحْمَدُ وغَيْرُهُما بِحَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ «مَن اسْتَقاءَ فَعَلَيْهِ القَضاءُ» وقَدْ خالَفَهُ أبُو هُرَيْرَةَ وأفْتى بِأنَّهُ لا قَضاءَ عَلَيْهِ، وأخَذُوا بِرِوايَةِ ابْنِ عَبّاسٍ «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ أمَرَ أصْحابَهُ أنْ يَرْمُلُوا الأشْواطَ الثَّلاثَةَ وأنْ يَمْشُوا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ» وصَحَّ عَنْهُ أنَّهُ قالَ: لَيْسَ الرَّمَلُ بِسُنَّةٍ، وأخَذُوا بِرِوايَةِ عائِشَةَ في مَنعِ الحائِضِ مِن الطَّوافِ، وقَدْ صَحَّ عَنْها أنَّ امْرَأةً حاضَتْ وهي تَطُوفُ مَعَها فَأتَمَّتْ بِها عائِشَةُ بَقِيَّةَ طَوافِها، رَواهُ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ: ثنا أبُو عَوانَةَ عَنْ أبِي بِشْرٍ عَنْ عَطاءٍ، فَذَكَرَهُ، وأخَذُوا بِرِوايَةِ ابْنِ عَبّاسٍ في تَقْدِيمِ الرَّمْيِ والحَلْقِ والنَّحْرِ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ، وأنَّهُ لا حَرَجَ في ذَلِكَ، وقَدْ أفْتى ابْنُ عَبّاسٍ أنَّ فِيهِ دَمًا، فَلَمْ يَلْتَفِتُوا إلى قَوْلِهِ وأخَذُوا بِرِوايَتِهِ، وأخَذَتْ الحَنَفِيَّةُ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ «كُلُّ الطَّلاقِ جائِزٌ إلّا طَلاقَ المَعْتُوهِ» قالُوا: وهَذا صَرِيحٌ في طَلاقِ المُكْرَهِ، وقَدْ صَحَّ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ: لَيْسَ لِمُكْرَهٍ ولا لِمُضْطَهَدٍ طَلاقٌ، وأخَذُوا هم والنّاسُ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أنَّهُ اشْتَرى جَمَلًا شارِدًا بِأصَحِّ سَنَدٍ يَكُونُ، وأخَذَ الحَنَفِيَّةُ والحَنابِلَةُ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وجْهَهُ وابْنِ عَبّاسٍ «صَلاةُ الوُسْطى صَلاةُ العَصْرِ» وقَدْ ثَبَتَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وجْهَهُ وابْنِ عَبّاسٍ أنَّها صَلاةُ الصُّبْحِ، وأخَذَ الأئِمَّةُ الأرْبَعَةُ وغَيْرُهم بِخَبَرِ عائِشَةَ في التَّحْرِيمِ بِلَبَنِ الفَحْلِ، وقَدْ صَحَّ عَنْها خِلافُهُ، وأنَّهُ كانَ يَدْخُلُ عَلَيْها مَن أرْضَعَتْهُ بَناتُ إخْوَتِها، ولا يَدْخُلُ عَلَيْها مَن أرْضَعَتْهُ نِساءُ إخْوَتِها، وأخَذَ الحَنَفِيَّةُ بِرِوايَةِ عائِشَةَ «فُرِضَتْ الصَّلاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ» وصَحَّ عَنْها أنَّها أتَمَّتْ الصَّلاةَ في السَّفَرِ، فَلَمْ يَدْعُوا رِوايَتِها لِرَأْيِها، واحْتَجُّوا بِحَدِيثِ جابِرٍ وأبِي مُوسى في الأمْرِ بِالوُضُوءِ مِن الضَّحِكِ في الصَّلاةِ، وقَدْ صَحَّ عَنْهُما أنَّهُما قالا: لا وُضُوءَ مِن ذَلِكَ، وأخَذَ النّاسُ بِحَدِيثِ عائِشَةَ في تَرْكِ إيجابِ الوُضُوءِ مِمّا مَسَّتْ النّارُ، وقَدْ صَحَّ عَنْ عائِشَةَ بِأصَحِّ إسْنادٍ إيجابُ الوُضُوءِ لِلصَّلاةِ مِن أكْلِ كُلِّ ما مَسَّتْ النّارُ، وأخَذَ النّاسُ بِأحادِيثِ عائِشَةَ وابْنِ عَبّاسٍ وأبِي هُرَيْرَةَ في المَسْحِ عَلى الخُفَّيْنِ، وقَدْ صَحَّ عَنْ ثَلاثَتِهِمْ المَنعُ مِن المَسْحِ جُمْلَةً؛ فَأخَذُوا بِرِوايَتِهِمْ وتَرَكُوا رَأْيَهم.
واحْتَجُّوا في إسْقاطِ القِصاصِ عَنْ الأبِ بِحَدِيثِ عُمَرَ «لا يُقْتَصُّ لِوَلَدٍ مِن والِدِهِ» وقَدْ قالَ عُمَرُ: لَأقُصَّنَّ لِلْوَلَدِ مِن الوالِدِ؛ فَلَمْ يَأْخُذُوا بِرَأْيِهِ بَلْ بِرِوايَتِهِ، واحْتَجَّتْ الحَنَفِيَّةُ والمالِكِيَّةُ في أنَّ الخُلْعَ طَلاقٌ بِحَدِيثَيْنِ لا يَصِحّانِ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، وقَدْ صَحَّ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ بِأصَحِّ إسْنادٍ يَكُونُ «أنَّ الخُلْعَ فَسْخٌ لا طَلاقٌ» وأخَذَتْ الحَنَفِيَّةُ بِحَدِيثٍ لا يَصِحُّ بَلْ هو مِن وضْعِ حِزامِ بْنِ عُثْمانَ ومُبَشِّرِ بْنِ عُبَيْدٍ الحَلَبِيِّ، وهو حَدِيثُ جابِرٍ «لا يَكُونُ صَداقٌ أقَلَّ مِن عَشَرَةِ دَراهِمَ» وقَدْ صَحَّ عَنْ جابِرٍ جَوازُ النِّكاحِ بِما قَلَّ أوْ كَثُرَ، واحْتَجُّوا هم وغَيْرُهم عَلى المَنعِ مِن بَيْعِ أُمَّهاتِ الأوْلادِ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ المَرْفُوعِ، وقَدْ صَحَّ عَنْهُ جَوازُ بَيْعِهِنَّ؛ فَقَدَّمُوا رِوايَتَهُ الَّتِي لَمْ تَثْبُتْ عَلى فَتْواهُ الصَّحِيحَةِ عَنْهُ، وأخَذَتْ الحَنابِلَةُ وغَيْرُهم بِخَبَرِ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ عَنْ عُمَرَ أنَّهُ ألْحَقَ الوَلَدَ بِأبَوَيْنِ، وقَدْ خالَفَهُ سَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ؛ فَلَمْ يَعْتَدُّوا بِخِلافِهِ، وقَدْ صَحَّ عَنْ عُمَرَ وعُثْمانَ ومُعاوِيَةَ «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ»، وصَحَّ عَنْهم النَّهْيُ عَنْ التَّمَتُّعِ، فَأخَذَ النّاسُ بِرِوايَتِهِمْ وتَرَكُوا رَأْيَهُمْ، وأخَذَ النّاسُ بِحَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ في البَحْرِ «هُوَ الطَّهُورُ ماؤُهُ الحِلُّ مَيْتَتُهُ» وقَدْ رَوى سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ في سُنَنِهِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّهُ قالَ: ماءانِ لا يُجْزِئانِ في غُسْلِ الجَنابَةِ ماءُ البَحْرِ وماءُ الحَمّامِ، وأخَذَتْ الحَنابِلَةُ والشّافِعِيَّةُ بِحَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ في الأمْرِ بِغَسْلِ الإناءِ مِن وُلُوغِ الكَلْبِ، وقَدْ صَحَّ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ما رَواهُ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ في سُنَنُهُ أنَّ أبا هُرَيْرَةَ سُئِلَ عَنْ الحَوْضِ يَلَغُ فِيهِ الكَلْبُ ويَشْرَبُ مِنهُ الحِمارُ، فَقالَ: لا يُحَرِّمُ الماءَ شَيْءٌ، وأخَذَتْ الحَنَفِيَّةُ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وجْهَهُ «لا زَكاةَ فِيما زادَ عَلى المِائَتَيْ دِرْهَمٍ حَتّى يَبْلُغَ أرْبَعِينَ دِرْهَمًا» مَعَ ضَعْفِ الحَدِيثِ بِالحَسَنِ بْنِ عُمارَةَ، وقَدْ صَحَّ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وجْهَهُ أنَّ ما زادَ عَلى المِائَتَيْنِ فَفِيهِ الزَّكاةُ بِحِسابِهِ، رَواهُ عَبْدُ الرَّزّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أبِي إسْحاقَ السَّبِيعِيِّ عَنْ عاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ عَنْهُ.
وَهَذا بابٌ يَطُولُ تَتَبُّعُهُ، وتَرى كَثِيرًا مِن النّاسِ إذا جاءَ الحَدِيثُ يُوافِقُ قَوْلَ مَن قَلَّدَهُ وقَدْ خالَفَهُ رِوايَةً يَقُولُ: الحُجَّةُ فِيما رَوى، لا في قَوْلِهِ، فَإذا جاءَ قَوْلُ الرّاوِي مُوافِقًا لِقَوْلِ مَن قَلَّدَهُ والحَدِيثُ بِخِلافِهِ قالَ: لَمْ يَكُنْ الرّاوِي يُخالِفُ ما رَواهُ إلّا وقَدْ صَحَّ عِنْدَهُ نَسْخُهُ، وإلّا كانَ قَدْحًا في عَدالَتِهِ، فَيَجْمَعُونَ في كَلامِهِمْ بَيْنَ هَذا وهَذا، بَلْ قَدْ رَأيْنا في البابِ الواحِدِ، وهَذا مِن أقْبَحِ التَّناقُضِ، واَلَّذِي نَدِينُ لِلَّهِ بِهِ ولا يَسَعُنا غَيْرُهُ وهو القَصْدُ في هَذا البابِ أنَّ الحَدِيثَ إذا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ولَمْ يَصِحَّ عَنْهُ حَدِيثٌ آخَرَ يَنْسَخُهُ أنَّ الفَرْضَ عَلَيْنا وعَلى الأُمَّةِ الأخْذُ بِحَدِيثِهِ وتَرْكُ كُلِّ ما خالَفَهُ، ولا نَتْرُكُهُ لِخِلافِ أحَدٍ مِن النّاسِ كائِنًا مَن كانَ لا رِوايَةً ولا غَيْرَهُ؛ إذْ مِن المُمْكِنِ أنْ يَنْسى الرّاوِي الحَدِيثَ، أوْ لا يَحْضُرُهُ وقْتَ الفُتْيا، أوْ لا يَتَفَطَّنُ لِدَلالَتِهِ عَلى تِلْكَ المَسْألَةِ، أوْ يَتَأوَّلُ فِيهِ تَأْوِيلًا مَرْجُوحًا، أوْ يَقُومُ في ظَنِّهِ ما يُعارِضُهُ ولا يَكُونُ مُعارِضًا في نَفْسِ الأمْرِ، أوْ يُقَلِّدُ غَيْرَهُ في فَتْواهُ بِخِلافِهِ لِاعْتِقادِهِ أنَّهُ أعْلَمُ مِنهُ وأنَّهُ إنّما خالَفَهُ لِما هو أقْوى مِنهُ، ولَوْ قُدِّرَ انْتِفاءُ ذَلِكَ كُلِّهِ، ولا سَبِيلَ إلى العِلْمِ بِانْتِفائِهِ ولا ظَنِّهِ، لَمْ يَكُنْ الرّاوِي مَعْصُومًا، ولَمْ تُوجَبْ مُخالَفَتُهُ لِما رَواهُ سُقُوطَ عَدالَتِهِ حَتّى تَغْلِبَ سَيِّئاتُهُ حَسَناتِهِ، وبِخِلافِ هَذا الحَدِيثِ الواحِدِ لا يَحْصُلُ لَهُ ذَلِكَ.
* [فَصْلٌ: وجْهُ تَغَيُّرِ الفَتْوى بِتَغَيُّرِ الأزْمِنَةِ والأحْوالِ]
إذا عُرِفَ هَذا فَهَذِهِ المَسْألَةُ مِمّا تَغَيَّرَتْ الفَتْوى بِها بِحَسَبِ الأزْمِنَةِ كَما عَرَفْتَ؛ لِما رَأتْهُ الصَّحابَةُ مِن المَصْلَحَةِ؛ لِأنَّهم رَأوْا مَفْسَدَةَ تَتابُعِ النّاسِ في إيقاعِ الثَّلاثِ لا تَنْدَفِعُ إلّا بِإمْضائِها عَلَيْهِمْ، فَرَأوْا مَصْلَحَةَ الإمْضاءِ أقْوى مِن مَفْسَدَةِ الوُقُوعِ، ولَمْ يَكُنْ بابُ التَّحْلِيلِ الَّذِي لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فاعِلَهُ مَفْتُوحًا بِوَجْهٍ ما، بَلْ كانُوا أشَدَّ خَلْقِ اللَّهِ في المَنعِ مِنهُ، وتَوَعَّدَ عُمَرُ فاعِلَهُ بِالرَّجْمِ، وكانُوا عالِمِينَ بِالطَّلاقِ المَأْذُونِ فِيهِ وغَيْرِهِ، وأمّا في هَذِهِ الأزْمانِ الَّتِي قَدْ شَكَتْ الفُرُوجُ فِيها إلى رَبِّها مِن مَفْسَدَةِ التَّحْلِيلِ، وقُبْحِ ما يَرْتَكِبُهُ المُحَلِّلُونَ مِمّا هو رَمَدٌ بَلْ عَمًى في عَيْنِ الدِّينِ وشَجًى في حُلُوقِ المُؤْمِنِينَ: مِن قَبائِحَ تُشْمِتُ أعْداءَ الدِّينِ بِهِ وتَمْنَعُ كَثِيرًا مِمَّنْ يُرِيدُ الدُّخُولَ فِيهِ بِسَبَبِهِ، بِحَيْثُ لا يُحِيطُ بِتَفاصِيلِها خِطابٌ، ولا يَحْصُرُها كِتابٌ، يَراها المُؤْمِنُونَ كُلُّهم مِن أقْبَحِ القَبائِحِ، ويَعُدُّونَها مِن أعْظَمِ الفَضائِحِ، قَدْ قَلَبَتْ مِن الدِّينِ رَسْمَهُ، وغَيَّرَتْ مِنهُ اسْمَهُ، وضَمَّخَ التَّيْسُ المُسْتَعارُ فِيها المُطَلَّقَةَ بِنَجاسَةِ التَّحْلِيلِ، وقَدْ زَعَمَ أنَّهُ قَدْ طَيَّبَها لِلْحَلِيلِ، فَيا لِلَّهِ العَجَبُ، أيُّ طِيبٍ أعارَها هَذا التَّيْسُ المَلْعُونُ؟ وأيُّ مَصْلَحَةٍ حَصَلَتْ لَها ولِمُطَلِّقِها بِهَذا الفِعْلِ الدُّونِ؟ أتَرَوْنَ وُقُوفَ الزَّوْجِ المُطَلِّقِ أوْ الوَلِيِّ عَلى البابِ والتَّيْسُ المَلْعُونُ قَدْ حَلَّ إزارَها وكَشَفَ النِّقابَ وأخَذَ في ذَلِكَ المَرْتَعِ والزَّوْجُ أوْ الوَلِيُّ يُنادِيه: لَمْ يُقَدَّمْ إلَيْك هَذا الطَّعامُ لِتَشْبَعَ، فَقَدْ عَلِمْت أنْتَ والزَّوْجَةُ ونَحْنُ والشُّهُودُ والحاضِرُونَ والمَلائِكَةُ الكاتِبُونَ ورَبُّ العالَمِينَ أنَّك لَسْت مَعْدُودًا مِن الأزْواجِ، ولا لِلْمَرْأةِ أوْ أوْلِيائِها بِك رِضًا ولا فَرَحٌ ولا ابْتِهاجٌ، وإنَّما أنْتَ بِمَنزِلَةِ التَّيْسِ المُسْتَعارِ لِلضِّرابِ، الَّذِي لَوْلا هَذِهِ البَلْوى لَما رَضِينا وُقُوفَك عَلى البابِ؛ فالنّاسُ يُظْهِرُونَ النِّكاحَ ويُعْلِنُونَهُ فَرَحًا وسُرُورًا، ونَحْنُ نَتَواصى بِكِتْمانِ هَذا الدّاءِ العُضالِ ونَجْعَلُهُ أمْرًا مَسْتُورًا؛ بِلا نِثارٍ ولا دُفٍّ ولا خِوانٍ ولا إعْلانٍ، بَلْ التَّواصِي بِهَسٍّ ومَسٍّ والإخْفاءِ والكِتْمانِ؛ فالمَرْأةُ تُنْكَحُ لِدِينِها وحَسَبِها ومالِها وجَمالِها، والتَّيْسُ المُسْتَعارُ لا يَسْألُ عَنْ شَيْءٍ مِن ذَلِكَ، فَإنَّهُ لا يُمْسِكُ بِعِصْمَتِها، بَلْ قَدْ دَخَلَ عَلى زَوالِها، واللَّهُ تَعالى قَدْ جَعَلَ كُلَّ واحِدٍ مِن الزَّوْجَيْنِ سَكَنًا لِصاحِبِهِ، وجَعَلَ بَيْنَهُما مَوَدَّةً ورَحْمَةً لِيَحْصُلَ بِذَلِكَ مَقْصُودُ هَذا العَقْدِ العَظِيمِ، وتَتِمُّ بِذَلِكَ المَصْلَحَةُ الَّتِي شَرَعَهُ لِأجْلِها العَزِيزُ الحَكِيمُ، فَسَلْ التَّيْسَ المُسْتَعارَ: هَلْ لَهُ مِن ذَلِكَ نَصِيبٌ، أوْ هو مِن حِكْمَةِ هَذا العَقْدِ ومَقْصُودِهِ ومَصْلَحَتِهِ أجْنَبِيٌّ غَرِيبٌ؟
وَسَلْهُ: هَلْ اتَّخَذَ هَذِهِ المُصابَةَ حَلِيلَةً وفِراشًا يَأْوِي إلَيْهِ؟ ثُمَّ سَلْها: هَلْ رَضِيَتْ بِهِ قَطُّ زَوْجًا وبَعْلًا تَعُولُ في نَوائِبِها عَلَيْهِ؟ وسَلْ أُوَلِي التَّمْيِيزِ والعُقُولِ: هَلْ تَزَوَّجَتْ فُلانَةُ بِفُلانٍ؟ وهَلْ يُعَدُّ هَذا نِكاحًا في شَرْعٍ أوْ عَقْلٍ أوْ فِطْرَةِ إنْسانٍ؟ وكَيْفَ يَلْعَنُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ رَجُلًا مِن أُمَّتِهِ نَكَحَ نِكاحًا شَرْعِيًّا صَحِيحًا، ولَمْ يَرْتَكِبْ في عَقْدِهِ مُحَرَّمًا ولا قَبِيحًا؟ وكَيْفَ يُشْبِهُهُ بِالتَّيْسِ المُسْتَعارِ، وهو مِن جُمْلَة المُحْسِنِينَ الأبْرارِ؟ وكَيْفَ تُعَيَّرُ بِهِ المَرْأةُ طُولَ دَهْرِها بَيْنَ أهْلِها والجِيرانِ؛ وتَظَلُّ ناكِسَةً رَأْسَها إذا ذُكِرَ ذَلِكَ التَّيْسُ بَيْنَ النِّسْوانِ؟ وسَلْ التَّيْسَ المُسْتَعارَ: هَلْ حَدَّثَ نَفْسَهُ وقْتَ هَذا العَقْدِ الَّذِي هو شَقِيقُ النِّفاقِ، بِنَفَقَةٍ أوْ كِسْوَةٍ أوْ وزْنِ صَداقٍ؟ وهَلْ طَمِعَتْ المُصابَةُ مِنهُ في شَيْءٍ مِن ذَلِكَ، أوْ حَدَّثَتْ نَفْسَها بِهِ هُنالِكَ؟ وهَلْ طَلَبَ مِنها ولَدًا نَجِيبًا واتَّخَذَتْهُ عَشِيرًا وحَبِيبًا؟ وسَلْ عُقُولَ العالَمِينَ وفِطَرَهُمْ: هَلْ كانَ خَيْرُ هَذِهِ الأُمَّةِ أكْثَرَهم تَحْلِيلًا، أوْ كانَ المُحَلَّلُ الَّذِي لَعَنَهُ اللَّهُ ورَسُولُهُ أهْداهم سَبِيلًا؟
وَسَلْ التَّيْسَ المُسْتَعارَ ومَن ابْتُلِيَتْ بِهِ: هَلْ تَجَمَّلَ أحَدٌ مِنهُما بِصاحِبِهِ كَما يَتَجَمَّلُ الرِّجالُ بِالنِّساءِ والنِّساءُ بِالرِّجالِ، أوْ كانَ لِأحَدِهِما رَغْبَةٌ في صاحِبِهِ بِحَسَبٍ أوْ مالٍ أوْ جَمالٍ؟ وسَلْ المَرْأةَ: هَلْ تَكْرَهُ أنْ يَتَزَوَّجَ عَلَيْها هَذا التَّيْسُ المُسْتَعارُ أوْ يَتَسَرّى، أوْ تَكْرَهُ أنْ تَكُونَ تَحْتَهُ امْرَأةٌ غَيْرُها أُخْرى، أوْ تَسْألُهُ عَنْ مالِهِ وصَنْعَتِهِ أوْ حُسْنِ عِشْرَتِهِ وسَعَةِ نَفَقَتِهِ؟ وسَلْ التَّيْسَ المُسْتَعارَ: هَلْ سَألَ قَطُّ عَمّا يَسْألُهُ عَنْهُ مَن قَصَدَ حَقِيقَةَ النِّكاحِ، أوْ يَتَوَسَّلُ إلى بَيْتِ أحْمائِهِ بِالهَدِيَّةِ والحُمُولَةِ والنَّقْدِ الَّذِي يَتَوَسَّلُ بِهِ خاطِبُ المِلاحِ؟ وسَلْهُ: هَلْ هو أبُو يَأْخُذُ أوْ أبُو يُعْطِي؟ وهَلْ قَوْلُهُ عِنْدَ قِراءَةِ أُبَيٍّ جادَ هَذا العَقْدَ: خُذِي نَفَقَةَ هَذا العُرْسِ أوْ حُطِّي؟
وَسَلْهُ: هَلْ تَحَمَّلَ مِن كُلْفَةِ هَذا العَقْدِ خُذِي نَفَقَةَ هَذا العُرْسِ أوْ حُطِّي؟] وسَلْهُ عَنْ ولِيمَةِ عُرْسِهِ: هَلْ أوْلَمَ ولَوْ بِشاةٍ؟ وهَلْ دَعا إلَيْها أحَدًا مِن أصْحابِهِ فَقَضى حَقَّهُ وأتاهُ؟ وسَلْهُ: هَلْ تَحَمَّلَ مِن كُلْفَةِ هَذا العَقْدِ ما يَتَحَمَّلُهُ المُتَزَوِّجُونَ، أمْ جاءَهُ كَما جَرَتْ بِهِ عادَةُ النّاسِ الأصْحابُ والمُهَنَّئُونَ؟ وهَلْ قِيلَ لَهُ بارَكَ اللَّهُ لَكُما وعَلَيْكُما وجَمَعَ بَيْنَكُما في خَيْرٍ وعافِيَةٍ، أمْ لَعَنَ اللَّهُ المُحَلِّلَ والمُحَلَّلَ لَهُ لَعْنَةً تامَّةً وافِيَةً؟
* (فَصْلٌ)
ثُمَّ سَلْ مَن لَهُ أدْنى اطِّلاعٍ عَلى أحْوالِ النّاسِ: كَمْ مِن حُرَّةٍ مَصُونَةٍ أنْشَبَ فِيها المُحَلِّلُ مَخالِبَ إرادَتِهِ فَصارَتْ لَهُ بَعْدَ الطَّلاقِ مِن الأخْدانِ وكانَ بَعْلُها مُنْفَرِدًا بِوَطْئِها فَإذا هو والمُحَلِّلُ فِيها بِبَرَكَةِ التَّحْلِيلِ شَرِيكانِ؟ فَلَعَمْرُ اللَّهِ كَمْ أخَرَجَ التَّحْلِيلُ مُخَدَّرَةً مِن سِتْرِها إلى البِغاءِ، وألْقاها بَيْنَ بَراثِنِ العُشَراءِ والحُرَفاءِ؟ ولَوْلا التَّحْلِيلُ لَكانَ مَنالُ الثُّرَيّا دُونَ مَنالِها، والتَّدَرُّعُ بِالأكْفانِ دُونَ التَّدَرُّعِ بِجَمالِها، وعِناقُ القَنا دُون عِناقِها، والأخْذُ بِذِراعِ الأسَدِ دُونَ الأخْذِ بِساقِها، وسَلْ أهْلَ الخِبْرَةِ: كَمْ عَقَدَ المُحَلِّلُ عَلى أُمٍّ وابْنَتِها؟ وكَمْ جَمَعَ ماءَهُ في أرْحامِ ما زادَ عَلى الأرْبَعِ وفي رَحِمِ الأُخْتَيْنِ؟ وذَلِكَ مُحَرَّمٌ باطِلُ في المَذْهَبَيْنِ، وهَذِهِ المَفْسَدَةُ في كُتُبِ مَفاسِدِ التَّحْلِيلِ لا يَنْبَغِي أنْ تُفْرَدَ بِالذِّكْرِ وهي كَمَوْجَةٍ واحِدَةٍ مِن الأمْواجِ، ومَن يَسْتَطِيعُ عَدَّ أمْواجِ البَحْرِ؟، وكَمْ مِن امْرَأةٍ كانَتْ قاصِرَةَ الطَّرْفِ عَلى بَعْلِها، فَلَمّا ذاقَتْ عُسَيْلَةَ المُحَلِّلِ خَرَجَتْ عَلى وجْهِها فَلَمْ يَجْتَمِعْ شَمْلَ الإحْصانِ والعِفَّةِ بَعْدَ ذَلِكَ بِشَمْلِها، وما كانَ هَذا سَبِيلُهُ فَكَيْفَ يَحْتَمِلُ أكْمَلُ الشَّرائِعِ وأحْكَمُها تَحْلِيلَهُ؟ فَصَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُهُ عَلى مَن صَرَّحَ بِلَعْنَتِهِ، وسَمّاهُ بِالتَّيْسِ المُسْتَعارِ مِن بَيْنِ فُسّاقِ أُمَّتِهِ، كَما شَهِدَ بِهِ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وجْهَهُ وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وأبُو هُرَيْرَةَ وجابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وعُقْبَةُ بْنُ عامِرٍ وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبّاسٍ وأخْبَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أنَّهم كانُوا يَعُدُّونَهُ عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ سِفاحًا.
أمّا ابْنُ مَسْعُودٍ فَفي مُسْنَدِ الإمامِ أحْمَدَ وسُنَنِ النَّسائِيّ وجامِعِ التِّرْمِذِيِّ عَنْهُ قالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ المُحَلِّلَ والمُحَلَّلُ لَهُ» قالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وقالَ سُفْيانُ الثَّوْرِيُّ: حَدَّثَنِي أبُو قَيْسٍ الأوْدِيُّ عَنْ هُزَيْلِ بْنِ شُرَحْبِيلَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الواشِمَةَ والمُسْتَوْشِمَة، والواصِلَةَ والمَوْصُولَةَ، والمُحَلِّلَ والمُحَلَّلَ لَهُ، وآكِلَ الرِّبا ومُوكِلَهُ»
وَرَواهُ النَّسائِيّ والإمامُ أحْمَدُ، ورَوى التِّرْمِذِيُّ عَنْهُ «لَعَنَ المُحَلِّلَ» وصَحَّحَهُ، ثُمَّ قالَ: والعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ أهْلِ العِلْمِ مِن أصْحابِ النَّبِيِّ ﷺ مِنهم عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ وعُثْمانُ بْنُ عَفّانَ وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وهو قَوْلُ الفُقَهاءِ مِن التّابِعِينَ، ورَواهُ الإمامُ أحْمَدُ مِن حَدِيثِ أبِي الواصِلِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ «لَعَنَ المُحَلِّلَ والمُحَلَّلَ لَهُ»، وفي مُسْنَدِ الإمامَ أحْمَدَ والنَّسائِيُّ مِن حَدِيث الأعْمَشِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ الحارِثِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قالَ: «آكِلُ الرِّبا ومُوكِلُهُ وشاهِداهُ وكاتِبُهُ إذا عَلِمُوا بِهِ، والواصِلَةُ والمُسْتَوْشِمَةُ، ولاوِي الصَّدَقَةِ والمُعْتَدِي فِيها، والمُرْتَدُّ عَلى عَقِبَيْهِ أعْرابِيًّا بَعْدَ هِجْرَتِهِ، مَلْعُونُونَ عَلى لِسانِ مُحَمَّدٍ ﷺ يَوْمَ القِيامَةِ». وأمّا حَدِيثُ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وجْهَهُ فَفي المُسْنَدِ وسُنَنِ أبِي داوُد والتِّرْمِذِيِّ وابْنِ ماجَهْ مِن حَدِيثِ الشَّعْبِيِّ عَنْ الحارِثِ عَنْ عَلِيٍّ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ «أنَّهُ لَعَنَ المُحَلِّلَ والمُحَلَّلَ لَهُ».
وَأمّا حَدِيثُ أبِي هُرَيْرَةَ فَفي المُسْنَدِ لِلْإمامِ أحْمَدَ ومُسْنَدِ أبِي بَكْرِ بْنِ أبِي شَيْبَةَ مِن حَدِيثِ عُثْمانَ بْنِ الأخْنَسِيِّ عَنْ المَقْبُرِيِّ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَعَنَ اللَّهُ المُحَلِّلَ والمُحَلَّلُ لَهُ» قالَ يَحْيى بْنُ مَعِينٍ: عُثْمانُ بْنُ الأخْنَسِيُّ ثِقَةٌ، واَلَّذِي رَواهُ عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ المَخْرَمِيُّ ثِقَةٌ مِن رِجالِ مُسْلِمٍ، وثَّقَهُ أحْمَدُ ويَحْيى وعَلِيٌّ وغَيْرُهُمْ؛ فالإسْنادُ جَيِّدٌ، وفي كِتابِ العِلَلِ لِلتِّرْمِذِيِّ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ثنا مُعَلّى بْنُ مَنصُورٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ المَخْرَمِيِّ عَنْ عُثْمانَ بْنِ مُحَمَّدٍ الأخْنَسِيِّ عَنْ سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ «لَعَنَ المُحَلِّلَ والمُحَلَّلَ لَهُ» قالَ التِّرْمِذِيُّ: سَألْت أبا عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدَ بْنَ إسْماعِيلَ البُخارِيَّ عَنْ هَذا الحَدِيثِ، فَقالَ: هو حَدِيثٌ حَسَنٌ، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ المَخْرَمِيُّ صَدُوقٌ، وعُثْمانُ بْنُ مُحَمَّدٍ الأخْنَسِيُّ ثِقَةٌ، وكُنْت أظُنُّ أنَّ عُثْمانَ لَمْ يَسْمَعْ مِن سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ، وقالَ شَيْخُ الإسْلامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: هَذا إسْنادٌ جَيِّدٌ. وأمّا حَدِيثُ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَفي جامِعِ التِّرْمِذِيِّ مِن حَدِيثِ مُجالِدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ «لَعَنَ المُحَلِّلَ والمُحَلَّلَ لَهُ» ومُجالِدٌ وإنْ كانَ غَيْرُهُ أقْوى مِنهُ فَحَدِيثُهُ شاهِدٌ ومُقَوٍّ. وأمّا حَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عامِرٍ فَفي سُنَنِ ابْنِ ماجَهْ عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «ألا أُخْبِرُكم بِالتَّيْسِ المُسْتَعارِ؟ قالُوا: بَلى يا رَسُولَ اللَّهِ. قالَ: هو المُحَلِّلُ، لَعَنَ اللَّهُ المُحَلِّلَ والمُحَلَّلَ لَهُ» رَواهُ الحاكِمُ في صَحِيحِهِ مِن حَدِيثِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ مِشْرَحِ بْنِ هاعانَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عامِرٍ، فَذَكَرَهُ، وقَدْ أُعِلَّ هَذا الحَدِيثُ بِثَلاثِ عِلَلٍ؛ إحْداها: أنَّ أبا حاتِمٍ البُسْتِيَّ ضَعَّفَ مِشْرَحَ بْنَ هاعانَ.
والعِلَّةُ الثّانِيَةُ ما حَكاهُ التِّرْمِذِيُّ في كِتابِ العِلَلِ عَنْ البُخارِيِّ فَقالَ: سَألْت أبا عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدَ بْنَ إسْماعِيلَ البُخارِيَّ عَنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صالِحٍ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ عَنْ مِشْرَحِ بْنِ هاعانَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عامِرٍ قالَ قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «ألا أُخْبِرُكم بِالتَّيْسِ المُسْتَعارِ، هو المُحَلِّلُ والمُحَلَّلُ لَهُ، ولَعَنَ اللَّهُ المُحَلِّلَ والمُحَلَّلَ لَهُ» فَقالَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صالِحٍ لَمْ يَكُنْ أخْرَجَهُ في أيّامِنا، ما أرى اللَّيْثَ سَمِعَهُ مِن مِشْرَحِ بْنِ هاعانَ؛ لِأنَّ حَيْوَةَ يَرْوِي عَنْ بَكْرِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ مِشْرَحٍ.
والعِلَّةُ الثّالِثَةُ: ما ذَكَرَها الجُوزَجانِيُّ في تَرْجَمَتِهِ فَقالَ: كانُوا يُنْكِرُونَ عَلى عُثْمانَ هَذا الحَدِيثَ إنْكارًا شَدِيدًا؛ فَأمّا العِلَّةُ الأُولى فَقالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الواحِدِ المَقْدِسِيُّ: مِشْرَحٌ قَدْ وثَّقَهُ يَحْيى بْنُ مَعِينٍ في رِوايَةِ عُثْمانَ بْنِ سَعِيدٍ، وابْنِ مَعِينٍ أعْلَمُ بِالرِّجالِ مِن ابْنِ حِبّانَ، قُلْت: وهو صَدُوقٌ عِنْدَ الحُفّاظِ، لَمْ يَتَّهِمْهُ أحَدٌ ألْبَتَّةَ، ولا أطْلَقَ عَلَيْهِ أحَدٌ مِن أهْلِ الحَدِيثِ قَطُّ أنَّهُ ضَعِيفٌ، ولا ضَعَّفَهُ ابْنُ حِبّانَ، وإنَّما يُقالُ: يَرْوِي عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عامِرٍ مَناكِيرَ لا يُتابَعُ عَلَيْها؛ فالصَّوابُ تَرْكُ ما انْفَرَدَ بِهِ، وانْفَرَدَ ابْنُ حِبّانَ مِن بَيْنِ أهْلِ الحَدِيثِ بِهَذا القَوْلِ فِيهِ، وأمّا العِلَّةُ الثّانِيَةُ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ صالِحٍ قَدْ صَرَّحَ بِأنَّهُ سَمِعَهُ مِن اللَّيْثِ، وكَوْنُهُ لَمْ يُخْرِجْهُ وقْتَ اجْتِماعِ البُخارِيِّ بِهِ لا يَضُرُّهُ شَيْئًا؛ وأمّا قَوْلُهُ: " إنّ حَيْوَةَ يَرْوِي عَنْ بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ شُرَيْحٍ المِصْرِيِّ عَنْ مِشْرَحٍ " فَإنَّهُ يُرِيدُ [بِهِ] أنَّ حَيْوَةَ مِن أقْرانِ اللَّيْثِ أوْ أكْبَرَ مِنهُ، وإنَّما رَوى عَنْ بَكْرِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ مِشْرَحٍ، وهَذا تَعْلِيلٌ قَوِيٌّ، ويُؤَكِّدُهُ أنَّ اللَّيْثَ قالَ " قالَ مِشْرَحٌ " ولَمْ يَقُلْ حَدَّثَنا، ولَيْسَ بِلازِمٍ؛ فَإنَّ اللَّيْثَ كانَ مُعاصِرًا لِمِشْرَحٍ وهو في بَلَدِهِ، وطَلَبُ اللَّيْثُ العِلْمَ وجَمْعُهُ لَمْ يَمْنَعْهُ أنْ لا يَسْمَعَ مِن مِشْرَحٍ حَدِيثَهُ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عامِرٍ وهو مَعَهُ في البَلَدِ. وأمّا التَّعْلِيلُ الثّالِثُ فَقالَ شَيْخُ الإسْلامِ: إنْكارُ مَن أنْكَرَ هَذا الحَدِيثَ عَلى عُثْمانَ غَيْرُ جَيِّدٍ، وإنَّما هو لِتَوَهُّمِ انْفِرادِهِ بِهِ عَنْ اللَّيْثِ وظَنِّهِمْ أنَّهُ لَعَلَّهُ أخْطَأ فِيهِ حَيْثُ لَمْ يَبْلُغْهم عَنْ غَيْرِهِ مِن أصْحابِ اللَّيْثِ، كَما قَدْ يَتَوَهَّمُ بَعْضُ مَن يَكْتُبُ الحَدِيثَ أنَّ الحَدِيثَ إذا انْفَرَدَ بِهِ عَنْ الرَّجُلِ مَن لَيْسَ بِالمَشْهُورِ مِن أصْحابِهِ كانَ ذَلِكَ شُذُوذًا فِيهِ وعِلَّةً قادِحَةً، وهَذا لا يَتَوَجَّهُ هاهُنا لِوَجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّهُ قَدْ تابَعَهُ عَلَيْهِ أبُو صالِحٍ كاتِبُ اللَّيْثِ عَنْهُ، رَوَيْناهُ مِن حَدِيث أبِي بَكْرٍ القَطِيعِيِّ ثنا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الفِرْيابِيُّ حَدَّثَنِي العَبّاسُ المَعْرُوفُ بِأبِي فَرِيقٍ ثنا أبُو صالِحٍ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ بِهِ، فَذَكَرَهُ، ورَواهُ أيْضًا الدّارَقُطْنِيُّ في سُنَنِهِ: ثنا أبُو بَكْرٍ الشّافِعِيُّ ثنا إبْراهِيمُ بْنُ الهَيْثَمِ أخْبَرَنا أبُو صالِحٍ، فَذَكَرَهُ. الثّانِي: أنَّ عُثْمانَ بْنَ صالِحٍ هَذا المِصْرِيُّ نَفْسُهُ رَوى عَنْهُ البُخارِيُّ في صَحِيحِهِ، ورَوى عَنْهُ ابْنُ مَعِينٍ وأبُو حاتِمٍ الرّازِيّ، وقالَ: هو شَيْخٌ صالِحٌ سَلِيمُ التَّأْدِيَةِ، قِيلَ لَهُ: كانَ يُلَقِّنُ؟ قالَ: لا، ومَن كانَ بِهَذِهِ المَثابَةِ كانَ ما يَنْفَرِدُ بِهِ حُجَّةً، وإنَّما الشّاذُّ ما خالَفَ بِهِ الثِّقاتِ، لا ما انْفَرَدَ بِهِ عَنْهُمْ، فَكَيْفَ إذا تابَعَهُ مِثْلُ أبِي صالِحٍ وهو كاتِبُ اللَّيْثِ وأكْثَرُ النّاس حَدِيثًا عَنْهُ؟ وهو ثِقَةٌ أيْضًا، وإنْ كانَ قَدْ وقَعَ في بَعْضِ حَدِيثِهِ غَلَطٌ، ومِشْرَحُ بْنُ هاعانَ قالَ فِيهِ ابْنُ مَعِينٍ: ثِقَةٌ، وقالَ فِيهِ الإمامُ أحْمَدُ: هو مَعْرُوفٌ؛ فَثَبَتَ أنَّ هَذا الحَدِيثَ حَدِيثٌ جَيِّدٌ وإسْنادُهُ حَسَنٌ، انْتَهى.
قالَ الشّافِعِيُّ: لَيْسَ الشّاذُّ أنْ يَنْفَرِدَ الثِّقَةُ عَنْ النّاسِ بِحَدِيثٍ، إنّما الشّاذُّ أنْ يُخالِفَ ما رَواهُ الثِّقاتُ.
وَأمّا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبّاسٍ فَرَواهُ ابْنُ ماجَهْ في سُنَنِهِ عَنْهُ قالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ المُحَلِّلَ والمُحَلَّلَ لَهُ» وفي إسْنادِهِ زَمْعَةُ بْنُ صالِحٍ، وقَدْ ضَعَّفَهُ قَوْمٌ، ووَثَّقَهُ آخَرُونَ، وأخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ مَقْرُونًا بِآخَرَ، وعَنْ ابْنِ مَعِينٍ فِيهِ رِوايَتانِ.
وَأمّا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَفي صَحِيحِ الحاكِمِ مِن حَدِيثِ ابْنِ أبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنا أبُو غَسّانَ عَنْ عَمْرِو بْنِ نافِعٍ عَنْ أبِيهِ قالَ: «جاءَ رَجُلٌ إلى ابْنِ عُمَرَ، فَسَألَهُ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأتَهُ ثَلاثًا، فَتَزَوَّجَها أخٌ لَهُ مِن غَيْرِ مُؤامَرَةٍ بَيْنَهُ لِيُحِلَّها لِأخِيهِ: هَلْ تَحِلُّ لِلْأوَّلِ؟ قالَ: لا، إلّا نِكاحَ رَغْبَةٍ، كُنّا نَعُدُّ هَذا سِفاحًا عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ»، قالَ: صَحِيحٌ عَلى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ ولَمْ يُخْرِجاهُ، وقالَ سَعِيدٌ في سُنَنِهِ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ نَشِيطٍ البَصْرِيُّ قالَ: قالَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ المُزَنِيّ: لُعِنَ المُحَلِّلُ والمُحَلَّلُ لَهُ، وكانَ يُسَمّى في الجاهِلِيَّةِ التَّيْسَ المُسْتَعارَ وعَنْ الحَسَنِ البَصْرِيِّ قالَ: كانَ المُسْلِمُونَ يَقُولُونَ: هَذا التَّيْسُ المُسْتَعارُ.
* (فَصْلٌ)
فَسَلْ هَذا التَّيْسَ: هَلْ دَخَلَ في قَوْله تَعالى: ﴿وَمِن آياتِهِ أنْ خَلَقَ لَكم مِن أنْفُسِكم أزْواجًا لِتَسْكُنُوا إلَيْها وجَعَلَ بَيْنَكم مَوَدَّةً ورَحْمَةً﴾ [الروم: ٢١] وهَلْ دَخَلَ في قَوْله تَعالى: ﴿وَأنْكِحُوا الأيامى مِنكم والصّالِحِينَ مِن عِبادِكم وإمائِكم إنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ﴾ [النور: ٣٢] وهَلْ دَخَلَ في قَوْلِهِ ﷺ: «مَن اسْتَطاعَ مِنكم الباءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإنَّهُ أغَضُّ لِلْبَصَرِ وأحْصَنُ لِلْفَرْجِ» وهَلْ دَخَلَ في قَوْلِهِ ﷺ: «تَزَوَّجُوا الوَدُودَ الوَلُودَ فَإنِّي مُكاثِرٌ بِكم الأُمَمَ يَوْمِ القِيامَة» وهَلْ دَخَلَ في قَوْلِهِ ﷺ: «أرْبَعٌ مِن سُنَنِ المُرْسَلِينَ: النِّكاحُ، والتَّعَطُّرُ، والخِتانُ، وذَكَرَ الرّابِعَةَ» وهَلْ دَخَلَ في قَوْلِهِ ﷺ: «النِّكاحُ سُنَّتِي؛ فَمَن رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» وهَلْ دَخَلَ في قَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ: خَيْرُ هَذِهِ الأمَةِ أكْثَرُها نِساءً؟ وهَلْ لَهُ نَصِيبٌ مِن قَوْلِهِ ﷺ: «ثَلاثَةٌ حَقٌّ عَلى اللَّهِ عَوْنُهُمْ: النّاكِحُ يُرِيدُ العَفافَ، والمُكاتَبُ يُرِيدُ الأداءَ» وذَكَرَ الثّالِثَ، أمْ حَقَّ عَلى اللَّهِ لَعْنَتُهُ تَصْدِيقًا لِرَسُولِهِ فِيما أخْبَرَ عَنْهُ؟ وسَلْهُ: هَلْ يَلْعَنُ اللَّهُ ورَسُولُهُ مَن يَفْعَلُ مُسْتَحَبًّا أوْ جائِزًا أوْ مَكْرُوهًا أوْ صَغِيرَةً، أمْ لَعْنَتُهُ مُخْتَصَّةٌ بِمَن ارْتَكَبَ كَبِيرَةً أوْ ما هو أعْظَمُ مِنها؟ كَما قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: كُلُّ ذَنْبٍ خُتِمَ بِلَعْنَةٍ أوْ غَضَبٍ أوْ عَذابٍ أوْ نارٍ فَهو كَبِيرَةٌ، وسَلْهُ: هَلْ كانَ في الصَّحابَةِ مُحَلِّلٌ واحِدٌ أوْ أقَرَّ رَجُلٌ مِنهم عَلى التَّحْلِيلِ؟ وسَلْهُ لِأيِّ شَيْءٍ قالَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ: لا أُوتى بِمُحَلَّلٍ ولا مُحَلَّلٍ لَهُ إلّا رَجَمْتُهُما.
وَسَلْهُ: كَيْفَ تَكُونُ المُتْعَةُ حَرامًا نَصًّا مَعَ أنَّ المُسْتَمْتِعَ لَهُ غَرَضٌ في نِكاحِ الزَّوْجَةِ إلى وقْتٍ لَكِنْ لَمّا كانَ غَيْرَ داخِلٍ عَلى النِّكاحِ المُؤَبَّدِ كانَ مُرْتَكِبًا لِلْمُحَرَّمِ؟ فَكَيْفَ يَكُونُ نِكاحُ المُحَلِّلِ الَّذِي إنّما قَصْدُهُ أنْ يُمْسِكَها ساعَةً مِن زَمانٍ أوْ دُونَها، ولا غَرَضَ لَهُ في النِّكاحِ ألْبَتَّةَ؟ بَلْ قَدْ شَرَطَ انْقِطاعَهُ وزَوالَهُ إذا أخْبَثَها بِالتَّحْلِيلِ، فَكَيْفَ يَجْتَمِعُ في عَقْلٍ أوْ شَرْعٍ تَحْلِيلُ هَذا وتَحْرِيمُ المُتْعَةِ؟ هَذا مَعَ أنَّ المُتْعَةَ أُبِيحَتْ في أوَّلِ الإسْلامِ، وفَعَلَها الصَّحابَةُ، وأفْتى بِها بَعْضُهم بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ ﷺ، ونِكاحُ المُحَلِّلِ لَمْ يُبَحْ في مِلَّةٍ مِن المِلَلِ قَطُّ ولَمْ يَفْعَلْهُ أحَدٌ مِن الصَّحابَةِ، ولا أفْتى بِهِ واحِدٌ مِنهُمْ؟ ولَيْسَ الغَرَضُ بَيانَ تَحْرِيمِ هَذا العَقْدِ وبُطْلانِهِ وذِكْرِ مَفاسِدِهِ وشَرِّهِ، فَإنَّهُ يَسْتَدْعِي سِفْرًا ضَخْمًا نَخْتَصِرُ فِيهِ الكَلامَ، وإنَّما المَقْصُودُ أنَّ هَذا شَأْنُ التَّحْلِيلِ عِنْدَ اللَّهِ ورَسُولِهِ وأصْحابِ رَسُولِهِ، فَألْزَمَهم عُمَرُ بِالطَّلاقِ الثَّلاثِ إذا جَمَعُوها لِيَكُفُّوا عَنْهُ إذا عَلِمُوا أنَّ المَرْأةَ تُحَرَّمُ بِهِ، وأنَّهُ لا سَبِيلَ إلى عَوْدِها بِالتَّحْلِيلِ، فَلَمّا تَغَيَّرَ الزَّمانُ، وبَعُدَ العَهْدِ بِالسَّنَةِ وآثارِ القَوْمِ، وقامَتْ سُوقُ التَّحْلِيلِ ونَفَّقَتْ في النّاسِ؛ فالواجِبُ أنْ يُرَدَّ الأمْرُ إلى ما كانَ عَلَيْهِ في زَمَنِ النَّبِيِّ ﷺ وخَلِيفَتِهِ مِن الإفْتاءِ بِما يُعَطِّلُ سُوقَ التَّحْلِيلِ أوْ يُقَلِّلُها ويُخَفِّفُ شَرَّها، وإذا عَرَضَ عَلى مَن وفَّقَهُ اللَّهُ وبَصَّرَهُ بِالهُدى وفَقَّهَهُ في دِينِهِ مَسْألَةُ كَوْنِ الثَّلاثِ واحِدَةً ومَسْألَةُ التَّحْلِيلِ ووازَنَ بَيْنَهُما تَبَيَّنَ لَهُ التَّفاوُتُ، وعُلِمَ أيُّ المَسْألَتَيْنِ أوْلى بِالدِّينِ وأصْلَحُ لِلْمُسْلِمِينَ.
فَهَذِهِ حُجَجُ المَسْألَتَيْنِ قَدْ عُرِضَتْ عَلَيْك، وقَدْ أُهْدِيَتْ إنْ قَبِلْتَها إلَيْك، وما أظُنُّ عَمى التَّقْلِيدِ إلّا يَزِيدُ الأمْرَ عَلى ما هو عَلَيْهِ، ولا يَدَعُ التَّوْفِيقَ يَقُودَك اخْتِيارًا إلَيْهِ، وإنَّما أشَرْنا إلى المَسْألَتَيْنِ إشارَةً تُطْلِعُ العالِمَ عَلى ما وراءَها، وبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
* فَصْلٌ
فَقَدْ تَبَيَّنَ لَك أمْرُ مَسْألَةٍ مِن المَسائِلِ الَّتِي تَمْنَعُ التَّحْلِيلَ، أفْتى بِها المُفْتِي، وقَدْ قالَ بِها بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ؛ فَهي خَيْرٌ مِن التَّحْلِيلِ، حَتّى لَوْ أفْتى المُفْتِي بِحِلِّها بِمُجَرَّدِ العَقْدِ مِن غَيْرِ وطْءٍ، لَكانَ أعْذَرَ عِنْدَ اللَّهِ مِن أصْحابِ التَّحْلِيلِ، وإنْ اشْتَرَكَ كُلٌّ مِنهُما في مُخالَفَةِ النَّصِّ؛ فَإنَّ النُّصُوصَ المانِعَةَ مِن التَّحْلِيلِ المُصَرِّحَةَ بِلَعْنِ فاعِلِهِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، والصَّحابَةُ والسَّلَفُ مُجْمِعُونَ عَلَيْها، والنُّصُوصُ المُشْتَرِطَةُ لِلدُّخُولِ لا تَبْلُغُ مَبْلَغَها، وقَدْ اخْتَلَفَ فِيها التّابِعُونَ؛ فَمُخالَفَتُها أسْهَلُ مِن مُخالَفَةِ أحادِيثِ التَّحْلِيلِ، والحَقُّ مُوافَقَةُ جَمِيعِ النُّصُوصِ، وأنْ لا يُتْرَكَ مِنها شَيْءٌ، وتَأمَّلْ كَيْفَ كانَ الأمْرُ عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وعَهْدِ أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ مِن كَوْنِ الثَّلاثِ واحِدَةً والتَّحْلِيلُ مَمْنُوعٌ مِنهُ، ثُمَّ صارَ في بَقِيَّةِ خِلافَةِ عُمَرَ الثَّلاثُ ثَلاثٌ والتَّحْلِيلُ مَمْنُوعٌ مِنهُ، وعُمَرُ مِن أشَدِّ الصَّحابَةِ فِيهِ، وكُلُّهم عَلى مِثْلِ قَوْلِهِ فِيهِ، ثُمَّ صارَ في هَذِهِ الأزْمِنَةِ التَّحْلِيلُ كَثِيرًا مَشْهُورًا والثَّلاثُ ثَلاثًا.
وَعَلى هَذا فَيَمْتَنِعُ في هَذِهِ الأزْمِنَة مُعاقَبَةُ النّاسِ بِما عاقَبَهم بِهِ عُمَرُ مِن وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّ أكْثَرَهم لا يَعْلَمُ أنَّ جَمْعَ الثَّلاثِ حَرامٌ، لا سِيَّما وكَثِيرٌ مِن الفُقَهاءِ لا يَرى تَحْرِيمَهُ، فَكَيْفَ يُعاقَبُ مِن لَمْ يَرْتَكِبْ مُحَرَّمًا عِنْدَ نَفْسِهِ؟ الثّانِي: أنَّ عُقُوبَتَهم بِذَلِكَ تَفْتَحُ عَلَيْهِمْ بابَ التَّحْلِيلِ الَّذِي كانَ مَسْدُودًا عَلى عَهْدِ الصَّحابَةِ، والعُقُوبَةُ إذا تَضَمَّنَتْ مُفْسِدَةً أكْثَرَ مِن الفِعْلِ المُعاقَبِ عَلَيْهِ كانَ تَرْكُها أحَبَّ إلى اللَّهِ ورَسُولِهِ، ولَوْ فَرَضْنا أنَّ التَّحْلِيلَ مِمّا أباحَتْهُ الشَّرِيعَةُ ومَعاذَ اللَّهِ لَكانَ المَنعُ مِنهُ إذا وصَلَ إلى هَذا الحَدِّ الَّذِي قَدْ تَفاحَشَ قُبْحُهُ مِن بابِ سَدِّ الذَّرائِعِ، وتَعَيَّنَ عَلى المُفْتِينَ والقُضاةِ المَنعُ مِنهُ جُمْلَةً، وإنْ فُرِضَ أنَّ بَعْضَ أفْرادِهِ جائِزٌ؛ إذْ لا يَسْتَرِيبُ أحَدٌ في أنَّ الرُّجُوعَ إلى ما كانَ عَلَيْهِ الصَّحابَةُ في عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ وأبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وصَدْرٍ مِن خِلافَةِ عُمَرَ أوْلى مِن الرُّجُوعِ إلى التَّحْلِيلِ، واللَّهُ المُوَفِّقُ.
{"ayah":"ٱلطَّلَـٰقُ مَرَّتَانِۖ فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِیحُۢ بِإِحۡسَـٰنࣲۗ وَلَا یَحِلُّ لَكُمۡ أَن تَأۡخُذُوا۟ مِمَّاۤ ءَاتَیۡتُمُوهُنَّ شَیۡـًٔا إِلَّاۤ أَن یَخَافَاۤ أَلَّا یُقِیمَا حُدُودَ ٱللَّهِۖ فَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا یُقِیمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَیۡهِمَا فِیمَا ٱفۡتَدَتۡ بِهِۦۗ تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَعۡتَدُوهَاۚ وَمَن یَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق