الباحث القرآني
قوله تعالى: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا، يعني: وتاب الله على الثلاثة وهم: كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية. قال الفقيه: سمعت أبي رحمه الله يذكر بإسناده، عن معمر، عن الزهري، عن عبد الله بن كعب بن مالك، عن أبيه قال: لم أتخلف عن رسول الله ﷺ في غزوة له غزاها، حتى كانت غزوة تبوك إلا بدراً، فلم يعاتب النبيّ ﷺ أحداً تخلف عن بدر، إنَّما خرج يريد العير، فخرجت قريش معينين لعيرهم، فالتقوا على غير موعدهم. ثم لم أتخلف عن النبيّ ﷺ وعن غزوة غزاها حتى كانت غزوة تبوك وهي آخر غزوة غزاها فأذن للناس بالرحيل وأراد أن يتأهبوا أهبة غزوتهم، وذلك حين طابت الظلال وطابت الثمار، وكان قل ما أراد غزوة إلا ورّى بغيرها، وكان يقول: «الْحَرْبُ خُدْعَةٌ» ، فأراد في غزوة أن يتأهب الناس أهبتهم، وأنا أيسر ما كنت قد جمعت راحلتين، وأنا أقدر شيء في نفسي على الجهاد وخفة الحال، وأنا في ذلك أصبو إلى الظلال وطيب الثمار.
فلم أزل كذلك، حتى قام النبيّ ﷺ غازياً بالغداة، وذلك يوم الخميس. وكان يحب أن يخرج يوم الخميس، فأصبح غادياً، فقلت: انطلق غادياً إلى السوق غداً فأشتري ثم ألحق بهم، فانطلقت إلى السوق من الغد فعسر عليّ بعض شأني، فرجعت فقلت: أرجع غَداً إنْ شَاءَ الله فألحق بهم، فعسر عليّ بعض شأني فلم أزل كذلك، حتى التبس بي الريب وتخلفت عن رسول الله ﷺ، فجعلت أمشي في الأسواق وأطوف في المدينة، فيحزنني أن لا أرى أحداً تخلف إلا رجلا مغموسا عليه في النفاق. وكان جميع من تخلف عن رسول الله ﷺ بضعاً وثمانين رجلاً، ولم يذكرني النبيّ ﷺ حتى بلغ تبوك فلما بلغ تبوك قال: «فَمَا فَعَلَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ» ؟ فقال رجل من قومي: خلفه يا رسول الله حسن برديه والنظر إلى عطفيه. فقال معاذ بن جبل: بئس ما قلت. والله، يا نبي الله ما نعلم منه إلاَّ خيراً.
فلما قضى النبي ﷺ غزوة تبوك، وقفل ودنا من المدينة، جعلت أتذكر بماذا أخرج من سخطة رسول الله ﷺ وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي، حتى إذا أقبل النبيّ ﷺ زاح عني الباطل وعرفت ألا أنجو إلاَّ بالصدق. ودخل النبيّ ﷺ ضحى، فصلى في المسجد ركعتين. وكان إذا جاء من السفر فعل ذلك، فدخل المسجد وصلى ركعتين، ثم جلس فجعل يأتيه من تخلف فيحلفون له ويعتذرون إليه، ويستغفر لهم ويقبل علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله تعالى.
فدخلت المسجد فإذا هو جالس، فلما رآني تبسَّم تبسُّم المُغضب، فجئت فجلست بين يديه. فقال: «أَلَمْ تَكُنِ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ» ؟ فقلت بلى يا رسول الله. فقال: «ما خَلَّفَكَ» ؟ فقلت:
والله لو أني بين يدي أحد من الناس غيرك لخرجت من سخطه عليّ بعذر، ولقد أوتيت جَدَلاً، ولكني قد علمت يا رسول الله إني لو أخبرتك اليوم بقول تجد عليّ فيه وهو حق، فإني أرجو فيه عفو الله، وإن حدثتك حديثا ترضى عني فيه وهو كذب، يوشك الله أن يطلعك عليّ، والله يا نبي الله ما كنت قط أيسر ولا أخف حالاً حين تخلفت عنك. قال: «أمَّا هذا فَقَدْ صَدَقَكُمْ الحَدِيثَ قُمْ حَتَّى يَقْضِيَ الله فيك» . فقمت فنازعني ناس من قومي يؤنبونني وقالوا: والله ما نعلمك أذنبت ذنباً قط قبل هذا، فهلا اعتذرت إلى النبيّ ﷺ بما يرضى عنك فيه، فكان استغفاره سيأتي من وراء ذلك، ولم توقف نفسك موقفا ما تدري ما يقضى لك فيه.
فلم يزالوا يؤنبونني حتى هممت أن أرجع فأكذب نفسي، فقلت: هل قال هذا القول أحد غيري؟ قالوا: نعم، فقلت: من هو؟ فقالوا: هلال بن أمية، ومرارة بن الربيع فذكروا رجلين صالحين قد شهدا بدراً لي فيهما أسوة، فقلت: والله لا أرجع إليه في هذا أبداً، ولا أكذب نفسي. قال: فنهى النبي ﷺ عن كلامنا نحن الثلاثة. قال: فجعلت أخرج إلى السوق فلا يكلمني أحد، وتنكر لنا الناس، حتى ما هم بالذين نعرفهم، وتنكرت لنا الأرض، حتى ما هي بالتي نعرف.
وكنت أقوى أصحابي، فكنت أخرج وأطوف بالأسواق وآتي المسجد وآتي النبي ﷺ فأسلم عليه وأقول: هل حرك شفتيه بالسلام؟. فإذا قمت أصلي إلى سارية، فأقبلت على صلاتي، نظر إلي بمؤخر عينيه، فإذا نظرت إليه، أعرض عني. واستكان صاحباي فجعلا يبكيان الليل والنهار، ولا يطلعان رؤوسهما. فبينما أنا أطوف بالسوق، إذا برجل نصراني جاء بطعام له يبيعه يقول: من يدلني على كعب بن مالك؟ فانطلق الناس يشيرون إليّ، فأتاني بصحيفة من ملك غسان وإذا فيها: أما بعد، فقد بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولست بدار مضيعة ولا هوان، فالحق بنا نواسيك. فقلت: هذا أيضاً من البلاء، يعني: الدعوة إلى الكفرَ، فسجَّرْت لها التنور فأحرقتها فيه.
فلما مضت أربعون ليلة، إذا رسول من النبيّ ﷺ قد أتاني وقال: «اعْتَزِل امْرَأَتَكَ» .
فقلت: أطلقها؟ فقال: «لا، ولكن لا تَقْرَبْهَا» . فجاءت امرأة هلال بن أمية، فقالت: يا نبي الله إن هلالاً شيخ ضعيف فهل تأذن لي أن أخدمه؟ قال: «نَعَمْ، ولكن لا يَقْرَبَنَّكِ» . فقالت: يا نبي الله، والله ما به من حركة من شيء، يبكي الليل والنهار منذ كان من أمره ما كان. قال كعب:
فلما طال علي البلاء، اقتحمت على أبي قتادة حائطه، وهو ابن عمي، فسلمت عليه فلم يرد عليّ السلام، فقلت: أنشدك الله يا أبا قتادة، أتعلم أني أحب الله ورسولهُ؟ فسكت ثم قلت أنشدك بالله يا أبا قتادة أتعلم أني أحب الله ورسوله؟ حتى عاودته ثلاث مرات قال: الله تعالى ورسوله أعلم، فلم أملك نفسي أن بكيت، ثم اقتحمت الحائط خارجاً، حتى إذا مضت خمسون ليلة من حين نهى النبي ﷺ الناس عن كلامنا، صليت على ظهر بيت لنا صلاة الفجر، ثم جلست، وأنا في المنزلة التي قال الله تعالى: ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ إذ سمعت نداء من ذروة سلع أن أبشر يا كعب بن مالك، فخررت ساجداً، وعرفت إن الله تعالى قد جاء بالفرج. ثم جاء رجل يركب على فرس يبشرني، فكان الصوت أسرع من فرسه، فأعطيته ثوبي بشارة ولبست ثوبين آخرين، وانطلقت إلى النبيّ ﷺ. وجعل الأنصار يستقبلونني فوجاً فوجاً ويهنئونني ويبشرونني. ولم يقم أحد من المهاجرين غير طلحة بن عبيد الله، قام وتلقاني بالتهنئة، فما نسيت ذلك منه.
وانطلقت إلى النبيّ ﷺ، فإذا هو جالس في المسجد وحوله المسلمون وهو يستنير كاستنارة القمر وكان إذا بشّر بالأمر، استنار وجهه كالقمر، فجئت فجلست بين يديه فقال: «أَبْشِرْ يَا كَعْبُ بِخَيْرِ يَوْمٍ أَتَى عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أمُّكَ» . فقلت: يا نبي الله أمن عندك أم من عند الله؟
قال: «بل من عند الله» ثُمَّ تلا قوله تعالى: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ إلى قوله: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا الآية. فقلت: يا نبي الله، إن من توبتي ألا أحدث إلاَّ صدقاً، وأن أنخلع من مالي كله صدقة لله ورسوله. قال: «أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك» . قال: فما أنعم الله عليّ نعمة بعد الإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله ﷺ حين صدقته أنا وصاحباي، ألا نكون كذبنا فهلكنا كما هلكوا. وإني لأرجو ألا يكون الله أبلى أحداً في الصدق كما أبلاني، ما تعمدت لكذبة قط مذ قلت ذلك لرسول الله ﷺ إلى يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي [[حديث كعب بن مالك: أخرجه البخاري (4418) ومسلم (2769) والترمذي (3102) وأحمد 5/ 387- 388 وهو عند أبي داود (3320) .]] .
وروى الزهري عن كعب بن مالك قال: كانت توبتنا نزلت على النبيّ ﷺ في ثلث الليل، فقالت أم سلمة: يا نبي الله ألا نبشر كعباً بن مالك؟ قال: «إذاً يَحْطِمَنَّكُمْ النَّاسُ وَيَمْنَعُونَكُمْ النَّوْمَ سَائِرَ اللَّيْلَةِ» . وكانت أم سلمة محسنة في شأني، تحزن بأمري وذلك قوله تعالى: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا يعني: وتاب الله على الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك. ويقال وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا عن التوبة، يعني: أبا لبابة حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ، يعني:
بسعتها، وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ، يعني: ضاقت قلوبهم، وَظَنُّوا أَنْ لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ، يعني: علموا وأيقنوا أن لا مفر من عذاب الله إِلَّا إِلَيْهِ، يعني: إلا بالتوبة إليه ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا، يعني: تجاوز عنهم حتى تابوا ويقال: أكرمهم الله فوفقهم للتوبة لكي يتوبوا. ويقال:
تاب عليهم ليتوب من بعدهم ويقتدي بهم. إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، يعني: المتجاوز لمن تاب، الرَّحِيمُ بهم بعد التوبة.
{"ayah":"وَعَلَى ٱلثَّلَـٰثَةِ ٱلَّذِینَ خُلِّفُوا۟ حَتَّىٰۤ إِذَا ضَاقَتۡ عَلَیۡهِمُ ٱلۡأَرۡضُ بِمَا رَحُبَتۡ وَضَاقَتۡ عَلَیۡهِمۡ أَنفُسُهُمۡ وَظَنُّوۤا۟ أَن لَّا مَلۡجَأَ مِنَ ٱللَّهِ إِلَّاۤ إِلَیۡهِ ثُمَّ تَابَ عَلَیۡهِمۡ لِیَتُوبُوۤا۟ۚ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِیمُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق