الباحث القرآني
﴿ولَبِثُوا في كَهْفِهِمْ﴾ أحْياءً مَضْرُوبًا عَلى آذانِهِمْ ﴿ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وازْدادُوا تِسْعًا﴾ وهي جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مُبَيِّنَةٌ كَما قالَ مُجاهِدٌ لِما أُجْمِلَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَضَرَبْنا عَلى آذانِهِمْ في الكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا﴾ واخْتارَ ذَلِكَ غَيْرُ واحِدٍ، قالَ في الكَشْفِ: فَعَلى هَذا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلِ اللَّهُ أعْلَمُ بِما لَبِثُوا﴾ تَقْرِيرٌ لِكَوْنِ المُدَّةِ المَضْرُوبِ فِيها عَلى آذانِهِمْ هي هَذِهِ المُدَّةُ كَأنَّهُ قِيلَ: قُلِ اللَّهُ أعْلَمُ بِما لَبِثُوا وقَدْ أعْلَمُ فَهو الحَقُّ الصَّحِيحُ الَّذِي لا يَحُومُ حَوْلَهُ شَكٌّ قَطُّ، وفائِدَةُ تَأْخِيرِ البَيانِ التَّنْبِيهُ عَلى أنَّهم تَنازَعُوا في ذَلِكَ أيْضًا لِذِكْرِهِ عَقِيبَ اخْتِلافِهِمْ في عِدَّةِ أشْخاصِهِمْ ولِيَكُونَ التَّذْيِيلُ بِ ﴿قُلِ اللَّهُ أعْلَمُ﴾ مُحاكِيًا لِلتَّذْيِيلِ بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿قُلْ رَبِّي أعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ﴾ ولِلدَّلالَةِ عَلى أنَّهُ مِنَ الغَيْبِ الَّذِي أُخْبِرَ بِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لِيَكُونَ مُعْجِزًا لَهُ، (p-252)ولَوْ قِيلَ: فَضَرَبْنا عَلى آذانِهِمْ سِنِينَ عَدَدًا وأتى بِهِ مُبَيَّنًا أوَّلًا لَمْ يَكُنْ فِيهِ هَذِهِ الدَّلالَةُ البَتَّةَ، فَهَذِهِ عِدَّةُ فَوائِدَ، والأصْلُ الأخِيرَةُ. انْتَهى، ويَحْتاجُ عَلى هَذا إلى بَيانِ وجْهِ العُدُولِ عَنِ المُتَبادَرِ وهو ثَلاثُمِائَةٍ وتِسْعُ سِنِينَ مَعَ أنَّهُ أخْصَرُ وأظْهَرُ فَقِيلَ: هو الإشارَةُ إلى أنَّها ثَلاثُمِائَةٍ بِحِسابِ أهْلِ الكِتابِ واعْتِبارِ السَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ، ثَلاثُمِائَةٍ وتِسْعٌ بِحِسابِ العَرَبِ واعْتِبارِ السَّنَةِ القَمَرِيَّةِ.
فالتِّسْعُ مِقْدارُ التَّفاوُتِ، وقَدْ نَقَلَهُ بَعْضُهم عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ.
واعْتُرِضَ بِأنَّ دَلالَةَ اللَّفْظِ عَلى ما ذُكِرَ غَيْرُ ظاهِرَةٍ مَعَ أنَّهُ لا يُوافِقُ ما عَلَيْهِ الحِسابُ والمُنَجِّمُونَ كَما قالَهُ الإمامُ؛ لِأنَّ السَّنَةَ الشَّمْسِيَّةَ ثَلاثُمِائَةٍ وخَمْسٌ وسِتُّونَ يَوْمًا وخَمْسُ ساعاتٍ وتِسْعٌ وأرْبَعُونَ دَقِيقَةً عَلى مُقْتَضى الرَّصْدِ الإيلْخانِيِّ، والسَّنَةُ القَمَرِيَّةُ ثَلاثُمِائَةٍ وأرْبَعَةٌ وخَمْسُونَ يَوْمًا وثَمانِ ساعاتٍ وثَمانٍ وأرْبَعُونَ دَقِيقَةً، فَيَكُونُ التَّفاوُتُ بَيْنَهُما عَشَرَةَ أيّامٍ وإحْدى وعِشْرِينَ ساعَةً ودَقِيقَةً واحِدَةً، وإذا كانَ هَذا تَفاوُتَ سَنَةٍ كانَ تَفاوُتُ مِائَةِ ألْفِ يَوْمٍ وسَبْعَةٍ وثَمانِينَ يَوْمًا وثَلاثَ عَشْرَةَ ساعَةً وأرْبَعِ دَقائِقَ وهي ثَلاثَةُ سِنِينَ وأرْبَعَةٌ وعِشْرُونَ يَوْمًا وإحْدى عَشْرَةَ ساعَةً وسِتَّ عَشْرَةَ دَقِيقَةً فَيَكُونُ تَفاوُتُ ثَلاثِمِائَةِ سَنَةٍ تِسْعَ سِنِينَ وثَلاثًا وسَبْعِينَ يَوْمًا وتِسْعَ ساعاتٍ وثَمانِيًا وأرْبَعِينَ دَقِيقَةً؛ ولِذا قِيلَ: إنَّ رِوايَتَهُ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ لَمْ تَثْبُتْ. وبَحَثَ فِيهِ الخَفاجِيُّ بِأنَّ وجْهَ الدَّلالَةِ فِيهِ ظاهِرٌ لِأنَّ المَعْنى: لَبِثُوا ثَلاثَمِائَةِ سَنَةٍ عَلى حِسابِ أهْلِ الكِتابِ الَّذِينَ عَلَّمُوا قَوْمَكَ السُّؤالَ عَنْ شَأْنِهِمْ وتِسْعًا زائِدَةً عَلى حِسابِ قَوْمِكَ الَّذِينَ سَألُوكَ عَنْ ذَلِكَ، والعُدُولُ عَنِ الظّاهِرِ يُشْعِرُ بِهِ، ودَعْوى أنَّ التَّفاوُتَ تِسْعَ سِنِينَ مَبْنِيَّةٌ عَلى التَّقْرِيبِ؛ لِأنَّ الزّائِدَ لَمْ يَبْلُغْ نِصْفَ سَنَةٍ، بَلْ ولا فَصْلًا مِن فُصُولِها فَلَمْ يُعْبَأْ بِهِ، وكَوْنُ التَّفاوُتِ تِسْعًا تَقْرِيبًا جارٍ عَلى سائِرِ الأقْوالِ في مِقْدارِ السَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ والسَّنَةِ القَمَرِيَّةِ؛ إذِ التَّفاوُتُ في سائِرِها لا يَكادُ يَبْلُغُ رُبْعًا فَضْلًا عَنْ نِصْفٍ، وقالَ الطِّيبِيُّ في تَوْجِيهِ العُدُولِ: إنَّهُ يُمْكِنُ أنْ يُقالَ: لَعَلَّهم لَمّا اسْتَكْمَلُوا ثَلاثَمِائَةِ سَنَةٍ قَرُبُوا مِنَ الِانْتِباهِ ثُمَّ اتُّفِقَ ما أوْجَبَ بَقاءَهم نائِمِينَ تِسْعَ سِنِينَ. وتُعُقِّبَ بِأنَّ هَذا يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ المُرادُ: وازْدادُوا نَوْمًا؛ أيْ: قَوِيَ نَوْمُهم في تِسْعِ سِنِينَ، ولا يَخْفى ما فِيهِ.
وقالَ أيْضًا: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ أهْلُ الكِتابِ قَدِ اخْتَلَفُوا في مُدَّةِ لُبْثِهِمْ كَما اخْتَلَفُوا في عِدَّتِهِمْ فَجاءَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَبِثُوا﴾ إلَخْ رافِعًا لِلِاخْتِلافِ مُبَيِّنًا لِلْحَقِّ ويَكُونُ: ﴿وازْدادُوا تِسْعًا﴾ تَقْرِيرًا ودَفْعًا لِلِاحْتِمالِ نَظِيرَ الِاسْتِثْناءِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلَبِثَ فِيهِمْ ألْفَ سَنَةٍ إلا خَمْسِينَ عامًا﴾ وسَيَجِيءُ بَيانُهُ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى، ولا يَخْلُو عَنْ حُسْنٍ.
وقِيلَ: إنَّهُمُ انْتَبَهُوا قَلِيلًا ثُمَّ رُدُّوا إلى حالَتِهِمُ الأُولى فَلِذا ذَكَرَ الِازْدِيادَ وهو الَّذِي يَقْتَضِيهِ ما أخْرَجَهُ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ قَتادَةَ المارَّ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ونُقَلِّبُهُمْ﴾ إلَخْ وهو فِيما أرى أقْرَبُ مِمّا تَقَدَّمَ مِن حَدِيثِ السِّنِينَ الشَّمْسِيَّةِ والقَمَرِيَّةِ.
وقالَ جَمْعٌ: إنَّ الجُمْلَةَ مِن كَلامِ أهْلِ الكِتابِ؛ فَهي مِن مَقُولِ: ﴿سَيَقُولُونَ﴾ السّابِقِ وما بَيْنَهُما اعْتِراضٌ ونُسِبَ ذَلِكَ إلى ابْنِ عَبّاسٍ، فَقَدْ أخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ أنَّهُ قالَ: إنَّ الرَّجُلَ لَيُفَسِّرُ الآيَةَ يَرى أنَّها كَذَلِكَ فَيَهْوِي أبْعَدَ ما بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ ثُمَّ تَلا: ﴿ولَبِثُوا في كَهْفِهِمْ﴾ الآيَةَ. ثُمَّ قالَ: كَمْ لَبِثَ القَوْمُ؟ قالُوا: ثَلاثَمِائَةٍ وتِسْعَ سِنِينَ فَقالَ: لَوْ كانُوا لَبِثُوا كَذَلِكَ لَمْ يَقُلِ اللَّهُ تَعالى: ﴿قُلِ اللَّهُ أعْلَمُ بِما لَبِثُوا﴾ ولَكِنَّهُ سُبْحانَهُ حَكى مَقالَةَ القَوْمِ فَقالَ تَعالى: ﴿سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ﴾ إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿رَجْمًا بِالغَيْبِ﴾ فَأخْبَرَ أنَّهم لا يَعْلَمُونَ وقالَ: سَيَقُولُونَ: لَبِثُوا في كَهْفِهِمْ ثَلاثَمِائَةٍ سِنِينَ وازْدادُوا تِسْعًا، ولَعَلَّ هَذا لا يَصِحُّ عَنِ الحَبْرِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ؛ فَقَدْ صَحَّ عَنْهُ القَوْلُ بِأنَّ عِدَّةَ (p-253)أصْحابِ الكَهْفِ سَبْعَةٌ وثامِنُهم كَلْبُهم مَعَ أنَّهُ تَعالى عَقَّبَ القَوْلَ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿قُلْ رَبِّي أعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ﴾ ولا فَرْقَ بَيْنَهُ وبَيْنَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلِ اللَّهُ أعْلَمُ بِما لَبِثُوا﴾ فَلِمَ دَلَّ هَذا عَلى الرَّدِّ ولَمْ يَدُلَّ ذاكَ.
نَعَمْ قَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ: «قالُوا لَبِثُوا كَهْفَهُمْ» وهو يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ مِن كَلامِ الخائِضِينَ في شَأْنِهِمْ إلّا أنَّ التَّعْقِيبَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلِ اللَّهُ أعْلَمُ بِما لَبِثُوا﴾ كَتَعْقِيبِ القَوْلِ الثّالِثِ في العِدَّةِ بِما سَمِعْتَ في عَدَمِ الدَّلالَةِ عَلى الرَّدِّ.
والظّاهِرُ أنَّ ضَمِيرَ: ﴿وازْدادُوا﴾ عَلى هَذا القَوْلِ لِأصْحابِ الكَهْفِ كَما أنَّهُ كَذَلِكَ عَلى القَوْلِ السّابِقِ، وقالَ الخَفاجِيُّ: إنَّ الضَّمِيرَ عَلَيْهِ لِأهْلِ الكِتابِ بِخِلافِهِ عَلى الأوَّلِ، ويَظْهَرُ فِيهِ وجْهُ العُدُولِ عَنْ ثَلاثِمِائَةٍ وتِسْعِ سِنِينَ لِأنَّ بَعْضَهم قالَ: لَبِثُوا ثَلاثَمِائَةٍ، وبَعْضُهم قالَ: إنَّهُ أزْيَدُ بِتِسْعَةٍ اه. ولا يَخْفى ما فِيهِ.
وعَلى القَوْلَيْنِ؛ الظّاهِرُ أنَّ: ﴿بِما لَبِثُوا﴾ إشارَةٌ إلى المُدَّةِ السّابِقِ ذِكْرُها، وزَعَمَ بَعْضُهم أنَّهُ إشارَةٌ إلى المُدَّةِ الَّتِي بَعْدَ الِاطِّلاعِ عَلَيْهِمْ إلى زَمَنِ الرَّسُولِ ﷺ وهو كَما تَرى، وقِيلَ: إنَّهُ تَعالى لَمّا قالَ: ﴿وازْدادُوا تِسْعًا﴾ كانَتِ التِّسْعُ مُبْهَمَةً لا يُدْرى أنَّها سُنُونَ أمْ شُهُورٌ أمْ أيّامٌ أمْ ساعاتٌ، واخْتَلَفَ فِيً ذَلِكَ بَنُو إسْرائِيلَ فَأُمِرَ ﷺ بِرَدِّ العِلْمِ إلَيْهِ عَزَّ وجَلَّ في التِّسْعِ فَقَطِ اه. ولَيْسَ بِشَيْءٍ؛ فَإنَّهُ إذا سَبَقَ عَدَدٌ مُفَسَّرٌ وعُطِفَ عَلَيْهِ ما لَمْ يُفَسَّرْ حُمِلَ تَفْسِيرُهُ عَلى السّابِقِ؛ فَعِنْدِي مِائَةُ دِرْهَمٍ وعَشَرَةٌ ظاهِرٌ في «وعَشَرَةُ دَراهِمَ» ولَيْسَ بِمُجْمَلٍ كَما لا يَخْفى.
هَذا ونُصِبَ: ﴿تِسْعًا﴾ عَلى أنَّهُ مَفْعُولُ ( ازْدادُوا ) وهو مِمّا يَتَعَدّى إلى واحِدٍ، وقالَ أبُو البَقاءِ: إنَّ زادَ يَتَعَدّى إلى اثْنَيْنِ، وإذا بُنِيَ عَلى افْتَعَلَ تَعَدّى إلى واحِدٍ، وظاهِرُ كَلامِ الرّاغِبِ وغَيْرِهِ أنَّ زادَ قَدْ تَتَعَدّى إلى واحِدٍ يُقالُ: زِدْتُهُ كَذا فَزادَ هو وازْدادَ كَذا، ووَجْهُ ذَلِكَ ظاهِرٌ فَلا تَغْفُلْ، والجُمْهُورُ عَلى أنَّ «سِنِينَ» في القِراءَةِ بِتَنْوِينِ «مِائَةٍ» مَنصُوبٌ لَكِنِ اخْتَلَفُوا في تَوْجِيهِ ذَلِكَ فَقالَ أبُو البَقاءِ وابْنُ الحاجِبِ: هو مَنصُوبٌ عَلى البَدَلِيَّةَ مِن: ﴿ثَلاثَ مِائَةٍ﴾ .
وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَلى أنَّهُ عَطْفُ بَيانٍ لِثَلاثِمِائَةٍ، وتَعَقَّبَهُ في البَحْرِ بِأنَّهُ لا يَجُوزُ عَلى مَذْهَبِ البَصْرِيِّينَ.
وادَّعى بَعْضُهم أنَّهُ أوْلى مِنَ البَدَلِيَّةَ لِأنَّها تَسْتَلْزِمُ أنْ لا يَكُونَ العَدَدُ مَقْصُودًا، ويُؤَيِّدُهُ ما أخْرَجَهُ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ الضَّحّاكِ قالَ: «لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: ﴿ولَبِثُوا في كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ﴾ قِيلَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، أيّامًا أمْ أشْهُرًا أمْ سِنِينَ؟ فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى سِنِينَ».
وجَوَّزَ ابْنُ عَطِيَّةَ الوَجْهَيْنِ، وقِيلَ: عَلى التَّمْيِيزِ، وتُعُقِّبَ بِأنَّهُ يَلْزَمُ عَلَيْهِ الشُّذُوذُ مِن وجْهَيْنِ، وسَتَعْلَمُ وجْهَهُ قَرِيبًا إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى، وبِما نُقِلَ في المُفَصَّلِ عَنِ الزَّجّاجِ أنَّهُ يَلْزَمُ أنْ يَكُونُوا لَبِثُوا تِسْعَمِائَةِ سَنَةٍ، قالَ ابْنُ الحاجِبِ: ووَجَّهَهُ أنَّهُ فُهِمَ مِن لُغَتِهِمْ أنَّ مُمَيِّزَ المِائَةِ واحِدٌ مِن مِائَةٍ كَما إذا قُلْتَ: مِائَةُ رَجُلٍ، فَرَجُلٌ واحِدٌ مِنَ المِائَةِ فَلَوْ كانَ سِنِينَ تَمْيِيزًا لَكانَ واحِدًا مِن ثَلاثِمِائَةٍ، وأقَلُّ السِّنِينَ ثَلاثَةٌ، فَكانَ كَأنَّهُ قِيلَ: ثَلاثَمِائَةِ ثَلاثِ سِنِينَ فَيَكُونُ تِسْعَمِائَةِ سَنَةٍ. ويُرَدُّ بِأنَّ ما ذُكِرَ مَخْصُوصٌ بِما إذا كانَ التَّمْيِيزُ مُفْرَدًا، وأمّا إذا كانَ جَمْعًا فالقَصْدُ فِيهِ كالقَصْدِ في وُقُوعِ التَّمْيِيزِ جَمْعًا في نَحْوِ: ثَلاثَةُ أثْوابٍ، مَعَ أنَّ الأصْلَ في الجَمِيعِ الجَمْعُ، وإنَّما عَدَلُوا إلى المُفْرَدِ لِعِلَّةٍ كَما بُيِّنَ في مَحَلِّهِ، فَإذا اسْتُعْمِلَ التَّمْيِيزُ جَمْعًا اسْتُعْمِلَ عَلى الأصْلِ، وما قالَ إنَّما يَلْزَمُ لَوْ كانَ ما اسْتُعْمِلَ جَمْعًا اسْتُعْمِلَ كَما اسْتُعْمِلَ المُفْرَدُ فَأمّا إذا اسْتُعْمِلَ الجَمْعُ عَلى أصْلِهِ في ما وُضِعَ لَهُ العَدَدُ فَلا. انْتَهى. وقَدْ صَرَّحَ الخَفاجِيُّ أنَّ ذَلِكَ كَتَقابُلِ الجَمْعِ بِالجَمْعِ، وجَوَّزَ الزَّجّاجُ كَوْنَ «سِنِينَ» مَجْرُورًا عَلى أنَّهُ نَعْتُ «مِائَةٍ» وهو راجِعٌ في المَعْنى إلى جُمْلَةِ العَدَدِ كَما في قَوْلِ عَنْتَرَةَ:(p-254)
؎فِيها اثْنَتانِ وأرْبَعُونَ حَلُوبَةً سُودًا كَخافِيَةِ الغُرابِ الأسْحَمِ
حَيْثُ جُعِلَ سُودًا نَعْتًا لِ «حَلُوبَةً» وهي في المَعْنى نَعْتٌ لِجُمْلَةِ العَدَدِ، وقالَ أبُو عَلِيٍّ: لا يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ الشّاعِرُ اعْتَبَرَ حَلُوبَةً جَمْعًا وجَعَلَ سُودًا وصْفًا لَها، وإذا كانَ المُرادُ بِهِ الجَمْعُ فَلا يَمْتَنِعُ أنْ يَقَعَ تَفْسِيرًا لِهَذا الضَّرْبِ مِنَ العَدَدِ مِن حَيْثُ كانَ عَلى لَفْظِ الآحادِ كَما يُقالُ: عِشْرُونَ نَفَرًا، وثَلاثُونَ قَبِيلًا. وقَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ وطَلْحَةُ ويَحْيى والأعْمَشُ والحَسَنُ وابْنُ أبِي لَيْلى وخَلَفٌ وابْنُ سَعْدانَ وابْنُ عِيسى الأصْبَهانِيُّ وابْنُ جُبَيْرٍ الأنْطاكِيُّ: «ثَلاثَمِائَةِ سِنِينَ» بِإضافَةِ مِائَةٍ إلى سِنِينَ، وما نُقِلَ عَنِ الزَّجّاجِ يُرَدُّ هُنا أيْضًا ويُرَدُّ بِما رُدَّ بِهِ هُناكَ، ولا وجْهَ لِتَخْصِيصِ الإيرادِ بِنَصْبِ سِنِينَ عَلى التَّمْيِيزِ؛ فَإنَّ مَنشَأ اللُّزُومِ عَلى فَرْضِ تَسْلِيمِهِ كَوْنُهُ تَمْيِيزًا وهو مُتَحَقِّقٌ إذا جُرَّ أيْضًا وجُرَّ تَمْيِيزُ المِائَةِ بِالإضافَةِ أحَدُ الأمْرَيْنِ المَشْهُورَيْنِ فِيهِ اسْتِعْمالًا، وثانِيهِما: كَوْنُهُ مُفْرَدًا ولِكَوْنِ الإفْرادِ مَشْهُورًا في الِاسْتِعْمالِ أُطْلِقَ عَلَيْهِ الأصْلُ؛ فَهو أصْلٌ بِحَسْبِ الِاسْتِعْمالِ، ولا يُنافِي هَذا قَوْلَ ابْنِ الحاجِبِ: إنَّ الأصْلَ في التَّمْيِيزِ مُطْلَقًا الجَمْعُ كَما سَمِعْتَ آنِفًا؛ لِأنَّهُ أرادَ أنَّهُ الأصْلُ المَرْفُوضُ قِياسًا نَظَرًا إلى أنَّ المِائَةَ جَمْعٌ كَثَلاثَةٍ وأرْبَعَةٍ ونَحْوِهِما كَذا في الكَشْفِ، وقَدْ يَخْرُجُ عَنِ الِاسْتِعْمالِ المَشْهُورِ فَيَأْتِي مُفْرَدًا مَنصُوبًا كَما في قَوْلِهِ:
؎إذا عاشَ الفَتى مِائَتَيْنِ عامًا ∗∗∗ فَقَدْ ذَهَبَ اللَّذاذَةُ والفَتاءُ
وقَدْ يَأْتِي جَمْعًا مَجْرُورًا بِالإضافَةِ كَما في الآيَةِ عَلى قِراءَةِ الكِسائِيِّ وحَمْزَةَ ومَن مَعَهُما لَكِنْ قالُوا: إنَّ الجَمْعَ المَذْكُورَ فِيها قَدْ أُجْرِيَ مَجْرى العارِي عَنْ عَلامَةِ الجَمْعِ لِما أنَّ العَلامَةَ فِيهِ لَيْسَتْ مُتَمَحِّضَةً لِلْجَمْعِيَّةِ لِأنَّها كالعِوَضِ عَنْ لامِ مُفْرَدِهِ المَحْذُوفَةِ حَتّى أنَّ قَوْمًا لا يُعْرِبُونَهُ بِالحُرُوفِ بَلْ يُجْرُونَهُ مَجْرى حِينٍ، ولَمْ أجِدْ فِيما عِنْدِي مِن كُتُبِ العَرَبِيَّةِ شاهِدًا مِن كَلامِ العَرَبِ لِإضافَةِ المِائَةِ إلى جَمْعٍ، وأكْثَرُ النَّحْوِيِّينَ يُورِدُونَ الآيَةَ عَلى قِراءَةِ حَمْزَةَ والكِسائِيِّ شاهِدًا لِذَلِكَ وكَفى بِكَلامِ اللَّهِ تَعالى شاهِدًا.
وقَرَأ أُبَيٌّ: «ثَلاثَمِائَةِ سَنَةٍ» بِالإضافَةِ والإفْرادِ كَما هو الِاسْتِعْمالُ الشّائِعُ وكَذا في مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وقَرَأ الضَّحّاكُ: «ثَلاثَمِائَةٍ سُنُونَ» بِالتَّنْوِينِ ورَفْعِ سُنُونَ عَلى أنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ؛ أيْ: هي سُنُونَ، وقَرَأ الحَسَنُ وأبُو عَمْرٍو في رِوايَةِ اللُّؤْلُؤِيِّ عَنْهُ: «تِسْعًا» بِفَتْحِ التّاءِ وهو لُغَةٌ فِيهِ، فاعْلَمْ واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ.
﴿لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ أيْ: جَمِيعُ ما غابَ فِيهِما وخَفِيَ مِن أحْوالِ أهْلِهِما فالغَيْبُ مَصْدَرٌ بِمَعْنى الغائِبِ والخَفِيُّ جُعِلَ عَيْنَهُ لِلْمُبالَغَةِ، واللّامُ لِلِاخْتِصاصِ العِلْمِيِّ؛ أيْ: لَهُ تَعالى ذَلِكَ عِلْمًا ويَلْزَمُ مِنهُ ثُبُوتُ عِلْمِهِ سُبْحانَهُ بِسائِرِ المَخْلُوقاتِ؛ لِأنَّ مَن عَلِمَ الخَفِيَّ عَلِمَ غَيْرَهُ بِالطَّرِيقِ الأوْلى.
﴿أبْصِرْ بِهِ وأسْمِعْ﴾ صِيغَتا تَعَجُّبٍ، والهاءُ ضَمِيرُهُ تَعالى، والكَلامُ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ القَوْلِ فَلَيْسَ التَّعَجُّبُ مِنهُ سُبْحانَهُ لِيُقالَ: لَيْسَ المُرادُ مِنهُ حَقِيقَتَهُ لِاسْتِحالَتِهِ عَلَيْهِ تَعالى بَلِ المُرادُ أنَّ ذَلِكَ أمْرٌ عَظِيمٌ مِن شَأْنِهِ أنْ يُتَعَجَّبَ مِنهُ كَما قِيلَ، ولا يَمْتَنِعَ صُدُورُ التَّعَجُّبِ مِن بَعْضِ صِفاتِهِ سُبْحانَهُ وأفْعالِهِ عَزَّ وجَلَّ حَقِيقَةً مِن غَيْرِهِ تَعالى.
وفِي الحَدِيثِ: ««ما أحْلَمَكَ عَمَّنْ عَصاكَ، وأقْرَبَكَ مِمَّنْ دَعاكَ، وأعْطَفَكَ عَلى مَن سَألَكَ»».
ولَهم في هَذِهِ المَسْألَةِ كَلامٌ طَوِيلٌ فَلْيَرْجِعْ إلَيْهِ مَن أرادَهُ، ولِابْنِ هِشامٍ رِسالَةٌ في ذَلِكَ، وأيًّا ما كانَ فَفِيهِ إشارَةٌ إلى أنَّ شَأْنَ بَصَرِهِ تَعالى وسَمْعِهِ عَزَّ وجَلَّ وهُما صِفَتانِ غَيْرُ راجِعَتَيْنِ إلى صِفَةِ العِلْمِ خارِجٌ عَمّا عَلَيْهِ بَصَرُ المُبْصِرِينَ وسَمْعُ السّامِعِينَ فَإنَّ اللَّطِيفَ والكَثِيفَ والصَّغِيرَ والكَبِيرَ والجَلِيَّ والخَفِيَّ والسِّرَّ والعَلَنَ عَلى حَدٍّ سَواءٍ في عَدَمِ الِاحْتِجابِ عَنْ بَصَرِهِ وسَمْعِهِ تَبارَكَ وتَعالى، بَلْ مِنَ النّاسِ مَن قالَ: إنَّ المَعْدُومَ والمَوْجُودَ في ذَلِكَ سَواءٌ، وهو مَبْنِيٌّ عَلى شَيْئِيَّةِ المَعْدُومِ، (p-255)والخِلافُ في ذَلِكَ مَعْلُومٌ، ولَعَلَّ تَقْدِيمَ ما يَدُلُّ عَلى عِظَمِ شَأْنِ بَصَرِهِ عَزَّ وجَلَّ لِما أنَّ ما نَحْنُ بِصَدَدِهِ مِن قَبِيلِ المُبْصَراتِ، والأصْلُ أبْصَرَ وأسْمَعَ والهَمْزَةُ لِلصَّيْرُورَةِ لا لِلتَّعْدِيَةِ؛ أيْ: صارَ ذا بَصَرٍ وصارَ ذا سَمْعٍ ولا يَقْتَضِي ذَلِكَ عَدَمَ تَحَقُّقِهِما لَهُ تَعالى، تَعالى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، وفِيهِما ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ عائِدٌ عَلَيْهِ سُبْحانَهُ ثُمَّ حُوِّلا إلى صِيغَةِ الأمْرِ وبَرَزَ الضَّمِيرُ الفاعِلُ لِعَدَمِ لِياقَةِ صِيغَةِ الأمْرِ لِتَحَمُّلِ ضَمِيرِ الغائِبِ، وجُرَّ بِالباءِ الزّائِدَةِ فَكانَ لَهُ مَحَلّانِ الجَرُّ لِمَكانِ الباءِ والرَّفْعُ لِمَكانِ كَوْنِهِ فاعِلًا، ولِكَوْنِهِ صارَ فَضْلَةً صُورَةً أُعْطِيَ حُكْمَها فَصَحَّ حَذْفُهُ مِنَ الجُمْلَةِ الثّانِيَةِ مَعَ كَوْنِهِ فاعِلًا، والفاعِلُ لا يَجُوزُ حَذْفُهُ عِنْدَهُمْ، ولا تَكادُ تُحْذَفُ هَذِهِ الباءُ في هَذا المَوْضِعِ إلّا إذا كانَ المُتَعَجَّبُ مِنهُ أنْ وصِلَتَها نَحْوَ: أحْسِنْ أنْ تَقُولَ، وهَذا الفِعْلُ لِكَوْنِهِ ماضِيًا مَعْنًى قِيلَ إنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلى فَتْحٍ مُقَدَّرٍ مَنَعَ مِن ظُهُورِهِ مَجِيئُهُ عَلى صُورَةِ الأمْرِ وهَذا مَذْهَبُ «س» في هَذا التَّرْكِيبِ، قالَ الرَّضِيُّ: وضُعِّفَ ذَلِكَ بِأنَّ الأمْرَ بِمَعْنى الماضِي مِمّا لَمْ يُعْهَدْ بَلْ جاءَ الماضِي بِمَعْنى الأمْرِ كَما في حَدِيثِ: ««اتَّقى اللَّهَ امْرُؤٌ فَعَلَ خَيْرًا يُثَبْ عَلَيْهِ»».
وبِأنْ صارَ ذا كَذا قَلِيلٌ، ولَوْ كانَ ما ذُكِرَ مِنهُ لَجازَ ألْحِمْ بِزَيْدٍ، وأشْحِمْ بِزَيْدٍ، وبِأنَّ زِيادَةَ الباءِ في الفاعِلِ قَلِيلٌ، والمُطَّرِدُ زِيادَتُها في المَفْعُولِ.
وتُعُقِّبَ بِأنَّ كَوْنَ الأمْرِ بِمَعْنى الماضِي مِمّا لَمْ يُعْهَدْ غَيْرُ مُسَلَّمٍ؛ ألا تَرى أنَّ كَفى بِهِ بِمَعْنى اكْتَفِ بِهِ عِنْدَ الزَّجّاجِ، وقَصَدَ بِهَذا النَّقْلِ الدَّلالَةَ عَلى أنَّهُ قُصِدَ بِهِ مَعْنًى إنْشائِيٌّ وهو التَّعَجُّبُ، ولَمْ يُقْصَدْ ذَلِكَ مِنَ الماضِي لِأنَّ الإنْشاءَ أنْسَبُ بِصِيغَةِ الأمْرِ مِنهُ؛ لِأنَّهُ خَبَرٌ في الأكْثَرِ، وبِأنَّ كَثْرَةَ أفْعَلَ بِمَعْنى صارَ ذا كَذا لا تَخْفى عَلى المُتَتَبِّعِ، وجَوازُ ألْحِمْ بِزَيْدٍ عَلى مَعْنى التَّعَجُّبِ لازِمٌ ولا مَحْذُورَ فِيهِ وعَلى مَعْنًى آخَرَ غَيْرُ لازِمٍ، نَعَمْ ما ذُكِرَ مِن قِلَّةِ زِيادَةِ الباءِ في الفاعِلِ مِمّا لا كَلامَ فِيهِ، والإنْصافُ أنَّ مَذْهَبَ س في هَذِهِ المَسْألَةِ لا يَخْلُو عَنْ تَعَسُّفٍ. ومَذْهَبُ الأخْفَشِ وعَزاهُ الرَّضِيُّ إلى الفَرّاءِ أنَّ أفْعِلْ في نَحْوِ هَذا التَّرْكِيبِ أمْرٌ لَفْظًا ومَعْنًى، فَإذا قُلْتَ: أحْسِنْ بِزَيْدٍ فَقَدْ أمَرْتَ كُلَّ واحِدٍ بِأنْ يَجْعَلَ زَيْدًا حَسَنًا، ومَعْنى جَعْلِهِ كَذَلِكَ وصْفُهُ بِهِ فَكَأنَّكَ قُلْتَ: صِفْهُ بِالحُسْنِ كَيْفَ شِئْتَ، فَإنَّ فِيهِ مِنهُ كُلَّ ما يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ في شَخْصٍ كَما قالَ الشّاعِرُ:
؎لَقَدْ وجَدْتَ مَكانَ القَوْلِ ذا سِعَةٍ ∗∗∗ فَإنْ وجَدْتَ لِسانًا قائِلًا فَقُلِ
وهَذا المَعْنى مُناسِبٌ لِلتَّعَجُّبِ بِخِلافِ تَقْدِيرِ س، وأيْضًا هَمْزَةُ الجَعْلِ أكْثَرُ مِن هَمْزَةِ صارَ ذا كَذا، وإنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنهُما عَلى ما قالَ الرَّضِيُّ قِياسًا مُطَّرِدًا، واعْتُبِرَ الفاعِلُ ضَمِيرَ المَأْمُورِ وهو كُلُّ أحَدٍ؛ لِأنَّ المُرادَ أنَّهُ لِظُهُورِ الأمْرِ يُؤْمَرُ كُلُّ أحَدٍ لا عَلى التَّعْيِينِ بِوَصْفِهِ بِما ذُكِرَ، ولَمْ يُتَصَرَّفْ في أفْعِلْ عَلى هَذا المَذْهَبِ فَيُسْنَدُ إلى مُثَنًّى أوْ مَجْمُوعٍ أوْ مُؤَنَّثٍ لِما ذَكَرُوا مِن عِلَّةِ كَوْنِ فَعَلَ لِلتَّعَجُّبِ غَيْرُ مُتَصَرِّفٍ وهي مُشابَهَتُهُ الحُرُوفَ في الإنْشاءِ وكَوْنُ كُلِّ لَفْظٍ مِن ألْفاظِهِ صارَ عَلَمًا لِمَعْنًى مِنَ المَعانِي، وإنْ كانَ هُناكَ جُمْلَةٌ فالقِياسُ أنْ لا يُتَصَرَّفَ فِيهِ احْتِياطًا لِتَحْصِيلِ الفَهْمِ كَأسْماءِ الأعْلامِ فَلِذا لَمْ يُتَصَرَّفْ في نِعْمَ وبِئْسَ في الأمْثالِ، وسَهَّلَ ذَلِكَ هُنا انْمِحاءُ مَعْنى الأمْرِ فِيهِ كَما انْمَحى مَعْنى الجَعْلِ وصارَ لِمَحْضِ إنْشاءِ التَّعَجُّبِ ولَمْ يَبْقَ فِيهِ مَعْنى الخِطابِ، والباءُ زائِدَةٌ في المَفْعُولِ، وأجازَ الزَّجّاجُ أنْ تَكُونَ الهَمْزَةُ لِلصَّيْرُورَةِ فَتَكُونُ الباءُ لِلتَّعْدِيَةِ؛ أيْ: صَيِّرْهُ ذا حُسْنٍ، ثُمَّ إنَّهُ اعْتَذَرَ لِبَقاءِ أحْسِنْ في الأحْوالِ عَلى صُورَةٍ واحِدَةٍ لِكَوْنِ الخِطابِ لِمَصْدَرِ الفِعْلِ؛ أيْ: يا حُسْنُ أحْسِنْ بِزَيْدٍ، وفِيهِ تَكَلُّفٌ وسَماجَةٌ، (p-256)وأيْضًا نَحْنُ نَقُولُ: أحْسِنْ بِزَيْدٍ يا عَمْرُو، ولا يُخاطَبُ شَيْئانِ في حالَةٍ إلّا أنْ يَقُولَ: مَعْنى خِطابِ الحُسْنِ قَدِ انْمَحى، وثَمَرَةُ الخِلافِ بَيْنَ س وغَيْرِهِ تَظْهَرُ فِيما إذا اضْطُرَّ إلى حَذْفِ الباءِ فَعَلى مَذْهَبِ س يَلْزَمُ رَفْعُ مَجْرُورِهِ وعَلى غَيْرِهِ يَلْزَمُ نَصْبُهُ، هَذا وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مَعْنى الآيَةِ: أبْصِرْ بِدِينِ اللَّهِ تَعالى وأسْمِعْ بِهِ؛ أيْ: بَصُرَ بِهُدى اللَّهِ تَعالى وسَمِعَ بِهِ فَتَرْجِعُ الهاءُ إمّا عَلى الهُدى وإمّا عَلى الِاسْمِ الجَلِيلِ، ونُقِلَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ الأنْبارِيِّ ولَيْسَ بِشَيْءٍ.
وقَرَأ عِيسى: «أبْصَرَ بِهِ وأسْمَعَ» بِصِيغَةِ الماضِي فِيهِما، وخَرَّجَ ذَلِكَ أبُو حَيّانَ عَلى أنَّ المُرادَ الإخْبارُ لا التَّعَجُّبُ، والضَّمِيرُ المَجْرُورُ لِلَّهِ تَعالى؛ أيْ: أبْصَرَ عِبادَهُ بِمَعْرِفَتِهِ سُبْحانَهُ وأسْمَعَهُمْ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ: «أبْصَرَ» أفْعَلَ تَفْضِيلٍ وكَذا «أسْمَعَ» وهو مَنصُوبٌ عَلى الحالِيَّةِ مِن ضَمِيرِ «لَهُ» وضَمِيرِ «بِهِ» عائِدٌ عَلى الغَيْبِ ولَيْسَ المُرادُ حَقِيقَةَ التَّفْضِيلِ بَلْ عِظَمَ شَأْنِ بَصَرِهِ تَعالى وسَمْعِهِ عَزَّ وجَلَّ، ولَعَلَّ هَذا أقْرَبُ مِمّا ذَكَرَهُ أبُو حَيّانَ، وحاصِلُ المَعْنى عَلَيْهِ أنَّهُ جَلَّ شَأْنُهُ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَواتِ والأرْضِ بَصِيرًا بِهِ وسَمِيعًا عَلى أتَمِّ وجْهٍ وأعْظَمِهِ.
﴿ما لَهُمْ﴾ أيْ: لِأهْلِ السَّمَواتِ والأرْضِ المَدْلُولُ عَلَيْهِ بِذِكْرِهِما ﴿مِن دُونِهِ﴾ تَعالى ﴿مِن ولِيٍّ﴾ مَن يَتَوَلّى أُمُورَهم ﴿ولا يُشْرِكُ في حُكْمِهِ﴾ في قَضائِهِ تَعالى ﴿أحَدًا﴾ كائِنًا مَن كانَ ولا يَجْعَلُ لَهُ فِيهِ مَدْخَلًا، وقِيلَ: يُحْتَمَلُ أنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ لِأصْحابِ الكَهْفِ، وإضافَةُ «حُكْمِ» لِلْعَهْدِ عَلى مَعْنى ما لَهم مَن يَتَوَلّى أمْرَهم ويَحْفَظُهم غَيْرُهُ سُبْحانَهُ ولا يُشْرِكُ في حُكْمِهِ الَّذِي ظَهَرَ فِيهِمْ أحَدًا مِنَ الخَلْقِ.
وجَوَّزَ ابْنُ عَطِيَّةَ أنْ يَعُودَ عَلى مُعاصِرِي رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنَ الكُفّارِ المُشاقِّينَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وجَعَلَ الآيَةَ اعْتِراضًا بِتَهْدِيدٍ، وقِيلَ: يُحْتَمَلُ أنْ يَعُودَ عَلى مَعْنى مُؤْمِنِي أهْلِ السَّمَواتِ والأرْضِ. والمُرادُ أنَّهم لَنْ يَتَّخِذُوا مِن دُونِهِ تَعالى ولِيًّا، وقِيلَ: يَعُودُ عَلى المُخْتَلِفِينَ في مُدَّةِ لُبْثِ أصْحابِ الكَهْفِ؛ أيْ: لا يَتَوَلّى أمْرَهم غَيْرُ اللَّهِ تَعالى فَهم لا يَقْدِرُونَ بِغَيْرِ إقْدارِهِ سُبْحانَهُ فَكَيْفَ يَعْلَمُونَ بِغَيْرِ إعْلامِهِ عَزَّ وجَلَّ، والكُلُّ كَما تَرى، ثُمَّ لا يَخْفى عَلَيْكَ أنْ ما في النَّظْمِ الكَرِيمِ أبْلَغُ في نَفْيِ الشَّرِيكِ مِن أنْ يُقالَ: مِن ولِيٍّ ولا شَرِيكٍ.
وقَرَأ مُجاهِدٌ: «ولا يُشْرِكْ» بِالياءِ آخِرِ الحُرُوفِ والجَزْمِ، قالَ يَعْقُوبُ: لا أعْرِفُ وجْهَ ذَلِكَ، ووَجَّهَ بَعْضُهم بِأنَّهُ سَكَّنَ بِنِيَّةِ الوَقْفِ. وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ والحَسَنُ وأبُو رَجاءٍ وقَتادَةُ والجَحْدَرِيُّ وأبُو حَيْوَةَ وزَيْدٌ وحُمَيْدُ بْنُ الوَزِيرِ عَنْ يَعْقُوبَ والجَعْفِيِّ واللُّؤْلُؤِيِّ عَنْ أبِي بَكْرٍ: «ولا تُشْرِكْ» بِالتّاءِ ثالِثِ الحُرُوفِ والجَزْمِ عَلى أنَّهُ نَهْيٌ لِكُلِّ أحَدٍ عَنِ الشِّرْكِ لا نَهْيٌ لَهُ ﷺ، ولَوْ جُعِلَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لَجُعِلَ تَعْرِيضًا بِغَيْرِهِ كَقَوْلِهِ: إيّاكِ أعْنِي واسْمَعِي يا جارَةُ. فَيَكُونُ مَآلُهُ إلى ذَلِكَ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ الخِطابُ لَهُ ﷺ ويُجْعَلُ مَعْطُوفًا عَلى «لا تَقُولَنَّ» والمَعْنى: لا تَسْألْ أحَدًا عَمّا لا تَعْرِفُهُ مِن قِصَّةِ أصْحابِ الكَهْفِ ولُبْثِهِمْ واقْتَصِرْ عَلى ما يَأْتِيكَ في ذَلِكَ مِنَ الوَحْيِ، أوْ لا تَسْألْ أحَدًا عَمّا أخْبَرَكَ اللَّهُ تَعالى بِهِ مِن نَبَأِ مُدَّةِ لُبْثِهِمْ واقْتَصِرْ عَلى بَيانِهِ سُبْحانَهُ، ولا يَخْفى ما فِيهِ مِن كَثْرَةِ مُخالَفَةِ الظّاهِرِ، وإنْ كانَ أشَدَّ مُناسَبَةً لِقَوْلِهِ تَعالى:
{"ayahs_start":25,"ayahs":["وَلَبِثُوا۟ فِی كَهۡفِهِمۡ ثَلَـٰثَ مِا۟ئَةࣲ سِنِینَ وَٱزۡدَادُوا۟ تِسۡعࣰا","قُلِ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا لَبِثُوا۟ۖ لَهُۥ غَیۡبُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ أَبۡصِرۡ بِهِۦ وَأَسۡمِعۡۚ مَا لَهُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَلِیࣲّ وَلَا یُشۡرِكُ فِی حُكۡمِهِۦۤ أَحَدࣰا"],"ayah":"قُلِ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا لَبِثُوا۟ۖ لَهُۥ غَیۡبُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ أَبۡصِرۡ بِهِۦ وَأَسۡمِعۡۚ مَا لَهُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَلِیࣲّ وَلَا یُشۡرِكُ فِی حُكۡمِهِۦۤ أَحَدࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق