الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ (p-٩٥)تَعالى: ﴿وقُلْ عَسى أنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي لِأقْرَبَ مِن هَذا رَشَدًا﴾ وفِيهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنَّ تَرْكَ قَوْلِهِ: (إنْ شاءَ اللَّهُ) لَيْسَ بِحَسَنٍ وذِكْرُهُ أحْسَنُ مِن تَرْكِهِ، وقَوْلُهُ: ﴿لِأقْرَبَ مِن هَذا رَشَدًا﴾ المُرادُ مِنهُ ذِكْرُ هَذِهِ الجُمْلَةِ. الثّانِي: إذا وعَدَهم بِشَيْءٍ، وقالَ مَعَهُ: إنْ شاءَ اللَّهُ، فَيَقُولُ: عَسى أنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي لِشَيْءٍ أحْسَنَ وأكْمَلَ مِمّا وعَدْتُكم بِهِ. والثّالِثُ: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿لِأقْرَبَ مِن هَذا رَشَدًا﴾ إشارَةٌ إلى نَبَأِ أصْحابِ الكَهْفِ، ومَعْناهُ: لَعَلَّ اللَّهَ يُؤْتِينِي مِنَ البَيِّناتِ والدَّلائِلِ عَلى صِحَّةِ أنِّي نَبِيٌّ مِن عِنْدِ اللَّهِ صادِقُ القَوْلِ في ادِّعاءِ النُّبُوَّةِ ما هو أعْظَمُ في الدَّلالَةِ وأقْرَبُ رَشَدًا مِن نَبَأِ أصْحابِ الكَهْفِ. وقَدْ فَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَيْثُ آتاهُ مِن قَصَصِ الأنْبِياءِ والإخْبارِ بِالغُيُوبِ ما هو أعْظَمُ مِن ذَلِكَ، وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَبِثُوا في كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وازْدادُوا تِسْعًا﴾ ﴿قُلِ اللَّهُ أعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ والأرْضِ أبْصِرْ بِهِ وأسْمِعْ ما لَهم مِن دُونِهِ مِن ولِيٍّ ولا يُشْرِكُ في حُكْمِهِ أحَدًا﴾ فاعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ آخِرُ الآياتِ المَذْكُورَةِ في قِصَّةِ أصْحابِ الكَهْفِ وفي قَوْلِهِ: ﴿ولَبِثُوا في كَهْفِهِمْ﴾ قَوْلانِ: الأوَّلُ: أنَّ هَذا حِكايَةُ كَلامِ القَوْمِ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهم كَلْبُهُمْ﴾ وكَذا إلى أنْ قالَ: ﴿ولَبِثُوا في كَهْفِهِمْ﴾ أيْ أنَّ أُولَئِكَ الأقْوامَ قالُوا ذَلِكَ، ويُؤَكِّدُهُ أنَّهُ تَعالى قالَ بَعْدَهُ: ﴿قُلِ اللَّهُ أعْلَمُ بِما لَبِثُوا﴾ وهَذا يُشْبِهُ الرَّدَّ عَلى الكَلامِ المَذْكُورِ قَبْلَهُ ويُؤَكِّدُهُ أيْضًا ما رُوِيَ في مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ: وقالُوا ولَبِثُوا في كَهْفِهِمْ. والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ولَبِثُوا في كَهْفِهِمْ﴾ هو كَلامُ اللَّهِ تَعالى، فَإنَّهُ أخْبَرَ عَنْ كَمِّيَّةِ تِلْكَ المُدَّةِ، وأمّا قَوْلُهُ: ﴿سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهم كَلْبُهُمْ﴾ فَهو كَلامٌ قَدْ تَقَدَّمَ، وقَدْ تَخَلَّلَ بَيْنَهُ وبَيْنَ هَذِهِ الآيَةِ ما يُوجِبُ انْقِطاعَ أحَدِهِما عَنِ الآخَرِ، وهو قَوْلُهُ: ﴿فَلا تُمارِ فِيهِمْ إلّا مِراءً ظاهِرًا﴾ وقَوْلُهُ: ﴿قُلِ اللَّهُ أعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ لا يُوجِبُ أنَّ ما قَبْلَهُ حِكايَةٌ؛ وذَلِكَ لِأنَّهُ تَعالى أرادَ: ﴿قُلِ اللَّهُ أعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ فارْجِعُوا إلى خَبَرِ اللَّهِ دُونَ ما يَقُولُهُ أهْلُ الكِتابِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ ثَلاثَمِائَةِ سِنِينَ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ والباقُونَ بِالتَّنْوِينِ وذَلِكَ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿سِنِينَ﴾ عَطْفُ بَيانٍ لِقَوْلِهِ: ﴿ثَلاثَ مِائَةٍ﴾ لِأنَّهُ لَمّا قالَ: ﴿ولَبِثُوا في كَهْفِهِمْ﴾ لَمْ يُعْرَفْ أنَّها أيّامٌ أمْ شُهُورٌ أمْ سُنُونَ، فَلَمّا قالَ: سِنِينَ صارَ هَذا بَيانًا لِقَوْلِهِ: ﴿ثَلاثَ مِائَةٍ﴾ فَكانَ هَذا عَطْفَ بَيانٍ لَهُ، وقِيلَ: هو عَلى التَّقْدِيمِ والتَّأْخِيرِ أيْ لَبِثُوا سِنِينَ ثَلَثَمِائَةٍ، وأمّا وجْهُ قِراءَةِ حَمْزَةَ، فَهو أنَّ الواجِبَ في الإضافَةِ: ثَلاثُ مِائَةٍ سَنَةٍ إلّا أنَّهُ يَجُوزُ وضْعُ الجَمْعِ مَوْضِعَ الواحِدِ في التَّمْيِيزِ، كَقَوْلِهِ: ﴿بِالأخْسَرِينَ أعْمالًا﴾ (الكَهْفِ: ١٠٣) . المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قَوْلُهُ: ﴿وازْدادُوا تِسْعًا﴾ المَعْنى وازْدادُوا تِسْعَ سِنِينَ فَإنْ قالُوا: لِمَ لَمْ يَقُلْ ثَلاثَ مِائَةٍ وتِسْعَ سِنِينَ ؟ وما الفائِدَةُ في قَوْلِهِ: ﴿وازْدادُوا تِسْعًا﴾ ؟ قُلْنا: قالَ بَعْضُهم: كانَتِ المُدَّةُ ثَلاثَ مِائَةِ سَنَةٍ مِنَ السِّنِينَ الشَّمْسِيَّةِ وثَلَثَمِائَةٍ وتِسْعَ سِنِينَ مِنَ القَمَرِيَّةِ، وهَذا مُشْكِلٌ لِأنَّهُ لا يَصِحُّ بِالحِسابِ هَذا القَوْلُ، ويُمْكِنْ أنْ يُقالَ: لَعَلَّهم لَمّا اسْتَكْمَلُوا ثَلاثَ مِائَةِ سَنَةٍ قَرُبَ أمْرُهم مِنَ الأنْبِياءِ، ثُمَّ اتَّفَقَ ما أوْجَبَ بَقاءَهم في النَّوْمِ بَعْدَ ذَلِكَ تِسْعَ سِنِينَ، ثُمَّ قالَ: ﴿قُلِ اللَّهُ أعْلَمُ بِما لَبِثُوا﴾ مَعْناهُ: أنَّهُ تَعالى أعْلَمُ بِمِقْدارِ هَذِهِ المُدَّةِ مِنَ النّاسِ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيها، وإنَّما كانَ أوْلى بِأنْ يَكُونَ عالِمًا بِهِ؛ لِأنَّهُ مُوجِدٌ لِلسَّماواتِ والأرْضِ ومُدَبِّرٌ لِلْعالَمِ، وإذا كانَ كَذَلِكَ كانَ عالِمًا بِغَيْبِ (p-٩٦)السَّماواتِ والأرْضِ فَيَكُونُ عالِمًا بِهَذِهِ الواقِعَةِ لا مَحالَةَ، ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿أبْصِرْ بِهِ وأسْمِعْ﴾ وهَذِهِ كَلِمَةٌ تُذْكَرُ في التَّعَجُّبِ، والمَعْنى ما أبْصَرَهُ وما أسْمَعُهُ، وقَدْ بالَغْنا في تَفْسِيرِ كَلِمَةِ التَّعَجُّبِ في سُورَةِ البَقَرَةِ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَما أصْبَرَهم عَلى النّارِ﴾ (البَقَرَةِ: ١٧٥) ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ما لَهم مِن دُونِهِ مِن ولِيٍّ﴾ وفِيهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: ما لِأصْحابِ الكَهْفِ مِن دُونِ اللَّهِ مِن ولِيٍّ، فَإنَّهُ هو الَّذِي يَتَوَلّى حِفْظَهم في ذَلِكَ النَّوْمِ الطَّوِيلِ. الثّانِي: لَيْسَ لِهَؤُلاءِ المُخْتَلِفِينَ في مُدَّةِ لُبْثِ أهْلِ الكَهْفِ ولِيٌّ مِن دُونِ اللَّهِ يَتَوَلّى أمْرَهم، ويُقِيمُ لَهم تَدْبِيرَ أنْفُسِهِمْ، فَإذا كانُوا مُحْتاجِينَ إلى تَدْبِيرِ اللَّهِ وحِفْظِهِ، فَكَيْفَ يَعْلَمُونَ هَذِهِ الواقِعَةَ مِن غَيْرِ إعْلامِهِ ؟ . الثّالِثُ: أنَّ بَعْضَ القَوْمِ لَمّا ذَكَرُوا في هَذا البابِ أقْوالًا عَلى خِلافِ قَوْلِ اللَّهِ فَقَدِ اسْتَوْجَبُوا العِقابَ، فَبَيَّنَ اللَّهُ أنَّهُ لَيْسَ لَهم مِن دُونِهِ ولِيٌّ يَمْنَعُ اللَّهَ مِن إنْزالِ العِقابِ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قالَ: ﴿ولا يُشْرِكُ في حُكْمِهِ أحَدًا﴾ والمَعْنى: أنَّهُ تَعالى لَمّا حَكَمَ أنَّ لُبْثَهم هو هَذا المِقْدارُ، فَلَيْسَ لِأحَدٍ أنْ يَقُولَ قَوْلًا بِخِلافِهِ، والأصْلُ أنَّ الِاثْنَيْنِ إذا كانا لِشَرِيكَيْنِ، فَإنَّ الِاعْتِراضَ مِن كُلِّ واحِدٍ مِنهُما عَلى صاحِبِهِ يَكْثُرُ، ويَصِيرُ ذَلِكَ مانِعًا لِكُلِّ واحِدٍ مِنهُما مِن إمْضاءِ الأمْرِ عَلى وفْقِ ما يُرِيدُهُ، وحاصِلُهُ يَرْجِعُ إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إلّا اللَّهُ لَفَسَدَتا﴾ (الأنْبِياءِ: ٢٢) فاللَّهُ تَعالى نَفى ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا يُشْرِكُ في حُكْمِهِ أحَدًا﴾ وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ: ولا تُشْرِكْ بِالتّاءِ والجَزْمِ عَلى النَّهْيِ والخِطابِ عَطْفًا عَلى قَوْلِهِ: ﴿ولا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ﴾ أوْ عَلى قَوْلِهِ: ﴿واذْكُرْ رَبَّكَ إذا نَسِيتَ﴾ والمَعْنى ولا تَسْألْ أحَدًا عَمّا أخْبَرَكَ اللَّهُ بِهِ مِن عِدَّةِ أصْحابِ الكَهْفِ، واقْتَصِرْ عَلى حُكْمِهِ وبَيانِهِ ولا تُشْرِكْ أحَدًا في طَلَبِ مَعْرِفَةِ تِلْكَ الواقِعَةِ، وقَرَأ الباقُونَ بِالياءِ والرَّفْعِ عَلى الخَبَرِ والمَعْنى: أنَّهُ تَعالى لا يَفْعَلُ ذَلِكَ. * * * المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: اخْتَلَفَ النّاسُ في زَمانِ أصْحابِ الكَهْفِ وفي مَكانِهِمْ، أمّا الزَّمانُ الَّذِي حَصَلُوا فِيهِ، فَقِيلَ: إنَّهم كانُوا قَبْلَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، وأنَّ مُوسى ذَكَرَهم في التَّوْراةِ، ولِهَذا السَّبَبِ فَإنَّ اليَهُودَ سَألُوا عَنْهم، وقِيلَ: إنَّهم دَخَلُوا الكَهْفَ قَبْلَ المَسِيحِ، وأخْبَرَ المَسِيحُ بِخَبَرِهِمْ، ثُمَّ بُعِثُوا في الوَقْتِ الَّذِي بَيْنَ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ وبَيْنَ مُحَمَّدٍ -ﷺ- . وقِيلَ: إنَّهم دَخَلُوا الكَهْفَ بَعْدَ المَسِيحِ، وحَكى القَفّالُ هَذا القَوْلَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحاقَ. وقالَ قَوْمٌ: إنَّهم لَمْ يَمُوتُوا ولا يَمُوتُونَ إلى يَوْمِ القِيامَةِ. وأمّا مَكانُ هَذا الكَهْفِ، فَحَكى القَفّالُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسى الخَوارِزْمِيِّ المُنَجِّمِ أنَّ الواثِقَ أنْفَذَهُ -لِيَعْرِفَ حالَ أصْحابِ الكَهْفِ- إلى الرُّومِ، قالَ: فَوَجَّهَ مِلْكُ الرُّومِ مَعِي أقْوامًا إلى المَوْضِعِ الَّذِي يُقالُ: إنَّهم فِيهِ، قالَ: وإنَّ الرَّجُلَ المُوَكَّلَ بِذَلِكَ المَوْضِعِ فَزَّعَنِي مِنَ الدُّخُولِ عَلَيْهِمْ، قالَ: فَدَخَلْتُ ورَأيْتُ الشُّعُورَ عَلى صُدُورِهِمْ، قالَ: وعَرَفْتُ أنَّهُ تَمْوِيهٌ واحْتِيالٌ، وأنَّ النّاسَ كانُوا قَدْ عالَجُوا تِلْكَ الجُثَثَ بِالأدْوِيَةِ المُجَفِّفَةِ لِأبْدانِ المَوْتى لِتَصُونَها عَنِ البِلى، مِثْلَ التَّلْطِيخِ بِالصَّبْرِ وغَيْرِهِ، ثُمَّ قالَ القَفّالُ: والَّذِي عِنْدَنا لا يُعْرَفُ أنَّ ذَلِكَ المَوْضِعَ هو مَوْضِعُ أصْحابِ الكَهْفِ أوْ مَوْضِعٌ آخَرُ، والَّذِي أخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ وجَبَ القَطْعُ بِهِ، ولا عِبْرَةَ بِقَوْلِ أهْلِ الرُّومِ: أنَّ ذَلِكَ المَوْضِعَ هو مَوْضِعُ أصْحابِ الكَهْفِ، وذُكِرَ في الكَشّافِ عَنْ مُعاوِيَةَ أنَّهُ غَزا الرُّومَ، فَمَرَّ بِالكَهْفِ، فَقالَ: لَوْ كُشِفَ لَنا عَنْ هَؤُلاءِ فَنَظَرْنا إلَيْهِمْ، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: لَيْسَ لَكَ ذَلِكَ قَدْ مَنَعَ اللَّهُ مَن هو خَيْرٌ مِنكَ، فَقالَ: لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنهم فِرارًا ولَمُلِئْتَ مِنهم رُعْبًا، فَقالَ لِابْنِ عَبّاسٍ: لا أنْتَهِي حَتّى أعْلَمَ حالَهَمْ، فَبَعَثَ أُناسًا فَقالَ لَهم: اذْهَبُوا فانْظُرُوا فَلَمّا دَخَلُوا الكَهْفَ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ رِيحًا فَأحْرَقَتْهم، وأقُولُ: العِلْمُ بِذَلِكَ الزَّمانِ وبِذَلِكَ المَكانِ لَيْسَ لِلْعَقْلِ فِيهِ مَجالٌ، وإنَّما يُسْتَفادُ ذَلِكَ مِن نَصٍّ، وذَلِكَ مَفْقُودٌ فَثَبَتَ أنَّهُ لا سَبِيلَ إلَيْهِ. (p-٩٧)المَسْألَةُ الخامِسَةُ: اعْلَمْ أنَّ مَدارَ القَوْلِ بِإثْباتِ البَعْثِ والقِيامَةِ عَلى أُصُولٍ ثَلاثَةٍ: أحَدُها: أنَّهُ تَعالى قادِرٌ عَلى كُلِّ المُمْكِناتِ. والثّانِي: أنَّهُ تَعالى عالِمٌ بِجَمِيعِ المَعْلُوماتِ مِنَ الكُلِّيّاتِ والجُزْئِيّاتِ. وثالِثُها: أنَّ كُلَّ ما كانَ مُمْكِنَ الحُصُولِ في بَعْضِ الأوْقاتِ كانَ مُمْكِنَ الحُصُولِ في سائِرِ الأوْقاتِ، فَإذا ثَبَتَتْ هَذِهِ الأُصُولُ الثَّلاثَةُ ثَبَتَ القَوْلُ بِإمْكانِ البَعْثِ والقِيامَةِ، فَكَذَلِكَ هَهُنا ثَبَتَ أنَّهُ تَعالى عالِمٌ قادِرٌ عَلى الكُلِّ، وثَبَتَ أنَّ بَقاءَ الإنْسانِ حَيًّا في النَّوْمِ مُدَّةَ يَوْمٍ مُمْكِنٌ، فَكَذَلِكَ بَقاؤُهُ مُدَّةَ ثَلاثِمِائَةِ سَنَةٍ يَجِبُ أنْ يَكُونَ مُمْكِنًا بِمَعْنى أنَّ إلَهَ العالَمِ يَحْفَظُهُ ويَصُونُهُ عَنِ الآفَةِ. وأمّا الفَلاسِفَةُ فَإنَّهم يَقُولُونَ أيْضًا: لا يَبْعُدُ وُقُوعُ أشْكالٍ فَلَكِيَّةٍ غَرِيبَةٍ تُوجِبُ في هَيُولِي عالَمِ الكَوْنِ والفَسادِ حُصُولَ أحْوالٍ غَرِيبَةٍ نادِرَةٍ، وأقُولُ: هَذِهِ السُّوَرُ الثَّلاثَةُ المُتَعاقِبَةُ اشْتَمَلَ كُلُّ واحِدٍ مِنها عَلى حُصُولِ حالَةٍ عَجِيبَةٍ نادِرَةٍ في هَذا العالَمِ، فَسُورَةُ بَنِي إسْرائِيلَ اشْتَمَلَتْ عَلى الإسْراءِ بِجَسَدِ مُحَمَّدٍ -ﷺ- مِن مَكَّةَ إلى الشّامِ وهو حالَةٌ عَجِيبَةٌ، وهَذِهِ السُّورَةُ اشْتَمَلَتْ عَلى بَقاءِ القَوْمِ في النَّوْمِ مُدَّةَ ثَلاثِمِائَةِ سَنَةٍ وأزْيَدَ، وهو أيْضًا حالَةٌ عَجِيبَةٌ، وسُورَةُ مَرْيَمَ اشْتَمَلَتْ عَلى حُدُوثِ الوَلَدِ لا مِنَ الأبِ وهو أيْضًا حالَةٌ عَجِيبَةٌ، والمُعْتَمَدُ في بَيانِ إمْكانِ كُلِّ هَذِهِ العَجائِبِ والغَرائِبِ المَذْكُورَةِ في هَذِهِ السُّوَرِ الثَّلاثَةِ المُتَوالِيَةِ هو الطَّرِيقَةُ الَّتِي ذَكَرْناها. ومِمّا يَدُلُّ عَلى أنَّ هَذا المَعْنى مِنَ المُمْكِناتِ أنَّ أبا عَلِيٍّ ابْنَ سِينا ذَكَرَ في بابِ الزَّمانِ مِن كِتابِ الشِّفاءِ أنَّ أرِسْطاطالِيسَ الحَكِيمَ ذَكَرَ أنَّهُ عَرَضَ لِقَوْمٍ مِنَ المُتَألِّهِينَ حالَةٌ شَبِيهَةٌ بِحالَةِ أصْحابِ الكَهْفِ، ثُمَّ قالَ أبُو عَلِيٍّ: ويَدُلُّ التّارِيخُ عَلى أنَّهم كانُوا قَبْلَ أصْحابِ الكَهْفِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب