الباحث القرآني

﴿لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلى النَّبِيِّ والمُهاجِرِينَ والأنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ في ساعَةِ العُسْرَةِ مِن بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنهم ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ ﴿وعَلى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتّى إذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرْضُ بِما رَحُبَتْ وضاقَتْ عَلَيْهِمْ أنْفُسُهم وظَنُّوا أنْ لا مَلْجَأ مِنَ اللَّهِ إلّا إلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إنَّ اللَّهَ هو التَّوّابُ الرَّحِيمُ﴾ (p-١٠٨)لَمّا تَقَدَّمَ الكَلامُ في أحْوالِ المُنافِقِينَ مِن تَخَلُّفِهِمْ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، واسْتَطْرَدَ إلى تَقْسِيمِ المُنافِقِينَ إلى أعْرابٍ وغَيْرِهِمْ، وذَكَرَ ما فَعَلُوا مِن مَسْجِدِ الضِّرارِ، وذَكَرَ مُبايَعَةَ المُؤْمِنِينَ اللَّهَ في الجِهادِ وأثْنى عَلَيْهِمْ، وأنَّهُ يَنْبَغِي أنْ يُبايِنُوا المُشْرِكِينَ حَتّى الَّذِينَ ماتُوا مِنهم بِتَرْكِ الِاسْتِغْفارِ لَهم، عادَ إلى ذِكْرِ ما بَقِيَ مِن أحْوالِ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وهَذِهِ شَنْشَنَةُ كَلامِ العَرَبِ يَشْرَعُونَ في شَيْءٍ ثُمَّ يَذْكُرُونَ بَعْدَهُ أشْياءَ مُناسِبَةً ويُطِيلُونَ فِيها، ثُمَّ يَعُودُونَ إلى ذَلِكَ الشَّيْءِ الَّذِي كانُوا شَرَعُوا فِيهِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: التَّوْبَةُ مِنَ اللَّهِ رُجُوعُهُ لِعَبْدِهِ مِن حالَةٍ إلى حالَةٍ أرْفَعَ مِنهُ، وقَدْ يَكُونُ في الأكْثَرِ رُجُوعًا عَنْ حالَةِ المَعْصِيَةِ إلى حالَةِ الطّاعَةِ، وقَدْ يَكُونُ رُجُوعًا مِن حالَةِ طاعَةٍ إلى أكْمَلَ مِنها. وهَذِهِ تَوْبَتُهُ في هَذِهِ الآيَةِ عَلى النَّبِيِّ ﷺ، لِأنَّهُ رَجَعَ بِهِ مِن حالَةٍ قَبْلَ تَحْصِيلِ الغَزْوَةِ وتَحَمُّلِ مَشاقِّها، إلى حالَةٍ بَعْدَ ذَلِكَ أكْمَلَ مِنها. وأمّا تَوْبَتُهُ عَلى المُهاجِرِينَ والأنْصارِ فَحالُها مُعَرَّضَةٌ لِأنْ تَكُونَ مِن نُقْصانٍ إلى طاعَةٍ وجِدٍّ في الغَزْوِ ونُصْرَةِ الدِّينِ، وأمّا تَوْبَتُهُ عَلى الفَرِيقِ فَرُجُوعٌ مِن حالَةٍ مَحْطُوطَةٍ إلى حالَةِ غُفْرانٍ ورِضًا. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ﴿تابَ اللَّهُ عَلى النَّبِيِّ﴾ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وما تَأخَّرَ﴾ [الفتح: ٢] ﴿واسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ [غافر: ٥٥] وهو بَعْثٌ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلى التَّوْبَةِ، وأنَّهُ ما مِن مُؤْمِنٍ إلّا وهو مُحْتاجٌ إلى التَّوْبَةِ والِاسْتِغْفارِ، حَتّى النَّبِيُّ والمُهاجِرُونَ والأنْصارُ، وإبانَةٌ لِفَضْلِ التَّوْبَةِ ومِقْدارِها عِنْدَ اللَّهِ تَعالى، وأنَّ صِفَةَ الأوّابِينَ صِفَةُ الأنْبِياءِ، كَما وصَفَهم بِالصّالِحِينَ لِتَظْهَرَ فَضِيلَةُ الصَّلاحِ. وقِيلَ: مَعْناهُ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِن إذْنِهِ لِلْمُنافِقِينَ في التَّخَلُّفِ عَنْهُ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿عَفا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أذِنْتَ لَهُمْ﴾ [التوبة: ٤٣] . انْتَهى. وقِيلَ: لا يَبْعُدُ أنْ صَدَرَ عَنِ المُهاجِرِينَ والأنْصارِ أنْواعٌ مِنَ المُخالَفاتِ، إلّا أنَّهُ تَعالى تابَ عَلَيْهِمْ وعَفا عَنْهم لِأجْلِ أنَّهم تَحَمَّلُوا مَشاقَّ ذَلِكَ السَّفَرِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى ضَمَّ ذِكْرُ الرَّسُولِ ﷺ إلى ذِكْرِهِمْ تَنْبِيهًا عَلى عِظَمِ مَراتِبِهِمْ في قَبُولِ التَّوْبَةِ. ﴿اتَّبَعُوهُ﴾ أيْ: اتَّبَعُوا أمْرَهُ، فَهو مِن مَجازِ الحَذْفِ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ هو ابْتَدَأ بِالخُرُوجِ، وخَرَجُوا بَعْدَهُ، فَيَكُونُ الِاتِّباعُ حَقِيقَةً. ﴿ساعَةِ العُسْرَةِ﴾، أيْ: في وقْتِ العُسْرَةِ، والسّاعَةُ مُسْتَعارَةٌ لِلزَّمانِ المُطْلَقِ، كَما اسْتَعارُوا الغَداةَ والعَشِيَّةَ واليَوْمَ. قالَ: ؎غَداةَ طَفَتْ عَلْماءِ بَكْرِ بْنِ وائِلِ عَشِيَّةَ قارَعْنا جُذامَ وحِمْيَرا وآخَرُ: ؎إذا جاءَ يَوْمًا وارِثِي يَبْتَغِي الغِنَـى وهِيَ غَزْوَةُ تَبُوكَ كانَتْ تُسَمّى غَزْوَةَ العُسْرَةِ، ويَجُوزُ أنْ يُرِيدَ بِساعَةِ العُسْرَةِ السّاعَةَ الَّتِي وقَعَ فِيها عَزْمُهم وانْقِيادُهم لِتَحَمُّلِ المَشَقَّةِ، إذِ السَّفْرَةُ كُلُّها تَبَعٌ لِتِلْكَ السّاعَةِ، وبِها وفِيها يَقَعُ الأجْرُ عَلى اللَّهِ وتَرْتَبِطُ النِّيَّةُ، فَمَنِ اعْتَزَمَ عَلى الغَزْوِ وهو مُعْسِرٌ فَقَدْ أنْفَعَ في ساعَةِ عُسْرَةٍ، ولَوِ اتَّفَقَ أنْ يَطْرَأ لَهم غِنًى في سائِرِ سَفَرِهِمْ لَما اخْتَلَّ كَوْنُهم مُتَّبِعِينَ في ساعَةِ العُسْرَةِ. والعُسْرَةُ: الضِّيقُ والشِّدَّةُ والعَدَمُ، وهَذا هو جَيْشُ العُسْرَةِ الَّذِي قالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَن جَهَّزَ جَيْشَ العُسْرَةِ فَلَهُ الجَنَّةُ» فَجَهَّزَهُ عُثْمانُ بْنُ عَفّانَ بِألْفِ جَمَلٍ وألْفِ دِينارٍ. ورُوِيَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَلَّبَ الدَّنانِيرَ بِيَدِهِ، وقالَ: «وما عَلى عُثْمانَ ما عَمِلَ بَعْدَ هَذا» وجاءَ أنْصارِيٌّ بِسَبْعِمِائَةِ وسْقٍ مِن بُرٍّ. وقالَ مُجاهِدٌ، وقَتادَةُ، والحَسَنُ: بَلَغَتِ العُسْرَةُ بِهِمْ إلى أنْ كانَ العَشَرَةُ مِنهم يَعْتَقِبُونَ عَلى بَعِيرٍ واحِدٍ مِن قِلَّةِ الظَّهْرِ، وإلى أنْ قَسَّمُوا التَّمْرَةَ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ، وكانَ النَّفَرُ يَأْخُذُونَ التَّمْرَةَ الواحِدَةَ فَيَمُصُّها أحَدُهم ويَشْرَبُ عَلَيْها الماءَ، ثُمَّ يَفْعَلُ بِها كُلُّهم ذَلِكَ. «وقالَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أصابَهم في بَعْضِها عَطَشٌ شَدِيدٌ حَتّى جَعَلُوا يَنْحَرُونَ الإبِلَ ويَشْرَبُونَ ما في كُرُوشِها مِنَ الماءِ، (p-١٠٩)ويَعْصِرُونَ الفَرْثَ حَتّى اسْتَسْقى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَرَفَعَ يَدَيْهِ يَدْعُو، فَما رَجَعَها حَتّى انْسَكَبَتْ سَحابَةٌ، فَشَرِبُوا وادَّخَرُوا ثُمَّ ارْتَحَلُوا، فَإذا السَّحابَةُ لَمْ تَخْرُجْ عَنِ العَسْكَرِ». وفي هَذِهِ الغَزْوَةِ هَمُّوا مِنَ المَجاعَةِ بِنَحْرِ الإبِلِ، فَأمَرَ بِجَمْعِ فَضْلِ أزْوادِهِمْ حَتّى اجْتَمَعَ مِنهُ عَلى النِّطَعِ شَيْءٌ يَسِيرٌ، فَدَعا فِيهِ بِالبَرَكَةِ ثُمَّ قالَ: «خُذُوا في أوْعِيَتِكم فَمَلَئُوها حَتّى لَمْ يَبْقَ وِعاءٌ» وأكَلَ القَوْمُ كُلُّهم حَتّى شَبِعُوا، وفَضَلَتْ فَضْلَةٌ. وكانَ الجَيْشُ ثَلاثِينَ ألْفًا وزِيادَةً، وهي آخِرُ مَغازِيهِ، وفِيها خَلَّفَ عَلِيًّا بِالمَدِينَةِ. وقالَ المُنافِقُونَ خَلَّفَهُ بُغْضًا لَهُ، فَأخْبَرَهُ بِقَوْلِهِمْ فَقالَ: «”أما تَرْضى أنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنزِلَةِ هارُونَ مِن مُوسى“ ؟» ووَصَلَ ﷺ إلى أوائِلِ بِلادِ العَدُوِّ، وبَثَّ السَّرايا، فَصالَحَهُ أهْلُ أذْرَحَ وأيْلَةَ وغَيْرُهُما عَلى الجِزْيَةِ، وانْصَرَفَ. ﴿يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ﴾ قالَ الحَسَنُ: هَمَّتْ فِرْقَةٌ بِالِانْصِرافِ لِما لَقَوْا مِنَ المَشَقَّةِ. وقِيلَ: زَيْغُها كانَ بِظُنُونٍ لَها ساءَتْ في مَعْنى عَزْمِ الرَّسُولِ عَلى تِلْكَ الغَزْوَةِ، لِما رَأتْهُ مِن شِدَّةِ العُسْرَةِ وقِلَّةِ الوَفْرِ، وبُعْدِ الشُّقَّةِ، وقُوَّةِ العَدُوِّ المَقْصُودِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: تَزِيغُ: تَعْدِلُ عَنِ الحَقِّ في المُبايَعَةِ. وكادَ تَدُلُّ عَلى القُرْبِ، لا عَلى التَّلَبُّسِ بِالزَّيْغِ. وقَرَأ حَمْزَةُ وحَفْصٌ: (يَزِيغُ) بِالياءِ، فَتَعَيَّنَ أنْ يَكُونَ في كادَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وارْتِفاعُ (قُلُوبُ) بِـ (تَزِيغُ) لِامْتِناعِ أنْ يَكُونَ (قُلُوبُ) اسْمَ كادَ و(تَزِيغُ) في مَوْضِعِ الخَبَرِ؛ لِأنَّ النِّيَّةَ بِهِ التَّأْخِيرُ. ولا يَجُوزُ: مِن بَعْدِ ما كادَ قُلُوبٌ يَزِيغُ، بِالياءِ. وقَرَأ باقِي السَّبْعَةِ: بِالتّاءِ، فاحْتَمَلَ أنْ يَكُونَ (قُلُوبُ) اسْمَ كادَ، و(تَزِيغُ) الخَبَرُ، وسَطٌ بَيْنِهِما، كَما فُعِلَ ذَلِكَ بِـ ”كانَ“ . قالَ أبُو عَلِيٍّ: ولا يَجُوزُ ذَلِكَ في عَسى، واحْتُمِلَ أنْ يَكُونَ فاعِلُ ”كادَ“ ضَمِيرًا يَعُودُ عَلى الجَمْعِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ ذِكْرُ المُهاجِرِينَ والأنْصارِ، أيْ مِن بَعْدِ ما كادَ هو، أيْ: الجَمْعُ. وقَدْ قَدَّرَ المَرْفُوعَ بِكادَ باسِمٍ ظاهِرٍ، وهو القَوْمُ - ابْنُ عَطِيَّةَ وأبُو البَقاءِ، كَأنَّهُ قالَ: مِن بَعْدِ ما كادَ القَوْمُ. وعَلى كُلِّ واحِدٍ مِن هَذِهِ الأعارِيبِ الثَّلاثَةِ إشْكالٌ عَلى ما تَقَرَّرَ في عِلْمِ النَّحْوِ: مِن أنَّ خَبَرَ أفْعالِ المُقارَبَةِ لا يَكُونُ إلّا مُضارِعًا رافِعًا ضَمِيرَ اسْمِها. فَبَعْضُهم أطْلَقَ، وبَعْضُهم قَيَّدَ بِغَيْرِ عَسى مِن أفْعالِ المُقارَبَةِ، ولا يَكُونُ سَبَبًا، وذَلِكَ بِخِلافِ كانَ. فَإنَّ خَبَرَها يَرْفَعُ الضَّمِيرَ، والسَّبَبِيُّ لِاسْمِ كادَ، فَإذا قَدَّرْنا فِيها ضَمِيرَ الشَّأْنِ كانَتِ الجُمْلَةُ في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى الخَبَرِ، والمَرْفُوعُ لَيْسَ ضَمِيرًا يَعُودُ عَلى اسْمِ كادَ، بَلْ ولا سَبَبًا لَهُ، وهَذا يَلْزَمُ في قِراءَةِ الياءِ أيْضًا. وأمّا تَوْسِيطُ الخَبَرِ فَهو مَبْنِيٌّ عَلى جَوازِ مِثْلِ هَذا التَّرْكِيبِ في مِثْلِ: كانَ يَقُومُ زَيْدٌ، وفِيهِ خِلافٌ، والصَّحِيحُ المَنعُ. وأمّا تَوْجِيهُ الآخَرِ فَضَعِيفٌ جِدًّا مِن حَيْثُ أُضْمِرَ في ”كادَ“ ضَمِيرٌ لَيْسَ لَهُ عَلى مَن يَعُودُ إلّا بِتَوَهُّمٍ، ومِن حَيْثُ يَكُونُ خَبَرُ ”كادَ“ واقِعًا سَبَبِيًّا، ويُخَلِّصُ مِن هَذِهِ الإشْكالاتِ اعْتِقادُ كَوْنِ كادَ زائِدَةً، ومَعْناها مُرادٌ، ولا عَمَلَ لَها إذْ ذاكَ في اسْمٍ ولا خَبَرٍ، فَتَكُونُ مِثْلَ كانَ إذا زِيدَتْ، يُرادُ مَعْناها ولا عَمَلَ لَها. ويُؤَيِّدُ هَذا التَّأْوِيلَ قِراءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ: ”مِن بَعْدِ ما زاغَتْ“ بِإسْقاطِ كادَ. وقَدْ ذَهَبَ الكُوفِيُّونَ إلى زِيادَتِها في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَمْ يَكَدْ يَراها﴾ [النور: ٤٠] مَعَ تَأْثِيرِها لِلْعامِلِ، وعَمَلِها هي. فَأحْرى أنْ يُدَّعى زِيادَتُها، وهي لَيْسَتْ عامِلَةً ولا مَعْمُولَةً. وقَرَأ الأعْمَشُ والجَحْدَرِيُّ: (تُزِيغُ) بِرَفْعِ التّاءِ. وقَرَأ أُبَيٌّ: (مِن بَعْدِ ما كادَتْ تَزِيغُ) . ﴿ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ﴾: الضَّمِيرُ في ﴿عَلَيْهِمْ﴾ عائِدٌ عَلى الأوَّلِينَ، أوْ عَلى الفَرِيقِ، فالجُمْلَةُ كُرِّرَتْ تَأْكِيدًا. أوْ يُرادُ بِالأوَّلِ إنْشاءُ التَّوْبَةِ، وبِالثّانِي اسْتَدامَتُها، أوْ لِأنَّهُ لَمّا ذَكَرَ أنَّ فَرِيقًا مِنهم كادَتْ قُلُوبُهم تَزِيغُ نَصَّ عَلى التَّوْبَةِ ثانِيًا رَفْعًا لِتَوَهُّمِ أنَّهم مَسْكُوتٌ عَنْهم في التَّوْبَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ سَبَبَ التَّوْبَةِ وهو رَأْفَتُهُ بِهِمْ ورَحْمَتُهُ لَهم. والثَّلاثَةُ الَّذِينَ خُلِّفُوا تَقَدَّمَتْ أسْماؤُهم، ومَعْنى خُلِّفُوا عَنِ الغَزْوِ غَزْوِ تَبُوكَ، قالَهُ قَتادَةُ. أوْ خُلِّفُوا عَنْ أبِي لُبابَةَ وأصْحابِهِ، حَيْثُ تِيبَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ التَّوْبَةِ عَلى أبِي لُبابَةَ وأصْحابِهِ وإرْجاءِ أمْرِهِمْ خَمْسِينَ يَوْمًا، ثُمَّ قَبِلَ تَوْبَتَهم. وقَدْ رَدَّ تَأْوِيلَ قَتادَةَ كَعْبُ بْنُ مالِكٍ بِنَفْسِهِ، فَقالَ: مَعْنى ﴿خُلِّفُوا﴾ تُرِكُوا عَنْ قَبُولِ العُذْرِ، ولَيْسَ بِتَخَلُّفِنا عَنِ الغَزْوِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿خُلِّفُوا﴾ بِتَشْدِيدِ (p-١١٠)اللّامِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وقَرَأ أبُو مالِكٍ كَذَلِكَ وخَفَّفَ اللّامَ. وقَرَأ عِكْرِمَةُ بْنُ هارُونَ المَخْزُومِيُّ، وذِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ، وعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، ومُعاذٌ القارِئُ، وحُمَيْدٌ: بِتَخْفِيفِ اللّامِ مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ، ورُوِيَتْ عَنْ أبِي عَمْرٍو، أيْ: خَلَفُوا الغازِينَ بِالمَدِينَةِ، أوْ فَسَدُوا؛ مِنَ الخالِفَةِ. وقَرَأ أبُو العالِيَةِ وأبُو الجَوْزاءِ كَذَلِكَ مُشَدَّدَ اللّامِ. وقَرَأ أبُو زَيْدٍ، وأبُو مِجْلَزٍ، والشَّعْبِيُّ، وابْنُ يَعْمَرَ، وعَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنِ، وابْناهُ زَيْدٌ ومُحَمَّدٌ الباقِرُ، وابْنُهُ جَعْفَرٌ الصّادِقُ: (خالَفُوا) بِألِفٍ، أيْ: لَمْ يُوافِقُوا عَلى الغَزْوِ. وقالَ الباقِرُ: ولَوْ خُلِّفُوا لَمْ يَكُنْ لَهم. وقَرَأ الأعْمَشُ: (وعَلى الثَّلاثَةِ المُخَلَّفِينَ)، ولَعَلَّهُ قَرَأ كَذَلِكَ عَلى سَبِيلِ التَّفْسِيرِ؛ لِأنَّها قِراءَةٌ مُخالِفَةٌ لِسَوادِ المُصْحَفِ. ﴿حَتّى إذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرْضُ بِما رَحُبَتْ﴾ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِها في هَذِهِ السُّورَةِ في قِصَّةِ حُنَيْنٍ. (وضاقَتْ عَلَيْهِمْ أنْفُسُهم) اسْتِعارَةٌ؛ لِأنَّ الهَمَّ والغَمَّ مَلَأها بِحَيْثُ لا يَسَعُها أُنْسٌ ولا سُرُورٌ، وخَرَجَتْ عَنْ فَرْطِ الوَحْشَةِ والغَمِّ. ﴿وظَنُّوا﴾، أيْ: عَلِمُوا. قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أيْقَنُوا، كَما قالُوا في قَوْلِ الشّاعِرِ: ؎فَقُلْتُ لَهم ظُنُّوا بِألْفَيْ مُدَجَّجٍ ∗∗∗ سَراتُهُمُ في الفارِسِيِّ المُسَرَّدِ وقالَ قَوْمٌ: الظَّنُّ هُنا عَلى بابِهِ مِن تَرْجِيحِ أحَدِ الجائِزَيْنِ؛ لِأنَّهُ وقَفَ أمْرُهم عَلى الوَحْيِ ولَمْ يَكُونُوا قاطِعِينَ بِأنَّهُ يَنْزِلُ في شَأْنِهِمْ قُرْآنٌ، أوْ كانُوا قاطِعِينَ لَكِنَّهم يُجَوِّزُونَ تَطْوِيلَ المُدَّةِ في بَقائِهِمْ في الشِّدَّةِ، فالظَّنُّ عادَ إلى تَجْوِيزِ تِلْكَ المُدَّةِ قَصِيرَةً. وجاءَتْ هَذِهِ الجُمَلُ في كَنَفِ ”إذا“ في غايَةِ الحُسْنِ والتَّرْتِيبِ، فَذَكَرَ أوَّلًا ضِيقَ الأرْضِ عَلَيْهِمْ وهو كِنايَةٌ عَنِ اسْتِيحاشِهِمْ ونَبْوَةِ النّاسِ عَنْ كَلامِهِمْ. وثانِيًا ﴿وضاقَتْ عَلَيْهِمْ أنْفُسُهُمْ﴾ وهو كِنايَةٌ عَنْ تَواتُرِ الهَمِّ والغَمِّ عَلى قُلُوبِهِمْ، حَتّى لَمْ يَكُنْ فِيها شَيْءٌ مِنَ الِانْشِراحِ والِاتِّساعِ، فَذَكَرَ أوَّلًا ضِيقَ المَحَلِّ، ثُمَّ ثانِيًا ضِيقَ الحالِ فِيهِ، لِأنَّهُ قَدْ يَضِيقُ المَحَلُّ وتَكُونُ النَّفْسُ مُنْشَرِحَةً. ؎سَمُّ الخِياطِ مَعَ المَحْبُوبِ مَيْدانُ ثُمَّ ثالِثًا لَمّا يَئِسُوا مِنَ الخَلْقِ عَلَّقُوا أُمُورَهم بِاللَّهِ وانْقَطَعُوا إلَيْهِ، وعَلِمُوا أنَّهُ لا يُخَلِّصُ مِنَ الشِّدَّةِ ولا يُفَرِّجُها إلّا هو تَعالى ﴿ثُمَّ إذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإلَيْهِ تَجْأرُونَ﴾ [النحل: ٥٣] و”إذا“ إنْ كانَتْ شَرْطِيَّةً فَجَوابُها مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: تابَ عَلَيْهِمْ، ويَكُونُ قَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ﴾، نَظِيرَ قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ﴾، بَعْدَ قَوْلِهِ ﴿لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلى النَّبِيِّ﴾ الآيَةَ. ودَعْوى أنَّ ”ثُمَّ“ زائِدَةٌ وجَوابَ ”إذا“ ما بَعْدَ ”ثُمَّ“ بَعِيدٌ جِدًّا، وغَيْرُ ثابِتٍ مِن لِسانِ العَرَبِ زِيادَةُ ”ثُمَّ“ . ومَن زَعَمَ أنَّ ”إذا“ بَعْدَ ”حَتّى“ قَدْ تُجَرِّدُ مِنَ الشَّرْطِ وتَبْقى لِمُجَرَّدِ الوَقْتِ فَلا تَحْتاجُ إلى جَوابٍ بَلْ تَكُونُ غايَةً لِلْفِعْلِ الَّذِي قَبْلَها وهو قَوْلُهُ: (خُلِّفُوا)، أيْ: خُلِّفُوا إلى هَذا الوَقْتِ (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) ثُمَّ رَجَعَ عَلَيْهِمْ بِالقَبُولِ والرَّحْمَةِ كَرَّةً أُخْرى لِيَسْتَقِيمُوا عَلى تَوْبَتِهِمْ ويُنِيبُوا، أوْ لِيَتُوبُوا أيْضًا فِيما يُسْتَقْبَلُ إنْ فَرَطَتْ مِنهم خَطِيئَةٌ؛ عِلْمًا مِنهم أنَّ اللَّهَ تَوّابٌ عَلى مَن تابَ، ولَوْ عادَ في اليَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ. وقِيلَ: مَعْنى ﴿لِيَتُوبُوا﴾ لِيَدُومُوا عَلى التَّوْبَةِ ولا يُراجِعُوا ما يُبْطِلُها. وقِيلَ: ﴿لِيَتُوبُوا﴾ لِيَرْجِعُوا إلى حالِهِمْ وعادَتِهِمْ مِنَ الِاخْتِلاطِ بِالمُؤْمِنِينَ، وتَسْتَكِنُّ نُفُوسُهم عِنْدَ ذَلِكَ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا﴾ لَمّا كانَ هَذا القَوْلُ في تَعْدِيدِ نِعَمِهِ بَدَأ في تَرْتِيبِهِ بِالجِهَةِ الَّتِي هي عَنِ اللَّهِ تَعالى لِيَكُونَ ذَلِكَ مُنَبِّهًا عَلى تَلَقِّي النِّعْمَةِ مِن عِنْدِهِ لا رَبَّ غَيْرُهُ، ولَوْ كانَ القَوْلُ في تَعْدِيدِ ذَنْبٍ لَكانَ الِابْتِداءُ بِالجِهَةِ الَّتِي هي عَنِ المُذْنِبِ كَما قالَ تَعالى: ﴿فَلَمّا زاغُوا أزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف: ٥] لِيَكُونَ هَذا أشَدَّ تَقْرِيرًا لِلذَّنْبِ عَلَيْهِمْ، وهَذا مِن فَصاحَةِ القُرْآنِ وبَدِيعِ نَظْمِهِ ومُعْجِزِ اتِّساقِهِ. وبَيانُ هَذِهِ الآيَةِ ومَواقِعِ ألْفاظِها أنَّها تَكْمُلُ مَعَ مُطالَعَةِ حَدِيثِ الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا، وقَدْ خَرَّجَ حَدِيثَهم بِكَمالِهِ البُخارِيُّ ومُسْلِمٌ وهو في السِّيَرِ، فَلِذَلِكَ اخْتَصَرْتُ سَوْقَهُ. وإنَّما عَظُمَ ذَنْبُهم واسْتَحَقُّوا عَلَيْهِ ذَلِكَ لِأنَّ الشَّرْعَ يُطالِبُهم مِنَ الحَدِّ فِيهِ بِحَسَبِ مَنازِلِهِمْ مِنهُ وتَقَدُّمِهِمْ فِيهِ، إذْ هو أُسْوَةٌ وحُجَّةٌ لِلْمُنافِقِينَ والطّاعِنِينَ، إذْ كانَ (p-١١١)كَعْبٌ مِن أهْلِ العَقَبَةِ، وصاحِباهُ مِن أهْلِ بَدْرٍ، وفي هَذا ما يَقْتَضِي أنَّ الرَّجُلَ العالِمَ والمُقْتَدى بِهِ أقَلُّ عُذْرًا في السُّقُوطِ مِن سِواهُ. وكَتَبَ الأوْزاعِيُّ إلى المَنصُورِ أبِي جَعْفَرٍ في آخِرِ رِسالَةٍ: واعْلَمْ أنَّ قَرابَتَكَ مِن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَنْ تَزِيدَ حَقَّ اللَّهِ عَلَيْكَ إلّا عِظَمًا، ولا طاعَتَهُ إلّا وُجُوبًا، ولا النّاسَ فِيما خالَفَ ذَلِكَ مِنكَ إلّا إنْكارًا، والسَّلامُ. ولَقَدْ أحْسَنَ القاضِي التَّنُوخِيُّ في قَوْلِهِ: ؎والعَيْبُ يَعْلَقُ بِالكَبِيرِ كَبِيرُ ورُوِيَ أنَّ أُناسًا مِنَ المُؤْمِنِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ومِنهم مَن بَدا لَهُ فَيَلْحَقُ بِهِمْ كَأبِي خَيْثَمَةَ، ومِنهم مَن بَقِيَ لَمْ يَلْحَقْ بِهِمْ، مِنهُمُ الثَّلاثَةُ. وسُئِلَ أبُو بَكْرٍ الوَرّاقُ عَنِ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ فَقالَ: أنْ تَضِيقَ عَلى التّائِبِ الأرْضُ بِما رَحُبَتْ، وتَضِيقُ عَلَيْهِ نَفْسُهُ كَتَوْبَةِ كَعْبِ بْنِ مالِكٍ وصاحِبَيْهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب