الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿آمَنَ الرَسُولُ بِما أُنْزِلَ إلَيْهِ مِن رَبِّهِ والمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ ومَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِن رُسُلِهِ وقالُوا سَمِعْنا وأطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وإلَيْكَ المَصِيرُ﴾ سَبَبُ هَذِهِ الآيَةِ أنَّهُ لَمّا أُنْزِلَتْ: ﴿وَإنْ تُبْدُوا ما في أنْفُسِكم أو تُخْفُوهُ﴾ [البقرة: ٢٨٤] وأشْفَقَ مِنها النَبِيُّ ﷺ وأصْحابُهُ رَضِيَ اللهُ عنهُمْ، ثُمَّ تَقَرَّرَ الأمْرُ عَلى أنْ قالُوا: سَمِعْنا وأطَعْنا، (p-١٣٦)فَرَجَعُوا إلى التَضَرُّعِ والِاسْتِكانَةِ - مَدَحَهُمُ اللهُ - وأثْنى عَلَيْهِمْ في هَذِهِ الآيَةِ، وقَدَّمَ ذَلِكَ بَيْنَ يَدَيْ رِفْقِهِ بِهِمْ، وكَشْفِهِ لِذَلِكَ الكَرْبِ الَّذِي أوجَبَهُ تَأوُّلُهُمْ، فَجَمَعَ لَهم تَعالى التَشْرِيفَ بِالمَدْحِ، والثَناءَ، ورَفْعَ المَشَقَّةِ في أمْرِ الخَواطِرِ، وهَذِهِ ثَمَرَةُ الطاعَةِ والِانْقِطاعِ إلى اللهِ تَعالى، كَما جَرى لِبَنِي إسْرائِيلَ ضِدُّ ذَلِكَ: مِن ذَمِّهِمْ، وتَحْمِيلِهِمُ المَشَقّاتِ مِنَ الذِلَّةِ والمَسْكَنَةِ والجَلاءِ، إذْ قالُوا سَمِعْنا وعَصَيْنا - وهَذِهِ ثَمَرَةُ العِصْيانِ، والتَمَرُّدِ عَلى اللهِ، أعاذَنا اللهُ مِن نِقْمَتِهِ. و"آمَنَ" مَعْناهُ: صَدَّقَ و"الرَسُولُ": مُحَمَّدٌ ﷺ، و"ما أُنْزِلَ إلَيْهِ مِن رَبِّهِ" هو القُرْآنُ، وسائِرُ ما أُوحِيَ إلَيْهِ -مِن جُمْلَةِ ذَلِكَ هَذِهِ الآيَةُ الَّتِي تَأوَّلُوها شَدِيدَةَ الحُكْمِ- ويُرْوى «أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ - لَمّا نَزَلَتْ عَلَيْهِ - قالَ: "وَيَحِقُّ لَهُ أنْ يُؤْمِنَ"،» وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ "وَآمَنَ المُؤْمِنُونَ"، وكُلُّ لَفْظَةٍ تَصْلُحُ لِلْإحاطَةِ، وقَدْ تُسْتَعْمَلُ غَيْرَ مُحِيطَةٍ عَلى جِهَةِ التَشْبِيهِ بِالإحاطَةِ، والقَرِينَةُ تُبَيِّنُ ذَلِكَ في كُلِّ كَلامٍ، ولَمّا ورَدَتْ هُنا بَعْدَ قَوْلِهِ: "والمُؤْمِنُونَ" دَلَّ ذَلِكَ عَلى إحاطَتِها بِمَن ذُكِرَ. والإيمانُ بِاللهِ: هو التَصْدِيقُ بِهِ، وبِصِفاتِهِ، ورَفْضُ الأصْنامِ وكُلِّ مَعْبُودٍ سِواهُ. والإيمانُ بِمَلائِكَتِهِ: هو اعْتِقادُ وُجُودِهِمْ وأنَّهم عِبادٌ لِلَّهِ ورَفْضُ مُعْتَقَداتِ الجاهِلِيَّةِ فِيهِمْ. والإيمانُ بِكُتُبِهِ: هو التَصْدِيقُ بِكُلِّ ما أُنْزِلَ عَلى الأنْبِياءِ الَّذِينَ تَضَمَّنَ ذِكْرَهم كِتابُ اللهِ المُنْزَلُ عَلى مُحَمَّدٍ ﷺ، أو ما أخْبَرَ هو بِهِ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، ونافِعٌ، وعاصِمٌ - في رِوايَةِ أبِي بَكْرٍ - وابْنِ عامِرٍ: "وَكُتُبِهِ" عَلى الجَمْعِ، وقَرَؤُوا في "التَحْرِيمِ": و"كِتابِهِ" عَلى التَوْحِيدِ، وقَرَأ أبُو عَمْرٍو ها هُنا، وفي التَحْرِيمِ: "وَكُتُبِهِ" عَلى الجَمْعِ، وقَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ: "وَكِتابِهِ" عَلى التَوْحِيدِ فِيهِما، ورَوى حَفْصٌ، عن عاصِمٍ هاهُنا وفي التَحْرِيمِ: "وَكُتُبِهِ" مِثْلَ أبِي عَمْرٍو. ورَوى خارِجَةُ عن نافِعٍ مِثْلَ ذَلِكَ، وبِكُلِّ قِراءَةٍ مِن هَذِهِ قَرَأ جُمْهُورٌ مِنَ العُلَماءِ، فَمَن جَمَعَ أرادَ جَمْعَ (p-١٣٧)كِتابٍ، ومَن أفْرَدَ أرادَ المَصْدَرَ الَّذِي يَجْمَعُ كُلَّ مَكْتُوبٍ كانَ نُزُولُهُ مِن عِنْدِ اللهِ تَعالى، هَذا قَوْلُ بَعْضِهِمْ، وقَدْ وجَّهَهُ أبُو عَلِيٍّ، وهو كَما قالُوا: نَسْجُ اليَمَنِ، وقالَ أبُو عَلِيٍّ في صَدْرِ كَلامِهِ: أمّا الإفْرادُ في قَوْلِ مَن قَرَأ: "وَكِتابِهِ" فَلَيْسَ كَما تُفْرَدُ المَصادِرُ وإنْ أُرِيدَ بِها الكَثِيرُ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا﴾ [الفرقان: ١٤] ونَحْوِ ذَلِكَ. ولَكِنْ كَما تُفْرَدُ الأسْماءُ الَّتِي يُرادُ بِها الكَثْرَةُ كَقَوْلِهِمْ: كَثُرَ الدِينارُ والدِرْهَمُ، ونَحْوِ ذَلِكَ، فَإنْ قُلْتَ: هَذِهِ الأسْماءُ الَّتِي يُرادُ بِها الكَثْرَةُ إنَّما تَجِيءُ مُفْرَدَةً، وهَذِهِ مُضافَةٌ، قِيلَ: فَقَدْ جاءَ في المُضافِ ما يُعْنى بِهِ الكَثْرَةُ، فَفي التَنْزِيلِ: ﴿وَإنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها﴾ [إبراهيم: ٣٤] وفي الحَدِيثِ: « "مَنَعَتِ العِراقُ دِرْهَمَها وقَفِيزَها"» فَهَذا يُرادُ بِهِ الكَثِيرُكَما يُرادُ بِما فِيهِ لامُ التَعْرِيفِ. ومِنهُ قَوْلُ ابْنِ الرِقاعِ: ؎ يَدَعُ الحَيَّ بِالعَشِيِّ غِراثًا ∗∗∗ وهُمُ عن رَغِيفِهِمْ أغْنِياءُ ومَجِيءُ أسْماءِ الأجْناسِ مُعَرَّفَةً بِالألِفِ واللامِ أكْثَرُ مِن مَجِيئِها مُضافَةً. وقِراءَةُ الجَماعَةِ: "وَرُسُلِهِ" بِضَمِّ السِينِ، وكَذَلِكَ: "رُسُلُنا ورُسُلُكم ورُسُلِكَ" إلّا أبا عَمْرٍو فَرُوِيَ عنهُ تَخْفِيفُ "رُسْلِنا ورُسْلِكُمْ"، ورُوِيَ عنهُ في "رُسُلِكَ" التَثْقِيلُ والتَخْفِيفُ، قالَ أبُو عَلِيٍّ: مَن قَرَأ "عَلى رُسُلِكَ" بِالتَثْقِيلِ فَذَلِكَ أصْلُ الكَلِمَةِ، ومَن خَفَّفَ فَكَما يُخَفَّفُ في الآحادِ مِثْلُ: عُنْقٍ وطُنْبٍ، فَإذا خَفَّفَ في الآحادِ فَذَلِكَ أحْرى في الجَمْعِ الَّذِي هو أثْقَلُ. (p-١٣٨)وَقَرَأ يَحْيى بْنُ يَعْمَرَ: "وَكُتْبِهِ ورُسْلِهِ" بِسُكُونِ التاءِ والسِينِ، وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ: "وَكِتابِهِ ولِقائِهِ ورُسُلِهِ"، وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "لا نُفَرِّقُ" بِالنُونِ، والمَعْنى: يَقُولُونَ: "لا نُفَرِّقُ"، وقَرَأ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، ويَحْيى بْنُ يَعْمَرَ، وأبُو زُرْعَةَ بْنُ عُمَرَ بْنِ جَرِيرٍ، ويَعْقُوبُ: "لا يُفَرِّقُ" بِالياءِ، وهَذا عَلى لَفْظِ كُلٍّ، قالَ هارُونُ: وهي في حَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "لا يُفَرِّقُونَ" بِالياءِ، ومَعْنى هَذِهِ الآيَةِ: أنَّ المُؤْمِنِينَ لَيْسُوا كاليَهُودِ والنَصارى في أنَّهم يُؤْمِنُونَ بِبَعْضٍ ويَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَقالُوا سَمِعْنا وأطَعْنا﴾ مَدْحٌ يَقْتَضِي الحَضَّ عَلى هَذِهِ المَقالَةِ، وأنْ يَكُونَ المُؤْمِنُ يَمْتَثِلُها غابِرَ الدَهْرِ، والطاعَةُ: قَبُولُ الأوامِرِ. و"غُفْرانَكَ" مَصْدَرٌ كالكُفْرانِ والخُسْرانِ - ونَصْبُهُ عَلى جِهَةِ نَصْبِ المَصادِرِ، والعامِلُ فِيهِ فِعْلٌ مُقَدَّرٌ. قالَ الزَجّاجُ تَقْدِيرُهُ: اغْفِرْ غُفْرانَكَ. وقالَ غَيْرُهُ: نَطْلُبُ أو نَسْألُ غُفْرانَكَ، ﴿وَإلَيْكَ المَصِيرُ﴾ إقْرارٌ بِالبَعْثِ والوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ تَعالى. ورُوِيَ «أنَّ النَبِيَّ ﷺ - لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ - قالَ لَهُ جِبْرِيلُ: يا مُحَمَّدُ: إنَّ اللهَ قَدْ أجَلَّ الثَناءَ عَلَيْكَ وعَلى أُمَّتِكَ، فَسَلْ تُعْطَهُ، فَسَألَ إلى آخِرِ السُورَةِ.»
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب