الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ .
بَيَّنَ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ أنَّهُ هو المُخْتَصُّ بِعِلْمِ الغَيْبِ في السَّماواتِ والأرْضِ، وذَكَرَ هَذا المَعْنى في آياتٍ كَثِيرَةٍ،
• كَقَوْلِهِ: ﴿قُلْ لا يَعْلَمُ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ الغَيْبَ إلّا اللَّهُ وما يَشْعُرُونَ أيّانَ يُبْعَثُونَ﴾ [النمل: ٦٥]،
• وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿عالِمُ الغَيْبِ والشَّهادَةِ الكَبِيرُ المُتَعالِ﴾ [الرعد: ٩]،
• وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلى ما أنْتُمْ عَلَيْهِ حَتّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكم عَلى الغَيْبِ﴾ الآيَةَ [آل عمران: ١٧٩]،
• وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ والأرْضِ وإلَيْهِ يُرْجَعُ الأمْرُ كُلُّهُ﴾ الآيَةَ [هود: ١٢٣]، وقَوْلِـهِ تَعالى: ﴿وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُها إلّا هو ويَعْلَمُ ما في البَرِّ والبَحْرِ وما تَسْقُطُ مِن ورَقَةٍ إلّا يَعْلَمُها ولا حَبَّةٍ في ظُلُماتِ الأرْضِ ولا رَطْبٍ ولا يابِسٍ إلّا في كِتابٍ مُبِينٍ﴾ [الأنعام: ٥٩]، وقَوْلِـهِ تَعالى: ﴿وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِن مِثْقالِ ذَرَّةٍ في الأرْضِ ولا في السَّماءِ ولا أصْغَرَ مِن ذَلِكَ ولا أكْبَرَ إلّا في كِتابٍ مُبِينٍ﴾ [يونس: ٦١]، وقَوْلِـهِ تَعالى: ﴿عالِمِ الغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ في السَّماواتِ ولا في الأرْضِ ولا أصْغَرُ مِن ذَلِكَ ولا أكْبَرُ إلّا في كِتابٍ مُبِينٍ﴾ [سبإ: ٣]، وقَوْلِـهِ (p-٢٥٧)تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ في الأرْضِ ولا في السَّماءِ﴾، وبَيَّنَ في مَواضِعَ أُخَرَ: أنَّهُ يُطْلِعُ مَن شاءَ مِن خَلْقِهِ عَلى ما شاءَ مِن وحْيِهِ،
• كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿عالِمُ الغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أحَدًا إلّا مَنِ ارْتَضى مِن رَسُولٍ﴾ الآيَةَ [الجن: ٢٦ - ٢٧]، وقَدْ أشارَ إلى ذَلِكَ
• بِقَوْلِهِ: ﴿وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكم عَلى الغَيْبِ ولَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُسُلِهِ مَن يَشاءُ﴾ [آل عمران: ١٧٩]،
إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ.
* * *
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أبْصِرْ بِهِ وأسْمِعْ﴾ .
أيْ: ما أبْصَرَهُ وما أسْمَعَهُ جَلَّ وعَلا، وما ذَكَرَهُ في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ مِنِ اتِّصافِهِ جَلَّ وعَلا بِالسَّمْعِ والبَصَرِ ذَكَرَهُ أيْضًا في مَواضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وهو السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى: ١١]، وقَوْلِـهِ: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ في زَوْجِها وتَشْتَكِي إلى اللَّهِ واللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ [المجادلة: ١]، وقَوْلِـهِ تَعالى: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلائِكَةِ رُسُلًا ومِنَ النّاسِ إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ [الحج: ٧٥]، والآياتُ بِذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ما لَهم مِن دُونِهِ مِن ولِيٍّ﴾ .
ذَكَرَ جَلَّ وعَلا في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: أنَّ أصْحابَ الكَهْفِ لَيْسَ لَهم ولِيٌّ مِن دُونِهِ جَلَّ وعَلا، بَلْ هو ولِيُّهم جَلَّ وعَلا، وهَذا المَعْنى مَذْكُورٌ في آياتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿اللَّهُ ولِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهم مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ﴾ [البقرة: ٢٥٧]، وقَوْلِـهِ تَعالى: ﴿ألا إنَّ أوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هم يَحْزَنُونَ﴾ [يونس: ٦٢]، فَبَيَّنَ أنَّهُ ولِيُّ المُؤْمِنِينَ، وأنَّ المُؤْمِنِينَ أوْلِياؤُهُ، والوَلِيُّ: هو مَنِ انْعَقَدَ بَيْنَكَ وبَيْنَهُ سَبَبٌ يُوالِيكَ وتُوالِيهِ بِهِ، فالإيمانُ سَبَبٌ يُوالِي بِهِ المُؤْمِنِينَ رَبَّهم بِالطّاعَةِ، ويُوالِيهِمْ بِهِ الثَّوابَ والنَّصْرَ والإعانَةَ.
وَبَيَّنَ في مَواضِعَ أُخَرَ: أنَّ المُؤْمِنِينَ بَعْضُهم أوْلِياءُ بَعْضٍ، كَقَوْلِهِ: ﴿إنَّما ولِيُّكُمُ اللَّهُ ورَسُولُهُ والَّذِينَ آمَنُوا﴾ [المائدة: ٥٥]، وقَوْلِـهِ: ﴿والمُؤْمِنُونَ والمُؤْمِناتُ بَعْضُهم أوْلِياءُ بَعْضٍ﴾ الآيَةَ [التوبة: ٦٧١]، وبَيَّنَ في مَواضِعَ أُخَرَ: أنَّ نَبِيَّنا ﷺ أوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِن أنْفُسِهِمْ، وهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿النَّبِيُّ أوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِن أنْفُسِهِمْ وأزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ﴾ [المؤمنون: ٦] .
وَبَيَّنَ في مَوْضِعٍ آخَرَ أنَّهُ تَعالى مَوْلى المُؤْمِنِينَ دُونَ الكافِرِينَ، وهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ذَلِكَ بِأنَّ اللَّهَ مَوْلى الَّذِينَ آمَنُوا وأنَّ الكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ﴾ [محمد: ١١]، وهَذِهِ الوِلايَةُ المُخْتَصَّةُ بِالمُؤْمِنِينَ هي وِلايَةُ الثَّوابِ والنَّصْرِ والتَّوْفِيقِ والإعانَةِ، فَلا تُنافِي أنَّهُ مَوْلى (p-٢٥٨)الكافِرِينَ وِلايَةَ مُلْكٍ وقَهْرٍ ونُفُوذٍ ومَشِيئَةٍ، كَقَوْلِهِ: ﴿وَرُدُّوا إلى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الحَقِّ وضَلَّ عَنْهم ما كانُوا يَفْتَرُونَ﴾ [يونس: ٣٠]، وقالَ بَعْضُ العُلَماءِ: الضَّمِيرُ في قَوْلِهِ: ﴿ما لَهم مِن دُونِهِ مِن ولِيٍّ﴾ راجِعٌ لِأهْلِ السَّماواتِ والأرْضِ المَفْهُومَيْنِ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ والأرْضِ﴾، وقِيلَ: الضَّمِيرُ في قَوْلِهِ: ”ما لَهم“ راجِعٌ لِمُعاصِرِي النَّبِيِّ ﷺ مِنَ الكُفّارِ، ذَكَرَهُ القُرْطُبِيُّ، وعَلى كُلِّ حالٍ فَقَدْ دَلَّتِ الآياتُ المُتَقَدِّمَةُ أنَّ وِلايَةَ الجَمِيعِ لِخالِقِهِمْ جَلَّ وعَلا، وأنَّ مِنها وِلايَةَ ثَوابٍ وتَوْفِيقٍ وإعانَةٍ، ووِلايَةَ مُلْكٍ وقَهْرٍ ونُفُوذٍ ومَشِيئَةٍ، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
* * *
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلا يُشْرِكُ في حُكْمِهِ أحَدًا﴾ .
قَرَأ هَذا الحَرْفَ عامَّةُ السَّبْعَةِ ما عَدا ابْنَ عامِرٍ ”وَلا يُشْرِكُ“ بِالياءِ المُثَنّاةِ التَّحْتِيَّةِ، وضَمِّ الكافِ عَلى الخَبَرِ، ولا نافِيَةٌ والمَعْنى: ولا يُشْرِكُ اللَّهُ جَلَّ وعَلا أحَدًا في حُكْمِهِ، بَلِ الحُكْمُ لَهُ وحْدَهُ جَلَّ وعَلا لا حُكْمَ لِغَيْرِهِ ألْبَتَّةَ، فالحَلالُ ما أحَلَّهُ تَعالى، والحَرامُ ما حَرَّمَهُ، والدِّينُ ما شَرَعَهُ، والقَضاءُ ما قَضاهُ، وقَرَأهُ ابْنُ عامِرٍ مِنَ السَّبْعَةِ؛ ”وَلا تُشْرِكْ“ بِضَمِّ التّاءِ المُثَنّاةِ الفَوْقِيَّةِ وسُكُونِ الكافِ بِصِيغَةِ النَّهْيِ، أيْ: لا تُشْرِكْ يا نَبِيَّ اللَّهِ، أوْ لا تُشْرِكْ أيُّها المُخاطَبُ أحَدًا في حُكْمِ اللَّهِ جَلَّ وعَلا، بَلْ أخْلِصِ الحُكْمَ لِلَّهِ مِن شَوائِبِ شِرْكِ غَيْرِهِ في الحُكْمِ، وحُكْمُهُ جَلَّ وعَلا المَذْكُورُ في قَوْلِهِ: ﴿وَلا يُشْرِكُ في حُكْمِهِ أحَدًا﴾ شامِلٌ لِكُلِّ ما يَقْضِيهِ جَلَّ وعَلا، ويَدْخُلُ في ذَلِكَ التَّشْرِيعُ دُخُولًا أوَّلِيًّا.
وَما تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ مِن كَوْنِ الحُكْمِ لِلَّهِ وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ فِيهِ عَلى كِلْتا القِراءَتَيْنِ جاءَ مُبَيَّنًا في آياتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنِ الحُكْمُ إلّا لِلَّهِ أمَرَ ألّا تَعْبُدُوا إلّا إيّاهُ﴾ [يوسف: ٤٠]، وقَوْلِـهِ تَعالى: ﴿إنِ الحُكْمُ إلّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ﴾ الآيَةَ [يوسف: ٦٧]، وقَوْلِـهِ تَعالى: ﴿وَما اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلى اللَّهِ﴾ [الشورى: ١٠]، وقَوْلِـهِ تَعالى: ﴿ذَلِكم بِأنَّهُ إذا دُعِيَ اللَّهُ وحْدَهُ كَفَرْتُمْ وإنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فالحُكْمُ لِلَّهِ العَلِيِّ الكَبِيرِ﴾ [غافر: ١٢]، وقَوْلِـهِ تَعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إلّا وجْهَهُ لَهُ الحُكْمُ وإلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [القصص: ٨٨]، وقَوْلِـهِ تَعالى: ﴿لَهُ الحَمْدُ في الأُولى والآخِرَةِ ولَهُ الحُكْمُ وإلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [القصص: ٧٠]، وقَوْلِـهِ: ﴿أفَحُكْمَ الجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ومَن أحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [المائدة: ٥٠]، وقَوْلِـهِ تَعالى: ﴿أفَغَيْرَ اللَّهِ أبْتَغِي حَكَمًا وهو الَّذِي أنْزَلَ إلَيْكُمُ الكِتابَ مُفَصَّلًا﴾ [الأنعام: ١١٤]، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ.
(p-٢٥٩)وَيُفْهَمُ مِن هَذِهِ الآياتِ، كَقَوْلِهِ: ﴿وَلا يُشْرِكُ في حُكْمِهِ أحَدًا﴾ [الكهف: ٢٦]، أنَّ مُتَّبِعِي أحْكامِ المُشَرِّعِينَ غَيْرِ ما شَرَعَهُ اللَّهُ أنَّهم مُشْرِكُونَ بِاللَّهِ، وهَذا المَفْهُومُ جاءَ مُبَيَّنًا في آياتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ فِيمَنِ اتَّبَعَ تَشْرِيعَ الشَّيْطانِ في إباحَةِ المَيْتَةِ بِدَعْوى أنَّها ذَبِيحَةُ اللَّهِ: ﴿وَلا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وإنَّهُ لَفِسْقٌ وإنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إلى أوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكم وإنْ أطَعْتُمُوهم إنَّكم لَمُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: ١٢١]، فَصَرَّحَ بِأنَّهم مُشْرِكُونَ بِطاعَتِهِمْ، وهَذا الإشْراكُ في الطّاعَةِ، واتِّباعِ التَّشْرِيعِ المُخالِفِ لِما شَرَعَهُ اللَّهُ تَعالى هو المُرادُ بِعِبادَةِ الشَّيْطانِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ألَمْ أعْهَدْ إلَيْكم يابَنِي آدَمَ أنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إنَّهُ لَكم عَدُوٌّ مُبِينٌ وأنِ اعْبُدُونِي هَذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ [يس: ٦٠، ٦١]، وقَوْلِـهِ تَعالى عَنْ نَبِيِّهِ إبْراهِيمَ: ﴿ياأبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا﴾ [مريم: ٤٤]، وقَوْلِـهِ تَعالى: ﴿إنْ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إلّا إناثًا وإنْ يَدْعُونَ إلّا شَيْطانًا مَرِيدًا﴾ [النساء: ١١٧]، أيْ: ما يَعْبُدُونَ إلّا شَيْطانًا، أيْ: وذَلِكَ بِاتِّباعِ تَشْرِيعِهِ، ولِذا سَمّى اللَّهُ تَعالى الَّذِينَ يُطاعُونَ فِيما زَيَّنُوا مِنَ المَعاصِي شُرَكاءَ، في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ المُشْرِكِينَ قَتْلَ أوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ﴾ الآيَةَ [الأنعام: ١٣٧]، وقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ هَذا لِعَدِيِّ بْنِ حاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمّا سَألَهُ عَنْ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿اتَّخَذُوا أحْبارَهم ورُهْبانَهم أرْبابًا مِن دُونِ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٣١]، فَبَيَّنَ لَهُ أنَّهم أحَلُّوا لَهم ما حَرَّمَ اللَّهُ، وحَرَّمُوا عَلَيْهِمْ ما أحَلَّ اللَّهُ فاتَّبَعُوهم في ذَلِكَ، وأنَّ ذَلِكَ هو اتِّخاذُهم إيّاهم أرْبابًا.
وَمِن أصْرَحِ الأدِلَّةِ في هَذا: أنَّ اللَّهَ جَلَّ وعَلا في ”سُورَةِ النِّساءِ“ بَيَّنَ أنَّ مَن يُرِيدُونَ أنْ يَتَحاكَمُوا إلى غَيْرِ ما شَرَعَهُ اللَّهُ يَتَعَجَّبُ مِن زَعْمِهِمْ أنَّهم مُؤْمِنُونَ، وما ذَلِكَ إلّا لِأنَّ دَعْواهُمُ الإيمانَ مَعَ إرادَةِ التَّحاكُمِ إلى الطّاغُوتِ بالِغَةٌ مِنَ الكَذِبِ ما يَحْصُلُ مِنهُ العَجَبُ؛ وذَلِكَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أنَّهم آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إلَيْكَ وما أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أنْ يَتَحاكَمُوا إلى الطّاغُوتِ وقَدْ أُمِرُوا أنْ يَكْفُرُوا بِهِ ويُرِيدُ الشَّيْطانُ أنْ يُضِلَّهم ضَلالًا بَعِيدًا﴾ [النساء: ٦٠] .
وَبِهَذِهِ النُّصُوصِ السَّماوِيَّةِ الَّتِي ذَكَرْنا يَظْهَرُ غايَةَ الظُّهُورِ: أنَّ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ القَوانِينَ الوَضْعِيَّةَ الَّتِي شَرَعَها الشَّيْطانُ عَلى ألْسِنَةِ أوْلِيائِهِ مُخالَفَةً لِما شَرَعَهُ اللَّهُ جَلَّ وعَلا عَلى ألْسِنَةِ رُسُلِهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ وسَلَّمَ، أنَّهُ لا يَشُكُّ في كُفْرِهِمْ وشِرْكِهِمْ إلّا مَن طَمَسَ اللَّهُ بَصِيرَتَهُ، وأعْماهُ عَنْ نُورِ الوَحْيِ مِثْلَهم.
* * *
(p-٢٦٠)تَنْبِيهٌ
اعْلَمْ، أنَّهُ يَجِبُ التَّفْصِيلُ بَيْنَ النِّظامِ الوَضْعِيِّ الَّذِي يَقْتَضِي تَحْكِيمُهُ الكُفْرَ بِخالِقِ السَّماواتِ والأرْضِ، وبَيْنَ النِّظامِ الَّذِي لا يَقْتَضِي ذَلِكَ.
وَإيضاحُ ذَلِكَ أنَّ النِّظامَ قِسْمانِ: إدارِيٌّ، وشَرْعِيٌّ، أمّا الإدارِيُّ: الَّذِي يُرادُ بِهِ ضَبْطُ الأُمُورِ وإتْقانُها عَلى وجْهٍ غَيْرِ مُخالِفٍ لِلشَّرْعِ، فَهَذا لا مانِعَ مِنهُ، ولا مُخالِفَ فِيهِ مِنَ الصَّحابَةِ، فَمَن بَعْدَهم، وقَدْ عَمِلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِن ذَلِكَ أشْياءَ كَثِيرَةً ما كانَتْ في زَمَنِ النَّبِيِّ ﷺ، كَكَتْبِهِ أسْماءَ الجُنْدِ في دِيوانٍ لِأجْلِ الضَّبْطِ، ومَعْرِفَةِ مَن غابَ ومَن حَضَرَ كَما قَدَّمْنا إيضاحَ المَقْصُودِ مِنهُ في سُورَةِ ”بَنِي إسْرائِيلَ“ في الكَلامِ عَلى العاقِلَةِ الَّتِي تَحْمِلُ دِيَةَ الخَطَأِ، مَعَ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ، ولَمْ يَعْلَمْ بِتَخَلُّفِ كَعْبِ بْنِ مالِكٍ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ إلّا بَعْدَ أنْ وصَلَ تَبُوكَ ﷺ، وكاشْتِرائِهِ - أعْنِي عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دارَ صَفْوانَ بْنِ أُمَيَّةَ وجَعْلِهِ إيّاها سِجْنًا في مَكَّةَ المُكَرَّمَةِ، مَعَ أنَّهُ ﷺ لَمْ يَتَّخِذْ سِجْنًا هو ولا أبُو بَكْرٍ، فَمِثْلُ هَذا مِنَ الأُمُورِ الإدارِيَّةِ الَّتِي تُفْعَلُ لِإتْقانِ الأُمُورِ مِمّا لا يُخالِفُ الشَّرْعَ لا بَأْسَ بِهِ، كَتَنْظِيمِ شُئُونِ المُوَظَّفِينَ، وتَنْظِيمِ إدارَةِ الأعْمالِ عَلى وجْهٍ لا يُخالِفُ الشَّرْعَ، فَهَذا النَّوْعُ مِنَ الأنْظِمَةِ الوَضْعِيَّةِ لا بَأْسَ بِهِ، ولا يَخْرُجُ عَنْ قَواعِدِ الشَّرْعِ مِن مُراعاةِ المَصالِحِ العامَّةِ.
وَأمّا النِّظامُ الشَّرْعِيُّ المُخالِفُ لِتَشْرِيعِ خالِقِ السَّماواتِ والأرْضِ فَتَحْكِيمُهُ كُفْرٌ بِخالِقِ السَّماواتِ والأرْضِ، كَدَعْوى أنَّ تَفْضِيلَ الذَّكَرِ عَلى الأُنْثى في المِيراثِ لَيْسَ بِإنْصافٍ، وأنَّهُما يَلْزَمُ اسْتِواؤُهُما في المِيراثِ. وكَدَعْوى أنَّ تَعَدُّدَ الزَّوْجاتِ ظُلْمٌ، وأنَّ الطَّلاقَ ظُلْمٌ لِلْمَرْأةِ، وأنَّ الرَّجْمَ والقَطْعَ ونَحْوَهُما أعْمالٌ وحْشِيَّةٌ لا يَسُوغُ فِعْلُها بِالإنْسانِ، ونَحْوَ ذَلِكَ.
فَتَحْكِيمُ هَذا النَّوْعِ مِنَ النِّظامِ في أنْفُسِ المُجْتَمَعِ وأمْوالِهِمْ وأعْراضِهِمْ وأنْسابِهِمْ وعُقُولِهِمْ وأدْيانِهِمْ كُفْرٌ بِخالِقِ السَّماواتِ والأرْضِ، وتَمَرُّدٌ عَلى نِظامِ السَّماءِ الَّذِي وضَعَهُ مَن خَلَقَ الخَلائِقَ كُلَّها وهو أعْلَمُ بِمَصالِحِها سُبْحانَهُ وتَعالى عَنْ أنْ يَكُونَ مَعَهُ مُشَرِّعٌ آخَرُ عُلُوًّا كَبِيرًا ﴿أمْ لَهم شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهم مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾ [الشورى: ٢١]، ﴿قُلْ أرَأيْتُمْ ما أنْزَلَ اللَّهُ لَكم مِن رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنهُ حَرامًا وحَلالًا قُلْ آللَّهُ أذِنَ لَكم أمْ عَلى اللَّهِ تَفْتَرُونَ﴾ [يونس: ٥٩]، ﴿وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ ألْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذا حَلالٌ وهَذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلى اللَّهِ الكَذِبَ إنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلى اللَّهِ الكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ﴾ [النحل: ١١٦]، وقَدْ قَدَّمْنا جُمْلَةً وافِيَةً مِن هَذا النَّوْعِ في سُورَةِ ”بَنِي إسْرائِيلَ“ في الكَلامِ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ هَذا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هي أقْوَمُ﴾ الآيَةَ [الإسراء: ٩] .
{"ayah":"قُلِ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا لَبِثُوا۟ۖ لَهُۥ غَیۡبُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ أَبۡصِرۡ بِهِۦ وَأَسۡمِعۡۚ مَا لَهُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَلِیࣲّ وَلَا یُشۡرِكُ فِی حُكۡمِهِۦۤ أَحَدࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق