الباحث القرآني
قال تعالى: ﴿الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسانٍ ولا يَحِلُّ لَكُمْ أنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إلاَّ أنْ يَخافا ألاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإنْ خِفْتُمْ ألاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيما افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها ومَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ ﴾ [البقرة: ٢٢٩].
كان الطلاقُ يُتَّخَذُ للإضرارِ بالزوجةِ، فيطلِّقُ الزوجُ فتعتَدُّ الزوجةُ، فإذا قَرُبَ خروجُها مِن عِدَّتِها، أرجَعَها ثمَّ طلَّقَها، وانتظَرَ حتّى تقرُبَ مِن نهايةِ عِدَّتِها، ثمَّ يُرجِعُها ليطلِّقَها ولتستأنِفَ عِدَّةً جديدةً، فتبقى لا معه ولا مع زوجٍ غيرِه، كما كان يَفْعَلُ أهل الجاهليَّةِ وبعضُ العرَبِ في صدرِ الإسلامِ، ولذلك: فقد جعلَ اللهُ الطلاقَ الذي يَملِكُ فيه الرجلُ إرجاعَ زوجتِه مرَّتَيْنِ، ولذا قال: ﴿فَإمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسانٍ﴾.
ومِن العلماءِ مَن جعَلَ هذه الآيةَ ناسخةً للآيةِ السابقةِ، وهي قولُهُ تعالى: ﴿وبُعُولَتُهُنَّ أحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ [البقرة: ٢٢٨]، وهذا يحتاجُ إلى نصٍّ، وربَّما نزلَتِ الآيتانِ جميعًا، فقيَّدَتِ الثانيةُ إطلاقَ الأُولى، وخَصَّصَتْ عمومَها، إلاَّ على قولِ مَن يَرى التخصيصَ نسخًا.
عَدَدُ طلقاتِ الأحرارِ والعبيدِ:
ولا خلافَ عند العلماءِ: على أنّ طلاقَ الأحرارِ ثلاثُ طلقاتٍ، وأمّا عددُ طلاقِ العبيدِ، ففيه خلافٌ:
فذهَبَ أهلُ الظاهرِ: إلى أنّ العبيدَ كالأحرارِ في الطلاقِ، أخذًا بعمومِ الآيةِ.
وجمهورُ العلماءِ: على خلافِ هذا القولِ، فيَرَوْنَ أنّ الطلاقَ طَلْقتانِ، على النصفِ من طلاقِ الحُرِّ، وهو إجماعُ الصحابةِ والتابعينَ، وإنّما يَختلِفُونَ في مَحَلِّ الاعتبارِ، على قولَيْنِ مشهورَيْنِ:
الأوَّلُ: يعتبرونَهُ بالزوجِ لا بالزوجةِ، فإنْ كان الزوجُ عبدًا، فالطلاقُ على النِّصْفِ ولو كانت الزَّوْجةُ حُرَّةً، وعكسُ ذلك لو كان الزوجُ حرًّا، فللزوجِ ثلاثُ طلقاتٍ ولو كانتِ الزوجةُ أمَةً، وهذا قولُ جمهورِهم، وهو قولُ عُثْمانَ بنِ عَفّانَ وزَيدٍ وابنِ عبّاسٍ وعِكْرِمةَ وسُلَيْمانَ بنِ يَسارٍ وابنِ المسيَّبِ، وقولُ مالكٍ والشافعيِّ وأحمدَ.
الثّاني: يعتبرونَهُ بالزوجةِ لا بالزوجِ، وهو قولُ عليٍّ وابنِ مسعودٍ، وهو رأيُ أبي حَنِيفةَ.
وفي المسألةِ قولٌ ضعيفٌ قَلَّ الآخِذونَ به، وهو رأيُ عُثْمانَ البَتِّيِّ، ويُنسَبُ لابنِ عُمَرَ وابنِ عَبّاسٍ: أنّ العِبْرةَ بالرِّقِّ، فإن وُجِدَ في أحدِ الجهتَيْنِ: الزَّوْجِ أوِ الزَّوْجةِ، فالطَّلاقُ طَلْقتانِ.
والأظهَرُ: كونُ الطلاقِ باعتبارِ الزوجِ، لأنّ اللهَ عَلَّقَ الطلاقَ بالزوجِ، والعِدَّةَ بالنِّساءِ، فاللهُ تعالى إنّما شرَعَ العدَدَ في الطلاقِ تشوُّفًا إلى الرَّجْعةِ، وإبعادًا للطلاقِ، ودفعًا لِنَدَمِ الزوجِ مِن العجَلةِ بالبَيْنونةِ، ولذا فقد جعَلَ اللهُ له أجَلًا وعددًا للمراجَعةِ بينَهُ وبينَ زوجتِه.
وحَدَّ اللهُ له عدَدًا مِن الطلاقِ، حتّى لا يُضِرَّ بالزَّوْجةِ فيعلِّقَها.
وإلحاقُ المسألةِ بنُقْصانِ الحدودِ على العبيدِ فيه نظَرٌ، لأنّ نُقْصانَ الحدودِ فيه تخفيفٌ في العقوبةِ، وتخفيفُ الطلاقِ يُعتبَرُ نقصانًا في الحقِّ، وتفويتًا لحظِّ النَّفْسِ الذي ربَّما يُحتاجُ إليه في رَجْعةِ الزوجةِ، ولكنَّ الأَوْلى أنْ يكونَ مأخَذُ الإلحاقِ: أنّ تشوُّفَ بقاءِ الزوجَيْنِ مِن المَوالِي أقلُّ مِن تشوُّفِ الأحرارِ، وتشوُّفَ بقاءِ الحُرَّةِ مع العبدِ أقلُّ مِن تشوُّفِ بقاءِ الحُرِّ معَ الحُرَّةِ.
وذَهابُ بعضِ الخلفاءِ إلى نُقْصانِ طلاقِ العبيدِ معتبَرٌ مِن وجوهِ الترجيحِ، فقولٌ يَمِيلُ إليه خليفةٌ أوْلى مِن قولٍ يَذهَبُ إليه مَن دونَهُ.
والرقيقُ بحاجةٍ إلى التيسيرِ في تَبِعةِ الزواجِ، مِن النفقةِ على الزوجةِ، وكِسْوتِها في عِدَّتِها، فاحتاجَ للتيسيرِ في الطلاقِ والتيسيرِ في العِدَّةِ.
والطَّلاقُ سُلْطانٌ، وسلطانُ العبدِ دُونَ سُلْطانِ الحرِّ، وقِوامتُهُ دونَ قِوامةِ الحرِّ، والطلاقُ فرعٌ مِن فروعِ القِوامةِ.
وقولُه: ﴿الطَّلاقُ مَرَّتانِ﴾ عمومٌ تفصِّلُهُ السُّنَّةُ، وهو أنّ بينَ كلِّ طلاقٍ عِدَّةً، فلا تُجمَعُ الطَّلْقتانِ جميعًا ولا الثلاثُ، وذلك كما في «الصحيحِ»: (مُرْهُ فَلْيُراجِعْها، ثُمَّ لْيَتْرُكْها حَتّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إنْ شاءَ أمْسَكَ بَعْدُ، وإنْ شاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ العِدَّةُ التي أمَرَ اللهُ عزّ وجل أنْ يُطَلَّقَ لَها النِّساءُ) [[أخرجه البخاري (٥٢٥١) (٧/٤١)، ومسلم (١٤٧١) (٢/١٠٩٣).]].
الطلاقُ ثلاثًا:
والطلاقُ أكثرَ مِن طَلْقةٍ واحدةٍ، أو ثلاثًا بلفظٍ واحدٍ، أو طلقاتٍ متفرِّقاتٍ في عِدَّةٍ واحدةٍ بلا رَجْعةٍ بينَهما ـ خلافُ السُّنَّةِ باتفاقِ السلفِ، وقد كانوا يَنْهَوْنَ عنه، ويؤدِّبونَ عليه، فقد أخرَجَ سعيدُ بنُ منصورٍ، عن أنسٍ أنّ عُمَرَ كان إذا أُتِيَ برَجُلٍ طَلَّقَ امرأتَهُ ثلاثًا، أوجَعَ ظَهْرَهُ[[أخرجه سعيد بن منصور في «سننه» (١٠٧٣) (١/٣٠٢).]].
وهو صحيحٌ عنه.
وذلك أنّ الطلاقَ مِن حدودِ اللهِ، فاللهُ حينَما بيَّنَهُ وفصَّلَ أمْرَهُ، قال: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها﴾، والطلاقُ الثلاثُ تَعَدٍّ يُوجِبُ التأديبَ والزَّجْرَ، فاللهُ أقامَ الزوجَ على حَدِّ الطلاقِ، وجعَلَ له سلطانًا لِيُقيمَهُ كما أمرَ اللهُ، كما أقامَ السلطانَ على حدودِ اللهِ بين الناسِ ليُقيمَها كما أمَرَ اللهُ، وإن كان تعدِّي السلطانِ أشدَّ، لعِظَمِ أثَرِه، إلاَّ أنّ تعدِّيَ الزوجِ يعَدُّ تعدِّيًا وظُلْمًا ولكنْ بقَدْرٍ.
ومَن طَلَّقَ ثلاثًا أو اثنتَيْنِ بكلمةٍ واحدةٍ، فقدِ اختلَفَ العلماءُ في وقوعِ هذا الطلاقِ:
القولُ الأوَّلُ: تقَعُ طَلْقةً واحدةً، وهو قولُ طاوُسٍ ومحمَّدِ بنِ إسحاقَ والحَجّاجِ بنِ أرطاةَ، وهو قولٌ لأحمدَ قال به أهلُ الظاهرِ، وذهَبَ إليه ابنُ تيميَّةَ.
وهو قولٌ ثابتٌ لبعضِ السلفِ، وبعضُهم يَنْفِيهِ، وليس كذلك، وقد ترجَمَ البخاريُّ في «صحيحِه» مثبِتًا له، فقال: (بابُ: مَن جَوَّزَ الطلاقَ الثلاثَ)[[«صحيح البخاري» (٧/٤٢).]]، ويُنسَبُ لعليِّ بنِ أبي طالبٍ وابنِ مسعودٍ وابنِ عبّاسٍ وابنِ عوفٍ، لِما روى مسلمٌ في «صحيحِه»، مِن حديثِ ابنِ طاوُسٍ، عن أبِيهِ، أنَّ أبا الصَّهْباءِ قالَ لاِبْنِ عَبّاسٍ: «أتَعْلَمُ أنَّما كانَتِ الثَّلاثُ تُجْعَلُ واحِدَةً عَلى عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ وأَبِي بَكْرٍ، وثَلاثًا مِن إمارَةِ عُمَرَ؟ فَقالَ ابنُ عَبّاسٍ: نَعَمْ»[[أخرجه مسلم (١٤٧٢) (٢/١٠٩٩).]].
وذلك أنّ الشريعةَ لم تجعَلِ العَدَدَ إلاَّ لحِكْمةٍ، وهي التربُّصُ ودفعُ المشقَّةِ، وهذا يُلْغِي الأخذَ بحِكْمةِ اللهِ الظاهرةِ، ويعطِّلُ حكمًا شرعيًّا، وهو اعتبارُ العدَدِ المقصودِ منه في الآيةِ.
التطليقُ عددًا ورقمًا:
وذِكْرُ الأعدادِ رَقْمًا لا يُعتَبَرُ إلاَّ بإلحاقِها وصْفًا وعَدًّا، كما جاء في الشَّرْعِ، فمَن رَمى الجِمارَ بسَبْعِ حصَياتٍ مرَّةً واحدةً، عُدَّت واحدةً، ومَن قال: «سُبْحانَ اللهِ» مِئَةً، لم يكُنْ مسبِّحًا مِثْلَ مَن سبَّحَ مِئةً مكرِّرًا لها، ولو حلَفَ أن يسبِّحَ مِئةً، لم يُجْزِئْهُ إلاَّ تَكْرارُها، لا ذِكرُها رَقْمًا.
ويظهرُ أنّه لو طَلَّقَ الرجلُ زوجتَهُ في عِدَّةِ طَلْقةٍ واحدةٍ طلقةً أخرى: أنّها لا تقَعُ حتّى يُرجِعَها، وأظهَرُ مِن ذلك لو كرَّرَ الطلاقَ لفظًا، فقال: «طالقٌ طالقٌ طالقٌ»: أنّها واحدةٌ.
لأنّ لكلِّ طَلْقةٍ عِدَّةً وزمَنًا له بدايةٌ وله نهايةٌ، يبتدي بالطَّلْقةِ، وينتهي برَجْعَةِ الزوجةِ، فقد روى البيهقيُّ وغيرُهُ، مِن حديثِ محمَّدِ بنِ إسحاقَ، عن داودَ بنِ الحُصَيْنِ، عن عِكْرِمةَ، عنِ ابنِ عبّاسٍ، قالوا: طلَّقَ رُكانةُ امرأتَهُ ثلاثًا في مجلسٍ واحدٍ، فحَزِنَ عليها حُزْنًا شديدًا، فسألَهُ رسولُ اللهِ: (كَيْفَ طَلَّقْتَها؟)، قال: طلَّقتُها ثلاثًا، قال: (فِي مَجْلِسٍ واحِدٍ؟)، قال: نَعَمْ، قال: (فَإنَّما تِلْكَ واحِدَةٌ، فَأَرْجِعْها إنْ شِئْتَ)، فراجَعَها[[أخرجه أحمد (٢٣٨٧) (١/٢٦٥)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (٧/٣٣٩).]].
وأعلَّه بعضُهم، لمخالَفةِ ابنِ عبّاسٍ له، ومِثلُهُ لو صحَّ عندَهُ لا يُخالِفُهُ ابنُ عبّاسٍ، لفضلِه ودينِه، وقد أعلَّ الحديثَ أحمدُ بنُ حنبلٍ.
وأُعِلَّ أيضًا بأنّ المحفوظَ: أنّ رُكانةَ طلَّقَ زوجتَهُ البتَّةَ، وأنّ ذِكْرَ «الثَّلاثِ» غيرُ محفوظٍ، فقد أخرَجَهُ أبو داودَ، مِن حديثِ آلِ بيتِ رُكانةَ عنه أنّه طَلَّقَ زوجتَهُ البتَّةَ، فجعَلَها النبيُّ ﷺ واحدةً، وهذا ما رجَّحَهُ أبو داودَ[[أخرجه أبو داود (٢١٩٦) (٢/٢٦٠).]].
ولكنَّ هذا القولَ صحَّ أنّه يُفتى به في زمنِ النبيِّ ﷺ وأبي بكرٍ وصدرٍ مِن خلافةِ عُمَرَ، كما في مسلمٍ مِن حديثِ طاوسٍ، عنِ ابنِ عبّاسٍ، ولا يبعُدُ أنّ ابنَ عبّاسٍ كان يقولُ به وقتَها، ثُمَّ ترَكَ لمّا ترَكَ عُمَرُ، ويَحتمِلُ أنّه يقولُ بخلافِهِ ولا يُظهِرُهُ كرهًا للخلافِ والفُرْقةِ، والمشهورُ الصريحُ عنه القولُ بوقوعِ الثلاثِ ثلاثًا مِن وجوهٍ عِدَّةٍ.
القولُ الثاني: وهو قولُ جمهورِ الفقهاءِ، أنّ الطلاقَ بعَدَدِ ما تلفَّظَ به، اثنتَيْنِ أو ثلاثًا، وهو قولُ ابنِ عبّاسٍ المشهورُ عنه، رواهُ عنه سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ ومجاهِدٌ وعطاءٌ وعمرُو بنُ دينارٍ، أنّ ابنَ عبّاسٍ كان يُفتِي بوقوعِ الطلاقِ الثلاثِ.
روى عبد الرَّزّاق والبيهقيُّ، مِن حديثِ سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، أنّ رجلًا جاء إلى ابنِ عبّاسٍ، فقال: طلَّقْتُ امرأتي ألْفًا، فقال: «تأخُذُ ثلاثًا، وتدَعُ تِسْعَ مِئةٍ وسَبْعةً وتِسعينَ»[[أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (١١٣٥٠) (٦/٣٩٧)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (٧/٣٣٧).]].
وروى مسلمٌ، أنّ ابنَ عبّاسٍ قال: «كان الطلاقُ على عهدِ رسولِ اللهِ ﷺ وأبي بَكْرٍ وسنتَيْنِ مِن خلافةِ عُمَرَ: طَلاقُ الثَّلاثِ واحدةً، فقال عُمَرُ: إنّ النّاسَ قدِ استَعْجَلُوا في أمرٍ كان لهم فيه أناةٌ، فلو أمْضَيْناهُ عليهم، فأَمْضاهُ عليهِم»[[أخرجه مسلم (١٤٧٢) (٢/١٠٩٩).]].
وحمَلَ الشافعيُّ وغيرُهُ ما قال به ابنُ عبّاسٍ على احتمالِ وقوفِهِ على نَسْخٍ للحديثِ المرفوعِ، واستَدَلَّ لذلك بما أخرَجَهُ أبو داودَ، مِن طريقِ عِكْرِمةَ، عن ابنِ عبّاسٍ، قال: «كان الرَّجُلُ إذا طلَّقَ امرأتَهُ، فهو أحقُّ برَجْعَتِها وإنْ طلَّقَها ثلاثًا، فنُسِخَ ذلك»[[أخرجه أبو داود (٢١٩٥) (٢/٢٥٩)، والنسائي (٣٥٥٤) (٦/٢١٢).]].
ويبعُدُ أن يكونَ الحُكْمُ منسوخًا فيُقضى فيه في زمنِ النبيِّ ﷺ إلى وفاتِهِ، وفي خلافةِ أبي بكرٍ كلِّها، وفي صدرٍ مِن خلافةِ عُمَرَ، ثمَّ لا يُؤخَذُ به إلاَّ متأخِّرًا.
ويبعُدُ أن يَظهرَ الحُكْمُ زمنًا، ويَخفى النَّسْخُ زمنًا أطولَ منه، فالنسخُ حُكْمٌ يَجبُ ثبوتُهُ وقوَّتُهُ واشتهارُهُ شرعًا كثبوتِ الحُكْمِ قَبْلَه، ويبعُدُ أن يُفتى به في زمنِ النُّبُوَّةِ كلِّه، وفي زمنِ أبي بكرٍ كلِّه أيضًا، ويَشْتَهِرَ، ولا يُعلَمُ بالنسخِ.
ولا يُمكِنُ أن تُجمِعَ الأمَّةُ في خلافةِ أبي بكرٍ كلِّها على خطأٍ، وليس في الصحابةِ مَن يبيِّنُ الدِّينَ.
وقال بعضُ الفقهاءِ قولًا آخَرَ، وهو التفريقُ بين المدخولِ بها وغيرِ المدخولِ بها، وأنّ المدخولَ بها يقَعُ ثلاثًا، وغيرَ المدخولِ بها يقَعُ واحدةً، لظاهرِ روايةِ أبي الصَّهْباءِ، قال بِهذا زكريّا السّاجِيُّ وغيرُه.
وذلك أنّ غيرَ المدخولِ بها تَبِينُ مِن زوجِها بواحدةٍ، والزيادةُ لَغْوٌ، لأنّ الطَّلْقةَ الثانيةَ والثالثةَ وقعَتْ في البينونَةِ وهي ليست زوجةً له، ولكنَّ هذا يستقيمُ فيما إذا طلَّقَها فقال: «أنتِ طالقٌ طالقٌ طالقٌ»، ولا يستقيمُ فيما إذا قال: «أنتِ طالقٌ ثلاثًا»، لأنّ اللفظَ الأخيرَ جاء جُمْلةً واحدةً، لا متتاليًا.
وللطلاقِ البِدْعيِّ صُوَرٌ أُخرى غيرُ الطلاقِ الثلاثِ، كالطلاقِ في الحَيْضِ والنِّفاسِ، وطلاقِ المرأةِ في عِدَّةِ طلاقِها قبلَ أن يُراجِعَها، وطلاقِها في طُهْرٍ جامَعَها فيه، وبعضُ مَن يقولُ بعدَمِ وقوعِ الثلاثِ جملةً يَطَّرِدُ، ويقولُ بعدَمِ وقوعِهِ في بقيَّةِ الطلاقِ البِدْعيِّ كلِّه.
وقولُهُ تعالى: ﴿أوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسانٍ﴾ هي الطَّلْقةُ الثالثةُ، وقد حكى ابنُ عبدِ البَرِّ الإجماعَ على هذا[[«الاستذكار» (١٨/١٥٨).]]، لأنّ اللهَ ذكَرَ الطلقتَيْنِ قبلُ: ﴿الطَّلاقُ مَرَّتانِ﴾، ثمَّ لا تسريحَ بعدَهما إلاَّ الثالثةَ، وهي المذكورةُ في قولِه: ﴿فَإنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ [البقرة: ٢٣٠]، فذكَرَها أوَّلًا على سبيلِ الإجمالِ، ثمَّ ذكَرَها بعدُ على سبيلِ التفصيلِ وبيانِ الحُكْمِ اللاَّحقِ بِها.
أخذُ مهرِ المطلَّقةِ:
وقولُه: ﴿ولا يَحِلُّ لَكُمْ أنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إلاَّ أنْ يَخافا ألاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ﴾، ذكَرَ اللهُ خوفَ الزوجَيْنِ جميعًا، إشارةً إلى أنّه ينبغي أن يصدُرَ الطلاقُ بعدَ تشاوُرٍ منهما، وخوفٍ مِن عدمِ صلاحِ الحالِ بالبقاءِ، ثمَّ إنّه لا يجوزُ أخذُ الزوجِ مِن مَهْرِ زوجتِهِ إلاَّ إذا كان الطلاقُ برغبتِها، ولا يجوزُ له أن يطلِّقَها بشرطِ إعادةِ مَهْرِهِ وهي تريدُ البقاءَ، ولا عَيْبَ فيها، لأنّ اللهَ قيَّد أخذَ المهرِ بخوفِهما معًا ورغبَتِهما في المفارَقةِ.
ولهذا نقولُ: إنّ أخذَ الرَّجُلِ مَهْرَ زوجتِهِ عندَ طلاقِها على ثلاثِ أحوالٍ:
الأُولَـى: إذا كان الطلاقُ برغبَتِه هو، لا برغبتِها، ولا عَيْبَ فيها، فلا يَحِلُّ له أن يأخُذَ منها شيئًا.
الثانيةُ: إذا كانا جميعًا يُرِيدانِ الطلاقَ، فأخذُهُ مباحٌ، إلاَّ أنّ الأفضلَ عدَمُ أخذِهِ، لِما استحَلَّ مِن فَرْجِها، وربَّما أنفقَتْهُ على نفسِها وأهلكَتْهُ.
الثـالثةُ: إذا كان الطلاقُ برغبتِها وحدَها، وليس في الزوجِ عيبٌ شرعيٌّ، فله أن يأخُذَ مالَهُ، وإذا كان فيه عيبٌ ألجأَها لتركِهِ، فلا يجوزُ له ذلك.
فسخُ الحاكمِ للنكاحِ:
وقولُه: ﴿فَإنْ خِفْتُمْ ألاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيما افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها ومَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ ﴾:
في الآيةِ: دليلٌ على فَسْخِ الحاكمِ للطلاقِ، والخوفُ الثاني في الآيةِ هو خوفُ غيرِ الزوجَيْنِ، وللحاكمِ الخُلْعُ عندَ امتناعِ صلاحِ الزوجَيْنِ، ورفضِ الزوجِ الطلاقَ إضرارًا بزوجتِه، فله الخُلْعُ، قال بهذا سعيدُ بنُ جُبيرٍ والحسَنُ وابنُ سِيرِينَ.
وقال شُعْبةُ: قلتُ لقتادةَ: عمَّن أخَذَ الحسَنُ الخُلْعَ إلى السُّلْطانِ؟ قال: عن زِيادٍ، وكان والِيًا لعُمرَ وعليٍّ[[«تفسير القرطبي» (٤/٧٥).]].
وقولُه: ﴿فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيما افْتَدَتْ بِهِ﴾ استدَلَّ به الجمهورُ على جوازِ أخذِ الزوجِ للخُلْعِ مِن زوجتِهِ أكثَرَ ممّا أعطاها مَهْرًا، وهو قولُ مالكٍ وأبي حنيفةَ والشافعيِّ.
وأجازه مالكٌ، ولم يجعَلْهُ مِن مكارمِ الأخلاقِ.
ومنَعَ أحمدُ وإسحاقُ الزِّيادةَ على ما أعطاها.
{"ayah":"ٱلطَّلَـٰقُ مَرَّتَانِۖ فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِیحُۢ بِإِحۡسَـٰنࣲۗ وَلَا یَحِلُّ لَكُمۡ أَن تَأۡخُذُوا۟ مِمَّاۤ ءَاتَیۡتُمُوهُنَّ شَیۡـًٔا إِلَّاۤ أَن یَخَافَاۤ أَلَّا یُقِیمَا حُدُودَ ٱللَّهِۖ فَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا یُقِیمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَیۡهِمَا فِیمَا ٱفۡتَدَتۡ بِهِۦۗ تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَعۡتَدُوهَاۚ وَمَن یَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق