الباحث القرآني

القول في تأويل قوله تعالى: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ﴾ قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: صدق الرسول = يعني رسول الله ﷺ، فأقر ="بما أنزل إليه"، يعني: بما أوحي إليه من ربه من الكتاب، وما فيه من حلال وحرام، ووعد وعيد، وأمر ونهي، وغير ذلك من سائر ما فيه من المعاني التي حواها. * * * وذكر أن رسول الله ﷺ لما نزلت هذه الآية عليه قال: يحق له. ٦٤٩٩ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه"، ذكر لنا أن نبي الله ﷺ لما نزلت هذه الآية قال: ويحق له أن يؤمن. [[الأثر: ٦٤٩٩- أخرج الحاكم في المستدرك ٢: ٢٨٧ من طريق خلاد بن يحيى، عن أبي عقيل، عن يحيى بن أبي كثير، عن أنس قال: "لما نزلت هذه الآية على النبي ﷺ: "آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه" قال النبي ﷺ: وأحق له أن يؤمن". ثم قال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه" واستدرك عليه الذهبي فقال: "منقطع".]] * * * وقد قيل: إنها نزلت بعد قوله:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير"، لأن المؤمنين برسول الله من أصحابه شق عليهم ما توعدهم الله به من محاسبتهم على ما أخفته نفوسهم، فشكوا ذلك إلى النبي ﷺ فقال لهم رسول الله ﷺ: لعلكم تقولون:"سمعنا وعصينا" كما قالت بنو إسرائيل! فقالوا: بل نقول:"سمعنا وأطعنا"! فأنزل الله لذلك من قول النبي ﷺ وقول أصحابه:"آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله"، يقول: وصدق المؤمنون أيضا مع نبيهم بالله وملائكته وكتبه ورسله، الآيتين. وقد ذكرنا قائلي ذلك قبل. [[انظر ما سلف رقم: ٦٤٧٧.]] * * * قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة قوله:"وكتبه". فقرأ ذلك عامة قرأة المدينة وبعض قرأة أهل العراق ﴿وكتبه﴾ على وجه جمع"الكتاب"، على معنى: والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وجميع كتبه التي أنزلها على أنبيائه ورسله. * * * وقرأ ذلك جماعة من قرأة أهل الكوفة: ﴿وكتابه﴾ ، بمعنى: والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وبالقرآن الذي أنزله على نبيه محمد ﷺ. * * * وقد روي عن ابن عباس أنه كان يقرأ ذلك:"وكتابه"، ويقول: الكتاب أكثر من الكتب. وكأن ابن عباس يوجه تأويل ذلك إلى نحو قوله: ﴿وَالْعَصْرِ إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ [سورة العصر: ١-٢] ، بمعنى جنس"الناس" وجنس"الكتاب"، كما يقال:"ما أكثر درهم فلان وديناره"، ويراد به جنس الدراهم والدنانير. [[انظر ما سلف ٤: ٢٦٣.]] وذلك، وإن كان مذهبا من المذاهب معروفا، فإن الذي هو أعجب إلي من القراءة في ذلك أن يقرأ بلفظ الجمع. لأن الذي قبله جمع، والذي بعده كذلك - أعني بذلك:"وملائكته وكتبه ورسله" - فإلحاق"الكتب" في الجمع لفظا به، أعجب إلي من توحيده وإخراجه في اللفظ به بلفظ الواحد، ليكون لاحقا في اللفظ والمعنى بلفظ ما قبله وما بعده، وبمعناه. * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ قال أبو جعفر: وأما قوله:"لا نفرق بين أحد من رسله"، فإنه أخبر جل ثناؤه بذلك عن المؤمنين أنهم يقولون ذلك. ففي الكلام في قراءة من قرأ:"لا نفرق بين أحد من رسله" بالنون، متروك، قد استغني بدلالة ما ذكر عنه. وذلك المتروك هو"يقولون". وتأويل الكلام: والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، يقولون: لا نفرق بين أحد من رسله. وترك ذكر"يقولون" لدلالة الكلام عليه، كما ترك ذكره في قوله: ﴿وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ﴾ [سورة الرعد: ٢٣-٢٤] ، بمعنى: يقولون: سلام. * * * وقد قرأ ذلك جماعة من المتقدمين: ﴿لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ ب"الياء"، بمعنى: والمؤمنون كلهم آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، لا يفرق الكل منهم بين أحد من رسله، فيؤمن ببعض ويكفر ببعض، ولكنهم يصدقون بجميعهم، ويقرون أن ما جاءوا به كان من عند الله، وأنهم دعوا إلى الله وإلى طاعته، ويخالفون في فعلهم ذلك اليهود الذين أقروا بموسى وكذبوا عيسى، والنصارى الذين أقروا بموسى وعيسى وكذبوا بمحمد ﷺ، وجحدوا نبوته، ومن أشبههم من الأمم الذين كذبوا بعض رسل الله، وأقروا ببعضه، كما:- ٦٥٠٠ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"لا نفرق بين أحد من رسله"، كما صنع القوم - يعني بني إسرائيل - قالوا: فلان نبي، وفلان ليس نبيا، وفلان نؤمن به، وفلان لا نؤمن به. * * * قال أبو جعفر: والقراءة التي لا نستجيز غيرها في ذلك عندنا بالنون: "لا نفرق بين أحد من رسله"، لأنها القراءة التي قامت حجتها بالنقل المستفيض، [[في المطبوعة: "التي قامت حجة. . . "، وفي المخطوطة: "التي قامت حجته"، وصواب قراءتها ما أثبت.]] الذي يمتنع معه التشاعر والتواطؤ والسهو والغلط= [[في المطبوعة: "التشاغر" بغين معجمة، وهو خطأ غث. والصواب من المخطوطة. و"تشاعروا الأمر، أو على الأمر"، أي تعالموه بينهم. من قولهم: "شعر" أي"علم". وهي كلمة قلما تجدها في كتب اللغة، ولكنها دائرة في كتب الطبري ومن في طبقته من القدماء. وانظر الرسالة العثمانية للجاحظ: ٣، وتعلق: ٥، ثم ص: ٢٦٣، وصواب شرحها ما قلت. وانظر ما سيأتي ص: ١٥٥، تعليق ١.]] بمعنى ما وصفنا من: يقولون لا نفرق بين أحد من رسله= [[في المطبوعة: "يعني ما وصفنا"، والصواب من المخطوطة.]] ولا يعترض بشاذ من القراءة، على ما جاءت به الحجة نقلا ووراثة. [[في المطبوعة: "نقلا ورواية"، وفي المخطوطة"نقلا وراثة"، وهي الصواب، وآثرت زيادة الواو قبلها، فإني أرجح أنها كانت كذلك. وقد أكثر الطبري استعمال"وراثة" و"موروثة" فيما سلف، من ذلك فيما مضى في ٤: ٣٣". . . بالحجة القاطعة العذر، نقلا عن نبينا ﷺ وراثة. . . " / ثم في ٥: ٢٣٨"لخلافها القراءة المستفيضة الموروثة. . . ". وانظر ما سيأتي ص: ١٥٥، تعليق: ١.]] * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٥) ﴾ قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وقال الكل من المؤمنين:"سمعنا" قول ربنا وأمره إيانا بما أمرنا به، ونهيه عما نهانا عنه ="وأطعنا"، يعني: أطعنا ربنا فيما ألزمنا من فرائضه، واستعبدنا به من طاعته، وسلمنا له = وقوله:"غفرانك ربنا"، يعني: وقالوا:"غفرانك ربنا"، بمعنى: اغفر لنا ربنا غفرانك، كما يقال:"سبحانك"، بمعنى: نسبحك سبحانك. * * * وقد بينا فيما مضى أن"الغفران" و"المغفرة"، الستر من الله على ذنوب من غفر له، وصفحة له عن هتك ستره بها في الدنيا والآخرة، وعفوه عن العقوبة - عليه. [[انظر ما سلف ٢: ١٠٩، ١١٠.]] * * * وأما قوله:"وإليك" المصير"، فإنه يعني جل ثناؤه أنهم قالوا: وإليك يا ربنا مرجعنا ومعادنا، فاغفر لنا ذنوبنا. [[انظر ما سلف في تفسير"المصير" ٣: ٥٦.]] * * * قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: فما الذي نصب قوله:"غفرانك"؟ قيل له: وقوعه وهو مصدر موقع الأمر. وكذلك تفعل العرب بالمصادر والأسماء إذا حلت محل الأمر، وأدت عن معنى الأمر نصبتها، فيقولون: "شكرا لله يا فلان"، و"حمدا له"، بمعنى: اشكر الله واحمده."والصلاة، الصلاة". بمعنى: صلوا. ويقولون في الأسماء:"الله الله يا قوم"، ولو رفع بمعنى: هو الله، أو: هذا الله - ووجه إلى الخبر وفيه تأويل الأمر، كان جائزا، كما قال الشاعر: [[لم أعرف قائله.]] إن قوما منهم عمير وأشبا ... هـ عمير ومنهم السفاح [[معاني القرآن للفراء ١: ١٨٨، وشواهد العيني (بهامش الخزانة) ٤: ٣٠٦. ولم أستطع تعييني"عمير" و"السفاح"، فهما كثير.]] لجديرون بالوفاء إذا قا ... ل أخو النجدة: السلاح السلاح! ! ولو كان قوله:"غفرانك ربنا" جاء رفعا في القراءة، لم يكن خطأ، بل كان صوابا على ما وصفنا. [[أكثر هذا من معاني القرآن للفراء ١: ١٨٨.]] * * * وقد ذكر أن هذه الآية لما نزلت على رسول الله ﷺ ثناء من الله عليه وعلى أمته، قال له جبريل ﷺ: إن الله عز وجل قد أحسن عليك وعلى أمتك الثناء، فسل ربك. ٦٥٠١ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن بيان، عن حكيم بن جابر قال: لما أنزلت على رسول الله ﷺ:"آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير"، قال جبريل: إن الله عز وجل قد أحسن الثناء عليك، وعلى أمتك، فسل تعطه! فسأل:"لا يكلف الله نفسا إلا وسعها" إلى آخر السورة. [[الحديث: ٦٥٠١- بيان: هو ابن بشر الأحمسي، مضت ترجمته في: ٢٥٩. "حكيم بن جابر بن طارق بن عوف الأحمسي": تابعي كبير ثقة، أرسل عن النبي ﷺ. روى عن أبيه، وعمر، وابن مسعود، وطلحة، وعبادة بن الصامت. وروى عنه إسماعيل ابن أبي خالد، و"بيان". ثقة. مات في آخر إمارة الحجاج. وقيل سنة ٨٢، وقيل سنة ٩٥. مترجم في التهذيب، والكبير ٢/١/١٢. وصرح بأنه سمع عمر. فهذا الحديث مرسل. وذكره السيوطي ١: ٣٧٦، ونسبه أيضًا لسعيد بن منصور، وابن أبي حاتم. ونقله ابن كثير ٢: ٨٩، عن هذا الموضع من الطبري. ولكن وقع فيه تحريف في الإسناد، من ناسخ أو طابع - هكذا: "عن سنان، عن حكيم، عن جابر"؛ فصار الإسناد موهما أنه حديث متصل من رواية جابر بن عبد الله الصحابي. فيصحح من هذا الموضع.]]
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب