الباحث القرآني

فِيهِ إِحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ﴾. [رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ كَانَتْ فِي قِصَّةِ الْمِعْرَاجِ، وَهَكَذَا رُوِيَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: جَمِيعُ الْقُرْآنِ نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ إِلَّا هَذِهِ الْآيَةَ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ: هُوَ الَّذِي سَمِعَ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي قِصَّةِ الْمِعْرَاجِ، لِأَنَّ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ كَانَتْ بِمَكَّةَ وَهَذِهِ السُّورَةُ كُلُّهَا مَدَنِيَّةٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّهَا كَانَتْ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ قَالَ: لَمَّا صَعِدَ النَّبِيُّ ﷺ وبلغ في السموات فِي مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ وَمَعَهُ جِبْرِيلُ حَتَّى جَاوَزَ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: إِنِّي لَمْ أُجَاوِزْ هَذَا الْمَوْضِعَ وَلَمْ يُؤْمَرْ بِالْمُجَاوَزَةِ أَحَدٌ هَذَا الْمَوْضِعَ غَيْرُكَ فَجَاوَزَ النَّبِيُّ ﷺ حَتَّى بَلَغَ الْمَوْضِعَ الَّذِي شَاءَ اللَّهُ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ بِأَنْ سَلِّمْ عَلَى رَبِّكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَأَرَادَ النَّبِيُّ ﷺ أَنْ يَكُونَ لِأُمَّتِهِ حَظٌّ فِي السَّلَامِ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، فَقَالَ جِبْرِيلُ واهل السموات كُلُّهُمْ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أن محمدا عبد هـ وَرَسُولُهُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "آمَنَ الرَّسُولُ" عَلَى مَعْنَى الشُّكْرِ أَيْ صَدَّقَ الرَّسُولُ "بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ" فَأَرَادَ النَّبِيُّ ﷺ أَنْ يُشَارِكَ أُمَّتَهُ فِي الْكَرَامَةِ وَالْفَضِيلَةِ فَقَالَ: "وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ" يَعْنِي يَقُولُونَ آمَنَّا بِجَمِيعِ الرُّسُلِ وَلَا نَكْفُرُ بِأَحَدٍ مِنْهُمْ وَلَا نُفَرِّقُ بَيْنَهُمْ كَمَا فَرَّقَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ كَيْفَ قَبُولُهُمْ بِآيِ الَّذِي أَنْزَلْتُهَا؟ وَهُوَ قَوْلُهُ: "إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ" فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ "قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ" يَعْنِي الْمَرْجِعَ. فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ ذَلِكَ "لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها" يَعْنِي طَاقَتَهَا وَيُقَالُ: إِلَّا دُونَ طَاقَتِهَا. "لَها مَا كَسَبَتْ" مِنَ الْخَيْرِ "وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ" مِنَ الشَّرِّ، فَقَالَ جِبْرِيلُ عِنْدَ ذَلِكَ: سَلْ تُعْطَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: "رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا" يَعْنِي إِنْ جَهِلْنَا "أَوْ أَخْطَأْنا" يَعْنِي إِنْ تَعَمَّدْنَا، وَيُقَالُ: إِنْ عَمِلْنَا بِالنِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ. فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: قَدْ أُعْطِيتَ ذَلِكَ قَدْ رُفِعَ عَنْ أُمَّتِكَ الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ. فَسَلْ شَيْئًا آخَرَ فَقَالَ: "رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً" يَعْنِي ثِقَلًا "كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا" وَهُوَ أَنَّهُ حَرَّمَ عَلَيْهِمُ الطَّيِّبَاتِ بِظُلْمِهِمْ، وَكَانُوا إِذَا أَذْنَبُوا بِاللَّيْلِ وَجَدُوا ذَلِكَ مَكْتُوبًا عَلَى بَابِهِمْ، وَكَانَتِ الصَّلَوَاتُ عَلَيْهِمْ خَمْسِينَ، فَخَفَّفَ اللَّهُ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَحَطَّ عَنْهُمْ بعد ما فَرَضَ خَمْسِينَ صَلَاةً. ثُمَّ قَالَ: "رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ" يَقُولُ: لَا تُثْقِلْنَا مِنَ الْعَمَلِ مَا لَا نُطِيقُ فَتُعَذِّبَنَا، وَيُقَالُ: مَا تَشُقُّ عَلَيْنَا، لِأَنَّهُمْ لَوْ أُمِرُوا بِخَمْسِينَ صَلَاةً لَكَانُوا يُطِيقُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ وَلَا يُطِيقُونَ الْإِدَامَةَ عَلَيْهِ "وَاعْفُ عَنَّا" مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ "وَاغْفِرْ لَنا" وَتَجَاوَزْ عَنَّا، وَيُقَالُ: "وَاعْفُ عَنَّا" مِنَ الْمَسْخِ "وَاغْفِرْ لَنا" مِنَ الْخَسْفِ "وَارْحَمْنا" مِنَ الْقَذْفِ، لِأَنَّ الْأُمَمَ الْمَاضِيَةَ بَعْضُهُمْ أَصَابَهُمُ الْمَسْخُ وَبَعْضُهُمْ أَصَابَهُمُ الْخَسْفُ وَبَعْضُهُمُ الْقَذْفُ ثُمَّ قَالَ: "أَنْتَ مَوْلانا" يَعْنِي وَلِيُّنَا وَحَافِظُنَا "فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ" فَاسْتُجِيبَتْ دَعْوَتُهُ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: "نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ" وَيُقَالُ إِنَّ الْغُزَاةَ: إِذَا خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِالنِّيَّةِ الْخَالِصَةِ وَضَرَبُوا بِالطَّبْلِ وَقَعَ الرُّعْبُ وَالْهَيْبَةُ فِي قُلُوبِ الْكُفَّارِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ فِي شَهْرٍ، عَلِمُوا بِخُرُوجِهِمْ أَوْ لَمْ يَعْلَمُوا، ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا رَجَعَ أَوْحَى اللَّهُ هَذِهِ الْآيَاتِ، لِيُعْلِمَ أُمَّتَهُ بِذَلِكَ. وَلِهَذِهِ الْآيَةِ تَفْسِيرٌ آخَرُ، قَالَ الزَّجَّاجُ: لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَرْضَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَبَيَّنَ أَحْكَامَ الْحَجِّ وَحُكْمَ الْحَيْضِ وَالطَّلَاقِ وَالْإِيلَاءِ وَأَقَاصِيصَ الْأَنْبِيَاءِ وَبَيَّنَ حُكْمَ الرِّبَا، ذَكَرَ تَعْظِيمَهُ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: "لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ" ثُمَّ ذَكَرَ تَصْدِيقَ نَبِيِّهِ ﷺ ثُمَّ ذَكَرَ تَصْدِيقَ الْمُؤْمِنِينَ بِجَمِيعِ ذَلِكَ فَقَالَ: "آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ" أَيْ صَدَّقَ الرَّسُولُ بِجَمِيعِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي جَرَى ذِكْرُهَا وَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ صَدَّقُوا بالله وملائكته وكتبه ورسله [[هذه الزيادة لا توجد في الأصول إلا في نسخة ب يوجد جزء منها، وفى نخ ط توج كلها وعليها اعتمدناها وهى كما يرى شاذة في مضمونها أول الكلام إذ المجمع عليه سلفا وخلفا أن القرآن نزل به الروح الأمين جميعا عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ "نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ" وهذا هو المتواتر وكون هذه الآية تلقاها تبينا صلوات الله عليه ليلة المعراج يجانب ما تواتر، ويكون أشد مجافاة إذا علمت أن الاسراء كان في الخامسة بعد البعث، وقيل: بسنة قبل الهجرة والبقرة مدنية بالإجماع. وقد وردت أحاديث في صحيح مسلم، ومسندي أحمد وابن مردويه تؤيد ما ذكره القرطبي بيد أن التواتر يجعل تلك الروايات على ضرب من التأويل متى صحت سندا ومتنا. مصححه.]] [. وَقِيلَ سَبَبُ نُزُولِهَا الْآيَةُ الَّتِي قَبْلَهَا وَهِيَ: "لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" فَإِنَّهُ لَمَّا أُنْزِلَ هَذَا عَلَى النَّبِيِّ ﷺ اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَأَتَوْا رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ثُمَّ بَرَكُوا عَلَى الرُّكَبِ فَقَالُوا: أَيْ رَسُولَ اللَّهِ، كُلِّفْنَا مِنَ. الْأَعْمَالِ مَا نُطِيقُ: الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ والجهاد [والصدقة [[من صحيح مسلم.]]]، وقد أنزل الله عليك هَذِهِ الْآيَةَ وَلَا نُطِيقُهَا. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ سَمِعْنا وَعَصَيْنا بَلْ قُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ" فَقَالُوا: سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ. فَلَمَّا اقْتَرَأَهَا الْقَوْمُ ذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي إِثْرِهَا: "آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ". فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا اللَّهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ" [[في الأصول بعد قوله: "مَا اكْتَسَبَتْ" قال: نعم. وليست في صحيح مسلم.]] "رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا" قَالَ: "نَعَمْ" "رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا" قَالَ: "نَعَمْ" "رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ" قَالَ: "نَعَمْ" "وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ" قَالَ: "نَعَمْ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى [[ص ٤٢١]] "قَدْ فَعَلْتُ" وَهُنَا قَالَ: "نَعَمْ" دَلِيلٌ عَلَى نَقْلِ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَلَمَّا تَقَرَّرَ الْأَمْرُ عَلَى أَنْ قَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، مَدَحَهُمُ اللَّهُ وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَرَفَعَ الْمَشَقَّةَ فِي أَمْرِ الْخَوَاطِرِ عَنْهُمْ، وَهَذِهِ ثَمَرَةُ الطَّاعَةِ وَالِانْقِطَاعِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا جَرَى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ضِدُّ ذَلِكَ مِنْ ذَمِّهِمْ وَتَحْمِيلِهِمُ الْمَشَقَّاتِ مِنَ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ وَالِانْجِلَاءِ إِذْ قَالُوا: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا، وَهَذِهِ ثَمَرَةُ الْعِصْيَانِ وَالتَّمَرُّدِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْ نِقَمِهِ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قِيلَ لَهُ: إِنَّ بَيْتَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شماس يَزْهَرُ كُلَّ لَيْلَةٍ بِمَصَابِيحَ. قَالَ: "فَلَعَلَّهُ يَقْرَأُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ" فَسُئِلَ ثَابِتٌ قَالَ: قَرَأْتُ مِنْ سورة البقر "آمَنَ الرَّسُولُ" نَزَلَتْ حِينَ شَقَّ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ مَا تَوَعَّدَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ مُحَاسَبَتِهِمْ عَلَى مَا أَخْفَتْهُ نُفُوسُهُمْ، فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: "فَلَعَلَّكُمْ تَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ" قَالُوا: بَلْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ثَنَاءً عَلَيْهِمْ: "آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ" فَقَالَ ﷺ: "وَحَقَّ لَهُمْ أَنْ يُؤْمِنُوا". الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿آمَنَ﴾ أَيْ صَدَّقَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَالَّذِي أُنْزِلَ هُوَ الْقُرْآنُ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ "وَآمَنَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ" عَلَى اللَّفْظِ، وَيَجُوزُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ "آمَنُوا" عَلَى الْمَعْنَى. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ وَابْنِ عَامِرٍ (وَكُتُبِهِ) عَلَى الْجَمْعِ. وَقَرَءُوا فِي" التَّحْرِيمِ [[ج ١٨ ص ٢٠٤.]] "كِتَابِهِ، عَلَى التَّوْحِيدِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو هُنَا وَفِي" التحريم" "وَكُتُبِهِ" عَلَى الْجَمْعِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ "وَكِتَابِهِ" عَلَى التَّوْحِيدِ فِيهِمَا. فَمَنْ جَمَعَ أَرَادَ جَمْعَ كِتَابٍ، وَمَنْ أَفْرَدَ أَرَادَ الْمَصْدَرَ الَّذِي يَجْمَعُ كُلَّ مَكْتُوبٍ كَانَ نُزُولُهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَيَجُوزُ فِي قِرَاءَةِ مَنْ وَحَّدَ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْجَمْعُ، يَكُونُ الْكِتَابُ اسْمًا لِلْجِنْسِ فَتَسْتَوِي الْقِرَاءَتَانِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ [[راجع ص ٣٠ من هذا الجزء.]] ". قَرَأَتِ الْجَمَاعَةُ "وَرُسُلِهِ" بضم السين، وكذلك "أَرْسَلْنا ورُسُلُكُمْ ورُسُلِكَ"، إِلَّا أَبَا عَمْرٍو فَرُوِيَ عَنْهُ تَخْفِيفُ "رُسْلُنَا وَرُسْلُكُمْ"، وَرُوِيَ عَنْهُ فِي "رُسُلِكَ" التَّثْقِيلُ وَالتَّخْفِيفُ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: مَنْ قَرَأَ "رُسُلُكَ" بِالتَّثْقِيلِ فَذَلِكَ أَصْلُ الْكَلِمَةِ، وَمَنْ خَفَّفَ فَكَمَا يُخَفِّفُ فِي الْآحَادِ، مِثْلَ عُنْقٌ وَطُنْبٌ. وَإِذَا خَفَّفَ فِي الْآحَادِ فَذَلِكَ أَحْرَى فِي الْجَمْعِ الَّذِي هُوَ أَثْقَلُ، وَقَالَ مَعْنَاهُ مَكِّيٌّ. وَقَرَأَ جُمْهُورُ النَّاسِ "لَا نُفَرِّقُ" بِالنُّونِ، وَالْمَعْنَى يَقُولُونَ لَا نُفَرِّقُ، فَحَذَفَ الْقَوْلَ، وَحَذْفُ الْقَوْلِ كَثِيرٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ. سَلامٌ عَلَيْكُمْ [[راجع ج ٩ ص ٣١٠.]] "أَيْ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ. وَقَالَ:" وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلًا [[راجع ج ٤ ص ٣١٣]] "أَيْ يقولون رَبَّنَا، وَمَا كَانَ مِثْلَهُ. وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ وَأَبُو زُرْعَةَ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ وَيَعْقُوبُ" لَا يُفَرِّقُ "بِالْيَاءِ، وَهَذَا عَلَى لَفْظِ كُلٌّ. قَالَ هَارُونُ: وَهِيَ فِي حَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ" لَا يُفَرِّقُونَ". وَقَالَ "بَيْنَ أَحَدٍ" عَلَى الْإِفْرَادِ وَلَمْ يَقُلْ آحَادٍ، لِأَنَّ الْأَحَدَ يَتَنَاوَلُ الْوَاحِدَ وَالْجَمِيعَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:" فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ [[راجع ج ١٨ ص ٢٧٦.]] "فَ" حاجِزِينَ "صِفَةٌ لِأَحَدٍ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ الْجَمْعُ. وَقَالَ ﷺ:" مَا أُحِلَّتِ الغنائم لاحد سود الرؤوس غَيْرَكُمْ" وَقَالَ رُؤْبَةُ: إِذَا أُمُورُ النَّاسِ دِينَتْ دِينَكَا ... لَا يَرْهَبُونَ أَحَدًا مِنْ دُونِكَا وَمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَيْسُوا كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِبَعْضٍ وَيَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا﴾ فِيهِ حَذْفٌ، أَيْ سَمِعْنَا سَمَاعَ قَابِلِينَ [[في ط: قائلين.]]. وَقِيلَ: سَمِعَ بِمَعْنَى قَبِلَ، كَمَا يُقَالُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَلَا يَكُونُ فِيهِ حَذْفٌ. وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَهَذَا الْقَوْلُ يَقْتَضِي الْمَدْحَ لِقَائِلِهِ. وَالطَّاعَةُ قَبُولُ الْأَمْرِ. وَقَوْلُهُ (غُفْرانَكَ) مَصْدَرٌ كَالْكُفْرَانِ وَالْخُسْرَانِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ فعل مقدر، تقديره: اغفر غفرانك، قال الزَّجَّاجُ. وَغَيْرُهُ: نَطْلُبُ أَوْ أَسْأَلُ غُفْرَانَكَ. (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) إِقْرَارٌ بِالْبَعْثِ وَالْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: "إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَلَّ الثَّنَاءَ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَّتِكَ فَسَلْ تُعْطَهُ" فَسَأَلَ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها﴾ التَّكْلِيفُ هُوَ الْأَمْرُ بِمَا يَشُقُّ عَلَيْهِ. وَتَكَلَّفْتُ الْأَمْرَ تَجَشَّمْتُهُ، حَكَاهُ الْجَوْهَرِيُّ. وَالْوُسْعُ: الطَّاقَةُ وَالْجِدَةُ. وَهَذَا خَبَرٌ جَزْمٌ. نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَنَّهُ لَا [[كذا في ابن عطية وهى عبارة. وفى الأصول: لم.]] يُكَلِّفُ الْعِبَادَ مِنْ وَقْتِ نُزُولِ الْآيَةِ عِبَادَةً مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ أَوِ الْجَوَارِحِ إِلَّا وَهِيَ فِي وُسْعِ الْمُكَلَّفِ وَفِي مُقْتَضَى إِدْرَاكِهِ وَبِنْيَتِهِ، وَبِهَذَا انْكَشَفَتِ الْكُرْبَةُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ فِي تَأَوُّلِهِمْ أَمْرَ الْخَوَاطِرِ. وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ مَا حَكَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: مَا وَدِدْتُ أَنَّ أَحَدًا وَلَدَتْنِي أُمُّهُ إِلَّا جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَإِنِّي تَبِعْتُهُ يَوْمًا وَأَنَا جائع فلما بلغ مَنْزِلَهُ لَمْ يَجِدْ فِيهِ سِوَى نِحْيِ سَمْنٍ قَدْ بَقِيَ فِيهِ أَثَارَةٌ فَشَقَّهُ بَيْنَ أَيْدِينَا، فَجَعَلْنَا نَلْعَقُ مَا فِيهِ مِنَ السَّمْنِ وَالرُّبِّ [[الرب (بالضم): دبس التمر إذا طبخ.]] وَهُوَ يَقُولُ: مَا كَلَّفَ اللَّهُ نَفْسًا فَوْقَ طَاقَتِهَا ... وَلَا تَجُودُ يَدٌ إِلَّا بِمَا تَجِدُ الْخَامِسَةُ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي جَوَازِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ فِي الْأَحْكَامِ الَّتِي هِيَ فِي الدُّنْيَا، بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ وَاقِعًا فِي الشَّرْعِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَذِنَتْ بِعَدَمِهِ، قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ: تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ جَائِزٌ عَقْلًا، وَلَا يَخْرِمُ ذَلِكَ شَيْئًا مِنْ عَقَائِدِ الشَّرْعِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ أَمَارَةٌ عَلَى تَعْذِيبِ الْمُكَلَّفِ وَقَطْعًا بِهِ، وَيَنْظُرُ إِلَى هَذَا تَكْلِيفُ الْمُصَوِّرِ أَنْ يَعْقِدَ شَعِيرَةً. وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِجَوَازِهِ هَلْ وَقَعَ فِي رسالة محمد ﷺ أولا؟ فقالت فِرْقَةٌ: وَقَعَ فِي نَازِلَةِ أَبِي لَهَبٍ، لِأَنَّهُ كَلَّفَهُ بِالْإِيمَانِ بِجُمْلَةِ الشَّرِيعَةِ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ، لِأَنَّهُ حُكِمَ عَلَيْهِ بِتَبِّ الْيَدَيْنِ وَصَلْيِ النَّارِ، وَذَلِكَ مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ، فَقَدْ كَلَّفَهُ بِأَنْ يُؤْمِنَ بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: لَمْ يَقَعْ قَطُّ. وَقَدْ حُكِيَ الْإِجْمَاعُ عَلَى ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى:" سَيَصْلى نَارًا [[راجع ج ٢٠ ص ٢٣٤.]] "معناه إن وافى، حكاه ابن عطية." ويُكَلِّفُ "يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ أَحَدُهُمَا مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ عِبَادَةً أَوْ شَيْئًا. فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ بِلُطْفِهِ وَإِنْعَامِهِ عَلَيْنَا وَإِنْ كَانَ قَدْ كَلَّفَنَا بِمَا يَشُقُّ وَيَثْقُلُ كَثُبُوتِ الْوَاحِدِ لِلْعَشْرَةِ، وَهِجْرَةِ الْإِنْسَانِ وَخُرُوجِهِ مِنْ وَطَنِهِ وَمُفَارَقَةِ أَهْلِهِ وَوَطَنِهِ وَعَادَتِهِ، لَكِنَّهُ لَمْ يكلفنا بالمشقات المثقلة ولا بالأمور المولمة، كَمَا كَلَّفَ مَنْ قَبْلَنَا بِقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ وَقَرْضِ مَوْضِعِ الْبَوْلِ مِنْ ثِيَابِهِمْ وَجُلُودِهِمْ، بَلْ سَهَّلَ وَرَفَقَ وَوَضَعَ عَنَّا الْإِصْرَ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي وَضَعَهَا عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَنَا. فَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَالْفَضْلُ وَالنِّعْمَةُ. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَها مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ﴾ يُرِيدُ مِنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ. قَالَهُ السُّدِّيُّ. وَجَمَاعَةُ الْمُفَسِّرِينَ لَا خِلَافَ بينهم في ذلك، قال ابْنُ عَطِيَّةَ. وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ:" وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى "" وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها [[راجع ج ٧ ص ١٥٦]] ". وَالْخَوَاطِرُ وَنَحْوُهَا لَيْسَتْ مِنْ كَسْبِ الْإِنْسَانِ. وَجَاءَتِ الْعِبَارَةُ فِي الْحَسَنَاتِ بِ "لَهَا" من حيث هي مما يَفْرَحُ الْمَرْءُ بِكَسْبِهِ وَيُسَرُّ بِهَا، فَتُضَافُ إِلَى مِلْكِهِ. وَجَاءَتْ فِي السَّيِّئَاتِ بِ "عَلَيْهَا" مِنْ حَيْثُ هِيَ أَثْقَالٌ وَأَوْزَارٌ وَمُتَحَمَّلَاتٌ صَعْبَةٌ، وَهَذَا كَمَا تَقُولُ: لِي مَالٌ وَعَلَيَّ دَيْنٌ. وَكَرَّرَ فِعْلَ الْكَسْبِ فَخَالَفَ بَيْنَ التَّصْرِيفِ حُسْنًا لِنَمَطِ الْكَلَامِ، كَمَا قَالَ:" فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً [[راجع ج ٢٠ ص ١٢.]] ". قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَظْهَرُ لِي فِي هَذَا أَنَّ الْحَسَنَاتِ هِيَ مِمَّا تُكْتَسَبُ دُونَ تَكَلُّفٍ، إِذْ كَاسِبُهَا عَلَى جَادَّةِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى ورسم شرعه، والسيئات تكتسب ببناء المبالغة، إذا كَاسِبُهَا يَتَكَلَّفُ فِي أَمْرِهَا خَرْقَ حِجَابِ نَهْيِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَتَخَطَّاهُ إِلَيْهَا، فَيَحْسُنُ فِي الْآيَةِ مَجِيءُ التَّصْرِيفَيْنِ إِحْرَازًا، لِهَذَا الْمَعْنَى. السَّابِعَةُ- فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ إِطْلَاقِ أَئِمَّتِنَا عَلَى أَفْعَالِ الْعِبَادِ كَسْبًا وَاكْتِسَابًا، وَلِذَلِكَ لَمْ يُطْلِقُوا عَلَى ذَلِكَ لَا خَلْقَ وَلَا خَالِقَ، خِلَافًا لِمَنْ أَطْلَقَ ذَلِكَ مِنْ مُجْتَرِئَةِ الْمُبْتَدِعَةِ. وَمَنْ أَطْلَقَ مِنْ أَئِمَّتِنَا ذَلِكَ عَلَى الْعَبْدِ، وَأَنَّهُ فَاعِلٌ فَبِالْمَجَازِ الْمَحْضِ. وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ وَغَيْرُهُ: وَقِيلَ مَعْنَى الْآيَةِ لَا يُؤَاخَذُ أَحَدٌ بِذَنْبِ أَحَدٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ وَلَكِنْ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ. الثَّامِنَةُ- قَالَ الْكِيَا الطَّبَرِيُّ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَها مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ﴾ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ قَتَلَ غَيْرَهُ بِمِثْقَلٍ أَوْ بِخَنْقٍ أَوْ تَغْرِيقٍ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ قِصَاصًا أَوْ دِيَةً، خلافا لِمَنْ جَعَلَ دِيَتَهُ عَلَى الْعَاقِلَةِ [[العاقلة أولا لقبيلة، وثانيا المرأة.]]، وَذَلِكَ يُخَالِفُ الظَّاهِرَ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ سُقُوطَ الْقِصَاصِ عَنِ الْأَبِ لَا يَقْتَضِي سُقُوطَهُ عَنْ شَرِيكِهِ. وَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الْعَاقِلَةِ [[العاقلة أولا لقبيلة، وثانيا المرأة.]] إِذَا مَكَّنَتْ مَجْنُونًا مِنْ نَفْسِهَا. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: "ذَكَرَ عُلَمَاؤُنَا هَذِهِ الْآيَةَ فِي أَنَّ الْقَوَدَ وَاجِبٌ عَلَى شَرِيكِ الْأَبِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَعَلَى شَرِيكِ الْخَاطِئِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدِ اكْتَسَبَ الْقَتْلَ. وَقَالُوا: إِنَّ اشْتِرَاكَ مَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ مَعَ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ لَا يَكُونُ شُبْهَةً فِي دَرْءِ مَا يدرأ بالشبهة". التاسعة- قوله تعالى: (رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) الْمَعْنَى: اعْفُ عَنْ إِثْمِ مَا يَقَعُ مِنَّا عَلَى هَذَيْنَ الْوَجْهَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا، كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ" أَيْ إِثْمُ ذَلِكَ. وَهَذَا لَمْ يُخْتَلَفْ فِيهِ أَنَّ الْإِثْمَ مَرْفُوعٌ، وَإِنَّمَا اخْتُلِفَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ، هل ذلك مرفوع لا يلزم منه شي أَوْ يَلْزَمُ أَحْكَامُ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ اخْتُلِفَ فِيهِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْوَقَائِعِ، فَقِسْمٌ لَا يَسْقُطُ بِاتِّفَاقٍ كَالْغَرَامَاتِ وَالدِّيَاتِ وَالصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ. وَقِسْمٌ يَسْقُطُ بِاتِّفَاقٍ كَالْقِصَاصِ وَالنُّطْقِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ. وَقِسْمٌ ثَالِثٌ يُخْتَلَفُ فِيهِ كَمَنْ أَكَلَ نَاسِيًا فِي رَمَضَانَ أَوْ حَنِثَ سَاهِيًا، وَمَا كَانَ مِثْلَهُ مِمَّا يَقَعُ خَطَأً وَنِسْيَانًا، وَيُعْرَفُ ذَلِكَ فِي الْفُرُوعِ. الْعَاشِرَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً﴾ أَيْ ثِقْلًا. قَالَ مَالِكٌ وَالرَّبِيعُ: الْإِصْرُ الْأَمْرُ الْغَلِيظُ الصَّعْبُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْإِصْرُ شِدَّةُ الْعَمَلِ. وَمَا غَلُظَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْبَوْلِ وَنَحْوِهِ. قَالَ الضَّحَّاكُ: كَانُوا يَحْمِلُونَ أُمُورًا شِدَادًا، وَهَذَا نَحْوُ قَوْلِ مَالِكٍ وَالرَّبِيعِ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ: يَا مَانِعَ الضَّيْمِ أَنْ يَغْشَى سَرَاتَهُمْ ... وَالْحَامِلَ الْإِصْرَ عنهم بعد ما عَرَفُوا [[كذا في جميع الأصول، إلا ط كما في شعراء النصرانية: غرفوا.]] عَطَاءٌ: الْإِصْرُ الْمَسْخُ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، وَقَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ أَيْضًا. وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ الذَّنْبُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ تَوْبَةٌ وَلَا كَفَّارَةٌ. وَالْإِصْرُ فِي اللُّغَةِ الْعَهْدُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي [[راجع ج ٤ ص ٤٢١.]] ". وَالْإِصْرُ: الضِّيقُ وَالذَّنْبُ وَالثِّقْلُ. وَالْإِصَارُ: الْحَبْلُ الَّذِي تُرْبَطُ بِهِ الْأَحْمَالُ وَنَحْوُهَا، يُقَالُ: أَصَرَ يَأْصِرُ أَصْرًا حَبَسَهُ. وَالْإِصْرُ (بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ) مِنْ ذَلِكَ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالْمَوْضِعُ مَأْصِرٌ وَمَأْصَرٌ وَالْجَمْعُ مَآصِرُ، وَالْعَامَّةُ تَقُولُ مَعَاصِرُ. قَالَ ابن خويز منداد: وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهَذَا الظَّاهِرِ فِي كُلِّ عِبَادَةٍ ادَّعَى الْخَصْمُ تَثْقِيلَهَا، فَهُوَ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [[راجع ج ١٢ ص ٩٩]] "، وَكَقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: "الدِّينُ يُسْرٌ فَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا". اللَّهُمَّ شُقَّ عَلَى مَنْ شَقَّ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ. قُلْتُ: وَنَحْوَهُ قَالَ الْكِيَا الطَّبَرِيُّ قَالَ: يُحْتَجُّ بِهِ فِي نَفْيِ الْحَرَجِ وَالضِّيقِ الْمُنَافِي ظَاهِرُهُ لِلْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ، وَهَذَا بَيِّنٌ. الحادية عشر- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلا تُحَمِّلْنا مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ﴾ قَالَ قَتَادَةُ: مَعْنَاهُ لَا تُشَدِّدْ علينا كما سددت على الذين من قبلنا. الضحاك: لا تحملنا من الأعمال مالا نُطِيقُ، وَقَالَ نَحْوَهُ ابْنُ زَيْدٍ. ابْنُ جُرَيْجٍ: لَا تَمْسَخْنَا قِرَدَةً وَلَا خَنَازِيرَ. وَقَالَ سَلَامُ بْنُ سَابُورَ: الَّذِي لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ: الْغُلْمَةُ [[الغلمة: (بضم الغين المعجمة): هياجان شهوة النكاح وغلم يعلم من باب تعب أشتد شيقه.]]، وَحَكَاهُ النَّقَّاشُ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ. وَرَوَى أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غُلْمَةٍ لَيْسَ لَهَا عُدَّةٌ. وَقَالَ السَّدِّيُّ: هُوَ التَّغْلِيظُ وَالْأَغْلَالُ الَّتِي كَانَتْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَاعْفُ عَنَّا﴾ أَيْ عَنْ ذُنُوبِنَا. عَفَوْتَ عَنْ ذَنْبِهِ إِذَا تَرَكْتَهُ وَلَمْ تُعَاقِبْهُ. (وَاغْفِرْ لَنا) أَيِ اسْتُرْ عَلَى ذُنُوبِنَا. وَالْغَفْرُ: السَّتْرُ. (وَارْحَمْنا) أَيْ تَفَضَّلْ برحمة مبتدئا رُوِيَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّهُ كَانَ إِذَا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ هَذِهِ السُّورَةِ قَالَ: آمين. قال اين عَطِيَّةَ: هَذَا يُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ رَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فَكَمَالٌ، وَإِنْ كَانَ بِقِيَاسٍ عَلَى سُورَةِ الحمد من حيث هنالك دعاء فحسن. وقال على ابن أبى طالب: ما أظن أن أحد عَقَلَ وَأَدْرَكَ الْإِسْلَامَ يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَهُمَا. قُلْتُ: قد مُسْلِمٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مَنْ قَرَأَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مِنْ آخر سورة" البقرة "في ليلة كفتاء". قِيلَ: مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ، كَمَا رُوِيَ عَنِ اين عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: "أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيَّ آيَتَيْنِ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ خَتَمَ بِهِمَا سُورَةَ الْبَقَرَةِ كَتَبَهُمَا الرَّحْمَنُ بِيَدِهِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ بِأَلْفِ عَامٍ مَنْ قَرَأَهُمَا بَعْدَ الْعِشَاءِ مَرَّتَيْنِ أَجْزَأَتَاهُ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ" آمَنَ الرَّسُولُ "إِلَى آخِرِ الْبَقَرَةِ". وَقِيلَ: كَفَتَاهُ مِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ فَلَا يكون له سُلْطَانٌ. وَأَسْنَدَ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ عَنْ حُذَيْفَةَ بت الْيَمَانِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَزَّ كَتَبَ كتابا قبل أن يخلق السموات وَالْأَرْضَ بِأَلْفَيْ عَامٍ فَأَنْزَلَ مِنْهُ هَذِهِ الثَّلَاثَ آيات الَّتِي خَتَمَ بِهِنَّ الْبَقَرَةَ مَنْ قَرَّأَهُنَّ فِي بَيْتِهِ لَمْ يَقْرُبِ الشَّيْطَانُ بَيْتَهُ ثَلَاثَ لَيَالٍ". وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: "أُوتِيتُ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ البقرة من كنز تحت العشر لم يؤتهن نبى قبلي". وهذا صحيح. قد تَقَدَّمَ فِي الْفَاتِحَةِ نُزُولُ الْمَلَكِ بِهَا مَعَ الفاتحة. والحمد لله. مصححه أبو إسحاق إبراهيم أطفيش تَمَّ الْجُزْءُ الثَّالِثُ مِنْ تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ يَتْلُوهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى الجزء الرابع وأوله: سورة آل عمران بعون الله وجميل توفيقه قد تم طبع الجزء الثالث من كتاب "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي الجزء الرابع
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب