الباحث القرآني

قوله تعالى ﴿آمَنَ الرَّسُولُ﴾ الآية. قد ذكرنا في بعض الروايات عن ابن عباس: أنه لما نزل قوله: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ﴾ شق ذلك على أصحاب رسول الله ﷺ وقالوا: سمعنا وأطعنا. فقيل على هذا القول: إن الله تعالى لما قالوا ذلك أنزل الله هذه الآية وأثنى عليهم [[ينظر: "تفسيرالثعلبي" 2/ 1858.]]. وقال أبو إسحاق: لما ذكر الله عز وجل في هذه السورة فرضَ الصلاة والزكاة والطلاق والإيلاء والحيض والجهاد وأقاصيص الأنبياء وما ذكر من الأحكام ختم السورة بذكر تصديق [[سقطت من (أ) و (م).]] نبيه ﷺ والمؤمنين بجميع ذلك [["معاني القرآن" 1/ 368.]]. وقوله تعالى: ﴿وَكُتُبِهِ﴾ فيه قراءتان: التوحيد والجمع [[قرأ حمزة والكسائي (وكتابه) على الإفراد، وقرأ الباقون (وكتبه) بالجمع. ينظر: "السبعة" ص 195 - 196، "الحجة" 2/ 455.]]، والكُتُب: جمع كتاب، وهو مصدر كتَب، فنقل وسُمي به، فصار يجري مجرى الأعيان وما لا معنى فِعْلٍ فيه، وعلى ذلك كُسّر، فقيل: كُتب، كما قالوا: إِزَارٌ وأُزُر، ولِجَامٌ ولُجُم، فمن قرأ بالجمع؛ فلأن ما قبله وما بعده بالجمع، فَجَمَعَ الكتبَ أيضًا ليكون مُشاكلًا لما قبله وما بعده، وأما من أفرد؛ فيجوز أن يريد الجنس، كقولهم: كَثُر الدرهم في أيدي الناس والدينار، وكقوله: أهلك الناسَ اللبنُ، ونحو ذلك مما [[في (م) (فيما).]] يفرد، والمراد منه الجمع. ويدل على هذا قوله: ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ [البقرة: 213] فإن قيل: إن هذه الأسماء التي يراد بها الكثرة تكون مفردةً معرَّفَةً باللام وهذه مضافة، قيل: قد جاء المضاف من الأسماء ويعني به الكثرة، كقوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ [إبراهيم: 34] وفي الحديث: "منعت العراق درهمها وقفيزها" [[رواه مسلم (2896) كتاب: الفتن، باب. لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل من ذهب من حديث أبي هريرة. والقفيز: مكيال معروف لأهل العراق. قال الأزهري: هو ثمانية مكاكيك. والمكوك: صاع ونصف. وهو خمس كيلجات.]] يراد به الكثرة كما يراد بما فيه لام التعريف وقال الله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ﴾ [البقرة: 187] وهذا الإحلال شائع في جميع ليالي الصيام [[من "الحجة" 2/ 458 بتصرف. وينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 1861.]] ولا يبعد أن يرجع الإفراد إلى كتاب محمد ﷺ الذي هو القرآن ثم الإيمان به يتضمن الإيمان بجميع الكتب والرسل [[ينظر: "تفسيرالثعلبي" 2/ 1860.]]. وقوله تعالى: ﴿وَرُسُلِهِ﴾ أكثر القراء فيه على التثقيل، وروى العباس [[في (ش): (أبو العباس).]] [[العباس بن الفضل بن عمرو بن عبيد الواقفي الأنصاري، أبو الفضل الأنصاري، قاضي الموصل، من أكابر أصحاب أبي عمرو بن العلاء، كان عظيم القدر، جليل المنزلة في العلم والدين، متروك الحديث، توفي سنة 186 وقيل: 195. ينظر: "الجرح والتعديل" 6/ 212، "تهذيب التهذيب" 2/ 292.]] عن أبي عمرو فيه التخفيف، والصحيح من مذهب أبي عمرو أنه يخفف ما أضيف إلى مكنيّ على حرفين مثل ﴿رُسُلُنَا﴾ [الإسراء: 77] و ﴿رُسُلُكُم﴾ [غافر: 50] [[عزاها إلى أبي عمرو: ابن خالويه في "مختصر شواذ القرآن" ص 24، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 1861، وأبو حيان في "البحر المحيط" 2/ 365، والسمين الحلبي في "الدر المصون" 2/ 694، وقال ابن مجاهد في "السبعة" ص 195: قرأ أبو عمرو ما أضيف إلى مكني على حرفين (رسلنا) و (رسلكم) بإسكان السين، وثقل ما عدا ذلك.]] فمن ثقل فلأن أصل الكلمة على فُعُل بضم العين، الدليل على أنه فُعُل مضموم العين رفضُهم هذا الجمع فيما كانت لامه حرف علة، نحو: كِسَاء ورِشَاء ورِدَاء وقِبَاء، لم يجمعوا شيئًا من هذا الجنس على فُعُل، كما جمعوا: قَذَالًا وحِمَارًا وكِتَابًا ورِغِيفًا، ولم يجمعوه أيضًا على التخفيف، لأنه إذا خفّف، والأصل التثقيل، كانت الحركة في حكم الثبات، ولو كان الأصل التخفيف لما رفضوا الجمع في هذه الأشياء على فُعْل كما قالوا: عُمْيًا وعُمْي، وعَشْواء وعُشْو، وقَنواء [[قنواء. مؤنث أقنى، كما في القاموس [القنوة]]] وقُنْو، فلم يرفضوا هذا الجمع؛ لأن أصله فُعْل مُخَففًا، فصار بمنزلة الآحاد نحو: حُلْوٍ وعُرْيٍ. وأما ما كان عينه حرف العلة من هذا الجنس، فإنهم جمعوه مخففًا، نحو: عَوَان، وعُوْنٍ ونَوارٍ ونُور، وخِوانٍ وخُوْن [[العَوان: كسحاب، من الحروب التي قوتل فيها مرة، ومن البقر والخيل التي نُتِجت بعد بطنها البكر، ومن النساء: التي كان لها زوج، جمعها: عُون. ينظر: "القاموس" ص 1217 (مادة: عون)، والنَّوار: كسحاب، جمع: نور بالضم، والأصل: نُوُر، بضمتين، فكرهوا الضمة على الواو، ونارت نَورًا ونوَارًا بالكسر والفتح: نفرت، وبقرة نوار: تنفر من الفحل ينظر: "القاموس" ص 488 (مادة: نور).]]، كراهية الضمة في الواو، ثم إذا اضطر الشاعر رده إلى أصله، كما جاء: ......... سُوُكَ الإِسْحِلِ [[البيت: تمامه: أغر الثنايا أحم اللِّثاث ... تمنحه سُوُك الإسحل وهو لعبد الرحمن بن حسان. ينظر: "الحجة" 2/ 462، "المنصف" 1/ 338، "المقتضب" 1/ 113.]] في جمع سِوَاكٍ، وقوله: وفي الأَكَفِّ اللامِعَاتِ سُوُرْ [[عجز بيت لعدي بن زيد العبادي، وصدره: عن مبرِقاتٍ بالبُرين تبدو ينظر: "الحجة" 2/ 462، "المنصف" 1/ 338، "المقتضب" 1/ 113.]] وأما من خفّف، فلأن ما كان من هذا الوزن يخفّف في الآحاد، نحو: العُنُق والطنُب، وإذا خففت الآحاد فالمجموع [[في (ش): (فالجموع)، وهي كذلك في "الحجة"، وفي (ي): (فالجمع).]] أولى من حيث كان أثقل من الآحاد. وأما وجه تخفيف أبي عمرو ما اتصل من ذلك بحرفين، فلأن هذا قد يخفف إذا لم يتصل بمتحرك، فإذا اتصل بمتحرك حسن التخفيف، لئلا تتوالى أربع متحركات، لأنهم كرهوا ذلك، ومن ثم لم تَتَوالَ في بناء الشعر إلا أن [[في (ي): (مزحفًا).]] يكون مُزَاحَفًا. ومن لم يخفف فلأن هذا الاتصال بالحرفين ليس بلازم، وما لم يكن لازمًا فلا حكم له، ألا ترى أن الإدغام في ﴿جَعَلَ لَكَ﴾ [الفرقان: 15] لم يلزم، وإن كان قد توالى [[سقطت من (ي).]] خَمْسُ متحركات، وهذا لا يكون في بناء الشعر [[في (ش) (بدل الشعر) كلمة لم أستطع قراءتها.]]، لا في مُزَاحَفِهِ ولا في سَالمِهِ ولا في الكلم المفرد [[من "الحجة" 2/ 460 - 463 بتصرف.]]. وقوله تعالى: ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ فيه محذوف تقديره: يقولون: لا نفرّق بين [[بين ليست في (ش) ولا (ي).]]. كقوله: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا﴾ [الأنعام: 93] أي: يقولون: اخرجوا [[ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 1863، "التبيان" ص172، "البحر المحيط" 2/ 365، وذكر أن بعضهم يعربه خبرًا بعد خبر لكل.]]. ومعناه: لا نفعل كما فعل أهل الكتاب، حيث آمنوا ببعض الرسلِ وكفروا ببعضٍ، بل نجمع بين الرسل كلهم في الإيمان بهم [["تفسيرالثعلبي" 2/ 1862.]]. و (بين) تقتضي شيئين فصاعدًا، وإنما جاز مع أحدٍ، وهو واحد في اللفظ، لأن أَحَدًا يجوز أن يؤدي عن الجميع، قال الله تعالى: ﴿فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ [الحاقة: 47] وفي الحديث: "ما أُحلت الغنائم لأحدٍ سُود الرؤوس غيركم" [[الحديث، رواه الترمذي (3085) كتاب: تفسير القرآن، باب: ومن سورة الأنفال، وقال: حسن صحيح غريب، والنسائي في "تفسيره" 1/ 529 رقم 229، وأحمد 2/ 252، والطيالسي في "مسنده" 318 رقم 2429، وسعيد بن منصور في سننه 2/ 376 [ط. حبيب الرحمن] وابن أبي شيبة في "مصنفه" 14/ 387، وابن حبان في "صحيحه" الإحسان 11/ 134 برقم (4806) عن أبي هريرة مرفوعا، وأصله في الصحيحين. رواه البخاري (3124) كتاب: فرض الجهاد، باب: قول النبي ﷺ. أحلت لكم الغنائم، ومسلم (1747) كتاب: الجهاد، باب: تحليل الغنائم لهذه الأمة عن أبي هريرة بمعنى الحديث أعلاه.]] وإنما كان كذلك، لأن أحدًا ليس كرجلٍ يثنى ويجمع، وقولك: ما يفعلُ هذا أحدٌ، تريد: ما يفعله الناس كلهم، فلما كان لفظ أحدٍ يؤديَ عن الجميع، جازَ أن يُسْتَعْمَل معه (بين)، وإن كان لا يجوز أن يقول: لا نفرّق بين رجل منهم، وقد استقصينا هذا عند قوله: {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة: 68] [[ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 1864، "البحر المحيط" 2/ 365، وقال: ويحتمل عندي أن يكون مما حذف فيه المعطوف لدلالة المعنى عليه، والتقدير: لا يفرق بين أحد من رسله وبين أحد، فيكون أحد هنا بمعنى: واحد، لا أنه اللفظ الموضوع للعموم في النفي، ومِنْ حذف المعطوف: "سرابيل تقيهم الحر" أي: والبرد.]]. والكلام في أحدٍ وأصلهِ ذكرناه [[في (ي) و (ش): (ذكرنا).]] عند قوله: ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ﴾ [البقرة: 102]. وقوله تعالى: ﴿وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ أي: سمعنا قوله، وأطعنا أمره، فحذف لأن في [[في سقطت من (ي) و (ش).]] الكلام دليلًا عليه من حيث مُدحُوا به [[ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 369، "تفسير الثعلبي" 2/ 1865، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 147، "البحر المحيط" 2/ 366.]]. وقوله تعالى: ﴿غُفْرَانَكَ رَبَّنَا﴾ أي: اغفر غفرانك [[قوله: (أي اغفر غفرانك)، سقطت من (أ).]]، يُستغني بالمصدر عن الفِعْلِ في الدعاء، نحو: سَقْيًا ورعيًا وأشباههما. قال الفراء: وهو مصدر وقع موقع الأمر فنصب، قال: ومثله: الصلاةَ الصلاة [[هذه الجملة ليست في (أ).]]، وجميع الأسماء من المصادر وغيرها إذا نويت الأمر نصبت [["معاني القرآن" للفراء 1/ 188.]]، وهذا أولى من قول من يقول: معناه: نسألك غفرانك؛ لأنه على الفعل الذي أخِذ منه أدلّ، نحو: حمدًا، وشكرًا، أي: أحمد حمدًا، وأشكر شكرًا [[ينظر في إعراب الآية: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 369، "تفسير الثعلبي" 2/ 1865 - 1866، "التبيان" ص 172.]]. وقوله تعالى: ﴿وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ نحن مُقِرُّون بالبَعْث.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب